التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25 / نظام التحكيم الجديد ومدى تأثيره في الإستثمار في المملكة العربية السعودية
يعد التحكيم من أقدم الوسائل التي عرفها الانسان في فـض المنازعـات بجانـب القـضاء والصلح، وهو قديم قدم وجود الانسان، ولعل أقدم صورة كانت حين قام نزاع بين قابيل وهابيل، وكان الحل المقبول منهما هو الاحتكام الى السماء.
لذا، فقد حرصت المملكة على ايجاد نوع من التطوير القانوني والنظـامي، فعمـدت الـى تضمين التحكيم، انطلاقاً من مشروعيته في الاسلام، وكان أول نظام يتضمنه هو نظام المحكمـة التجارية الصادر بالأمر العالي رقم (32) وتاريخ 1350/1/15هـ. بينمـا أول نظـام متكامـل خاص بالتحكيم كان النظام الصادر بالمرسوم الملكي رقم (46م/1) وتـاريخ 1403/7/12هـــــ ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم (2021/7/م) وتاريخ 1405/9/8).
وقد صدر حديثاً نظام جديد للتحكيم السعودي بقرار مجلس الـوزراء رقـم 156 وتـاريخ 1433/5/17هـ بالموافقة على نظام التحكيم، وتم تتويجه بالمرسوم الملكي رقـم م/34 وتـاريخ 1433/5/24 هـ، هـ، وحل النظام الجديد محل النظام القديم الصادر بالمرسوم الملكـي رقـم م/46 وتاريخ 1403/7/12 هـ، وذلك وفقاً للمادة (57) من النظام الجديد، والتي جاء فيها: "يحل هـذا النظام محل نظام التحكيم، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 1403/7/12هـ، وهذا النظام الجديد يختلف عن النظام القديم بصورة كلية.
وقد تضمن هذا النظام الجديد (58) ثمانية وخمسين مادة، في حين كانت مواد النظام القـديم (25) خمس وعشرين مادة فقط، أي بما يزيد عن نظام التحكيم القديم (33) بثلاثة وثلاثين مـادة، بالاضافة إلى أنه عدل السواد الأعظم من المواد المنصوص عليها في النظام القديم.
وأهم ما تضمنه النظام الجديد، أنه يتيح لمن لديهم نزاعات تجارية حلها سواء أكان أطراف النزاع سعوديين أو سعوديين وأجانب، فهذا النظام الجديد جاء متوافق القواعد الدولية في التحكـيم مثـل قواعـد اليونـسـترال UNCITRAL ARBITRATION) (RULES "قواعد التحكيم الصادرة من لجنة قانون التجارة الدولية"، ومتفقاً مع أحكام شـريعتنا عبر هـذا النظـام الاسلامية الغراء.
- تطور العلاقات الدولية وأثرها في الإستثمارات:
إن تطور العلاقات الدولية وما تنتجه من تداعيات جعل الدول تركز على جذب الاستثمار كآلية مهمة لأي تقدم ورقي اقتصادي. وفي ظل هذا المناخ ظهر "التحكيم التجاري" كأهم وسـيلة يرغب المتعاملون في التجارة الدولية في اللجوء اليها لحسم خلافاتهم الناتجة من تعاملهم، فلا يكاد يخلو عقد من عقود التجارة الدولية من شرط أو اتفاق يتم اللجوء بموجبه الى اتباع التحكيم عنـد حدوث نزاع أو خلاف يتعلق بإنشائه أو تفسيره أو تنفيذه أو إنهائه.
ولقد ارتبط "التحكيم التجاري" بازدهار التجارة الدولية، وخاصـة أمـام بـطء اجـراءات التقاضي، الذي لم يستطع مسايرة الظروف أو الوضعية التي تعرفها التجارة الدولية، إضافة الـى المزايا التي يوفرها كقضاء خاص في حل المنازعات الناشئة عن العلاقات الاقتصادية المتعددة.
ونتيجة للتطور التشريعي والتنظيمي الذي عرفه "التحكيم التجاري"، وكذا الدور الجديد الذي أصبحت تضطلع به الدولة كفاعل رئيسي في العلاقات الاقتصادية، وازدهار الحاجة إلى تنظــيم عمليات التجارة وخاصة ذات الطابع الدولي، في ظل غياب الدور التدخلي للدولة الذي كان سائداً. تبرز أهمية ومكانة التنظيمات والمؤسسات الدولية في تنظيم العلاقات الاقتصادية وتأثيرها. إضافة الى فض النزاعات المترتبة عليها، وذلك سواء على مستوى إنشاء هـذه العلائـق وتنفيـذها أو و إنهائها.
