الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25 / نظرات وملامح في إجراءات التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    173

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

   يعتبر وجود نظام فعال ومحايد لتسوية منازعات الاستثمار مـا بـين الدولـة المـضيفة والمستثمرين الأجانب من أهم عناصر جذب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وقد ظلت المحاكم الوطنية غير قادرة على توفير الحماية الكافية للمستثمرين الأجانب، فضلاً عـن أن الحمايـة الدبلوماسية لا تعد مصدر اطمئنان بالنسبة للمستثمرين الأجانب، وعلى الرغم مـن أن التحك الخاص AD HOC وسيلة مفيدة في هذا الخصوص، إلا أن التحكيم الخاص له مساوئ إجرائيـة يم هو الآخر.

    مما دفع البنك الدولي وهو من أهم المؤسسات الدولية المعنية بالتنمية الاقتصادية إلى القيـام بمبادرة جديدة في الستينات من القرن العشرين بهدف إيجاد جو من الثقة المتبادلة بين الدولـة المضيفة والمستثمرين الأجانب لتشجيع الاستثمارات الأجنبية على بصياغة اتفاقية دولية متعـددة الأطراف لتوفير إطار مؤسساتي تتم من خلاله تسوية منازعات الاستثمارات بين الدول الأعضاء ومواطنين من الدول الأخرى الأعضاء في الاتفاقية، وقد تـم توقيـع هـذه الاتفاقيـة فـي 18 مارس41965، وبموجبها انشئ المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) أصبحت الاتفاقيـة نـافـذة اعتباراً من اكتوبر 1966، وذلك بعد اكتمال وثائق تـصديق 20 دولـة علـى الاتفاقية، وفقاً للمادة 2/68 من الاتفاقية، وصل عدد الدول الموقعة على الاتفاقيـة حـتـى يونيـو 2003 الى /154/ دولة من بينها /139/ دولة صادقت عليها.

   ويمكن اعتبار أن نصوص الاتفاقية تشكل إطاراً حقيقياً للتنظ يم الـدولي الـشامل لتـسوية منازعات المشروعات الدولية المشتركة.

   ويرى السيد جوناثان هاملتون من (وايت أندكيس) في مقال له بتـاريخ 2007/12/9 (موقع وايت أندكيس) أن "عفريت التحكيم" قد خرج من "القمقم"، ومن المستحيل إعادته إليه. وهو يعني بذلك أن تحكيم (الإكسيد) ليس منه بد، ونحن نقول؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن المطلع علـ أحكام التحكيم الصادرة عن المركز يدرك يقيناً أن دوام الحال من المحال، وأن الانكـسـار الـذي يعرفه اليوم عالمنا العربي يمكن أن يتحول إلى انتصار إذا توافرت العزيمة وتحققـت الوسـائل، فعالمنا العربي، وبصفة عامة الدول النامية كانت تنظر إلى التحكيم الدولي نظرة سلبية، ترى فيه مستاً بسيادتها، واعتداء على سلطان قضائها واستمراراً للاستعمار عبر وسـائل أخـرى، عبـر الوسائل القضائية التي لا تقل خطراً عن الوسائل الاقتصادية والمالية، وإن هذا الحذر والتـوجس وهذه الخيبات من التحكيم الدولي، وإن أمكن تبريرها موضوعياً بـصدور الأحكـام التحكيميـة الدولية، خاصة في المادة البترولية، المجحفة بعالمنا العربي، بل المزدرية أحياناً له، والمنكـرة كل دور للقوانين العربية، فإنها راجعة إلى عدم إعداد العـدة العلميـة والقانونيـة للنزاعـات التحكيمية الدولية التي تقتضي إعداداً قوياً ومحكماً للملفات، وترجع أيضاً ما عبر عنه بـ "سياسة الكرسي الفارغ " La politique de la chaise vide، حيث كثيراً ما أدى رفض الدول العربية للتحكيم الدولي إلى رفض هذه الدول تعيين محكم عنها، ورفض المشاركة الفعالة في إجـراءات التحكيم مما يترك المجال رحبا وفسيحا للطرف الغربي "ليرتع" في القضية، كما يشاء بمـشاركة سلبية للطرف العربي .

   وإن ما يلاحظ في السنوات الأخيرة، هو أن عالمنا العربي أصبح يعي مخـاطر المواقـف السلبية من التحكيم الدولي التي لا يمكن إلا أن تؤدي إلا إلى الخسران المبين، فصارت تـشـارك وتناضل عن حقوقها، وصار من ثم صوتها مسموعاً ومواقفها مصونة، فهي حتى وإن لم تتحصل على كل ما تطالب به، فإنها على الأقل تسمع صوتها الذي يصل مداه إلى أحكام التحكيم الدوليـة الحديثة التي أطرافها عربية: حيث أضحت تربح القضايا أو تنال على الأقل بعـض مـا تطلبـه وتتمكن من التصدي للطلبات المشطة أحياناً للأطراف الغربية. ولهذا فلا بد من تغيير النظـرة العربية إلى التحكيم الدولي، نظرة تنطلق من مواجهة مؤسسات التحكيم الدولي بالحجة والإثبـات بدلاً من النظرة التي تقوم على تصارع الحضارات، وإن دراستنا للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ستكون قاصرة على بعض الجوانب في نظام المركز، وبالقدر الذي يخدم الهدف مـن الدراسة دون الدخول في كل المسائل التفصيلية  ومن ثم فإن النظام الإجرائي للمركز الـدولي لتسوية منازعات الاستثمار جدير بالدراسة، ومن حقنا أن نختلف أو نتفق مع ما جاء في تفسيرات الـ ICSID، ولكن من واجبنا أن نعرف مضمونها، ثم نفكر فيها ونستفيد منها.

    وتحقيقاً لأهداف البحث فإننا سنتناول مناقشة المباحث التالية:

    المبحث الأول - المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار كجهة مؤسسية داعمة.   

    المبحث الثاني - معيار الصفة الأجنبية للمستثمر ومعيار دولية العقد.

    المبحث الثالث – اشتراط أن يكون موضوع النزاع متعلقا بالاستثمار الدولي.

    المبحث الرابع – اتجاهات التوسع في اتفاق التحكيم في تحكيمات المركز. -

 وفي هذا المبحث نستعرض المراحل التالية:

    أ - التحكيم بناء على موافقة الدول الخضوع للتحكيم.

    ب- التحكيم بناء على تشريعات الاستثمار الوطنية.

    ج – التحكيم بناء على اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITS).

     د-  التحكيم بناء على اتفاقيات الاستثمار المتعددة الأطراف.

     المبحث الخامس - القانون الواجب التطبيق.

     المبحث السادس - حكم التحكيم.

ومن ثم الخلاصة.

المبحث الأول- المركـز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار كجهـة مؤسسية داعمة:

     يمثل المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار حالة خاصة وسط الكثير مـن مؤسـسات ومراكز التحكيم التي تطبق وتنفذ مجموعة معينة من القواعد لتسيير إجراءات التحكيم والتوفيـق ويرجع ذلك إلى كون هذا المركز يمثل مؤسسة دولية حقيقية أنشئت بموجب اتفاقية دولية متعددة الأطراف لوضع نظام لا يعمل إلا في مجال منازعات الاستثمار بين السلطات الحكوميـة فـي الدولة المضيفة والمستثمر الأجنبي المنتمي لدولة تعتبر طرفاً في الاتفاقية.

     ويتميز نظام المركز بعدد من السمات، والتي تتجلى في ما يأتي:

    1) اختيار طرق تسوية النزاع: يوفر المركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار الـدعم المؤسساتي الهام واللازم لإجراءات التوفيق أو التحكيم التي تجري في المركز ويعتبـر التوفيـق كطريقة لتسوية النزاع أقل رسمية وأكثر مرونة من التحكيم، إذ يهدف إلى مساعدة الطرفين على الوصول إلى تسوية متفق عليها، حيث ينتهي التوفيق بتقرير يقترح حلاً، ولكن هـذا الحـل لا يكون ملزماً. ولهذا فإن هذه الطريقة تعتمد في الأساس على رغبة الطرفين في استمرار التعاون والعمل المشترك. أما التحكيم فيعتبر طريقة تسوية أكثر رسمية على الرغم من وجود عدد لـيس بقليل من حالات التحكيم التي انتهت بتسوية ودية قبل صدور الحكم. وإذا لم يتم التوصل إلى تلك التسوية فإن النتيجة تتمثل بصدور حكم ملزم للطرفين. لذلك يفضل من الناحية العملية اللجوء إلى التحكيم بدلا من التوفيق، إذ أن الغالبية العظمى من القضايا التي تم رفعها إلـى المركـز كـان التحكيم هو الفاصل فيها. فالحقيقة أن التوفيق في ظل المركز نادر جداً، ، ويرجع الشيء الى حقيقة أنه في حالة الاختيار بين هاتين الطريقتين فإن الاختيار يكون في يد الطـرف البادىء في إجراءات التقاضي، وكقاعدة معروفة فإنه من المفيد أن تكرس الجهـود والتكاليف للطريقة التي تنتهي في النهاية بحكم ملزم. هـذا بعـض .

    2) مزايا تخص الدولة المضيفة: إن أهمية تحكيم المركز بالنسبة للدولة المضيفة هـي مزدوجة، حيث يوفر لها مناخاً استثمارياً جيدا، وبالتالي مزيداً من الاستثمارات من ناحيـة، كما أن الموافقة على تحكيم المركز تحمي الدولة من أي أشكال تحكيمية دولية أخرى، وتمثل بالتالي درعاً واقياً ضد الحماية الدبلوماسية التي قد تلجأ إليها دولة المستثمر، مـن ناحيـة أخرى.

    3) مزايا تخص المستثمر: يوفر المركز الدولي للمستثمر فرصة مباشـرة للتمتـع بمزايـا التحكيم إذا ما نشب نزاع بينه وبين الدولة المضيفة. ومما لا شك فيه أن إمكانيـة اللجـوء إلـى التحكيم تعتبر عنصراً هاماً من عناصر الأمان القانوني القضائي الحساس بالنسبة لاتخـاذ قـرار الاستثمار، خصوصاً وأن التحكيم من شأنه أن يبدد مخاوف المستثمرين الأجانب بشأن خـضوع منازعاتهم لقضاء الدولة العادي الذي قلما يكون مصدر ترحيب بالنسبة للمستثمرين الأجانـب. ومن أبرز المسائل في ICSID أنه لا يجوز للدول التدخل لنصرة رعاياها فـي القـضايا الت ترفع منهم أو عليهم قبل صدور الحكم، أما بعد صدور الحكـم فـيمكن اللجـوء إلـى القنـوات الدبلوماسية.

4) يتمتع المركز بنظام فعال في مواجهة المواقف التعطيلية:

    إن قواعد ICSID لا تسمح بالـ Frustration، وإذا كانت إحدى الدول لم تعـيـن أحـد المحكمين، فإن رئيس البنك الدولي وبعد الحصول على التزكية من السكرتير العام يتولى تعيـين المحكم.

    يوفر السكرتير العام والعاملون في أمانة المركز الدعم الكافي لإجراءات التحكيم، ويتخذ هذا الدعم صورة تحديد مكان الاجتماعات في المركز أو في مكان آخر. فضلا عن تقديم مساعدات أخرى كالترجمة والترجمة الفورية والنسخ، كما يعين السكرتير العام واحداً من ذوي الخبرة فـي المركز ليكون سكرتيراً لكل هيئة تحكيم، وليكون مسؤولاً عن تحـضير المرافعـات والجلـسات والاحتفاظ بمحاضرها، وإعداد مسودات الأوامر الإجرائية، والقيام بـدور قنـاة الاتـصـال بـين الأطراف والمحكمين.

    وقد يعد أحد أطراف التحكيم إلى اتخاذ موقف سلبي من الإجراءات بغرض عرقلة عمليـة التحكيم والحد من فاعليتها، كأن يمتنع عن حضور إجراءات التحكيم، لذلك كان من الضروري أتخاذ الحيطة لمواجهة مثل هذه الحالات، ولهذا فقد نصت المادة 45 من الاتفاقيـة علـى أنـه "1- إذا تغيب أحد الطرفين أو امتنع عن تقديم أوجه دفاعه، فإنه لهذا السبب في حد ذاته، لا يعد مسلماً بادعاءات الطرف الآخر. 2- إذا تغيب أحد الطرفين أو امتنع عن تقـديم أوجـه دفاعـه فإنه في مرحلة من مراحل الخصومة، يجوز للطرف الآخر أن يطلب من المحكمة الاكتفاء بمـا قد تم وإصدار حكمها بناء على ذلك. ويجب على المحكمة مع إخطارهـا الطـرف المتغيـب أو الممتنع عن تقديم أوجه دفاعه بالطلب الذي تلقته أن تمنح هذا الطرف مهلة لتـدبر الامـر قبـل إصدار حكمها، وما لم تقدر المحكمة عدم توافر النية لديه للحضور إلى المحكمة أو الـسير فـي الخصومة".

