الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25 / جزاء نقص التصريح بالقوادح

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    111

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

    بعد نحو عام على صدور قرار محكمة الاستئناف بتونس القاضي لأول مرة بأبطـال حـكـم تحكيم صادر في ظل غرفة التجارة الدولية في تونس، جاء قرار محكمة الاستئناف بباريس فـي قضية المحكم "هنري.أ." ليؤكد عزم القضاء على فرض الانضباط لدى المحكمين في ما يتعلـق بواجب التصريح، وذلك عبر تفادي التملص من هذا الواجب بتعلة أن المعلومـات التـي كـان يفترض التصريح بها معلومة من الجميع، لأنها منشورة على صفحات الانترنت.

    ففيما كان العالم يحتفل بذكرى صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان (10 ديسمبر 1948) صدر القرار الاستئنافي المدني عدد 40438، والذي أبطل حكماً تحكيمياً صادراً في ظل غرفة التجارة الدولية، لأول مرة في تاريخ البلاد التونسية. وصادف أن هذا القرار طرح العديد مـن أمهات المسائل المرتبطة بأحد حقوق الانسان الأساسية، وهو الحـق فـي المحاكمـة العادلـة. وبالرجوع الى مجمل ما أتت به الاتفاقيات والمواثيق الدولية، الكونيـة والاقليميـة، والدسـاتير والقوانين الوطنية، فإن المحاكمة العادلة هي تلك التي تتم بواسطة قاض أو قضاة محايدين غير متحيزين يتم تعيينهم وفق اجراءات شفافة وتجرى بشكل يسمح لكل طرف بـأن يـنــاقش جميـع المسائل المطروحة من قبل خصمه في ظروف معقوبة وأجال مناسبة وبتكلفة معقولة.

    والى جانب عدالة المحاكمة، ينبغي أيضاً أن تكون ثمرة المحاكمة، وهـي الحكـم، محتر لمبادىء كونية متفق على أنها القاسم المشترك الأدنى بين كافة الأمم، وهي مبادىء النظـام العـام الدولي القائمة على نبذ عدد من الأفعال المشيئة كالرشوة والفساد والاتجار بالمخدرات، ونحو ذلك.

    وقد طرحت كافة هذه المسائل في قضية المجموعة التونسية الكويتية للتنمية ضـد تونيسيا هوتالس أند ريزورتس CTKD c. Tunisia Hotels & Resorts التي صدر في شأنها القرار موضوع هذا التعليق. وبعد أن تطرقت المحكمة الى مجمل المطاعن المثارة ضد الحكم التحكيمي، انتهت الى انتفاء مسألتين اقتنع وجدانها بوجود خلل في حكم التحكيم بشأنهما، فيما طرحت بـاقي النقاط جانباً.

ووردت في هذا القرار، خصوصاً، الحيثيات الرئيسية التالية:

- "ان شرط الحياد في من يعهد له بفصل النزاعات يعتبر من مقومات القضاء، عدليا كـان أو تحكيماً خاصاً، وله جانب إجرائي (فني) وآخر أخلاقي. وقد درج فقـه قـضـاء هـذه المحكمة على اعتبار أن الحياد المقصود بمجلة التحكيم هو الحياد بمعنـاه الأخلاقـي، إذ أورده المشرع كدعم لعنصر الاستقلالية ولارساء الثقة في العدالة عامة باعتبار التحكـيم يستمد قوته من القانون، ومعناه التجرد وعدم الانحياز لأي طرف فـي النـزاع، فقـوام التحكيم هو الثقة الممنوحة من الأطراف للمحكم لفصل النـزاع، وأن شـرطـي الحيـاد والاستقلالية ليسا مترادفين.