ويحتل التحكيم مكانة بارزة في حسم الخلافات المتعلقة بالتجارة الدولية وينفرد بخـصائص ومميزات تكاد تنعدم عند غيرها من الأنظمة القضائية الأخرى، فهو أسلوب مرن وفعال في حسم المنازعات، ناهيك عن السرية المطلقة التي يضمنها، والتي غالبا ما تكون الشركات والافراد في أمس الحاجة اليها؛ لما في ذلك من مراعاة لمصالحها عكس القضاء الرسمي المعـروف بـبطء مساطره وعلانية جلساته. ويمكن القول بأن تدفق الاستثمارات الاجنبية الى دولة ما يعتمـد فـي الدرجة الاولى على ملاءمة مناخ هذه الدولة للاستثمار من وجهة نظـر المـستثمرين ودرء مـا تواجهه هذه الاستثمارات من صعوبات جمة تحول دون انطلاقها، ومن بين هذه الصعوبات كيفية تسوية المنازعات التي تثار بشأنها بين المستثمر الاجنبي والدولة المضيفة للاستثمار، حيث يخشى المستثمر من إهدار حقوقه لعدم وجود الضمانات الكافية لحماية استثماراته في هذه الدولة، علاوة على طول وبطء الاجراءات القضائية المتبعة لدى المحاكم، ومن هنا تبدو أهمية التحكيم بالنـسبة للمستثمر كوسيلة ملائمة ومحايدة وسريعة لتسوية نزاعاته مع الدول المضيفة للاستثمارات. وعليه نجد الدول المضيفة للاستثمار تتعامل بحذر مع الاستثمارات الاجنبية بسبب الحماية الدبلوماسـية التي قد يلجأ اليها المستثمر سعياً الى حماية الدولة التي ينتمي اليها في مواجهتها. والتي قد يترتب عليها مقاضاتها دولياً، لذا يشترط جانب من هذه الدول على المستثمرين الاجانب التنـازل عـن طلب الحماية الدبلوماسية من دولهم على أن تتم تسوية المنازعات التي قد تثور بينهم أمام المحاكم الوطنية، وبالمقابل تحرص الدول المضيفة للاستثمار في ذات الوقت على توفير أكبر قدر ممكن من الامتيازات والضمانات للمستثمرين الأجانب، إلا أنها في الوقت نفسه تتعامل بقدر كبير مـن الحذر والتردد مع ضمانة التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات بينها وبين المستثمر الأجنبي، حيـث ترى أن التحكيم يمثل ضماناً للمستثمر للحصول على حقوقه أكثر من كونه ضماناً للدولة المضيفة للاستثمار، علاوة على أنه يمثل اعتداء على سيادتها وتهربا من اختصاصها القضائي وقوانينهـا الداخلية المتوافقة مصالحها، حيث أن أي خلاف بين المتعاملين أو الشركاء سيكلف كلا الطرفين خسائر كبيرة ليست مرتبطة فقط بحجم الخلاف، بل بتكاليف الفرصة البديلة نتيجـة طـول مـدة النزاع وتجميد الاعمال، لهذا درجت الدول على تيسير حل الخلافات وخاصـة الاقتصادية أو التجارية منها بتشكيل محاكم خاصة أو بالتحكيم. ويلاحظ أن الشركات الكبـرى تحـرص علـى النص في كل عقودها على حل الخلافات ودياً أو بالتحكيم اذا تعذر الحل الودي. ويثور التساؤل لماذا يتعذر الحل الودي بين المتعاملين ما دام كل منهما يبحث عن الحق والعدل؟ بكل تأكيد، لأن كل طرف يعتقد أنه على حق في مطالبه، لأنه ينظر من جانب مختلف عن الآخر. ولهذا يكـون دور التحكيم الفصل في الادعاءات بالسرعة الكلية فيجنب الطرفين المتنـازعين إهـدار الوقـت والمال، ويوصلهما إلى تسوية النزاع في أقصر مدة زمنية. وبالتالي فإن اللجـوء الـى التحكـيم أفضل بكثير من التقاضي حتى أمام المحاكم الخاصة، لأن هذه الاخيرة تكـون مقيـدة بأصـول المحاكمات وبقوانين البينات، إضافة الى تعدد درجات التقاضي ما يؤخر بت النزاع على الـرغم من كل التسهيلات المتوافرة.
ولهذا، قد يحجم بعض الفاعلين الاقتصاديين عن الدخول في صفقات مربحة جداً اذا لـم يكونوا مطمئنين الى سرعة بت النزاعات التي قد تحدث مهما كانت الاطراف حريصة وملتزمـة بإحقاق الحق وتوفير العدل. ويلاحظ في كل دول العالم ازدهار الاعمال وتنشيط الاستثمار فـي البلدان التي تقر قوانين التحكيم وتيسر تنفيذ القرارات التحكيمية.
- نظام التحكيم الجديد دافع جديد لزيادة الاستثمار:
إن اصدار نظام التحكيم الجديد سوف يلعب الى جانب تحسين مناخ الاستثمار في المملكـة دوراً بالغاً في جذب مشروعات استثمارية كبيرة الى الاقتصاد السعودي.
فمن المتوقع، بعد تطبيق هذا النظام على أرض الواقع، مع التعريف بأهمية التحكيم وبدوره الفعال في تقصير مدة التقاضي والجدوى الاقتصادية للمتنازعين من ذلك، أن تبدأ عمليات التحكيم في العديد من القضايا والمنازعات التجارية والاقتصادية، مما سيشكل دافعـاً جديـداً لزيـادة الاستثمار، بما ينعكس ذلك على زيادة النشاط الاقتصادي واستيعاب مزيد من العمال، وتخفيض معدل البطالة. كل ذلك سيقود ليس فقط لزيادة معدلات النمو، ورفع قيمة الناتج المحلي الاجمالي فحسب، بل سيؤدي الى تخفيض المشكلات الاجتماعيـة التـي تـؤرق المـواطنين عمومـاً والمستثمرين خصوصاً، ما سيؤدي الى المزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإن كان ذلك يقتضي إنشاء مراكز تحكيم سعودية عالية المستوى مـن الكفـاءة، وتنـشيط عملها، وتأهيل العاملين فيها، ليصيروا ذوي كفاءات عالية، ولاستطاع هؤلاء المحكمـون اثبـات وجودهم في ساحة التقاضي السعودية، من هنا يمكن أن تصبح المملكة مركـز جـذب للتحكـيم الدولي (أقله على المستوى العربي). وهذا من شأنه زيادة الناتج الوطني الاجمالي بزيادة عائدات التحكيم الوارد من الخارج، خاصة أن مراكز التحكيم الدولي، وفي بعض الدول العربية تستقطب الكثير من القضايا التحكيمية من خارج مراكز وجودها. ومثل هذا الكسب يحتاج الى استقطاب المحكمين المؤهلين من الذين يجب أن يتقنوا اللغات الاجنبية أيضاً، الى جانب ثقـافتهم الحقوقيـة والاقتصادية وتمتعهم بالنزاهة والسمعة الحسنة، بالاضافة الى نشر ملخص الوقائع وخلاصـة الأحكام على مواقع الكترونية متخصصة، بعد استئذان المتنازعين.