    ومن جهة أخرى، فإنه يقتضي احترام اتفاق التحكيم وتحقيق فاعليتـه والاعتـراف لهيئـة التحكيم بالاستئثار بتسوية النزاع، وبالتالي لا تكون محاكم الدولة مختصة للفصل فيه، حيث يمتنع على الأطراف الالتجاء إلى القضاء الوطني لطلب الفصل في المنازعة محل التحكيم، ولهذا فقـد نصت المادة 26 من الاتفاقية على أن: "موافقة أطراف النزاع على طرحه على التحكيم في نطاق هذه الاتفاقية يعتبر، ما لم ينص على غير ذلك، تخلياً عن مباشرة أي طريق آخر للتسوية". ومن هنا فإنه إذا سعى أحد الأطراف إلى التخلص من شرط التحكيم وفقاً لقواعـد المركـز، وجـذب الطرف الآخر إلى القضاء الوطني، فإنه يجب على المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى أن تعلـن عدم اختصاصها وتحيل الأطراف إلى المركز. وهو ما يدل على مسلك واضح من جانب واضعي الاتفاقية نحو تحقيق مزيد من الفاعلية لأحكام التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية. ويمكن أن نجد مثالاً على مبدأ استئثار هيئة التحكيم بتسوية النزاع في قضية Mobil Oil ضـد حكومـة نيوزيلندا، إذ أنه ورغم تقديم الشركة طلب التحكيم لـدى المركـز الـدولي لتسوية منازعـات الاستثمار، فقد سعت الحكومة إلى استصدار أحكام قضائية من المحاكم النيوزيلندية لعرقلة سـير النزاع أمام هيئات التحكيم، إلا أنه عند عرض النزاع على المحكمة العليا في نيوزيلنـدا قـررت وقف عملها إعمالا لشرط التحكيم المبرم بين الطرفين 1.

5) يتمتع نظام المركز بتأثير فعال حتى ولو لم يستخدم: إذ أن مجرد وجود مثل هذا النظام من شأنه أن يؤثر في سلوك الأطراف في ما يتعلق باحتمال ظهور النزاعات، فلهذا النظـام مـا يشبه التأثير المقيد للطرفين، فكلاهما سيحاول تجنب القيام بأي أعمال تدفعه فـي النهايـة إلـى الدخول في تحكيم قد لا يكون في صالحه، فضلاً عن ان أمكانية التقاضـي تزيـد مـن رغبـة الأطراف في التسوية الودية.

6) حفظ السجلات: حيث تحتفظ الأمانة العامة للمركز بقائمة الدول الأعضاء في الاتفاقية، وتحتوي هذه القائمة على المعلومات المتعلقة بمشاركة جميع هذه الدول. كما يحتفظ المركز لنفسه بقائمة من الموفقين وأخرى من المحكمين، حيث يجوز لكل دولة متعاقدة أن تعين أربعة أشخاص من كل قائمة، ويكون هؤلاء الأشخاص من جنسية الدولة المتعاقدة، كما يجوز أن يكونـوا مـن جنسية أية دولة أخرى. كما يمكن لرئيس المجلس الإداري أن يعيّن عشرة أشخاص في كل قائمة على أن يكون هؤلاء من جنسيات مختلفة. كذلك تحتفظ الأمانة بسجل لجميع طلبـات التحكـيم يحتوي على جميع التطورات الإجرائية المهمة، وأرشيف يحتوي على جميع النصوص الأصـلية والوثائق المرتبطة بأية قضية.

المبحث الثاني - معيار الصفة الأجنبية للمستثمر ومعيار دولية العقد:

   تتسم إجراءات التقاضي في المركز بكونها دائماً مختلطة، حيث أن أحد الطرفين لا بد ومن أن يكون دولة مضيفة وطرفاً في الاتفاقية، وقد طرحت مسألة المؤسسات المنبثقـة مـن الدولـة ومسؤولية الدولة عنها في كثير من القضايا، نذكر منها على سبيل المثال، القضية رقم 3/5 لعام 2008 أمام مركز ICSID والمتكونة بين الأطراف .L.E.S.I. S.P.A و.ASTALDI S.P.A ضد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، حيث طرحت مسألة مسؤولية الدولة الجزائريـة نحو المؤسسات الحكومية التي تعمل تحت إدارة الدولة وإشرافها، وقد اعتمـدت هيئـة التحكـيم للإجابة عن هذه الإشكالية على مواد لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة عن مسؤولية الدولـة عن الأفعال غير المشروعة دولياً رقم 56/83 المؤرخة في 12 ديسمبر 2001، معتبرة أن هـذا النص يعكس وضع القانون الدولي العرفي، كما التجأت هيئة التحكيم إلى فقه قضاء ICSID.

    ومن المعلوم أن مواد لجنة القانون الدولي تنص على "درجتين" من الانصهار فـي الدولـة بالنسبة إلى الأشخاص العمومية. أما الدرجة الأولى فقد وقع التنصيص عليها بالمادة 4 من مـواد لجنة القانون الدولي، كما يلي:

    "1- إن تصرف كل جهاز للدولة يعتبر بمثابة تصرف صادر عن الدولة، وفقاً للقـانون الدولي، سواء مارس هذا الجهاز مهمات تشريعية أو تنفيذية أو قضائية أو غيرها، مهمـا كانـت طبيعته كجهاز للحكومة المركزية أو لمحافظات وأقضية الدولة.   

     2- يشمل الجهاز كل شخص أو كيان صاحب هكذا مركز بموجب القانون الداخلي فـي الدولة".

    أما المادة 5 من مواد لجنة القانون الدولي فهي تنص على:

   "أن تصرف شخص أو كيان ليس جهازاً للدولة، وفقاً للمادة 4، إنما هو مخول بموجب قانون هذه الدولة بممارسة حقوق السلطة العامة، وطالما أن هذا الشخص أو الكيان، في هـذه الحالـة يتصرف بهذه الصفة، فإن ذلك يعتبر تصرفاً قامت به الدولة، وفقاً للقانون الدولي".

    واستناداً إلى المادة 5 فقد رجعت هيئة التحكيم إلى مراقبة توافر معيارين لاعتبار مؤسسة ما منبثقة من الدولة: المعيار الهيكلي (أو البنائي) والمعيار الوظيفي.

    أما الطرف الآخر فيجب أن يكون مستثمراً أجنبياً ينتمي لدولة أخرى، وكما هو معلوم فإن، الشخص الاعتباري الأجنبي في عقود الاستثمار يتخذ في الغالب شكل الشركة21. وقد تأخذ هـذه الشركة الأجنبية التي تتعاقد معها الدولة للاستثمار في أراضيها أكثر من صورة أو شـكل، فقـد تكون شركة متعددة الجنسيات أو مشروعاً مشتركاً .

    ولهذا ينبغي أن نتعرف إلى مسألة تحديد الشخص الاعتباري الأجنبي كطرف فـي عقـود الاستثمار وتحديد صفته، والمعيار الذي بموجبه يمكن اعتبار هذا الشخص أجنبياً بالنسبة للدولـة المضيفة؟

    لقد ثار خلاف في الفقه بداية حول إمكانية تمتع الشخص الاعتباري بالجنسية أو عدم إمكانية ذلك، قبل أن يستقر الأمر في الفقه والقضاء، ومعظم التشريعات الوطنية، علـى الاعتـراف للشركات وغيرها من الأشخاص الاعتبارية بالشخصية القانونية، وذلك تمكيناً لها مـن مباشـرة نشاطها التجاري أو الاقتصادي، وتسهيلا لها لممارسة التصرفات القانونيـة اللازمـة لتحقيـق الغرض الذي تسعى إليه.

وعلى الرغم من الاستقرار حول الاعتراف للشركات بالجنسية، فقد ثار الخلاف على المعيار الذي يتعين الاعتداد به لتحديد هذه الجنسية، حيث أن هناك عدة معايير قد تم اللجوء إليها لتحديـد جنسية الشركات، وقد نصت المادة 25 من اتفاقية واشنطن لعام 1965 في تحديدها لاختـصاص المركز على أنه:

    "1- يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة وأحد رعايا دولة متعاقدة أخرى، والتي تتصل اتصالاً مباشراً بأحد الاستثمارات، بشرط أن يوافق أطراف النزاع على طرحها على المركز... 2- ويقصد بعبارة أحد رعايا الدولة المتعاقـدة مـا يلي: أ- كل شخص طبيعي يحمل جنسية ب- كل شخص معنوي يحمل جنـسيـة أحـدى الـدول المتعاقدة الأخرى خلاف الدولة الطرف في النزاع في تاريخ إعطاء الأطراف موافقتهم على طرح النزاع على التوفيق أو التحكيم، وأيضاً كل شخص معنوي يحمل جنسية الدولة المتعاقدة الطـرف في النزاع ذات التاريخ ويتفق على اعتباره أحد رعايا الدولة المتعاقدة الأخرى بالنظر إلى الرقابة التي تمارس عليه من قبل المصالح الأجنبية...".

    ويتضح من ذلك أن اتفاقية واشنطن قد اعتدت بضابط الجنسية كمعيار لتحديد الصفة الأجنبية للشركة، حيث أن اختصاص المركز قاصر على نظر منازعات الاستثمار بـين دولـة متعاقـدة ومستثمر يتمتع بجنسية دولة أخرى ومتعاقدة، أي أنه يشترط لانعقاد هذا الاختصاص ألا يكـون النزاع بين دولة ومستثمر يتمتع بجنسية ذات الدولة الطرف في العقد .

    وقد أعرضت الاتفاقية عن تعريف جنسية الأشخاص الاعتبارية، إلا أن الممارسـة العمليـة للمركز تظهر قبوله المعايير التقليدية في تحديد جنسية الشركات، وعلى وجه الخصوص، معيـار مركز الإدارة الرئيسي أو معيار مكان التأسيس. ففي قضية Amco ضد الحكومة الأندونيسية ذهبت هيئة التحكيم إلى أن شركة Indonesia P.T.Amco هي شخص اعتباري يتمتع بالجنسية الأندونيسية ، إذ أنه قد نشأ في ظل القوانين الأندونيسية وفي إقليمها.

    ويجب أن يتوافر شرط الجنسية بالنسبة للشخص الاعتباري في التاريخ الذي يرتـضـي فيـه الطرفان عرض النزاع للتوفيق أو طرحه على التحكيم لـدى المركـز، ولا يؤثر فـي انعقـاد الاختصاص للمركز حدوث أي تغيير لاحق في جنسية هذا الشخص الاعتباري. ففي قضية شركة KLOCKNER الألمانية المقامة ضد جمهورية الكاميرون تعرضت هيئة التحكيم لهذه المسألة، وذهبت إلى عدم الاعتداد بالتغيير اللاحق للجنسية أو للسيطرة والرقابة، وعدم تأثير ذلك في شـرط التحكيم ومما لا شك فيه أن من شأن ذلك منع التحايل بإحداث تعديلات غير جدية في الجنسية بهدف توفير الاختصاص لمحكمة المركز، أو العكس باستبعاد اختصاصه بشأن نزاع معين.

    غير أنه استثناء من الأصل، فقد ذهبت الاتفاقية إلى أنه يدخل في طائفة الأشخاص التابعين لدولة أخرى كل شخص اعتباري يتمتع بجنسية الدولة الطرف في المنازعة اتفق الطرفان، مـن أجل إعمال أحكام الاتفاقية، على اعتباره شخصاً تابعاً لدولة أخرى متعاقدة بسبب سيطرة المصالح غير الأجنبية عليه.

    ويرى البعض، أن هناك سبباً قاهراً استدعى ضرورة النص على الاستثناء السابق، فقـد اعتادت الدول المضيفة اشتراط أن يقوم المستثمرون الأجانب بتنفيذ أعمالهم في أقاليمها من خلال إنشاء شركة يتم تنظيمها بمقتضى قوانين الدولة المضيفة، فإذا ما قبلنا من الناحية الفنية القول بأن هذا يجعل من تلك الشركة مواطناً للدولة المضيفة، فإنه يصبح من الواضح أن هناك حاجة الـى وجود استثناء، فإذا لم يوجد استثناء في شأن الشركات الأجنبية المنشأة في الدولة المضيفة، فـإن قطاعاً كبيراً وهاماً من الاستثمار الأجنبي سوف يكون خارج نطاق تطبيق الاتفاقية.

    ومع عدم وضع الاتفاقية لتعريف محدد لما يشكل "السيطرة الأجنبية"، فقد اتجهـت هيئـات تحكيم المركز إلى بحث هذه المسألة، كلما عرضت عليها، في سبيل البحث عن معيـار معاملـة الشركة الوطنية كشركة أجنبية، وقد انتهت إلى أن مجرد إبرام الدولة اتفاقاً للاستثمار مع شخص اعتباري خاضع للرقابة الأجنبية ويتمتع بذات جنسية الدولة المتعاقدة مع احتواء هذا الاتفاق على شرط تحكيم يعتبر موافقة من الدولة على معاملة هذا الشخص كشخص اعتباري تابع لدولة أخرى متعاقدة غير طرف في المنازعة، حتى في حالة غياب الاتفاق الصريح على مثل هـذه المعاملـة للشخص الاعتباري.

    ففي قضية Amco ضد الحكومة الأندونيسية استنتجت هيئة التحكيم أن أندونيسيا قد وافقـت على معاملة P.T. Amco Indonesia كمواطن أجنبي عندما أقرت طلب ترخيص الاستثمار (متضمناً شرط التحكيم أمام المركز). وأوضحت الهيئة أن الموافقة على طلب يشير إلى "استثمار أجنبي" واضح الدلالة في أن أندونيسيا وافقت على معاملـة P.T.Amco Indonesia كمـواطن تابع لدولة متعاقدة أخرى في إطار هذه الاتفاقية، وبالتالي فإن الحكومة الأندونيسية كانـت تعـلـم عندما وافقت على الطلب أن P.T.Amco Indonesia سوف تتم معاملتها على أنها تابعة لدولة أخرى، وبالتالي حكمت هيئة التحكيم باختصاصها في نظر القضية.