- يترتب على غياب الاستقلالية والحياد لدى المحكم جواز طلب التجريح فيه. لكـن هـذا الاجراء يتعذر القيام به اذا تم اخفاء الظروف المريبة واكتشافها بعد ختم المرافعة أو حتى بعد صدور القرار التحكيمي، وهو ما جعل فقه القضاء التونسي على غرار فقه القـضاء الدولي المقارن يقر بجواز طلب أبطال القرار التحكيمي في هذه الصورة استنادا الـ المساس بحق الدفاع وبمبدأ المواجهة باعتبارهما من القواعد الأساسـيـة التـي لا يمكـن تجاوزها والاخلال بها لحرمان الطرف المعني من ممارسة حقه في التجريح. - وضع النظام الداخلي لغرفة التجارة الدولية معايير عالية الشفافية من شأنها مجرد الايحاء بالشك في استقلاليته بنظر الأطراف. ويكون المحكم مخالفاً لذلك النظام اذا غفـل عـن التصريح بكل الأسباب التي من شأنها النيل من استقلاليته وحياده دون حاجة للتأكد مـن قيام ما يبررها من عدمه.

- تبين من مؤيدات الطعن أن الأكاديمية الدولية للتحكيم الدولي (التي من بين مؤسسيها أحد المحكمين بمعية محامي الطرف الذي عينه) تأسست في فيفري 2011، في حين أن جلسة المرافعة الثانية حددت في شهر مارس 2011، مما يعني أن تلك الأكاديمية مـا زالـت حديثة العهد ولم يعرف وجودها للجميع حتى بالنسبة للمهتمين بميدان التحكـيم الـدولي، خلافاً لغيرها المؤسس منذ سنوات، ولم يثبت أن الطاعنة كانت على بينة من العلاقـات الرابطة بين الأطراف المذكورين ولا يمكن تحميلها واجب البحث المتواصل في الانترنت وغيره من وسائل الاعلام طيلة مدة التحكيم.

-  المحامي بصفة عامة، كما في النزاع التحكيمي هو وكيل لحريفه الذي عينه ليسهر علـى مصالحه، ولا يمكن من هذه الناحية، ودائما في نظر أطراف النزاع لا في نظر رجـال القانون والممارسين للمهنة، الفصل بين المحامي ووكيله في خصومة محددة والى حـين الفصل فيها.

- مجرد ارتباط محامي أحد الأطراف بعلاقات خاصة مهنية أو غيرها مع أعضاء الهيئـة التحكيمية من شأنه الايحاء بالشك في استقلالية تلك الهيئة بنظر الطرف الآخر بـصرف النظر عن مدى تأثير تلك العلاقة على استقلالية المحكم وحياده في الواقع.

- الفصل بين المحامي والمكتب الذي ينتمي اليه أمر عسير. ومن هذا المنطلق يكون ارتباط ذلك المكتب بالهيئة التحكيمية أمراً من شأنه أن يثير شكوكاً حول استقلالية المحكمـين وحيادهم."

     وهكذا فان المطعنين الوحيدين اللذين أقنعا وجدان المحكمة هما المتعلقان بـاخلال المحكـم بواجب التصريح بكل القوادح الممكنة، وبأحترام حق الدفاع عبر تمكين كل واحد من الخصوم في آجال كافية ومعقولة لتقديم وجهة نظره، في حين تم استبعاد كافـة المطـاعن المتعلقـة عمومـاً باستقلالية الخبير واحترام آجال التحكيم وقانون الصرف الوطني وتعليل حكم التحكـيم وواجـب الرد على دفوعات الخصوم.

    وسنقتصر في هذه الورقة على مسألة استقلالية المحكم أنها استحوذت على الجانب الأوفـر من تحاليل المحكمة ومن تعليقات النقاد، وخصوصاً في فرنسا وغيرها من البلدان المعنية بـشأن التحكيم، إلى حد أن بعض الفقهاء تحدث عن فكرة مقاطعة تونس كمكان للتحكيم أو الفرار منهـا.