- عقد اتفاقيات عمل جماعية:
مع تطور المناخ الاستثماري وزيادة اطمئنان المستثمرين لسرعة بـت القـضايا الخلافيـة بطريق التحكيم، يمكن اللجوء الى اتفاقيات عمل جماعية، ومن شأن انتـشـار ثقافـة التحكـيم أن يسرع الفصل في النزاعات العمالية، فيقل الانقطاع عن العمل، مما سيزيد الطاقـات الانتاجيـة الفعلية ويحسن مستوى النمو الاقتصادي. وذات النتائج السابقة ستترتب أيـضاً علـى تيسير المعاملات وسرعة فض الخلافات بما يزيد في الفعالية والمردود الاقتصادي من كميـة عوامـل الانتاج نفسها، بالاضافة الى زيادة الكمية ذاتها، واذا أخذنا بالحسبان الأثـر المتسارع لتحفيـز النشاط على مفعول مضاعف الاستثمار والاستهلاك يمكن التأكيد أنه سيكون للتوسع في عمليـات التحكيم وسرعة بت قضايا النزاع دور كبير في النمو الاقتصادي وتنمية المجتمع السعودي.
- التحكيم وعقود المقاولات والانشاءات الهندسية:
لقد شهد العالم في الآونة الاخيرة زيادة ملحوظة في استخدام التحكيم كوسيلة لحل الخلافات التجارية بعيداً عن المحاكم، وأصبح شرط اللجوء إلى التحكيم، بدلاً من التقاضي، بنـداً أساسياً مألوفاً في العديد من العقود حول العالم، حيث انتشر شرط احالة النزاعات إلى التحكـيـم بـشكل كبير، خاصة في عقود المقاولات والانشاءات الهندسية، اذ تصل نسبة العقود التي يشترط فيهـا حل النزاعات بالتحكيم الى أكثر من 80% من تلك العقود. وهذه النسبة بازدياد مستمر في أنواع أخرى من النشاطات التجارية، كعقود النقل البحري، وعقود التوزيع والوكالات التجارية، وعقود التصنيع واستعمال واستغلال التكنولوجيا وحل نزاعات الشركات العائلية وفـي مختلـف أنـواع المعاملات التجارية.
وللتحكيم أهمية كبيرة في العلاقات التي تتعدد فيها جنسية الأطراف، خاصـة فـي مجـال الاستثمار الاجنبي، إذ أن المستثمر الاجنبي يأخذ في اعتباره ضرورة التعرف الى كافة المخاطر التجارية المحتملة التي قد تتعرض لها استثماراته عند الدخول في نشاط اقتصادي في دولة مـا. وتعتبر احتمالية نشوء نزاع حول تنفيذ العقد والاضطرار إلى اللجوء الى القضاء لحل النزاع من أهم تلك المخاطر، وقد يصبح هذا الخطر هاجساً حقيقياً عند الشركات الاجنبيـة المـستثمرة أو المنفذة للمشاريع الرأسمالية الهامة في الدولة. فالشركات الاجنبية تجهل القوانين المحلية التي تنظم اجراءات التقاضي أمام المحاكم، كما أنها تشك دوماً في قدرة القضاء المحلي على التعامـل مـع العقود الدولية، وغير ذلك من العقبات الأخرى؛ مثل الاضطرار إلى ترجمة كافة الوثائق المتعلقة بالعقد الى لغة تلك الدولة، وقلة خبرة القضاء بعادات وأعراف التجارة الدولية ومدى قدرته على متابعة التغير المستمر في قواعد القانون الدولي الخاص والاتفاقيات الدولية. لذلك، أصـبـح مـن المعتاد أن تقوم الشركات الاجنبية قبل الاستثمار في سوق أي دولة أن تتحقق من مختلف انـواع المخاطر التي قد تواجه استثماراتها، حيث تعتبر العقبات القانونية من أهم تلك المخـاطر. لـذلك تقوم تلك الشركات بالطلب من مستشاريها القانونيين، ومن خلال الاستفسار من مكاتب المحامـاة المحلية والاجنبية المتخصصة في تلك الدولة، للتحقق من مدى مواكبة قوانين الدولـة للمعـايير الدولية، ومدى اعترافها بالتحكيم كوسيلة مقبولة لحل النزاعات بعيدا عن الاجراءات القـضائية. فإذا ما تبين للشركات الاجنبية أن قوانين تلك الدولة غير ملائمة، وأن قضاء الدولة يثير العقبات في وجه التحكيم، وأن ليس أمام تلك الشركات سوى اختيار اللجوء الى القضاء لحل النزاعـات، عندها تتخذ الشركة إحدى القرارات التالية: (1) إما أن تعيد النظر تماماً في قرار الاستثمار فـي تلك الدولة. (2) أو أن ترفع من تكلفة بضائعها وخدماتها لتغطية المخـاطر. (3) أو أن تخفـض استثمارها إلى أضيق حد ممكن؛ وبذلك تقلل من نسبة المخاطر وتتفادى الغرق في نزاعات طويلة الأمد أمام أنظمة قضائية غريبة عنها، وهي تتفادى بالتالي الدخول في مغامرات تجاريـة في دولة تجهل نظامها القانوني والقضائي.