    وفي قضية Klockner ضد الحكومة الكاميرونية، قضت هيئة التحكيم بأن إدخال شـرط التحكيم ذاته أمام المركز يفترض ويتضمن أن الأطراف كانوا متفقين على اعتبار Socame في حينه شركة تحت إدارة أجنبية، وهكذا فإن لها أهلية التمثيل أمام المركز، ومن ثـم انتهـت إلـى خضوع التحكيم لاختصاص المركز.

    ويتضح مما سبق أن اتفاقية واشنطن قد اعتدت بضابط الجنسية في تحديد الصفة الأجنبيـة للشخص الاعتباري المتعاقد مع الدولة، وذلك من أجل عقد الاختصاص بنظر النـزاع للمركـز ولكنها استثنت من ذلك الشخص الاعتباري الذي يحمل جنسية الدولة الطرف في النزاع إذا اتفق الأطراف على معاملته معاملة المستثمر الأجنبي.

   ويشترط لسريان أحكام الاتفاقية أن تكون كل من الدولة المضيفة، وكذلك الدولة التي ينتمي إليها المستثمر قد صدقتا على الاتفاقية، وإذا ما كانت إحدى هاتين الدولتين غيـر طـرف ف الاتفاقية لا تسري، ولكن يمكن حينئذ التقاضي بموجب قواعد التسهيلات الإضافية Additional  Facility.

 أما في ما يتعلق بمعيار دولية عقد الاستثمار فصحيح أن اتفاقية واشنطن لم تفصح صراحة عن ذلك، إلا أنه يمكن القول أن الاتفاقية أخذت بالمعيار القانوني الاقتصادي من أجـل إضـفاء الصفة الدولية على عقد الاستثمار، وهذا ما يمكن استنتاجه من مضمون المـادة 1/25 الـسالفة الذكر، حيث يتضح من تلك المادة أنها اشترطت لانعقاد اختصاص المركز عدة شروط منها:

    أ- أن يكون الطرف المتعاقد مع الدولة في عقد الاستثمار مستثمراً أجنبياً – وقد سبق وأن تعرفنا على معيار الصفة الأجنبية – وهو ما يفيد توافر المعيار القانوني.

   ب- بالإضافة إلى أن المادة المذكورة اشترطت أن تكون المنازعة قانونية وناشئة بطريقـة مباشرة عن الاستثمار، وصحيح أن الاتفاقية لم تتضمن تعريفاً واضحاً للمقصود بتعبير الاستثمار Investment وهو الأمر الذي يفيد بتوافر المعيار الاقتصادي.  

    وخلاصة الأمر أن الاتفاقية لم تكتف بمجرد توافر عنصر أجنبي في العلاقة العقدية لإضفاء الطابع الدولي على عقود الاستثمار، ومن ثم انطباق أحكام الاتفاقية على هذه العقـود، ولكنهـا تطلبت أيضاً أن يترتب على هذه العقود انتقال قيم اقتصادية إلى الدولة المضيفة، وهذا ما سـوف نجده في المبحث الثالث.

المبحث الثالث - اشتراط أن يكون النزاع متعلقاً بالاستثمار الدولي:

    يستطيع الاستثمار الأجنبي أن يؤدي دوراً أساسياً في عملية تنمية الدولة المـضيفة، ولـذلك قامت معظم الدول، وخصوصاً النامية بتوفير ظروف مواتية ومشجعة للاستثمار على أراضيها، حيث يشمل مناخ الاستثمار، بالإضافة إلى العناصر الاقتصادية والسياسية، أيضاً توفير المنـاخ القانوني الخاص بالاستثمار الأجنبي، حيث أن لهذا الإطار دوراً هاماً في تحديد مناخ الاستثمار.

   وفي هذا السياق، فقد حرصت معظم الدول التي تبحث عن التنمية علـى تحـسين نظامهـا القانوني من خلال إصدار تشريعات الاستثمار، وذلك لتوفير الحماية لتلك الاستثمارات ومنحهـا الضمانات والمزايا المختلفة، بالإضافة إلى توفير العديد من الضمانات الدولية لهذه الاستثمارات، من أهمها إبرام اتفاقيات الاستثمار الثنائية BITS وكذلك متعددة الأطراف MITS التـى تهـدف إلى حماية تلك الاستثمارات وإرسال إشارات الثقة الفعلية للمستثمرين.

    ومن المسلم به أنه توجد في جوهر السياسات الاقتصادية وبالأخص دول الشرق الأوسـط وشمال أفريقيا إرادة سياسية قوية لجلب الاستثمارات الأجنبية، تتماشى مـع حاجيـات العولمـة. ولهذه الغاية اتخذت تدابير تحفيزية من شأنها حض المستثمرين الأجانب على استثمار أمـوالهم وصيانة ممتلكاتهم ومصالحهم.

    ومن هذا المنطلق، شاهدنا في العقود الأخيرة إبرام عدة اتفاقيات دولية للاستثمار وقـد تـم إحصاء العديد من الاتفاقيات الثنائية والجماعية.

    وتحتوي الاتفاقيات الثنائية بصفة عامة على عدة مقتضيات أهمها:

   أ – تعريف مفهوم الاستثمار بصفة واسعة، حيث يشمل جميـع أنـواع الاستثمار toute every kind of asset owned or controlled by an .investor - forme d'investissement

   ب-  مبدأ المساواة وعدم التمييز بين الأجانب والمواطنين .

   ج- حماية المستثمر ومعاملته معاملة عادلة تحميه من مصادرة استثماره بصفة مباشـرة أو غير مباشرة.

   د- مسطرة فض النزاعات أمام محاكم تحكيم خاصة أهمها المركز الدولي لتسوية نزاعـات الاستثمار CIRDI – ICSID وهذه الحماية التي يحظى بها المستثمرون تعد الـشرط الأساسـي لضمان الاستثمارات الخارجية من طرف المؤسسات الوطنية المختصة مثـل -OFCL- OPIC EXMBANR وعند مصادرة الاستثمار، تحل هذه المؤسسات محل المستثمر في حقوقه تجـاه و الدولة المضيفة، وإن تطوير وتنمية الاستثمارات الأجنبية والتعددية غيـر المتناهيـة للاتفاقيـات الثنائية أثار منازعات، وهي في تصاعد مستمر، وهي تضع إشكاليات تـهـم علـى حـد سـواء المستثمر والدولة المضيفة على صعيد تفسير وتأويل مقتضيات الاتفاقية المتنازع حولهـا، وهـذه الإشكاليات أثارت بدورها خلافات فقهية يرجع سببها في الأساس إلى صعوبة إيجاد توفيق بـين مبادىء القانون الدولي العام ومبادىء قانون العقود الذي يرتكز في جوهره على القانون الخاص.

    ويستوجب معرفة ما إذا كان النزاع موضوع الدعوى يتعلق بالاستثمار، وفقاً لأحكام المـادة 25 من معاهدة واشنطن، وبالفعل فإن هذه المعاهدة لا يمكن تطبيقها، ولا يمكن السير بالتحكيم إلا إذا كان موضوع الدعوى يعتبر استثماراً وفقاً لهذه المعاهدة، غير أن هذه، وبـشكل مقصود، لا تتضمن تعريفاً للاستثمار. في الأصل، أريد من ذلك ترك الأطراف يحددون الاستثمار بأنفـسهم. ففي ذلك الحين لم يكن بالإمكان إسناد اختصاص الأكسيد إلا إلى بند متفق عليه بين الأطـراف. هذا المفهوم الذي يطلق عليه المفهوم الشخصي، كان يؤدي إلى اعتبار مركز الأكـسيد مختـصاً بالحالات التي يتفق عليها الأطراف على ذلك.

    ومن جانبنا نرى أنه مع غياب تعريف الاستثمار Investment في معاهدة واشنطن لا بـد من اعتماد المرونة إذا شئنا الأخذ بتعريف موضوعي، ولهذا يمكن القول بأن الاستثمار هو انتقال رؤوس الأموال من الخارج إلى الدولة المضيفة بغية تحقيق الربح للمستثمر الأجنبي، وبما يكفـل زيادة الإنتاج والتنمية في الدولة المضيفة.

    وعلى سبيل المثال، فإن الاتفاقية التي أبرمت بين مصر والمملكة المتحدة لبريطانية العظمـى وايرلندا الشمالية عام 1976 لتشجيع وتنمية وحماية الاستثمارات المتبادلة بين حكومتي الـدولتين، وهذه الاتفاقية استخدمت عدة مرات أمام مركز الأكـسيد منهـا قـضية Wena Hotels ، ومنهـا القضية Joy MiniG Machinery (مدعية) ومصر العربية (مدعى عليها) لعـام 2003، ولكـن الاتفاقية طبقت في قضية "وينا" على نزع ملكية expropriation حقوق شـركة "وينـا" بواسـطة الحكومة المصرية، ولم تطبق في قضية Joy MiniG Machinery، والسبب في ذلك هو التفرقـة الأساسية بين نوعين من المطالبات: نوع ينبع من الاتفاقية ويسمى treaty based claims أي أن المطالبات تنعي على الدولة المضيفة عدم الوفاء بما اتفقت عليه فيها كله أو جله أو جزء منه، فـي ما يتعلق بما نصت عليه من أوجه الحماية والمستويات التي تقوم عليها المعاملة المتبادلة، والنـوع الثاني يطلق عليه contract based claims أي المطالبات التي تتضمن خلافاً ناشئاً عـن علاقـة الاستثمار حين يقع إخلال بالتزام تعاقدي. والنوع الأول تنص الاتفاقية على جـواز إحالتـه إلـى مركز الأكسيد، والثاني ينظر بطريق التقاضي أو التحكيم لدى الدولة المضيفة للاستثمار.

     والجدير بالذكر أن اتفاقية 1976 لم تضع تعريفاً جامعاً مانعاً لكلمة استثمار، وإنما ضـربت أمثلة عليه، وقالت في المادة الأولى:

(أ) يعني الاستثمار أي نوع من الأصول ويشمل بصفة خاصة لا على سبيل الحصر:

1 - الممتلكات المنقولة والثابتة وأية حقوق ملكية أخرى مثل الرهونات وحق الانتفاع. 2 - أسهم وسندات وحصص في الشركات أو مصالح في ما تملكه هذه الشركات.

3- المطالبات المتعلقة بنقود أو بأي انجاز للأعمال بمقتضى عقد تكون له قيمة مالية.

4 - حقوق الامتيازات التي يجيزها القانون أو بمقتضى عقد وتشمل امتياز البحـث عـن استخراج الموارد الطبيعية واستغلالها.

    وتعالج المادة 8 من الاتفاقية اختصاص مركز الأكسيد، كالتالي: "(1) يحق لكل من طرفي التعاقد أن يتقدم إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (يشار إليها: "المركز") لتسوية أي نزاع قانوني ينشأ بين هذا الطرف المتعاقد وأي مواطن أو شركة من الطرف المتعاقـد الآخـر يتعلق باستثمار يقوم به الطرف الآخر في أرض الطرف الأول، وذلك إما عن طريق المصالحة أو التحكيم طبقاً لاتفاقية تسوية منازعات الاستثمار المبرم بين الدول والمـواطنين فـي الـدول الأخرى والموقع في واشنطن بتاريخ 18 مارس 1965، وطبقاً للمادة 25 (2)(ب) من الاتفـاق المشار إليه. إن أي شركة تابعة لأحد الأطراف المتعاقدة والتي تثير النزاع مسبقاً وتملك معظـم أسهم الطرف المتعاقد الآخر، سوف تتم معاملتها طبقاً لأغراض الاتفاق المـشار إليـه كأحـدى شركات الطرف المتعاقد الآخر.

     وإذا نشأ مثل هذا النزاع ولم يتم الوصول إلى اتفاق بين أطراف هذا النزاع خـلال ثلاثـة شهور باستخدام الوسائل المحلية، فإنه يكون من حق المواطن أو الشركة التي أضيرت أن تتقـدم كتابة بمنازعتها للمركز بطلب التسوية عن طريق المصالحة أو التحكيم طبقاً للاتفاق المشار إليه، ولكل من الأطراف المتعاقدة أن تتخذ إجراءات بإرسال طلب بهذا المضمون إلى سـكرتير عـام المركز طبقاً لنص المادة 28 و36 من الاتفاق. وفي حالة عدم الاتفاق على المصالحة أو التحكيم أيهما أنسب فإن المواطن أو الشركة التي أضيرت له الحق في الاختيار بينهما. ومن الواضح أن الصياغة العربية لهذه النصوص هي ترجمة رديئة للنص الانكليزي.

    ولكن الازدياد الهائل في عدد المعاهدات الثنائية التي تتضمن عرضاً للجوء إلى التحكـيم، والذي لم تتنبه الدول بشكل فوري لمداه، قد أدى إلى جعلها تتبنى مواقف متحفظة جداً، من هنـا، فإن موضوع الاستثمار أصبح موضوعاً محوريـاً فـي كـل القـرارات التحكيميـة المتعلقـة بالاختصاص. وفي حالات عديدة، تم الاعتبار أن مفهوم الاستثمار وفقاً للمعنى المعطى لـه فـى معاهدة واشنطن هو مفهوم مستقل عن المعاهدات الثنائية، وأنه يجب فهمه بشكل موضوعي.