 ولئن كان هذا الكلام قائماً على مغالاة بما أن مقر التحكيم تحدده ارادة الأطراف في عديد الأحيان ولا يمكن للمحكمين تغييره حتى وإن ارتأوا اجراء الجلسات في مكان آخر، فأنه لا يمكن انكـار تأثير مثل هذه الآراء الناقدة على سمعة تونس في الساحة التحكيمية الدولية، خاصة بعد أن عرفت بمرونة فقه القضاء وتسامحه مع التحكيم حتى عدت من البلدان "الصديقة للتحكيم friendly“. ويمكن أن يؤدي ذلك بالمستشارين والمحامين الى نصح حرفائهم بتجنـب اختيـار تونس مكاناً للتحكيم وذلك منذ مرحلة ابرام العقد، فتفقد هذه الربوع ثمرة عمل دؤوب أنجزه أناس . arbitration كثيرون على مدى عشرين سنة تقريبا للتعريف بهذه الربوع كمكان ملائم لاجراء التحكيم.

    غير أن تحليلنا لهذه المسألة لم ينطلق من هذه النظرة "التجارية" أو "التسويقية"، بل ســينبني على اعتبارات قانونية فحسب، وسيتبين من خلال هـذه الدراسـة أن المسألة تتقاسـمها الآراء المتضادة، بين قائل بالشفافية المطلقة وقائل بالشفافية المعقلنة، مع ما وراء كل خيار من آثار قـد ترقى الى درجة الخطورة، ومع ما يستتبع تبني هذا الرأي أو ذلك من نتائج على مستوى التقيـــيم القانوني للحكم الصادر في 10 ديسمبر 2013. ويمر التحليل عبر التركيز على أن المحكم عليـه واجب الحياد (القسم الأول) وواجب الشفافية (القسم الثاني). وقيامه بأحد الواجبين لا يعفيـه مـن الثاني .

القسم الأول: تشدد محكمة الاستئناف بتونس في مسألة الحياد الأخلاقي للمحكم:

    إن واجب عدم التحيز واجب بديهي محمول على المحكم بالنظر الى الطبيعـة القـضائية لمهمته. وهو واجب يكتسي صبغة أخلاقية. غير أن الاتفاق على صبغة هـذا الالتـزام كـالتزام قانوني ومهني وأخلاقي لا يحول دون وجود غموض يحيط بمدلولـه ومغـزاه، ومـا إن كـان المقصود به الحياد الأخلاقي impartialité أم الحياد الفني neutralité وفق ما كرسه الفـصل 12 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية.

الفقرة الأولى: الحياد الأخلاقي، واجب مهني وأخلاقي محمول على المحكم:

    الحياد من المقومات البديهية لمفهوم القضاء. ومن تعاريف القاضي أن يكون غيرا حائدا يلجأ اليه لوضع حد لخصومة تعذر على أطرافها التوصل الى حلها بأنفسهم. وعليه فإن الحياد مكـون مركزي في المفهوم قبل أن يكون صفة يتصف بها المحكم. والمقصود بالحياد الأدبي أو الأخلاقي أن لا يكون المحكم منحازاً لأحد الخصوم أو ضد أحد الخصوم. وهو يتمثل في الاستعداد الذهني والنفسي والعاطفي لبت النزاع بعيداً عن الأهواء والميولات الذاتية، بحيث لا تقود المحكم سـوى تحاليله الموضوعية للوقائع وللقواعد القانونية بما يجعل حكمه أقرب ما يكون الى حقيقة الوقـائع المطروحة عليه ومطابقاً الى أبعد الحدود لمضمون القواعد القانونية ذات الانطباق والى روحها.