وبالاضافة الى ما سبق، فإن سبب الاهتمام الكبير بالتحكيم يرجع الى الميزات العديدة التـى يوفرها لأطراف النزاع في العقود التجارية، فالتحكيم يوفر الوقت والجهد على أطراف النـزاع، خاصة اذا قارنا ذلك بإجراءات التقاضي أمام المحاكم، إذ نتيجة لتراكم القـضايا أمـام المـحـاكم النظامية ووجود العديد من القواعد الاجرائية الأمرة ذات التفاصيل والمتطلبات التي تخلـو مـن المرونة، الأمر الذي قد يطيل أمد التقاضي ويدخل الاطراف في دوامة من تأجيل الجلسات الـى آجال غير معلومة.
وبسبب تعدد وامتداد درجات التقاضي، وذلك من مرحلة درجة التقاضي الأولـى، مـروراً بالاستئناف وانتهاء بالتمييز لتبدأ بعد ذلك اجراءات التنفيذ المضنية، كل ذلك يتناقض مع مصلحة أطراف العلاقات التجارية التي تتطلب السرعة في إنجاز الأعمال وحل النزاعات فور نشوبها. فأطراف العلاقات التجارية لا يملكون الكثير من الوقت ليخسروه في الانتظار والترقب، وهم في حاجة إلى حل نزاعاتهم بأسرع وأنسب الطرق الممكنة. لذلك يجد الكثير من أصحاب المصالح التجارية في التحكيم ملاذاً يمكنهم من اختيار الاجراءات الملائمة لحـل النـزاع. حيـث يكـون باستطاعة الاطراف تحديد مسار اجراءات التحكيم بما يجدوه ملائماً لهم، كأن يتفقوا على حـصر الاجراءات بتقديم المذكرات الى هيئة التحكيم لتفصل في النزاع دون حاجة الـي عقـد جلـسات لسماع الأطراف. أو أن يحدد الأطراف القانون الواجب التطبيق على موضوع النـزاع أو علـى الإجراءات، ولهم الاتفاق على تعيين مكان التحكيم، وعدد المحكمين ومجالات تخصصهم، وتحديد الجدول الزمني الذي يجب أن يستغرقه التحكيم وصولاً الى اصدار القرار النهائي.
كما يضمن التحكيم للأطراف الحفاظ على سرية معاملاتهم، وهذه الميزة قد يرغـب فيهـا العديد من أطراف النزاعات التجارية، حيث يمكن لأطراف الخصومة تجنـب نـشـر الأسـرار التجارية والمعلومات المالية للعامة وتفادي الآثار السلبية التي قد تصاحب أحياناً علانية اجراءات التقاضي. إضافة الى كل ذلك، فإن الحكم الذي يصدر بنتيجة التحكيم يعتبر نهائياً وملزماً لأطراف النزاع ولا يجوز اعادة عرض موضوع النزاع على القضاء، وهذا أمر تعترف به أغلب القوانين في العالم. ومع ذلك فإنه يجوز الطعن بطلب تنفيذ حكم التحكيم النهائي أمام القضاء، ولكن هـذا الطلب يكون مقيداً بأسباب محصورة يرتبط أغلبها بأمور شكلية كوجود اتفاق التحكيم والتأكد من تحقق اجراءات عادلة أثناء التحكيم. كما أن حكم التحكيم قابل للتنفيذ بسهولة في العديد مـن دول العالم التي انضمت الى اتفاقية نيويورك الخاصة بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، مما منح التحكيم أهمية كبيرة على المستوى الدولي.
ونتيجة لما يتمتع به التحكيم من ميزات وأهمية لتطوير العلاقات التجارية، تنبه العديد مـن الدول الى ضرورة توفير خدمات تحكيم وفقا للمعايير الدولية. وقد تطور ذلك الى أن أصبح هناك تنافس، بل وتسابق حقيقي بين الدول نحو تطوير خدمات التحكيم فيها. فمستوى خدمات التحكـيم يختلف من دولة إلى أخرى، وذلك وفقاً لمدى مواءمة التشريعات المحليـة المنظمـة للتحكـيم للاتجاهات الدولية وآليات تطبيق تلك القوانين، ومستوى التدريب والمعرفة التي يتمتع بها القضاء والمحكمون، وتطور مراكز التحكيم في تلك الدولة. اذ يعد ذلك كله بمثابة الاعلان عـن تـوافر المناخ القانوني الملائم في الدولة.