    ولذلك فإن كثيراً من هيئات التحكيم (التابعة للأكسيد) كانت تنظر في السوابق التحكيميـة وتأخذها بعين الاعتبار وتستنتج منها بعض المعايير الموضوعية، وتشير هذه السوابق إلى إمكانية القول بأن الاستثمار ينطوي على انتقال رؤوس الأموال من الخارج إلى الدولة المـضيفة بغيـة تحقيق الربح للمستثمر الأجنبي، وبما يكفل زيادة الإنتاج والتنمية في الدولة المضيفة وهو الأمـر الذي يفيد توافر المعيار الاقتصادي.

    إلا أنه يجب أن تتوافر في العقد المبرم بين الدولة المضيفة والمستثمر الأجنبي، لكي يـشكل استثمارا حسب مفهوم المعاهدة، الشروط الثلاثة التالية: أن يكون المتعاقد قد قام بتقدمة معينة في البلد المعني، أن تكون هذه التقدمة لمدة معينة، أن تتضمن خطراً معيناً على القائم بها.

    وفي القضية رقم 00/6/ARB لعام 2003 المتكونة بين كونسورتيوم (مدعيـة) والمملكـة المغربية (مدعى عليها) رأت محكمة التحكيم أن تعريف الاستثمار الذي تعطيه الاتفاقية يعتبر أن الحقوق الناشئة عن عقد يمكن أن تكون جزءاً من تدبير لنزع الملكية بدءاً من لحظة وصف هـذا العقد بأنه استثمار بموجب الاتفاقية نفسها. وتعتبر الديون المستحقة للمستثمر جـزءاً مـن هـذا الاستثمار. وفي قرار قديم متعلق بالمسألة حول مطالبات ملاك السفن النروجية ضـد الولايـات المتحدة الأمريكية جذبت الانتباه إلى أن الحقوق ذات النشأة التعاقدية يمكن أن تكون موضعاً لنزع ملكية يخضع لجزاءات الاتفاقية (حكم صادر عام 1922، وكان موضوعه حجـزاً موقعـاً مـن الولايات المتحدة قبل الدخول في الحرب العالمية الأولى يتعلق بسفن ومؤونة للـسفن وتجهيزهـا أصاب فيما أصاب سفنا، كانت شركة أمريكية خاصة لصالح ملاك من النروج). وطالبت النروج بالتعويض عن نزع الملكية وأجابت الولايات المتحدة بأنه لا يمكن أن يكون هناك نـزع ملكيـة بشأن حقوق مصدرها العقد. وقد قضت المحكمة التحكيمية لصالح الملاك النروجيين، مما أسـقط الحجة الأميركية بشأن حقوق العقد. وأشارت المحكمة في القضية رقم 6 السالفة الذكر الى أنـه بعد ذكر هذه الواقعة فإن معاهدات حماية الاستثمارات الحديثة تتميز بإعطاء تعريف واسع المدى لمصطلح استثمار وأنها تساير المعلقين في هذا الصدد قائلة بأن كل نوع من الأصول يمكـن أن يكون من باب أولى محلاً لنزع ملكية ويجب حمايته بنصوص المعاهدات.

وأشارت المحكمة إلى التدابير المعادلة لنزع الملكية من حيث الطبيعة وضربت مثالاً بقضية ايثيل" ضد حكومة كندا"، التي أعلنت أنها ستصدر قانوناً جديداً يحظر استيراد مـادة كيماويـة كانت أحدى الشركات الأمريكية تقوم بدور المستورد والموزع لها في ربوع كندا، واعتبرت ذلك تدبيراً غير مباشر لنزع ملكية، يناقض أحكام الباب الحادي عشر مـن ALENA التـي تـنـظم المسألة، واعتبرت المحكمة التحكيمية أن مجرد الإعلان عن إصدار قانون في المستقبل من شأنه أن يسبب ضرراً لشركة "ايثيل". كما ضربت مثالاً بقضية متالكلاد. هذا من حيث التوسع معنى التدبير MESURE.

     أما من حيث أثر التدبير فيجب أن تتوافر فيه كثافة معينة ليمكن وصفه بأنـه يعـادل نـزع الملكية. وضربت مثالاً بالحكم في قضية SANTA ELENA في شـأن شـركة كوستاريكية نزعت منها ملكية قطعة أرض، ثم ردت إليها مع حظر البناء فيها، مما حدا محكمة التحكيم على اعتبار ذلك نزع ملكية بسبب حرمان المالك من السيطرة الطبيعية على ملكه وجني ثمراته. ومن الأمثلة التي استشهدت بها هذه المحكمة هي قضية الكونسورتيوم STARRETT HOUSING ضد جمهورية إيران الإسلامية التي نزعت فيها الملكية عن طريق جعل سند الملكية عديم الأثـر بأن ظل في يد المالك دون أن يستطيع الاستمتاع بأي حق من الحقوق المتفرعة عنه.

     وبتطبيق الأفكار السابقة على واقعة النزاع وجدت محكمة التحكيم أن المصلحة التي نزعت من الكونسورتيوم الإيطالي تتمثل في المقطع الثالث من طريق مكناس فاس الذي قـسـم شـطـرين أحدهما لشركة الحاج المغربية والثاني للكونسورتيوم المحتكم. وبعد توقيع هذا القرار صدر قرار آخر باستقطاع جزء من الكونسورتيوم قدره 5,2% وإضافته إلى شركة الحـاج. وقـد تمـسك الكونسورتيوم بأن الجزء المقتطع منه مهم وحيوي، وأنه نزع لأسباب سياسية وتتـضمن تمييـزاً بين الأجانب.

    وبالنتيجة فقد عللت محكمة التحكيم بأن الإدعاء بعدم وجود معاملة عادلة ومنصفة أو وجود إنكار للعدالة من جانب رئيس الشركة المغربية التي طرحت المناقصة، ثم مـن جـانـب وزيـر التجهيز الذي خاطبه الكونسورتيوم لصمت الشركة عن الرد، فلم يـرد بـدوره، ممـا اعتبـره الكونسورتيوم إنكاراً للعدالة. فقد رفضت محكمة التحكيم هذا الإدعاء ورفضت اعتباره نوعاً من سوء النية في التعامل مع الكونسورتيوم بقصد التمييز ضده وعدم إعطائه معاملة عادلة منـصفة. وعبرت محكمة التحكيم عن استغرابها لهذه الأقوال، بأنه ليس كل امتناع عن الرد على مطالبـة عقدية ولو كانت محقة يمكن تحليله على أنه بقوة القانون انتهاكاً للاتفاقية الثنائية، ما لـم توجـد ظروف معينة تؤكد ذلك، وهو ما لم يثبت أمامها.

     وفي القضية رقم 5 /3 لعام 2008 والمتكونة بين المستثمر الايطالي: مجمـع ASTALDI .S.P.A و .LESI S.P.A وجمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية، فقد اعتمدت هيئة التحكـيم و تقسیما بين خروق الاتفاق الثنائي، وخروق العقد منذ حكمها في 12 جويلية 2006 بالاختـصاص والذي قالت فيه أنها "... مختصة بالنظر في المطالب المقدمة من الجهة المدعية ضـمن نطـاق استناد هذه الطلبات إلى خرق الاتفاق الثنائي، وفقط ضمن هذه الحدود". وفـي الحكـم النهـائي تمسكت الهيئة دوماً عند النظر في هذه الخروق بالرجوع إلى ما صـدر فـي الاتفـاق الثنـائي الجزائري الايطالي: في خصوص ما ادعته المدعية من انتزاع واستملاك لاسـتثمارها، عـادت هيئة التحكيم إلى المعاهدة لمعرفة: هل يوازي فسخ العقد انتزاعاً واستملاكاً للمشروع بمفهـوم المادة 4.2 من الاتفاق؟ وكذلك في خصوص الخرق المزعـوم للالتزامـات بالمعاملـة العادلـة والمنصفة، فإن الهيئة رجعت إلى بنود الاتفاق الثاني بين الجزائر وإيطاليا، لتبين هل يتضمن بنداً خاصاً بالمعاملة العادلة والمنصفة؟ وهل يمكن تطبيق بنود أخرى على المسألة تكون مـستخرجة من الاتفاق الثنائي؟ وقد حافظت الهيئة التحكيمية على المنهج نفسه عند النظر في ما أدلـى بـه المجمع المدعي من "خروقات من قبل الدولة الجزائرية لموجب تأمين الحماية والأمن للاستثمار فقد عادت إلى المادتين 4.1 و4.5 من الاتفاق الثاني للتأكد من درجة الحماية الواجـب توفيرهـا للاستثمار، ومدى مستوى الأمن الواجب تحقيقه. (

  وإن موقف هيئة التحكيم الذي اعتمد التقسيم الجوهري: خرق العقد/خرق المعاهدة   (Treaty claims / Contractual claims) يوافق ما وصل إليه فقه قضاء ICSID الذي يكـرس هـذا التمييز، حين يؤسس اختصاص الهيئة، على عقد الاستثمار، بل على الاتفاق الثنائي (أو معاهدة) الاستثمار المبرمة مع الدولة التي يحمل المستثمر جنسيتها.

   والجدير بالذكر أن هذا التمييز بين النزاع الذي يخص المعاهدة والنزاع الذي يخص العقـد وقع انتقاد شديد بشأنه من طرف العديد من الفقهاء الذين رأوا فيه إفراطاً في التعقيد وخطـراً يؤول إلى تقسيم نزاعات واحدة بصورة مصطنعة. كما أن الأستاذ بيار ميار انتقـد بـشدة هـذا التمييز، معتبراً أنه غير منطقي، وغير مجد. فإختصاص المحكم يحدد حسب هذا الفقيه اسـتناداً إلى وقائع النزاع، وليس بالاستناد إلى القواعد القانونية المنطبقة فيه. فالمحكم سواء كـان محكم العقد أو محكم المعاهدة يجب عليه تطبيق جميع القواعد المنطبقة في النزاع. ومن ثم فلا فائدة من منع المحكم المنصوص عليه في المعاهدة من النظر في جميع جوانب النزاع سواء تلك المتعلقـة باحترام المعاهدة أو باحترام العقد.

   وعلى عكس المنتقدين رأى الأستاذ أمانويل غايار، أن التمييز منطقي، وذلك بالنظر إلـى اختلاف طرق تحرير المعاهدات في خصوص المواد التي يمكن أن يشملها اختصاص المحكمين: فمنها معاهدات تحصر بصفة صريحة اختصاص المحكمين في ما يخص احترام الدولة للمعاهدة وبنودها، على غرار نموذج المعاهدة الثنائية الانكليزية، في حين تنص معاهدات أخرى علـى مجال متسع للاختصاص يشمل كل نزاع يخص أو يهم الاستثمار على غرار المعاهـدة الثنائيـة الايطالية الأردنية. وإنه على هذا الأساس يعتبر الفقيه أنه لا يمكن تجاوز الصياغة الموجودة في المعاهدة وهو يرى أنه على كل حال ومهما كانت الصياغة، من المهم الاقتصار فـي خـصوص اختصاص المحكم المعين بمقتضى المعاهدة على خروق المعاهدة دون تجاوزها باستثناء ما يعبر عنه بـ Umbrella agreement.

    ومن جانبنا فإننا نؤيد وجهة نظر الفريق الأول، وذلك تأسيساً على الأصل، والهدف الذي من أجله وجدت اتفاقية واشنطن، ألا وهو حل النزاعات القانونية المتعلقة بالاستثمار، وإن إخـراج طائفة النزاعات المتعلقة بالعقود من مجال اختصاص هيئات تحكيم ICSID، في الوقـت الـذي تسعى فيه المعاهدة إلى توسيع هذا المجال، إنما يخالف الأصل الذي من أجله وضـعت اتفاقيـة واشنطن، إضافة إلى أن تكييف الاختصاص يقوم في الحقيقة على طبيعة وموضوع النزاع وليس على السبب الذي يذكر في الطلب، أو الذي يجري تكييفه من قبل أحد أطراف الدعوى، وفي هذه الحالة لسنا في حاجة الى البحث والتفتيش حتى عن اتفاق المظلة Umbrella agreement وعما إذا كان متوفراً وموجوداً أم غير موجود.