    وبالنظر إلى أن الأمر يتعلق بحالة نفسية وعاطفية وذهنية يكون عليها المحكم، فإنه لا يمكن قياسها أو البحث عن أثر لها الا من خلال أمرين: فاذا وضعنا أنفسنا قبل الحكم فأن هذه الأمـور تقاس من خلال بعض المؤشرات الموضوعية التي يمكن أن يستنتج منها، إما وجود هذه الحالـة الذهنية والنفسية المتوازنة المتزنة، وإما غيابها، وإن وضعنا أنفسنا بعد الحكم فان غالب النـاس يستنتجون الحالة النفسية والذهنية للقاضي أو المحكم من خلال الحكم نفسه ومضمونه ومـا بنـ عليه من الاعتبارات والحجج القانونية والمنطقية والواقعية، غير أن الموضوعية تقتضي أن لا يقع البحث في هذه المسألة بعد صدور الحكم، لأن خطر التحيز وغياب الموضوعية أكبر باعتبار أن هذه الأحكام أو التقييمات تصدر في الأغلب عن الأطراف أو عن مستشاريهم، فتكون بطبعها أحكاماً ذاتية غير موضوعية تنبني على التخمين وعلى مجرد الاستنتاج الـذي لا يقنـع سوى صاحبه. ولذلك قال عمر بن الخطاب "نصف الناس أعداء القاضي إن عدل. وهذه "العداوة" لا تظهر قبل الحكم، إذ أن أغلب الناس لا يكون لهم رأي سلبي في المحكم قبل أن ينطق بحكمه، وإنما تنشأ هذه المشاعر السلبية بصفة غريزية لدى من يصدر ضده الحكم، فيبحث دون وعي منه عن مؤشرات قد تكون واهية تتعلق بسلوك المحكم قبل الحكم أو أثناء الاجراءات أو حتـى فـي نص القرار وصياغته ليبني عليها قناعته بتحيز المحكم الى خصمه، ولهذه الأسباب فـان كافـة القوانين المعاصرة تمنع على الأطراف التجريح في المحكم بعد صدور الحكم. وفي المقابل، تعتبر مختلف القوانين أنه يحق للطرف الذي يتفطن بعد ختم المرافعات أو بعد صدور حكم التحكيم الى وجود معطيات تسمح بالجزم بأن المحكم كان متحيزاً أن يطلب إبطال حكم التحكيم مثل ما ســتم يصبح بيانه لاحقا.

الفقرة الثانية: مفهوم الحياد: الحياد الفني أم الحيـاد الأخلاقـي (الأدبـي Neutralité ou Impartialité؟

    القاعدة المرجعية في مجال التحكيم بوجه عام هي ما عبرت عنه محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 21 فيفري 2000 من أن "الثقة في حسن تقدير المحكم وفي حسن عدالته الأصل مبعث الاتفاق على التحكيم، اذ أن المحكم هو شخص يتمتع بثقة الخصوم واتجهت ارادتهم الى منحه سلطة الفصل في ما شجر بينهم من خلاف بحكم. وهذا ما عبرت عنه المقولة الرائجة: "يساوي التحكيم ما يساويه المحكم" Tant vaut l'arbitre, tant vaut l'arbitrage.

     وقد حرض المشرع التونسي على ضمان تمتع المحكم بالخصال الشخصية والعلمية والمهنية والأخلاقية اللازمة لمباشرة مهمة التحكيم بأعلى درجات الحرفية والنزاهة، فنصت الفقرة الأولى من الفصل 10 من مجلة التحكيم على أنه "يجب أن يكون المحكم شخصاً طبيعيـا رشـيداً كفـؤاً ومتمتعاً بكامل حقوقه المدنية وبالاستقلالية والحياد إزاء الأطراف". ويستنتج من هذا النص أن مفهوم الحياد المقصود هو الحياد الأخلاقي لا الحياد الفني، وأن جزاءه يمكن أن يصل الى حـد إبطال حكم التحكيم على أساس خرق إحدى قواعد الاجراءات الأساسية.

    لا شك في أن كل من يتطرق الى مسألة المبادىء الاجرائية الأساسية يستعيد في ذهنه ذلـك النقاش التقليدي حول دور القاضي في الخصومة المدنية، وما إذا كان مطالباً بأن يلتـزم الحيـاد المطلق في معركة الاثبات، فيصبح بمثابة الآلة التي تحركها أيادي الخصوم، ويلزم الصمت كأبي الهول حتى يستنفد الأطراف ما لديهم من حجج ومؤيدات ومقال، فيختلي بنفسه أو بزملائه للنظر في الدعوى والتصريح بحكم قد ينزل نزول الصاعقة، لأن أحداً منهم ما كان بأمكانه أن يتنبأ به. وقد انتهت أغلبية القوانين الى تكريس نظام من الحياد المرن أو الاختياري ( neutralité souple ou facultative)، بحيث يبقى المبدأ هو أن لا يتدخل المحكم لمساعدة أي طرف أو ارشاده في معركة الاثبات، وأن يقتصر دوره خلال سير النزال التحكيمي على تلقي ما يقدمه الخصوم، دون أن يمنعه ذلك من التدخل كلما رأى وجهاً لذلك، خدمة لحسن سير العدالة، وهو النظام الذي كرسه القانون التونسي في تعديل مجلة المرافعات المدنية والتجارية في غرة سبتمبر 1986، عنـدما صيغ الفصل 12 بحيث لا يكون القاضي ملزماً باحضار حجج الخصوم أو تكوينها أو اتمامها.