إضافة الى ذلك، فإن اشتهار دولة ما بتوافر خدمات التحكيم المتطورة فيها، وانتشار شـرط التحكيم الذي يشير إلى اللجوء الى تلك الدولة لعقد جلسات التحكيم فيها، يعتبر عاملاً يجذب نوعاً جديداً من السياحة أصبحت تسمى "سياحة الخدمات القانونية". حيث يؤدي عقد جلسات التحكيم في الدولة الى حضور المحكمين والمحامين والخبراء والشهود من مختلف الدول الى المكـان الـذي تتوافر فيه خدمات التحكيم الدولية. اذ سيقوم هؤلاء المعنيون بالتحكيم باستخدام كافـة المرافـق السياحية في الدولة وغيرها من خدمات الاستشارات القانونية والقضائية والترجمة وغيرها، ممـا تفرض عليه الضرائب والرسوم. ونجد أن بعض الدول مثل "فرنسا" و"بريطانيا" و"سويسرا" تهتم كثيراً بأن تصبح المكان المفضل لأطراف العقود التجارية الدولية لاستخدامها مقراً لعقد اجتماعات وجلسات التحكيم، واشتهرت تلك الدول بتميز قوانين التحكيم فيها وتميز قضائها الداعم للتحكـيم ومختلف خدمات التحكيم التي تقدمها مراكز التحكيم المتخصصة.
أما على مستوى الوطن العربي، فبالرغم من أن العديد من الدول العربية قام ببـذل جهـود معقولة لرفع مستوى خدمات التحكيم فيها، الا أن التحكيم التجاري ما زال في خطواته الاولى في معظم الدول العربية. فبعض الدول العربية لا تزال في حاجة الى اجراء تعديلات عديـدة علـى النصوص القانونية التي تنظم التحكيم، والبعض الآخر يحتاج الى إصدار قوانين جديدة تماما. وقد سنحت لي فرصة الاطلاع عن كثب على العديد من قوانين التحكيم العربية ومشروعات قـوانين التحكيم التي لا تزال في طور الاصدار، ووجدت أنه بالرغم من وجود الفرصة لإدخال التعديلات والارتقاء بمستوى التشريعات المنظمة للتحكيم، إلا أنه لا يزال هناك تردد حول تبني النظريـات الحديثة في التحكيم، وفقاً للمعايير الدولية، كما أن صياغة بعض القـوانين غامـضة، ينقـصها الوضوح والشفافية، والعديد منها لا يتوافر إلا باللغة العربية، مما يحرم المستثمر الأجنبي فرصة التعرف الى نصوص القانون.
إضافة إلى ذلك، هناك تخبط وعدم استقرار في قرارات المحاكم، خاصة عند تفسير نصوص قوانين التحكيم، وعند تنفيذ أحكام التحكيم المحلية والأجنبية، وبعض قرارات المحاكم تظهر وجود نقص كبير في ثقافة القضاة ومعرفتهم بما أصبح يعرف الآن بالاتجاه الدولي للتحكيم التجـاري. وبعض القرارات القضائية تظهر بوضوح نفور القضاء من التحكيم، حتى أنها تظهر أحياناً، وكأن القضاء يريد إغلاق الباب في وجه التحكيم والتضييق من سلطات المحكمين، ونجد ذلك خاصـة عندما تقوم المحاكم بالفصل في مسألة وجود اتفاق التحكيم، كذلك في الأحوال التي تطلـب فيهـا هيئة التحكيم المساندة من المحكمة لدعم اجراءات التحكيم؛ مثل حالة طلب حـضـور شـاهد، أو للحصول على قرار بالحجز على ممتلكات أحد أطراف النزاع او غيرها من المسائل. لذلك يحتاج القضاء الى توعية ودورات متخصصة تشرح فائدة التحكيم في دعم القضاء، وتـدريب القـضاة ليستوعبوا أهمية التحكيم لتشجيع الاستثمار، ولكي يصبحوا هم أنفسهم محكمين متخصصين فـي المستقبل.
اما المحكمون، وهم الأشخاص المختصون الذين يتم تعيينهم للفصل في النـزاع بـدلاً مـن القضاة، فلا تزال الدول العربية في حاجة كبيرة الى تدريب المحكمـين القـادرين علـى إدارة اجراءات التحكيم باللغة العربية واللغات الاجنبية، بخبرة توازي خبرة المحكمين الدوليين. ويعـد هذا الأمر من أهم المسائل التي تحتاج اليها لدعم التحكيم في الوطن العربي. وبالرغم من الازدياد الملحوظ في عدد الاعلانات عن عقد الدورات التدريبية التي تنظمها مؤسسات ومعاهد مختلفة، إلا أنه نادراً ما نجد دورات لتدريب المحكمين باللغة العربية التي يمكن أن تحدث تطوراً حقيقياً فـي مستوى المشتركين، وذلك بالمقارنة مع الدورات التي تعقدها مراكز التحكيم والمعاهـد الدوليـة باللغة الانجليزية. فأغلب الدورات التدريبية تقدم على شكل محاضرات تلقى على عدد كبير مـن المشتركين وكأنهم طلبة في أحد المعاهد التعليمية، بينما يحتاج التدريب على التحكيم الى طـرح قضايا عملية يتم إعدادها إعداداً دقيقا، وتكليف المشاركين بلعـب دور تنافـسـي وتقـسـم علـيـهم الأدوار، فيكلف بعضهم بدور المحكم، والمحامي، والشاهد، والخبير من خلال برنـامج تـدريب متطور. كما يجب أن تفتح الفرصة لانخراط المتدربين بعمليات تحكـيم واقعيـة، مـن خـلال مشاركتهم كمراقبين في قضايا التحكيم الحقيقية، وكذلك تكليف من تلقى التدريب الكـافـي بتـولي التحكيم في القضايا البسيطة التي قد يرفض قبولها المحكمون المخضرمون فـي هـذا المجـال. وتلعب مراكز التحكيم دوراً كبيراً في عملية اعداد المحكمين ومنح فرصة للراغبين في الحصول على فرصة الوصول الى مستوى المحكمين المؤهلين، خاصة من خـلال فـتح المجـال لكافـة المهتمين بمجال التحكيم لأخذ دور في تطوير التحكيم في الوطن العربي والابتعاد عن التكتلات وسيطرة القلة على هذا المجال.