    وكثيراً ما وجدنا في أحكام مركز ICSID قبولاً من هيئات التحكـيم لوجـود اختصاص مزدوج: اختصاص هيئات التحكيم ICSID على أساس المعاهدة في حين نجد اتفاقاً في العقد على اختصاص تحكيمي آخر، أو حتى في بعض الحالات على اختصاص قضائي فـي مـا يخـص النزاعات المتعلقة بالعقد ، وقد اعتبر هذا الاختصاص المزدوج غير متناقض أو متعارض وإنما متكامل: فهيئة تحكيم ICSID تعتبر قاضياً للمعاهدة في حين يعتبر القضاء أو التحكيم المعين في العقد قاضياً مقتصراً على العقد. وما يخص هذه القضية، فإن هذا التمييز بين ما يخص خروق المعاهدة وخروق العقـد، وأن ذلك يؤول إلى حصر اختصاص هيئة تحكيم ICSID في النزاعات التي تخص المعاهدة وعـدم تدخلها في ما يخص العقد، فهذا هو الاتجاه الذي سارت فيه هيئة التحكيم في الحكـم موضـوع هذه القضية. والملاحظ هو أن هيئة التحكيم لم تعد عند النظر في الأصل إلى استقراء المعاهـدة حتى تتبين إن كانت تسمح لها بالنظر في النزاعات العقدية البحتة، وهـذا يـدل علـى أنهـا لا تشاطر الاتجاه التحكيمي لمركز التحكيم ICSID في بعض الأحكام التي اعتبـرت أن المعاهـدة إذا كانت محررة بصفة موسعة ولم تستثن من اختصاص الهيئـة النزاعـات التعاقديـة، فـإن اختصاص هيئة التحكيم ICSID يشمل إلى جانـب النزاعـات المتعلقـة بالمعاهـدة النزاعـات العقدية، وإن هيئة التحكيم ذهبت بالعكس وفي الاتجاه الذي يميـز بوضـوح بـين النزاعـات المشمولة بمقتضى المعاهدة والنزاعات الناشئة عن العقد مهما اتـسع مجـال ضـمـان التحكـيم الموجود بالمعاهدة، طالما لم تشمل المعاهدة بصفة صريحة تعهداً من الدولة الطرف بـاحترام التزاماتها التعاقدية.

 

    وفي النهاية ومهما كان الجدال فإن هيئة التحكيم في القضية رقم 6 اتخذت موقفاً واضحاً من المسألة:  حصر الاختصاص في ما يتعلق بخروق المعاهدة، وسكوتها عن مسألة اتفـاق المظلـة Umbrella agreement يعني أن مثل هذا الاتفاق لا يوجد في المعاهدة.

    ونظراً لأن اختصاص المركز يقوم على المنازعات القانونية الناجمة عن الاستثمار الدولي، لهذا رأيت من المفيد أن نتحدث – موضوعياً – ولو بعجالة سريعة عن التوجه الحديث للقـانـون الدولي للاستثمار:

    فلقد استقرت الآراء الفقهية على أنه لا مجال للتعويض إذا كان الضرر ناتجاً من تقنين غير مميز ومشروع يدخل في حدود السلطة التنظيمية للدولة، وانه يجب التعويض إذا قصد بـالتقنين التمييز من أجل الإساءة على المستثمر. وعليه لا تعد مصادرة بالنظر إلى القانون الدولي: القيود التجارية التي تتعلق بالترخيصات والرخص، تخفيض العملـة، حمايـة المـستهلك، محاربـة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، حماية البيئة، تغيير النظام الجبائي.

    إلا أن الاجتهاد التحكيمي السائد يرى أنه عندما تتخذ الدولة تدابير مـن شـأنها أن تحـرم المستثمر استعمال استثماره أو الانتفاع به ولو احتفظ بحقوقه في ملكية الاستثمار، فـإن تلـك التدابير تعتبر بمثابة مصادرة غير مباشرة أو تدابير ذات نتائج مماثلة لنتائج المصادرة، وبمعن أن الاجتهاد التحكيمي لا يأخذ في الاعتبار حاجيات الدولة المضيفة بقدر ما يولي أهمية قصوى لصيانة مصالح المستثمر وحفظها.

    ويأتي هذا الاجتهاد في سياق أحكام متوالية صدرت أواخر الألفية الثانيـة، والتـي تحكـم بالتعويض للمستثمر كيفما كانت نوعية التدابير المتخذة من طرف الدولة المضيفة بمجرد معاينـة ضرر لحق بالمستثمر من جراء هذه التدابير، يذكر منها، على سبيل المثال، الحكمان الـصـادران بتاريخ 3 و13 سبتمبر 2001 في قضية:

Lauder et CME c/. Republique Tcheque  فقد صرحت المحكمة بـأن التـدابير المتخذة كان من نتيجتها زوال نشاط المقاولة، والتي جعلت منها شركة ذات ممتلكات، ولكن خالية من كل نشاط تجاري.

    وقد خلف هذا الاجتهاد ردود فعل قوية واستياء عميقاً لدى بعض الدول وبعض المنظمـات غير الحكومية، مما أدى إلى انسحاب بوليفيا من الأكسيد ابتداء من 2 مايو 2007، وقد هددت فنزويلا والنيكارغوا باتخاذ نفس القرار، إلى حد أن البعض لا يتردد في القول بأن المستثمرين الأجانب يحظون في الخارج بحماية أكثر من التي تعطى لهم في بلدهم الأصلي.

    أما بالنسبة لقيمة التعويض فهناك اختلاف جوهري بين موقفين:

    - موقف الدول المتقدمة التي تتمـسـك بـصيغة Hull وتطالـ بـــالتعويض الكامـل full compensation على أساس القانون الدولي.

    - موقف الدول النامية التي تتشبث بمبدأ احترام السيادة الاقتصادية بناء على القرار رقـم 3281 للجمعية العامة للأمم المتحدة وتطالب بمنح تعويضات جزئية. وقد حـاول القـرار قم 1803 لذات الجمعية العامة التوفيق بين الموقفين باستعمال صيغة "تعويض مناسـب .compensation adequate-appropriate

     ـ ولكن في المقابل فإنه لا يجوز للطرف المتضرر أن يعوض الأضرار التـي كـان مـن الممكن ومن المعقول تجنبها، ويعد هذا المبدأ من المبادىء السائدة في القوانين الوطنيـة والعديد من الاتفاقيات الدولية، على سبيل المثال، المادة 77 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقود البيع الدولي للبضائع ويقضي المبدأ بإلزام الطرف المتضرر بأتخـاذ خطـوات معقولة للحيلولة دون تفاقم الضرر الذي أصابه، وفي حال إخفاقه في اتخـاذ مثـل هـذه الخطوات – وهي مسألة تقديرية للقاضي أو لهيئة التحكيم، يحق للطرف المسؤول فـي تخفيض التعويض المستحق.

     ـ ويصف الفقه السائد الالتزام بالتخفيف من الأضرار – على النحو السابق بيانه – بأنه احد المبادىء العامة الراسخة في قانون التجارة الدولية. وينطوي الالتزام بتخفيف الأضرار بصفة أساسية على وجوب قيام الطرف المتضرر باتخاذ خطوات ايجابية يكون من شأنها الحيلولة دون تفاقم الضرر الذي أثيرت بسببه مسؤولية المدعى عليه، فالقانون الدولي لا يعطي الطرف المتضرر ما يمكن تسميته "الحق في السكون" أي أن يترك خسارته تتفاقم، ثم يطلب التعويض عن كل من الضرر الأصلي (الذي ستبه المسؤول) والضرر المتفـاقم (الذي سببه هو بعدم تصرفه).

المبحث الرابع- اتجاهات التوسع في اتفاق التحكيم في تحكيمات المركز:

    وكما هو معلوم فالاتفاق على التحكيم يعتبر نقطة البداية في نظام التحكـيم، إذ بـدون هـذا الاتفاق لا يمكن أن يجري التحكيم، فالقاعدة العامة في هذا الشأن هي أنه ((لا تحكيم بدون اتفـاق تحكيم))، بمعنى أنه يجب على الأطراف الموافقة تعاقدياً على اللجـوء إلـى هـذا النـوع مـن الإجراءات وتحديد القواعد المنظمة لهذه الإجراءات وبشكل مفصل، أو الإشارة إلى قواعد تحكيم أحدى المؤسسات التحكيمية.

     أ- وفي بداية الأمر عندما أنشئ المركز فقد استلزمت المادة 1/25 مـن الاتفاقيـة موافقـة الدول المصدقة على الاتفاقية على الخضوع للتحكيم عند وقوع النـزاعات، وفقا لقواعد المركز، وكذلك موافقة أخرى من الأطراف المتنازعة لإحالة منازعاتهم إلى التحكيم أمام المركز، والواقع أنه خلال العقدين الأولين من حياة المركز، فإن هيئات تحكيم المركز كانت ملتزمة هذا الأسـاس من أجل انعقاد اختصاصها بنظر النزاع، أي أنها كانت تتطلب وجود شرط أو مشارطة تحكيم.

    ولكن الواقع أنه في السنوات الأخيرة لوحظ اتجاه عدد كبير من الدول إلى تضمين تشريعاتها من أجل تشجيع الاستثمار بنوداً تتضمن إحالة نزاعاتها مع المستثمرين الأجانـب إلـى تحكـيم المركز، وكذلك فإنه مع التزايد الهائل في اتفاقيات الاستثمار الثنائية والمتعددة الأطراف والتـي تتضمن نصوص تسوية المنازعات فيها غالبا الإشارة إلى التحكيم وفقا لقواعد المركز، فقد لوحظ اتجاه هيئات تحكيم المركز نحو توسيع جذري في اختصاص المركز عن طريـق قبـول هـذه الهيئات الاختصاص بنظر النـزاع في حالة اللجوء المنفرد مـن جانـب المـستثمر أو اتفاقيـة الاستثمار حتى ولو لم يكن هناك اتفاق تحكيم، حيث تلتزم الدولة المحتكم ضدها بالتحكيم دون أن تكون قادرة على المبادرة بتحريك إجراءات التحكيم بل لا يكون أمامها إلا تقديم دعوى مضادة أو طلبات فرعية، حيث اكتفت تلك الهيئات لتقرير اختصاصها في نظر هذه القضايا بوجـود نـص يشير إلى تحكيم المركز أما في تشريع وطني للاستثمار في الدولـة المـضيفة أو فـي اتفاقيـة للاستثمار سواء ثنائية أو متعددة الأطراف وذلك إذا ما لجأ المستثمر الأجنبي إلى طلب التحك أمام المركز وذلك استناداً إلى أن التراضي غير معدوم في هذه الحالة، لأن الدولة حين نصت في تشريعها الوطني أو في اتفاقية الاستثمار على إحالة نزاعاتها مع المستثمرين الأجانب إلى تحكيم المركز فإنها تكون قد أعطت موافقتها ورضاها مرة واحدة في قبول التحكيم، فإذا وافق المستثمر على اختصاص مركز تحكيم واشنطن المعروض بشكل دائم يكون قد حصل التلاقي بين العرض والقبول، لأن المستثمر في هذه الحالة يعلن قبول عرض الدولة المضيفة الواردة فـي تـشريعها الوطني أو في اتفاقية حماية الاستثمار فيكون التراضي قد تم، ومع تزايد إعداد هذه الأشكال مـن الموافقة على تحكيم المركز ظهر شكل القبول المتبادل على حيز الوجود بـشكل جديـد خـارج المفاهيم التعاقدية للتحكيم، حيث يطلق الـبعض علـى هـذه الظاهرة التحكـيـم بـدون اتفـاق Arbitration Without Privity أو التحكيم الإلزامي الدولي.

     وقد بلغ عدد القضايا التي سجلها المركز بدون اتفاق تحكيم /57/ قضية مـن أصـل /63/ قضية تم تسجيلها نهاية السنة المالية 2003، وهذا ما سنتعرف عليه بالفقرة باء التالية.

ب- التحكيم في منازعات عقود الاستثمار بناء على تشريعات الاستثمار الوطنية:

    منذ إبرام اتفاقية واشنطن عام1965 أدرجت أكثر من ثلاثين دولة في تشريعاتها الداخليـة للاستثمار بنودا تشتمل الموافقة على إخضاع النـزاع مع المستثمرين الأجانب لتحكيم المركـز، وذلك بغرض جذب الاستثمارات الأجنبية، ومن خلال توفير ضـمانات إضـافية للمستثمرين الأجانب.

     وقد تتضمن هذه التشريعات بنوداً تشير بشكل صريح إلى أن النـزاع ما بين الأطراف على تفسير أو تطبيق قانون الاستثمار ذو الصلة لا بد من أن يخضع للتحكيم بموجب اتفاقيـة إنـشاء المركز، أو لقواعد التسهيلات الإضافية التابعة للمركز، إذا كان أحد الطرفين فقط دولة متعاقـدة في المركز، فعلى سبيل المثال، تنص المادة 2/8 من القانون الألباني الخاص بالاستثمار الأجنبي لسنة 1993 على ما يلي: ((قد يقدم المستثمر الأجنبي حيثيات النـزاع لتتم تسويته، وهنـا تقبـل جمهورية ألبانيا تقديمها إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار)).

    كما قد تتضمن هذه التشريعات نصوصاً تشير إلى اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار باعتبارها إحدى الوسائل المشروعة لتسوية النـزاعات الاستثمارية، والبـدائل المعروضة قد تشمل إجراءات صريحة متفق عليها بين الأطراف أو إجـراءات نـصت عليهـا معاهدة ثنائية أو اللجوء إلى غرفة التجارة الدولية أو التحكيم الخاص، ومن أمثلة تلك البنود يمكن الإشارة إلى نص المادة /30/ من قانون الاستثمار الأجنبي في كوت ديفوار لسنة 1988، ونـص المادة /10/من قانون الاستثمار في جمهورية أفريقيا الوسطى لسنة 1984، وأيضاً نص المـادة 2/7(د)من قانون الاستثمار الموريتاني لسنة 1989.

    فقد تقدمت شـركة Southern pacific properties (Middle East) Limited بطلـب للتحكيم أمام المركز الدولي لمنازعات الاستثمار ليتولى حل نزاعها مع الحكومة المصرية بغرض إلزامها بدفع التعويض نتيجة لقيامها بإلغاء مشروع هضبة الأهرام.