     لكن التوصل الى هذه النتيجة قد يجعل البعض ينسى أن تكريس الحياد بالمعنى الفني المشار اليه neutralité إنما كان الهدف منه هو ضمان الحياد بالمعنى الأخلاقي impartialité.  فتدخل المحكم لارشاد أحد الخصوم لتقديم وثيقة أو حجة أو طلب أو دفع أو اعتراض ... من شـأنه أن يعطي الطرف الآخر إحساساً بالضيم وبعدم الارتياح لأنه سيرتاب آلياً في وجـود تواطـؤ بـين المحكم والخصم. واذا انعكس هذا الاحساس على سلوك الخصم المذكور، فإنـه يـصبح مدخلاً للمشاكسات والاستفزازات والازعاج الذي قد يدفع المحكم من حيث لا يدري الى التحامل علـى ذلك الخصم، خاصة أن تكون لديه – عن وعي أو دون وعي – احساس بأن ذلك الطرف يفـرط في استعمال براعته أو دهائه أو نفوذه أو قوته في تسيير الاجراءات أو توجيهها، فينقلـب الـى خصم له، ويفتقد الحياد الأخلاقي، بعد أن كان في ظنه أنه إنما يتدخل لتحقيق العدل ومنع الحيف.

    ولقد عرض القضاء التونسي لمسألة حياد المحكم، فاعتبر عامة أن المحكم مطالـب عمـلاً بالفصول 10 و 13 و 63 من مجلة التحكيم بأن يلتزم الحياد الأخلاقي (الأدبي)، أي عدم التحيز لأحد الخصوم أو التحامل على الآخر، أما عن تحديد دور المحكم في النزاع التحكيمي، فاعتبر أن و و الحياد الفني اختياري.

   ففي قضية "محمد ضد الشركة الصناعية للبلاستيك"، أصدرت محكمة الاستئناف بمـدنين قراراً أول تحت عدد 5468 بتاريخ 5 جويلية 2000، مالت المحكمة فيه الى نظريـة الحيـاد الفني، اعتبرت أنه، "في خصوص قيام هيئة التحكيم عند تقديرها للأضرار المتمثلة في ما فـات القائمة في الأصل من ربح نتيجة عدم تنفيذ بقية الأشغال، فقد قدرتها الهيئة وباجتهادها المحـض بنسبة 30 بالمائة من قيمة باقي الأشغال، غير أنها لم تبين السند الفني لتقدير ذلك، كاجراء اختبار أو اعتماد (رأي) أهل الخبرة، وبذلك فهو خرق لمبدأ الحياد وخرق لأحكام الفصول 10 من مجلة التحكيم و 28 و101 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية". وكان بامكان المحكمة أن تستند الى خرق مبدأ احترام حقوق الدفاع، لأن المحكم قدر النسبة التي اعتمدها في الحكم بطريقة تحكيميـة arbitraire ودون عرضها على الأطراف لمناقشتها. أما في القرار الثاني وهو القرار الصادر تحت العدد 7745 بتاريخ 18 جوان 2003، بناء على إحالة من محكمة التعقيب في قرارها عدد 11947، فقد اعتبرت محكمة الاستئناف بمدنين نفسها بوصفها محكمة إحالة أنه لئن تمسك طالبا الابطال بأن هيئة التحكيم قد عمدت الى تقدير نسبة الربح الفائت بثلاثين بالمائة من قيمة الأشغال دون اعتماد أي قرينة ودون تعليل، بما تكون معه قد تجاوزت سلطتها وخرقت مبدأ الحياد، فـإن "مسألة تقدير قيمة نسبة الربح الفائت ليس لها ارتباط بمبدأ الحياد، وانما تتصل بمـسألة الـسلطة التقديرية المخولة لهيئة التحكيم للوصول إلى نتيجة معينة، وذلك بممارسة ما لهـا مـن سـلطة تقديرية، ويكون ذلك بشرط التعليل. وقد خول الفصل 278 مـن مجلـة الالتزامـات والعقـود المحكمة، وباعتبار الأحوال الخاصة بكل نازلة، أن تقدر الخسارة اعتماداً على عدة قرائن. وقـد قامت هيئة التحكيم بتحديد نسبة ما فات من الربح بثلاثين بالمائة من قيمة الأشغال، واجتهدت في ذلك وعللت قضاءها تعليلاً قانونياً سليماً اعتماداً على ما توفر لديها من قـرائن وأصـابت فـي اجتهادها، وكان التمشي الذي اعتمدته للوصول الى تلك النتيجة منطقياً وقانونياً".