- دور مراكز التحكيم في تطوير التحكيم التجاري الدولي وتفعيله، خاصة في الدول العربية:
يمكن لأطراف النزاع أن يتفقوا على إحالة نزاعاتهم إلى أحد مراكز التحكيم المتخصصة، وذلك لتحقيق أفضل النتائج من اجراءات التحكيم. لكن في الواقع، وبشكل عام، لا يحتاج التحكيم الى اشراف من مؤسسات التحكيم المتخصصة، اذ يكفي الاتفاق الحر على التحكيم، وعندما يقـوم الاطراف مباشرة بتعيين المحكمين وادارة الاجراءات وفقا للقانون. وفي حالة الخلاف على تطبيق أي إجراء من إجراءات التحكيم أو على تعيين المحكمين مثلاً، يقوم الأطراف بإحالة المسألة الى المحاكم النظامية لكي توفر الدعم لاجراءات التحكيم.
لكن منذ بدايات القرن الماضي انشأت مؤسسات دولية مراكز تحكيم دائمة متخصصة تهدف لتوفير الخدمات ودعم أطراف النزاع؛ مثل توفير قواعد تحكيم متطـورة لتنظيم الاجـراءات، خاصة اجراءات تشكيل هيئة التحكيم واختيار المحكمين الملائمين للنزاع، وبت أي خلاف يثـور بين الأطراف حول اجراءات التحكيم، أو بينهم وبين المحكمـين فـي مـسائل تتعلـق بـادارة الاجراءات وتحديد اتعاب المحكمين وغيرها. ونجد من أوائل المراكز الدولية مركز التحكيم فـي "غرفة التجارة الدولية" الموجود في العاصمة الفرنسية "باريس" والذي تم تأسيـسـه عـام 1923. وتنافسه الآن مراكز تحكيم عريقة أخرى موجودة في بريطانيا (مركز لندن للتحكيم الدولي) وفي سويسرا وأميركا الشمالية غيرها.. ويكفي أن ينص الاتفاق على رغبـة الاطـراف فـي حـل النزاعات من خلال أحد هذه المراكز ليصبح المركز الذي يتم اختياره هو صاحب الاختصاص في قبول طلب التحكيم، وتطبق قواعده على الاجراءات، وتدفع الرسوم التـي تحـددها قواعـد المركز ولوائحه.
وتتباين قواعد التحكيم المؤسسي من حيث درجـة انـضباطها وسـهولة تطبيقهـا وتكلفـة الاجراءات على أطراف النزاع. فعلى سبيل المثال، إذا لم يتفق الاطـراف علـى تحديـد عـدد المحكمين نجد أن قواعد التحكيم في بعض مراكز التحكيم تشير الى تعيين ثلاثة محكمين بـشكل آلي وتلقائي، وهذا قد يرتب أعباء مالية على أطراف النزاع، خاصة اذا كان حجم النزاع بسيطاً، وذلك إضافة إلى زيادة صعوبة إدارة الجلسات؛ ونفضل أن تنص القواعد على تعيين محكم فـرد في حالة عدم اتفاق الأطراف، على أن تترك المجال لتعيين أكثر من محكم (على أن يكون عددهم مفرداً) وذلك حسب حاجة النزاع وصعوبته.
وفي الوطن العربي نجد العديد من مراكز التحكيم التي تتفاوت في درجة تطورها، فبعضها مراكز تحكيم اقليمية ودولية، وبعضها محلي الطابع. ونذكر هنا أحد أقدم مراكز التحكيم العربيـة ذات الطابع الدولي وهو "مركز القاهرة الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي" الذي يتـصدر مراكـز التحكيم العربية عراقة، حيث تأسس عام 1979، كذلك هناك "مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية" الذي تأسس منذ عام 1993، إضافة إلى مراكز تحكيم عربية أخرى منها مركز تونس للتحكيم، ومركز أبو ظبي للتوفيق والتحكيم التجاري، ومركـز دبـي للتحكـيم الدولي الذي كان لي شرف تأسيسه وادارته منذ عام 2003 حتى منتصف عام 2010، وغيرهـا من مراكز التحكيم المنتشرة في الوطن العربي.
لكن بالرغم من الجهود التي تبذل، إلا أنه لا يزال أمام مراكز التحكيم العربية شوط كبيـر حتى تكتسب ثقة المتعاملين من اطراف التجارة على المستوى المحلي والدولي. إذ لا بد من قيـام جهات متخصصة بتصنيف مراكز التحكيم على المستوى العربي، وايجاد معـايير تقيـيم وأدوات قياس لادائها وشفافيتها. كذلك لا بد من الحرص على تجديد مجلس إدارات وأمناء تلك المراكـز بشكل دوري مستمر، وذلك حتى لا تفقد تلك المراكز مـصداقيتها، خاصـة إذا أخـذت شـكل التجمعات المسيطرة على سوق التحكيم، وبذلك نتجنب اعتبارات المصلحة الشخـصية وتعيـين المحكمين من داخل دائرة محددة من الاشخاص والمعارف. ويجب أن تحرص مراكـز التحكـيم العربية على عدم المغالاة في فرض الرسوم واعادة رفع الرسوم، خاصة خلال فتـرة الركـود الاقتصادي. إذ أن ذلك يؤدي الى ابتعاد المتعاملين عن استخدام التحكيم لما يسببه من إرهاق مالي لهم. لذلك على مراكز التحكيم العربية أن تحافظ على مستوى عال من الخدمات مقابـل رسـوم معقولة. كذلك لا بد من إعفاء الراغبين في التسجيل كمحكمين ضمن قوائم المركز من أية رسوم تسجيل، وفي هذا الخصوص أنوه بأن هناك مراكز تحكيم دولية، غير عربيـة، تـستغل رغبـة المهتمين في مجال التحكيم التجاري الدولي من خلال فرض رسوم عالية مقابل تسجيلهم أو مقابل خدمات وهمية؛ وبعضها يستغل رغبة المختصين العرب في التسجيل ضمن قوائم المحكمين فـي تلك المراكز وتطلب منهم دفع رسوم مرتفعة مقدماً مع تقديم طلب التسجيل، ثم تهمل الطلب ممـا يؤدي الى خسارة تلك الرسوم المدفوعة.