    وقد استند طلب التحكيم إلى المادة الثامنة من قانون الاستثمار المصري رقـم /43/ لـسنة 1974 التي تنص على أنه "تتم تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكـام هـذا القـانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر أو في إطار الاتفاقيات السارية بين جمهورية مصر العربية دولة المستثمر أو في إطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الـدول الأخرى التي انضمت إليها جمهورية مصر العربية بموجب القانون رقم /90/ لسنة 1971 فـي الأحوال التي تسري فيها"

   وقد دفعت مصر بأن الفقرة المتعلقة باتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار غير كافية بذاتها، بمعنى أنه لابد من وجود اتفاق مستقل مع المستثمر.

حيث ترى أن القانون رقم /43/ لسنة 1974 هو قانون غامض وغير صريح في ما يتعلـق بقبول التحكيم بموجب اتفاقية المركز، والهدف من المادة هو التنويه إلى أن تحكيم المركز يعتبـر واحداً من عدة طرق أخرى يمكن الاحتكام إليها بعد الاتفاق مع الحكومة المصرية.

    وقد رفضت هيئة التحكيم فكرة أن المادة الثامنة لا تعني شيئاً سوى التلميح برغبـة مـد المبدئية في التفاوض على اتفاق قبول، إذ لا يوجد في التشريع ما يلزم بوجود مظهـر أو شـكل إضافي للقبول بتحكيم المركز، وأعلنت أنه: ((على أساس الاعتبارات السابقة، فإن الهيئة ترى أن المادة الثامنة من القانون رقم /43/ تضع عدداً من الإجراءات الملزمة لفض النـزاع، وتمثـل قبولاً كتابياً صريحاً بتحكيم المركز، وذلك حسبما ورد في اتفاقية واشنطن في مـا يتعلـق بتلـك الحالات التي لم يتم الاتفاق فيها على طريقة محددة لتسوية النـزاع أو التـي لا يوجـد بـشأنها معاهدة ثنائية ملزمة، ونظراً لأن الطرفين المتنازعين لم يتفقا على وسيلة محددة لفض النـزاع، كما لم تبرم بينهما أية اتفاقيات ثنائية، فإن هيئة التحكيم ترى: أن المادة /8/ من القانون رقـم 4 كافية لإثبات مشروعية الإحالة إلى المركز لتسوية النـزاع .

   وهكذا فتحت هيئة التحكيم، الباب أمام توسع كبير في تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار لتغطية الحالات أو القضايا التي جاءت خلواً من اتفاق تحكيم بالمعنى التقليدي، وحيـث يتعامل المستثمر الأجنبي مع النص التشريعي على أنه إيجاب مفتوح يقبله لمجرد طلب التحكـيم أمام المركز.

     وهو ما تجلى أيضاً في قضية Manufacturers Hanover Trust Company ضد الحكومة المصرية، وكذلك في قضية Tradex حيث كان القانون الألباني يتضمن عرضاً بقبـول تحكيم المركز.

ج- التحكيم بناء على اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITS):

    من أجل تقديم ضمانات قانونية للاستثمار عبر الحدود تزايد في الآونة الأخيرة إبرام اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي تهدف إلى وضع نظام شامل لجميع الموضوعات الخاصة بالاستثمار. وبعد توقيع اتفاقية واشنطن لعام 1965 بدأت تكثر الإشارة إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية، بحيث تحـال الخلافات التي تنشأ بين دولة طرف في الاتفاقية ومواطني دولة طرف أخرى إلى المركز الدولي، وفي عام 1965 أبرمت أول اتفاقية استثمار ثنائية، وقد أبرمتها الحكومة الإيطاليـة مـع دولـة تشاد"، ثم جاء العقد الأخير من القرن العشرين ليشهد زيادة هائلة في إعداد هذه الاتفاقية الثنائية، حيث لا تكاد دولة من دول العالم سواء أكانت متقدمة أم نامية، إلا وتعد طرفاً في اتفاقية أو أكثر من هذه الاتفاقيات، ففي عام 2002 وحده أبرمت 76 دولة 82 اتفاقية استثمار ثنائية ليصل عـدد هذه الاتفاقيات حسب تقرير الاستثمار العالمي بعام 2002 إلى 2181 اتفاقية. وفي معظـم هـذه الاتفاقيات تتم الإشارة إلى واحد أو أكثر من أشكال التحكيم التي يديرها المركز الـدولي لتـسـوية منازعات الاستثمار.

    وقد نصت المادة التاسعة من اتفاقية الاستثمار المبرمة بين نيجيريا وهولندا عام 1992 أنه ((يقبل كل طرف متعاقد بموجب هذه الاتفاقية أن يحيل أي نزاع قانوني يثور بين ذلك المتعاقـد وأحد مواطني الطرف الآخر المتعاقد، في ما يتعلق بالاستثمار في إقليم الطرف المتعاقـد الأول، إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار من أجل تسويته عن طريق التوفيق والتحكيم وفق أحكام اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى والموقعة في واشنطن بتاريخ 8 مارس 1965)).

     ومن هذا القبيل أيضاً ما نصت عليه الاتفاقية الألمانية النموذجية، وكذلك ما نصت عليـه اتفاقية الاستثمار المبرمة بين مصر ومالي عام 1998، وأيضاً ما نصت عليه اتفاقية الاستثمار الثنائية، وما ورد فيها من قبول للتحكيم بموجب اتفاقية إنشاء المركز الدولي لتـسوية منازعـات الاستثمار، قد أدت إلى توسيع جذري في اختصاص المركز عن طريـق الـسماح للأفـراد أو الشركات الخاصة بالالتجاء مباشرة الى التحكيم ضد الدولة دون حاجة إلى اتفاق تحكيم مسبق أو في الحقيقة أية علاقة تعاقدية أخرى، حيث اعتبرت هذه الشروط أساساً يستند إليه التحكـيم فـي العديد من قضايا المركز وهذا ينطبق على وجه الخصوص على السنوات القليلة الماضية. فمنـذ عام 1998 والمركز يسجل تقريباً قضية كل شهر، وأكثر من ثلاثة أرباع هذه القضايا الجديـدة رفعها المستثمرون بدون اتفاق تحكيم بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، وإنما استناداً إلى قبـول الدول بنود تسوية النـزاعات عن طريق تحكيم المركز في اتفاقيات الاستثمار، ففي نهاية الـسنة المالية 2003 بلغ عدد القضايا المسجلة لدى المركز الدولي 63 قضية منها 47 قضية استندت إلى اتفاقيات الاستثمار الثنائية الأطراف.

    وقد تم تأكيد هذا الاتجاه نحو قبول الاختصاص بناء على اتفاقية استثمار ثنائيـة52، وفـي غياب أي اتفاق تحكيمي بين الطرفين، في الحكم الصادر عن المركز في قضية (AMT) في 21 فبراير 1997 بشأن النـزاع بين المؤسسة الأمريكية للتصنيع والتجارة (AMT) ضد جمهوريـة الكونغو الديمقراطية (زائير) .

    وقد اتبع هذا الأسلوب في قضية WENA للفنادق وهي انكليزية ضد الحكومة المصرية، فقد لجأت الشركة المذكورة إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار مدعية بأن الحكومـة المصرية لم تلتزم تعهداتها بحماية الاستثمار، وقد دفعت الحكومة المصرية بعـدم اختـصاص المركز بنظر النـزاع، استناداً إلى أن العقدين محل النـزاع بشأن فندقي النيـل والأقـصـر قـد تضمنا اتفاق الطرفين على إجراء التحكيم، وفقاً لأحكام القانون المصري.

    وقد رفضت هيئة التحكيم دفع الحكومة المصرية، وقضت بأختصاصها بنظر الدعوى استناداً إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية المبرمة عام 1975 بين جمهورية مصر العربية والمملكة المتحـدة، والتي نصت في المادة 1/8 منها على أنه:

    ((توافق كل دولة متعاقدة على الإحالة إلى المركز الدولي لحسم منازعات الاستثمار))، حيث أعلنت هيئة التحكيم أن الجملة الأولى من هذه الفقرة تتضمن موافقة عامة على التحكيم بين الدولة الطرف في اتفاقية الاستثمار والشخص الاعتباري التابع للدولة الطرف الآخر وهو الموقف القائم في هذه القضية، ومن ثم انتهت إلى أنها مختصة بنظر القضية تنفيذاً للاتفاقية الثنائية بين مـصر وانجلترا، حيث حكمت هيئة التحكيم بجلسة 8 ديسمبر 2000 بإلزام الحكومـة المـصرية بـدفع التعويض للشركة مضافة إليه الفوائد ومصاريف التحكيم.

د- التحكيم في منازعات عقود الاستثمار بناء على اتفاقيـات الاستثمار المتعـددة الأطـراف :(MITS)

    شهد العقد الأخير من القرن الماضي إبرام العديد من اتفاقيات الاستثمار المتعددة الأطراف، كان من أبرزها اتفاقيـة أمريكـا الـشمالية للتجـارة الحـرة The North American Free TRADE Agreement المعروفة بالنافتا (NAFTA) وكـذلك اتفاقيـة ميثـاق الطاقـة The Energy Charter Treaty واتفاقية (MERCOSUR) وأيضاً اتفاقية قرطاجنة للتجارة الحـرة . Cartagena Free Trade Agreement

    وقد اشتملت غالبية هذه الاتفاقيات على شروط لتسوية المنازعات، والتي تشير في الغالـب إلى شكل واحد أو أكثر من أشكال التحكيم التي تتم في إطار المركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار، أي إلى التحكيم بموجب اتفاقية إنشاء المركز لعام 1965، وإلى التحكيم بموجب قواعد التسهيلات الإضافية التابعة للمركز.

     حيث تنص اتفاقية النافتا المبرمة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، فـي الفـصل الحادي عشر منها، وبالتحديد في المادة 1122 بالاستثمار، وعنوانها قبول التحكيم على ما يلي:

    "1- يوافق كل طرف على قبول الدعوى إلى التحكيم بموجب الإجراءات المحددة في هـذه الاتفاقية.

      5- إن القبول المقدم في الفقرة (1) والإحالة من قبل مستثمر لدعوى التحكيم لابـد مـن أن يستوفي: أ- الفصل الثاني من اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار (اختـصاص المركز) وقواعد التسهيلات الإضافية للقبول الكتابي من قبل الطرفين."

    كما تشتمل المادة التاسعة من اتفاقية MERCOSUR المبرمة سـنة 1994 على منح المستثمر حق الاختيار بين أكثر من بديل لتسوية منازعاته مع الدولة المضيفة، ومن بينها التحكيم لدى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

     كما تمثل اتفاقية قرطاجنة المبرمة سنة 1994 بين المكسيك وكولومبيا وفنـزويلا مثالاً آخر على القبول بتحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار من خلال اتفاقية متعددة الأطراف، فبموجب المادتين (17 و18) من الاتفاقية، فإنه يحق للمستثمر الاختيار بين تحكيم المركز وقواعد التسهيلات الإضافية وقواعد اليونسترال.

    وبموجب هذه الشروط الواردة في اتفاقيات الاستثمار المتعددة الأطراف والمتعلقة بـاللجوء إلى التحكيم بدون اتفاق تحكيمي بالمعنى التقليدي، فإنه يمكن إعطاء الموافقة على التحكيم بوجـه عام من خلال بدء إجراءات التحكيم ضد الدولة المضيفة، حيث تعتبر موافقة الدولة على التحكيم متحققة بمجرد التصديق على الاتفاقية، ويترك للمستثمر إكمال المعادلة عندما يثـور النـزاع، وذلك من خلال إعطاء موافقته الكتابية المتمثلة بتقديمه طلب التحكيم إلى المركز.

    وقد سجل المركز نهاية السنة المالية 2003 ست قضايا جديدة استناداً إلى اتفاقيات متعـددة الأطراف، وعلى وجه الخصوص اتفاقية النافتا، حيث تعتبر هذه الاتفاقية الأكثر إسهاماً من بين الاتفاقيات الأخرى في التوسع في الاختصاص القضائي للمركز.

    ويعتبر الحكم الصادر في 1 نوفمبر 1999 في قضية .Robert Azinian and Others v United Mexican States، وكذلك الحكم الصادر فـي 30 أغسطس 2000 فـي قـضية Metalclad Corporation v. United Mexican States أول حكمين يـصدران بموجـب اتفاقية النافتا عن هيئات تحكيم المركز بموجب اتفاقية النافتا بين المستثمرين والدول المضيفة.

   وهكذا فإن استنتاج موافقة الدولة على اللجوء إلى التحكيم أمام المركـز الـدولي لتـسـوية منازعات الاستثمار بموجب تشريع وطني أو اتفاقية للاستثمار ثنائية أم متعددة الأطراف بـدون اتفاق تحكيم وبصرف النظر عن أية علاقة تعاقدية أصبح شائعاً في الأحكام الصادرة عن هيئات تحكيم المركز منذ عام 1984.

المبحث الخامس- القانون الواجب التطبيق:

    تنص المادة 42 من معاهدة واشنطن التي أنشأت المركز للفصل في المنازعات الناشئة عن الاستثمار على ما يلي:

    "1- تفصل محكمة التحكيم في النزاع وفقاً لقواعد القانون المختارة من الأطراف وفي حالة عدم وجود اتفاق بين الأطراف، فإن المحكمة تطبق قانون الدولة المتعاقدة الطرف في المنازعة- بما في ذلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين – ومبادىء القـانـون الـدولي المتعلقـة المنازعـة المعروضة عليها.