   وبذلك تبنى القراران الصادران عن محكمة الاستئناف بمدنين موقفين متضادين ومتعارضين تمام التعارض. فالقرار الأول يعتبر أن الحياد المفروض على المحكم هو الحياد الفني المكـرس بالفصل 12 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية، والذي يقتضي أن لا يتـدخل المحكـم أو القاضي في معركة الاثبات ليقوم بدور الأطراف أو ليساعدهم على اثبات حقـوقهم وادعـاءاتهم، بينما يعتبر القرار الثاني أن المقصود ليس هو ذلك الحياد، وأن القاضي ليس له أن يراجع كيفيـة توصل المحكم الى قناعاته، وخصوصاً في ترجيح حجة على أخرى أو حتى في التوصـل الـى استنتاجات من خلال معطيات الملف، حتى ولو كانت مجرد قرائن، وهو ما يعنـي أن المحكمـة تكرس المفهوم الأخلاقي للحياد، والذي يقتضي منع التحيز الى أحد الخصوم على حساب البقيـة، وهو ما تؤكده الصيغة الفرنسية للفصل 10 من مجلة التحكيم التي تتحدث عن Impartialité.

    أما في القرار عدد 42 الذي أصدرته محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 6 جويليه 1999، فقد أكدت المحكمة بوضوح أن "الحياد المقصود بالفصل العاشر من مجلة التحكـيـم هـو الحـيـاد بمعناه الأخلاقي، إذ أورده المشرع كدعم لعنصر الاستقلالية الذي يجب أن يتوافر فـي المحكـم علماً أن الشرطين (الحياد والاستقلالية) ليسا مترادفين، إذ أنه من الممكن أن يكون المحكم منحازاً لأحد الأطراف رغم أنه مستقل بالنسبة له، أي أنه لا تربطه به رابطـة خاصـة كالمديونيـة أو القرابة أو المصالح المادية أو غيرها. (و) ان السعي الى ايقاع الصلح بين الطرفين ولـو أن فيه خرقاً لمبدأ الحياد بالمعنى الفني، فإنه لا يشكل خرقاً لمبدأ الحياد بمدلوله الأخلاقي، وعليه فلا يترتب عليه البطلان".

    فخرق الحياد بمعناه الفني neutralité بمساعدة أحد الخصوم على الإثبات أو بالتوصل الى استنتاج ما، بطريقة تقنع المحكمة، لا يترتب عليه أي جزاء طالما احترم المحكم حقـوق الـدفاع ومبدأ وجوب تعليل قراراته. ذلك أنه يمكن للمحكم تحقيق العدالة رغم الخروج عن الحياد الفني، إن كان هذا التدخل هادفاً إلى إعادة التوازن الى الاجراءات التحكيمية مع احترام مبدأي المواجهة والنزاهة، ما يقتضيه من صراحة وشفافية. ويستخلص من ذلك أن الحياد بمعناه الفني لـيس و مبدأ من المبادىء الأساسية للاجراءات المدنية والتجارية على معنى الفصول 13 و (وضمنياً 78 و 81) من مجلة التحكيم، لأنه لا يستجيب للمعيار الـذي وضـعه فقـه القـضاء التونسي: عدم إمكان العدالة عند خرقه.