ونحن نأمل في أن يستمر السعي نحو تطوير التحكيم في الوطن العربي، وذلك ليس فقـط باعتباره عامل جذب للاستثمارات الاجنبية، بل أيضاً من أجل حماية المصالح العربية. وذلك حتى لا تفرض الشركات الأجنبية على مؤسساتنا العامة والخاصة شرط التحكيم خارج إحـدى الـدول العربية، فقد عرفنا من واقع التجارب العربية العديدة بأن التحكيم في الخارج يؤدي فـي أغلـب الاحوال الى خسائر مالية كبيرة، إذ أن ذلك سيتطلب مجهوداً مضاعفاً ومبالغ هائلة تدفع مقابـل الخدمات القانونية وانتقال الاطراف والخبراء والشهود وغيرها من النفقات، لينتهي الأمر بـدرس جديد وهو الخوف من التحكيم الذي لا مناص منه عند التعامل مع الشركات الاجنبيـة. علـى أن نعوض ذلك برفع مستوى المعرفة بالتحكيم وتطوير خدمات لإقناع، وليس إجبـار، الـشركات الدولية على قبول التحكيم في أي من الدول العربية التي يتوافر فيها مستوى متطور من المعرفة في مجال التحكيم التجاري الدولي.
- تبسيط إجراءات التحكيم:
إن التحكيم التجاري الدولي أخذ ينمو ويتسع كثيراً، واكتسب أهمية كبيرة لدوره المتميز فـي تخفيف العبء عن المحاكم، وفي سرعة حل النزاعات التجارية، مع الأخذ في الإعتبار أن غالبية الدول بما في ذلك بشكل خاص دول مجلس التعاون الخليجي قد أجازت تشريعاتها للأطـراف اللجوء الى التحكيم تيسيراً لهم واختصاراً للوقت وتفادياً لبطء إجراءات المرافعات أمام القـضاء العادي، وهي سلبيات تنعكس على نزاعات المتداعين، وذلك من خلال الاطمئنان إلى مؤسسات متخصصة و/أو أشخاص محكمين وثق الطرفان بعدالتهم وحيادهم ونزاهتهم.
ولما كان أحد الأهداف الأساسية للجوء الى التحكيم هو سرعة حل النزاع بين طرفيه من قبل محكمين متخصصين، فإن جانب الحسم والالزام في قرار المحكمين يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالقانون الواجب التطبيق، وحيث أن بعض التشريعات تتطلب مصادقة المحكمة المختصة علـى قـرار المحكمين قبل إعطائه الصيغة التنفيذية إعمالا لحق المحكمة في مراقبة حكم المحكمـين، والـذي يتمثل من حيث الأساس في التحقق من سلامة الاجراءات التي اتبعها المحكم في نظر النزاع وفي إصدار حكمه ومر اعاته للجوانب الاجرائية المطلوبة قانونا، وفي التحقق من سلامة النتائج التـ انتهى اليها المحكم في حكمه كونها موافقة لحكم القانون دونما المسائل التي يكون فيهـا للمحكـم سلطة التقرير والترجيح. وهنا يقتضي أن نتوقف بعض الشيء للتأكيد علـى دور المحـاكم معالجة بعض الجوانب ذات العلاقة في تجاوز بعض المعوقات الاجرائية التي قد تعوق أو تؤخر تنفيذ حكمه الذي هو الغرض الأساسي من الذهاب الى التحكيم، وفي مقدمة هذه الجوانـب أخـذ المحكم في حسابه المتطلبات القانونية المحلية في الدولة التي سينفذ فيها حكم المحكمين، ومحاولة السير مع الاجراء والشكل المطلوبين لتفادي تأخير تنفيذ الأحكام.