     2- لا يمكن للمحكمة أن ترفض الفصل في المنازعة بحجة سكوت القانون عـن التعـرض للمسألة محل المنازعة أو غموضه.

     3- لا تنال نصوص الفقرتين السابقتين من سلطة محكمة التحكيم في أن تفصل في المنازعة وفقا لمبادىء العدالة والإنصاف ex aequo et bono إذا اتفق الأطراف على ذلك".

     ويتضح من نصوص المعاهدة أن هناك فرضين يتم خلالهما إعمال القانون الوطني للدولـة المتعاقدة. الفرض الأول هو حالة اختيار الأطراف المتعاقدة له، الثاني حالة إعماله في ظل عـدم وجود اختيار له من قبل الأطراف.

     ويتضح من نص المادة المذكورة أنها تجعل من إرادة الأطراف المبدأ الأساسي الذي يحكـم تعيين القانون الذي يلتزم المحكم تطبيقه، وعادة ما تقوم هذه الإرادة باختيار القانون الوطني للدولة المتعاقدة.

     ولكن كيف يتم التعبير عن هذا الاختيار للقانون الواجب إعماله على المنازعة ؟ هل يشترط أن يكون هذا الاختيار صريحاً؟ أم انه يكفي استخلاصه من قـرائن وإشـارات تفيـد التركيـز للعقد في في قانون معين على الرغم من أن إرادة الأطراف لم تقم بالاختيـار الـصريح الموضوعي لهذا القانون؟

     يذهب جانب من الفقه إلى القول أن التفسير الحرفي للمادة 42 يؤدي إلى أن يكون الاختيار صريح، وذلك من خلال مقارنة هذه المادة بالمادة الخامسة من معاهدة جنيف الموقعة عام 1961 والتي تواجه المشكلة نفسها، حيث أن المحكم في معاهدة جنيف لا يعين القانون المختص، إلا في حالة وجود إشارة من قبل الأطراف بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق.

     ويذهب أصحاب هذا الجانب من الفقه إلى أنه يتعين على الأطراف من أجل الاستفادة مـن الحق المنصوص عليه في المادة 42 أن يعينوا القانون الواجب التطبيق على العقد من خلال تبني شرط أو مجموعة من الشروط لا تخضع لشكل خاص، ولكنها يجب أن تكون واضحة ومعبـرة عن هذا الاختيار، وذلك بصرف النظر عن الوقت الذي يتم فيه هذا الاختيار أثناء إبرام العقد، أو أثناء الاتفاق على التحكيم ذاته. المهم أن يتم هذا الاختيار قبل قيام المحكم في الفصل في النزاع.

      في حين أن جانباً آخر من الفقه يرى إمكانية استخلاص الإرادة الضمنية مـن خـلال قرائن وإشارات تفيد التركيز الموضوعي للعقد في قانون معين على الرغم مـن أن إرادة الأطراف لم تقم بالاختيار الصريح لهذا القانون ويؤيد هذا الجانب من الفقه وجهة نظره بأن نص المادة 1/42 والذي يقضي بأن تفصل محكمة التحكيم في النزاع وفقا لقواعـد القـانون المختارة من الأطراف، إنما هو نص عام لا يمكن تخصيصه بأن ينصرف إعمالـه علـى حالات الاختيار الصريح دون الاختيار الضمني، وهم يقولون أنه حتى في حالـة اسـتنباط الاختيار الضمنـي من خـلال قرائن قاطعة" تفيد إسنـاد العقـد إلى القانون الذي اتفـق عليه الأطـراف، فإننا سنكون في نطاق إعمال حقيقي لـنص المـادة 1/42 مـن معاهـدة واشنطن.

    ولكن السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة في هذا المقام هو الآتي:

     إذا كانت العلاقة بين الأطراف تقوم على اتفاقية ثنائية، وفي حال غياب اتفاق الأطراف على القانون الواجب التطبيق، فهل يقتضي الرجوع إلى نصوص المعاهدة – لتطبيقها في تحديد شروط تحمل الدولة لأفعال أشخاص القانون العام – أم ينبغي العودة مباشرة إلى المادة 42 من اتفاقيـة الأكسيد التي تحيل على قانون الدولة المتعاقدة والقانون الدولي؟

    الجواب عن مثل هكذا تساؤل نجده في الحكم التحكيمي ICSID، بين AAPL وسيريلانكا المؤرخ في 27 جوان 1990 برئاسة أحمد صادق القشيري وعضوية برتولد غولدمان وصامويل ك.ب.أسانتي. وفي هذا الحكم يجد اتفاق التحكيم أساسه في اتفاق دولي ثنائي، فقد كانت إجابـة هيئة التحكيم بالأغلبية بإعطاء الأولوية للاتفاق الدولي في حين أبدى المحكم أسانتي احترازه على مثل هذه الأولوية مقدماً رأياً مخالفاً، ومعتبراً أنه في حالة عدم اختيار القانون المطبق مـن قبـل الأطراف، فإنه لا مجال لتطبيق ما جاء في الاتفاق الثنائي، وإنما من اللازم الرجوع إلى قـانون الدولة المتعاقدة وإلى القانون الدولي .

    ومن خلال ذلك يتضح أن الموقف الذي تبنته هيئة التحكيم في القرار السابق، وذلك بإعطاء الأولوية للاتفاقية الثنائية الجزائرية الايطالية من شأنه أن يهمش نوعاً ما القانون الجزائري الذي تحيل إليه المادة 42 من اتفاقية واشنطن.

    ولكن يبقى السؤال المهم والذي ينبغي الإجابة عنه أيضاً، وهو ما المقصود من عبارة الضم "و" في المادة 1/42: "... تطبيق قانون الدولة المتعاقدة طرف النزاع... وكذلك مبادىء القـانون الدولي الواجب تطبيقها في هذا الصدد"؟.

    للجواب عن هذا السؤال يمكن القول أن هذه العبارة تحتمل عدة تأويلات من شأنها التوسـيع أو التفريط في تطبيق قانون الدولة المتعاقدة.

     أما التأويلات الموسعة لتطبيق قانون الدولة المتعاقدة فهي تعطي هذا القانون الأولوية، أولوية تكاد تكون مطلقة، نظرا لذكره في البداية ولا يقع الالتجاء إلى القانون الدولي إلا عنـد صـمت قانون الدولة لإكمال ما نقص.

     وإلى جانب هذه التأويلات الموسعة للقانون الوطني للدولة المتعاقدة نجد اتجاهاً توفيقياً بـين القانون الوطني والدولي، وإن كان يعطي أولوية زمنية لتطبيق القانون الوطني للدولة المتعاقـدة وأولوية مادية للقانون الدولي. وتتمثل الأولوية الزمنية في كون هيئة التحكيم عند غيـاب اتفـاق الأطراف يجب أن تطبق أولاً القانون الوطني وتكمله وتؤوله إذا اقتضى الحال بالقانون الـدولي. أما الأولوية المادية للقانون الدولي فتتمثل في أنه يلعب دوراً شبيهاً بدور النظام العام في القوانين الوطنية أي أن هيئة التحكيم عند تطبيقها القانون الوطني للدولة المتعاقدة (بـسبب عـدم اختيـار الأطراف لهذا القانون أو حتى عند وقوع الاختيار عليه) لا تطبقه إلا إذا لم يكن متعارضـاً مـ مبادىء القانون الدولي حسب المصادر المذكورة بالمادة 38 من القانون الأساسي لمحكمة العـدل الدولية. وهذا يعني أن الأولوية الحقيقية أي الأولوية المادية راجعة للقانون الدولي وإلا كانت لا تؤدي إلى التطبيق الفعلي للقانون الدولي إلا بصفة استثنائية عند معارضة القانون الـوطنـي لـه ونجد في هذا الاتجاه قرار هيئة تحكيم (الإلغاء) المعينة في إطار طلب إلغـاء الحكـم ICSID klochner والذي وقعت فيه الاستجابة لطلب الإلغاء في قرار مـؤرخ فـي 3 مـاي 1985، والذي اعتبرت فيه هيئة تحكيم الإلغاء أنه لا يمكن للمحكمين تطبيق القانون الدولي عنـد غيـاب اختيار الأطراف للقانون المطبق إلا بعد البحث عن محتوى القانون الـوطني للدولـة المتعاقـدة وتطبيقه، إلا إذا تبينت أن القانون الوطني لا ينظم المسألة أو يعارض في تنظيمه لهـا مبـادىء القانون الدولي.

     على نقيض هذا الاتجاه الذي يولي أولوية زمنية، لتطبيق قانون الدولة المتعاقدة نجد اتجاهاً، سماه البعض اتجاهاً ليبرالياً، يكرس حرية تكاد تكون مطلقة للمحكم في تعيين القانون الواجـب التطبيق عند غياب اتفاق الأطراف سواء بالالتجاء إلى تطبيق قانون وطني أو القانون الدولي دون ضرورة المرور أولا بتطبيق القانون الوطني للدولة المتعاقدة.

    وإن هذا الاتجاه يمكن اعتباره أنه هو السائد اليوم في فقه قضاء ICSID.

     ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الفقرة الثالثة من المادة 42 السالفة الذكر قد أعطت محكمة التحكيم السلطة أن تفصل في المنازعة، وفقاً لمبادىء العدالة والإنصاف ex aequo et bono إذا اتفق الأطراف على ذلك.

     فقد يرتضي الطرفان تخويل المحكم صلاحية الفصل في النزاع، وفقـا لمـا يـراه محقق يراه محققـاً للعدالة، وصولاً إلى حكم يحفظ التوازن بين مصالحهما، حتى لو كان في هـذا الحكـم مخالفـة لأحكام القانون التي تحكم وقائع النزاع، والتي يلتزم القاضي تطبيقها فيما لو عرض النزاع عليه. وفي هذه الحالة يعرض كل من الطرفين طلباته أمام المحكم، لكنه في الوقت ذاته يفوض المحكم في وزنها ليس فقط بميزان القانون وإنما كذلك بميزان العدالة وما تقتضيه في ظروف النـزاع. وفي هذه الحالة أيضاً يقوم المحكم بتحقيق وقائع النزاع والتعرف إلى حكم القانون فيهـا، لكنـه وبمقتضى السلطة المخولة له من الطرفين يملك تنحية هذه الأحكام، إذا ما قدر أنها تـؤدي إلـى نتائج مجافية للعدالة في خصوص النزاع المطروح عليه، ويكـون حكمـه رغـم ذلـك ملزمـا للطرفين،لا يملك أحدهما أو الآخر التحلل منه بحجة مخالفته أحكام القانون. ويسمى التحكيم فـي هذه الحالة التحكيم بالصلح، تعبيرا عن الوظيفة المزدوجة التي يؤديها التحكيم، إذ المحكـم مـن ناحية شخص أجنبي عن الطرفين يتولى الفصل في النزاع بحكم ملزم لهما، مثله في ذلـك مثـل القاضي، ولكنه من ناحية أخرى يعتمد أساساً للفصل في النزاع مماثلاً للأساس الذي تقوم عليـه فكرة الصلح، وهو إسقاط ما يراه غير عادل من طلبات الطرفين، وصولاً إلـى حـل يراع المصالح المشروعة لكل منهما.

    والتحكيم بالصلح لا يجوز إلا بناء على اتفاق من الأطراف، ونظرا الى خطورة هذا النـوع من التحكيم، وبالمقارنة مع التحكيم بالقانون، يجب أن يكون هذا الاتفاق صريحاً وواضحاً، ويمكن استخدام أي عبارة أخرى تفيد تفويض المحكم بالصلح بصورة واضحة، لا غموض فيهـا مثـل عبارة إعفاء المحكم من تطبيق أحكام القانون الموضوعي على النـزاع. وصـحيح أن المحكـم بالصلح معفى من التقيد بالقواعد القانونية إلا أنه ملزم باحترام حقوق الـدفاع والمساواة بـين الأطراف واحترام مبدأ المواجهة.

    كما أن المحكم بالصلح لا يمكنه تجاهل القواعد الآمرة، التي تمس النظام العام الدولي للدولة التي تتصل بشأنها المنازعة المعروضة عليه، وإن التزام المحكم مراعاة النظام العام الدولي لتلك الدولة يبرره ضمان الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الصادر عنه في تلك الدولة التي تتـصل بهـا المنازعة المعروضة عليه بروابط وثيقة.

    كما أن المحكم ملتزم مضمون اتفاق التحكيم، ولا يجوز أن يحكم بالتنفيذ العيني بـدلاً مـن التعويض مثلاً، كما أن المحكم بالصلح ملزم بإتباع قواعد الإجراءات المتفق عليها بين الطرفين، مثل مكان التحكيم ولغة التحكيم والمدة التي يتوجب عليه إصدار الحكم خلالها، وإن مخالفته هـذه الإجراءات تجعل حكمه معيباً، مما يعرض الحكم للطعن فيه.