    أما خرق الحياد بمعناه الأخلاقي Impartialité فهو أخطر ما يمكن أن يطرأ على التحكيم، لأنه ينزع عن بقية المبادىء والضمانات كل قيمة. فالمحكم المتحيز، سواء كان تحيزه قائماً على اعتبارات مصلحية (كوجود علاقة تبعية أو دائنية أو مديونية أو شراكة مع أحـد المحتكمـين أو حتى عن الإرتشاء) أو على اعتبارات غير مصلحية (كالقرابة والمصاهرة والعداوة وحتى الميـل العاطفي الى أحد المتحاكمين) لا يقنعه شيء ولا تزحزحه حجة أو برهان، لأن الميل إلى النفور لا تحركه الحجج المنطقية أو القانونية، ولا تصرعه قوة الحجة والبرهنة العقلية أو القانونية. فأن كان المحكم منحازاً الى أحد الخصوم، أصبحت المبادىء الأخرى (المواجهة واحترام حق الدفاع والمساواة) دون قيمة أو فائدة، بل إن مبدأ النزاهة نفسه لا تصبح له قيمة حقيقية، لأنه حتـى إن كان المحكم نزيهاً فإنه لا يضمن التغلب على أهوائه. وربما جاز القول أن مبدأ الحياد الأخلاقـي يقترن هنا بمبدأ النزاهة، فيفترض أن يؤدي بالمحكم الى رفض المهمة أو التخلي عنها إن طـراً الداعي لاحقاً. فالمحكم يمكنه أن يكون غير متحيز في البداية، لكنه يقع في هوى أحد المتحاكمين أو تحصل واقعة أو صدفة تجعله ينفر من أحد الخصوم أو يكرهه، ولذلك يجب عليـه أن يعلـم الأطراف بظهور هذا المعطى الجديد ليقرروا ما يرونه، أي أن يقوموا بالتجريح فيه أو أن يرفعوا عنه الحرج بتأكيد ثقتهم فيه رغم القادح. أما المحكم النزيه، فأنه لا ينتظر الأطراف حتى يقرروا الابقاء عليه أو يطلبوا تنحيته، بل يبادر فوراً باعلان تخليه عن المهمة مـع مكاشـفة الأطـراف والتصريح لهم بالسبب الذي دعاه الى ذلك (حتى لا يقدم عليه أحدهم دعوى المسؤولية من أجـل التخلي التعسفي عن المهمة).

القسم الثاني: واجب التصريح بالقوادح أو بالاستقلالية:

   لم تكن مسألة القوادح مطروحة بكثير من الوضوح في العصور البعيدة. ففي تحكيم عمـرو بن هند في نزاع بكر وتغلب، لم تظهر هذه المسألة الا بعد صدور الحكم، حيث اعترضت قبيلـة تغلب على الحكم بدعوى تحيز المحكم، وانبرى شاعرها عمرو بن كلثوم يباهي بقبيلتـه ويـتهم المحكم بالإنحياز قائلا:

           ألا لا يجهلن أحد علينا             فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    وفي نزاع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في معركة صفين ومـا أحـاط بـهـا كان كل واحد من الخصمين يعلم بأن الآخر عين رجلا من خاصته، بل ممن كانوا يحاربون فـي صفوفه. ولم يكن علي يجهل أن عمرو بن العاص هو صاحب معاوية ومستشاره، ومـع ذلـك فالأرجح أنه عول على القيم الأخلاقية التي يفترض أن يتحلى بها كل مـسلم، وعلـى أن الحـق كان واضحاً ساطعاً. ولذلك ورد في صحيفة التحكيم: "وعلى عبد الله بن قيس وعمـرو بـن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة، ولا يرداها في حرب ولا فرقة حتـى يعـصيا الله". فالحكم بغير الحق إعلان كفر يتحمل فاعله مسؤوليته في الدنيا، وخصوصاً في الآخرة. أما في القوانين الحديثة فكل الجزاءات أرضية، يوقعها قاضي الدولة، سـواء تمثلـت فـي إزاحـة المحكم بموجب التجريح فيه أو إبطال حكم التحكيم ان تم التفطن الى القوادح بعد صـور حـكـم التحكيم. لكن قبل ذلك ينبغي تحديد نطاق واجب التصريح من حيـث الموضـوع ومـن حيـث الأشخاص.