لذلك فإن مراعاة هذه الجوانب لأمر مهم جداً في تفادي كل ما من شأنه حصول تأخير فـي تنفيذ حكم المحكم استكمالاً لأحد الاهداف الرئيسية للجوء الى التحكيم وهو تحقيق السرعة النسبية في إصدار الأحكام وفي حسم النزاع بين الطرفين المتداعيين، وبما يسمح بتنفيـذ مـيـسر لهـذه الأحكام، إذ أن هذا يشجع أيضاً على اعتماد التحكيم المؤسسي المتمثل بتأسـيس هيئـات تحكـيم نوعية تتعامل مختلف القطاعات كغرفة التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومركز التحكيم والتوفيق لغرفة تجارة وصناعة دبي ومركز أبو ظبي للتوفيق والتحكـيم التجاري لغرفة تجارة وصناعة أبوظبي وغيرها من مؤسسات ومراكز تحكيم أخـرى مماثلـة والذي من شأنه اجتذاب الأشخاص المؤهلين في هذا الجانب الحيوي والمهم في حل المنازعـات بين المتداعين، لما في ذلك من فعالية في فض النزاعات التجارية الدولية أو الاقليمية أو المحليـة عن طريق التحكيم. وكلما ازدادت مراكز ومؤسسات التحكيم التي تجتذب محكمين مؤهلين كلمـا شجع ذلك الاطراف في الدخول في تعاقدات تجارية بإدخال أو تضمين شرط التحكيم في عقودهم. واستكمالاً لدور التحكيم في حل المنازعات التجارية فمن الأهمية بمكان أيضاً الاشارة الى أنه لمن الضروري أيضاً بأن يصار الى التفريق بين التحكيم المحلي والتحكيم الدولي وخـصوصية كـل منهما لتؤخذ بالاعتبار من قبل المحكم (أو المحكمين) عند اصدار الحكم وصولاً الى حكم مؤسس بشكل جيد بعيداً عن أية ثغرات قد تؤخر تنفيذه.
وهنا تقتضي الاشارة أيضاً إلى الاتفاقية المعقودة بين دول مجلس التعاون الخليجـي بـشـأن تنفيذ الأحكام القضائية والأحكام التحكيمية ضمن بلدان مجلس التعاون الخليجـي الموقعـة فـي ديسمبر 1995، وكذلك الاشارة الى أن انضمام غالبية دول مجلس التعاون الخليجي الى اتفاقيـة نيويورك لعام 1958 (وعلى أمل إنضمام البقية) من شأنه أن يسهم الى درجة كبيرة في تحقيـق الكثير وفي تجاوز آية صعوبات قد تجابه طالبي تنفيذ أحكام التحكيم بما يحقق الغرض الأساسـي من اللجوء الى التحكيم في حل النزاعات التجارية، وهي أساساً ذات طبيعة خاصة يتطلب حسمها دون معوقات، وبالتالي لا بد من الركون الى وسيلة سريعة لحل المنازعات المترتبة علـى هـذا النوع من العلاقات، وما هو التحكيم، والتحكيم المؤسسي بشكل أخص، ومـا يتـصف بـه اختصار في الوقت، ما هو الا الطريق الامثل للحلول السريعة التي يوفرها للمتداعين الى جانــب العدالة، وذلك من خلال النظر في النزاع من قبل أشخاص فنيين وقانونيين متخصصين. هذا مع التأكيد، من ناحية أخرى، على جانب السرية التي تتميز بها اجراءات التحكـيم، والتـي تتعلـق بخصوصية الامور موضوع النزاع بين المتداعين والتي يهتم الاطراف بعدم تداولها أو إعلانها، فكل ذلك يؤكد مجدداً على الغرض الأساسي للتحكيم التجاري كطريق مهم وفعال وسريع في حل المنازعات التجارية.
- التحكيم والاستثمارات الغربية:
تأتي أهمية التحكيم بالتزامن مع تزايد الحاجة في كل من البلاد العربية والاوروبية وفي كل دول العالم للاستثمارات الاجنبية، فالاستثمارات الاوروبية فـي الـدول العربيـة بلغـت طبقـاً للإحصاءات المتاحة حوالي (3%) من اجمالي الاستثمارات الأوروبية في العالم، كما تتركز هذه الاستثمارات في شمال افريقيا والشرق الاوسط. ومع تنامي تلك الاستثمارات، فإنه من المنطقـي الاهتمام بتوفير وسائل فعالة لتسوية المنازعات الناشئة عنها.
ومن هنا تأتي أهمية التحكيم في عالمنا المعاصر، والذي أصبح الوسيلة الأهـم لـتـسـوية منازعات الاستثمار، والدليل على ذلك وجود اعداد متزايدة في قضايا الاستثمار المقامـة أمـام مراكز التحكيم الدولية، وبصفة خاصة الاكسيد بواشنطن ومعهـد سـتوكهولم ومركـز القـاهرة الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي وغيرها من مراكز التحكيم المنتشرة في أنحاء العالم.
وعلى الرغم من أن التحكيم قد تبوأ مقعد الصدارة في مجال تسوية منازعات الاستثمار، فإن هذا لا يعني أن الوساطة والوسائل الودية الأخرى لفض المنازعات ليس لها دور في هذا المجال، فالمتابع لأحدث الاتجاهات في اتفاقيات الاستثمار الدولية يمكنه ملاحظة الرغبة الاكيدة للأطراف في محاولة استنفاد كافة الوسائل الودية قبل احالة النزاع الى التحكيم، فهذه الرغبة يجب بطبيعـة الحال دعمها من خلال توفير آليات متطورة ومتنوعة لحسم منازعات الاستثمار.
ومن أهم العوامل التي يجب توفيرها للمستثمر هو آلية لضمان تنفيـذ قـرارات التحكـيم وادراكاً لذلك، وبالاضافة الى اتفاقية نيويورك لعام 1958 المعروفة، أبرمـت الـدول العربيـة اتفاقيات: منها اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي عام 1983 والتي تشمل أحكامـاً تتعلـق بتنفيذ قرارات التحكيم الصادرة في احدى الدول المتعاقدة لدى الدول الأخرى، وسبقتها اتفاقيـة تنفيذ الأحكام لسنة 1952 الخاصة بتنفيذ الأحكام الصادرة في دولة عربية لـدى دولة عربيـة أخرى.