    ومما تجدر الإشارة إليه أن عدم تقيد المحكم بأحكام القانون، إنما ينصرف في المقام الأول إلى نصوص التشريع، إذ هي التي تصاغ في نصوص عامة لا تأخذ اختلاف الظـروف بعـين الاعتبار وتقدم عليها اعتبارات الاستقرار في كثير من الأحيان. أما مـصادر القـانون الأخـرى كالعرف والعادة والمبادئ العامة للقانون، فأمرها مختلف. فالأولى تمثل ما يجري عليه الناس في تعاملاتهم. وهي من ثم كثيرا ما تكون معبرة عن شعور العدالة لديهم، بعيـدا عـن اعتبـارات الاستقرار التي يراها المشرع، وتواجه في الغالب ظروف كل نوع من أنواع المعاملات. والثانية مبادئ كلية تعبر عن قيم أكثر مما تعبر عن حلول قابلة للتطبيق بذاتها. وهي في الغالب من الأمر قيم ذات مضمون معبرة عن العدالة. ولذلك فقد يستعين المحكم في التعرف إلى مقتضيات العدالة والإنصاف، بأعراف وعادات التجارة.

    ويقول الدكتور عبد الحميد الأحدب، فالقانون ليس بعيداً عن العدالة ولا العدالة منقطعة عـن القانون، بل الصلة بينهما هي صلة أرحام وعصبات، والعدل حدس وهو في خفايا الضمير ولكل محكم ثقافته وفكره ومفهومه للعدالة.

    ويقال في الشؤون الحياتية: أنه من الخطأ التركيز على فضيلة إنسانية واحدة بحيث تتناقض مع فضائل أخرى لازمة لكل إنسان سوي، لأن الحياة ليست فضيلة معينة وكل موقف في الحيـاة يحتاج إلى الفضيلة التي تناسبه، بحيث يظهر كل منها في الحين الحسن والمعنى المقصود، وكذلك فإن تطبيق كل قاعدة (أو تفسير نص قانوني) إنما يكون انعكاساً لواقع مطروح ممزوجاً بعدالـة محل اعتبار.

    وما نريد أن نقوله في هذا الصدد أنه بالنسبة إلى التحكيم خاصة ذي الصبغة التجارية الدولية يجب أن لا ينحاز فيه المحكم إلى اتجاه معين يتصل ببيئته أو ثقافته، بل عليـه أن يتـسـم بعـدم الانحياز إلى مكان جغرافي أو لغة أو ديانة أو عقيدة أو ثقافة قانونية بالذات، فـالتحكيم الـدولي يحتاج لكي يكون عادلاً إلى موضوعية وسعة أفق قانوني وثقافي.

المبحث الخامس- حجية أحكام التحكيم :

    أما في ما يتعلق بحجية أحكام التحكيم بالنسبة لهذه الاتفاقية، فإن المادة 54 تفرض على كل دولة متعاقدة الاعتراف بحكم التحكيم الصادر طبقاً للاتفاقية باعتباره ملزماً، كما يجب على الدولة القيام بتنفيذ الالتزامات المالية لمقررة في الحكم، كما لو كان حكم التحكيم الصادر مـن محكمـة المركز حكماً نهائياً صادراً عن محكمة في إقليم الدولة المتعاقدة المطلوب تنفيذ الحكم فيها. ومـن ثم يعتبر الحكم الصادر من محكمة تحكيم المركز وبمجرد صدوره، قابلاً للتنفيذ في كـل الـدول المتعاقدة في الاتفاقية، إذ أن الحكم يتصف بأنه ذو طبيعـة عالميـة Super national award. والحكم التحكيمي الصادر من محكمة المركز لا يمكن استئنافه، فهو حكم نهائي، كما لـو كـان صادراً من محكمة مختصة في الدول التي يطلب الاعتراف بالحكم وتنفيذه. أي أن الحكم يمكـن تنفيذه تلقائياً دون الالتجاء إلى أي إجراءات أخرى، فبمجرد التصديق على الحكم من السكرتير العام للمركز، يصبح الحكم ملزما للدولة بمجرد إبراز نسخة من الحكم مصدق عليها على النحـو السابق ذكره. وقد أتاحت هذه الاتفاقية ثلاثة أسباب يمكن بمقتضاها المنازعة في الحكم الـصـادر عن محكمة التحكيم في المركز، وهي:

    1 - طلب مراجعة الحكم، ويكون الطلب كتابياً، إذا تم اكتشاف وقائع جديدة من شأنها التأثير في تغيير الحكم، وبشرط أن تكون هذه الوقائع غير معلومة لكل من المحكمة والطرف صـاحب الطلب. ويجب أن يقدم طلب المراجعة خلال تسعين يوماً من تاريخ اكتشاف الواقعة، وفـي كـل الأحوال خلال ثلاث سنوات من يوم صدور الحكم.

    2 – طلب تفسير معنى أو مضمون الحكم أو نطاقه. ويجب أن يكون هذا الطلب كتابياً ويتم إيداعه لدى السكرتير العام للمركز، ويكون الفصل في الطلب بمعرفة المحكمة التـى أصــدرت الحكم إن أمكن ذلك.

    3 – يجوز لكل من الطرفين أن يطلب إبطال الحكم وذلك عن طريق تقديم طلب كتابي إلى السكرتير العام للمركز وبناء على أحد الأسباب المحددة في الاتفاقية. ويجب تحرير الطلب فـي خلال مائة وعشرين يوماً من تاريخ اكتشافه.

     وفي ما يتعلق بحالة البطلان، هناك لجنة Commission تتكون من ثلاثة أفـراد تتـولى النظر في دعوى البطلان، والواقع أن البطلان يقع في الحالات التالية:

    1 – إذا لم يتم تشكيل المحكمة تشكيلاً صحيحاً.

    2 – إذا تجاوزت المحكمة بوضوح حدود سلطتها.

    3 – إذا وقع فساد أو رشوة من أحد أعضاء هيئة التحكيم.

   4 - إذا لم تراع المحكمة أحدى القواعد الإجرائية الأساسية.

    5 – إذا لم يذكر الحكم الأسباب التي استند إليها.

      ومن المعلوم أن إبطال أحكام التحكيم ليس بالأمر الهين ويمثل استثناء على الأصل والاتجاه السائد المتمثل في نهائية أحكام التحكيم. ولا يخرج التحكيم في منازعات الاستثمار أمـام مـركـز الأكسيد عن هذه القاعدة.

    ولعل أهم خصائص التحكيم أمام مركز الأكسيد هو اختصاص اللجان الخاصة المشكلة مـن هذا المركز، دون غيرها بنظر الطعون ببطلان الأحكام مع استبعاد أي دور للقضاء الوطني فـي هذا الشأن. فقد تبنت اتفاقية واشنطن موقفاً واضحاً بشأن الرقابة على أحكام التحكيم، إذ استبعدت الطعن بالاستئناف انحيازاً لنهائية أحكام التحكيم، وتجنباً لإطالة أمد النـزاع وزيـادة مـصاريف التحكيم، وأجازت فقط الطعن بالبطلان أمام لجان داخلية خاصة يشكلها المركز ذاته مـن كـبـار المتخصصين. وفي هذا السياق، فإن المادة 52 من اتفاقية واشنطن أوردت خمسة أسـباب علـى سبيل الحصر يمكن الاستناد إلى واحد أو أكثر منها لإبطال حكم التحكـيم. والمتـابع للقـرارات الصادرة من اللجان الخاصة المشكلة لنظر طلبات الإبطال يمكنه التأكد من الطبيعـة الحـصرية لأسباب البطلان، وكذلك التعرف إلى المبادىء الهامة والمستقرة بالنسبة لهذا الإجراء، إذ أنه من المقرر أن سلطات تلك اللجان تتسم بإنها محدودة وضيقة فلا تشمل تصويب الخطأ في اختيار أو حتى في تطبيق القانون. ومن الملفت للنظر أنه وفيما يخص بطلان أحكام التحكيم فقد صدرت في الآونة الأخيرة أربعة قرارات عن المركز ثلاثة منها تم إبطال حكم التحكيم كليـاً أو جزئيـاً الأمر الذي يثير التساؤل عما إذا كنا بصدد اتجاه جديد في قضاء البطلان أمام مركز الأكسيد من شأنه، إن استمر التوسع في تفسير أسباب البطلان الواردة، على سبيل الحصر، تحويـل اللجـان الخاصة بنظر طلبات البطلان إلى جهات استئنافية تملك التصدي لموضوع النزاع.

    وتكمن أهمية هذا التساؤل في أن الفقه، ممثلاً بالبروفسور شروير، سبق وأن صنف قرارات البطلان الصادرة عن مركز الأكسيد إلى ثلاثة أجيال على النحو التالي .

   أما الجيل الأول فيشمل القرارات الصادرة خلال الفترة من 1985 حتى 1986 والتي يمكن القول أنها اتسمت بنوع من التوسع في تفسير أسباب البطلان وإعادة النظر في موضوع النزاع، وذلك على خلاف ما تنص عليه اتفاقية واشنطن وعلى حساب نهائية أحكام التحكيم.

    أما الجيل الثاني، فيشمل القرارات الصادرة خلال الفترة مـن 1979 حتـى 1992 والتـي اتضح فيها مدى تأثر اللجان الخاصة بالنقد الشديد الموجه إلى قرارات الجيـل الأول، وبالتـالي كانت أكثر حذراً خلال هذه المرحلة.

     أما الجيل الثالث فيشمل القرارات الصادرة خلال الفترة من 2002 وحتـى 2009 والت اتسمت بنوع من التوازن، إذ اقتصر البطلان على الحالات الهامة والخطيرة.

    وإزاء ما تقدم يبقى السؤال المطروح هل نحن على أعتاب الجيل الرابع من أحكام ICSID في شأن الرقابة الداخلية والذي قد يتسم باتساع نطاق بطلان أحكام التحكيم؟

    هذا ما يتوقعه البعض وما قد تؤكده أو تنفيه الشهور المقبلة.

الخلاصة:

    ويتمثل الغرض من إنشاء اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار فـي النهـوض بالتنمية الاقتصادية من خلال توفير مناخ استثماري ملائم، حيث أن إنشاء نظام فعـال لتـسوية منازعات الاستثمار يعتبر عنصراً هاماً من عناصر تحسين مناخ الاستثمار، ولتحقيق هذا الغرض تعمل الاتفاقية على الموازنة والتوفيق بين مصالح كل من المستثمر والدولة المضيفة، وإن الهدف الأساسي من اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار هو النهوض بالتنمية الاقتصادية، حيث صممت بغرض تسهيل الاستثمار الدولي الخاص من خلال توفير مناخ استثماري موات.

    ولا تتضمن اتفاقية إنشاء المركز قواعد موضوعية لحل النزاع، بل توفر فقط قواعد إجرائية لتسوية المنازعات، ويتمتع نظام المركز بتأثير فعال. ولقد أدت البنـود الـواردة فـي اتفاقيـات الاستثمار المتعددة الأطراف إلى التوسع في اختصاص المركز الـدولي، مـن خـلال الـسماح للمستثمرين برفع دعاوى التحكيم ضد الدولة المضيفة بدون وجود اتفاق تحكيمي بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، وذلك اعتماداً على الموافقة المسبقة للدولة المضيفة على اللجـوء إلـى تحكـيم المركز، والمتمثلة في تصديقها على الاتفاقية الاستثمارية، واعتبار هيئات تحكيم المركـز هـذه الموافقة إيجاباً من الدولة المضيفة يتكون بتلاقيه مع قبول المستثمر الرضـاء الـلازم لانعقـاد الاختصاص لهيئات تحكيم المركز. وهكذا فإن استنتاج موافقة الدولة على اللجوء إلى التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بموجب تشريع وطني أو اتفاقية للاستثمار ثنائيـة أم متعددة الأطراف بدون اتفاق تحكيم وبصرف النظر عن أية علاقة تعاقدية أصـبـح شـائعاً ف الأحكام الصادرة عن هيئات تحكيم المركز منذ عام 1984.

     وفي ضوء ما تقدم وأمام إصرار هيئات المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار علـى قبول التحكيم بدون اتفاق تحكيمي بالمعنى التقليدي، وإنما تأسيساً على تشريعات واتفاقيات حماية الاستثمار وكأنها تتجه إلى الاستقرار على هذا المفهوم، يكون من الضروري على الدول تـوخي الدقة في صياغة تشريعاتها وكذلك الاتفاقيات التي تبرمها، وذلك بأن تشترط بأن تكون الموافقـة صريحة ومحددة من الدولة لكي تتم الإحالة إلى التحكيم بموجب قواعد المركز الـدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

    ولقد لعبت مسائل اختيار القانون الواجب التطبيق دوراً هاماً في ممارسات هيئات التحكـيم، فتطبيق النظام القانوني الصحيح هو مطلب أساسي لإصدار حكم تحكيمي سليم، والفشل في تطبيق القانون الصحيح والمناسب يعد إفراطا في استعمال السلطة وقد يؤدي إلى إبطال الحكـم، ولقـد أوجبت الاتفاقية على هيئات تحكيم المركز الفصل في النزاع المطروح أمامها بما يتفق مع قواعد القانون المتفق عليه بين الأطراف. وفي حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق يقومون بتطبيق قـانون الدولة المضيفة للاستثمار بالإضافة إلى القواعد المناسبة في القانون الدولي.

    وتعتبر الأحكام الصادرة عن هيئات تحكيم المركز ملزمة ونهائية ولا يمكن الطعـن فيهـا بالاستئناف، أو بأي طريق آخر للطعن إلا في حدود ما ورد في هذه الاتفاقية، ويجب على كل دولة أن تحترم الحكم وتنفذه، وإلا اعتبر ذلك انتهاكاً للاتفاقية.