الفقرة الأولى: إشكاليات واجب التصريح بالقوادح:

    لتفادي العواقب الخطيرة التي يمكن أن تنجز عن تباين التقديرات لمدى القـوادح، أوجـب الفصل 57 من مجلة التحكيم على المحكم أن يبادر باعلام الأطراف بكل سبب من شأنه أن يثيـر شكوكاً لها ما يبررها حول حياده واستقلاليته، ويكون التصريح بالقوادح، إما عند التعيين مباشرة أو عند ظهور السبب المبرر للشكوك.

    غير أن نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية يضيف الى مقتضيات مجلة التحكيم أمرين، وهما وجوب التصريح بالاستقلالية، من جهة أولى، ووجوب التصريح بكل الأسباب التي مـن شـأنها إثارة الشكوك في استقلاليته.

    فالفرق الأول يتمثل في أنه في ظل مجلة التحكيم لا يكون المحكم ملزمـاً بـأي تـصريح إذا اعتبر أنه لا يوجد ما من شأنه أن يثير شكوكاً معقولة حول حياده واستقلاليته، فهو لا يـصرح إلا في وجود القوادح. أما في ظل نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية فيجـب علـى المحكـم أن يقـدم تصريحاً في الحالتين، فهو إما أن يصرح بغياب القوادح، وبالتالي بتوافر الظـروف الموضـوعية النافية لأسباب الشك في حياده واستقلاليته، وإما أن يصرح بوجود سبب للتجريح. وفـي الـصورة الأخيرة، لا يوجد ما يمنع المحكم من قبول مهمة التحكيم، لأن وجود القـادح لـيـس مـن مـوانـع التعيين، بل تبقى الكلمة الفصل للأطراف، وخصوصاً للطرف الذي لم يعين المحكم ولم يشارك في تعيينه. فالفكرة الأساسية هي أن العبرة في التحكيم بضمير المحكم، وهذا الضمير هو أمـر ذاتـي متغير من شخص إلى آخر، وهو غير مرتبط بوجود رابطة موضوعية بين المحكـم والخـصوم. ولذلك تميز محكمة الاستئناف بتونس بين الاستقلالية والحياد. فالاستقلالية هـي أمـر مـوضـوعي يمكن تقييمه بالرجوع الى مؤشرات خارجية أو موضوعية، وهي تتمثل في غياب أي رابطة تجعل للمحكم صلة خاصة بأحد الخصوم يرجح معها أن لا يكون قادراً على الحكم في النزاع بكل تجرد.

أ. منهج مراقبة حياد المحكم واستقلاليته:

    من المتفق عليه أن الأسباب الموجبة للقول بانتفاء الاستقلالية هي بالأساس: القرابة الدموية والمصاهرة والمديونية والرابطة الشغلية والعداوة الواضحة وتحديداً وجود خصومات سابقة بـين المحكم والطرف المعني. فإن ثبت وجود أحد هذه المعطيات، فإن الغالب هو أن لا يطمئن كـل شخص ينظر الى الأمور بموضوعية إلى قدرة المحكم على أن يتجـرد مـن نوازعـه النفـسية الخاصة من ميل الى بعض الأشخاص المقربين منه موضوعياً (الأصول – الفروع – الزوجة - الأصهار) أو الذين تجمعه بهم علاقات اقتصادية تجعله يخشى على مصير علاقته بهـم بـسبب الحكم (الدائنون - المدينون – المؤجر – الأجراء)، وكذلك كل شخص يخشى أن تكون للمحك رغبة في الحكم عليه كأن يكون خاصمه في نزاع سابق الوجود.

   أما الحياد فهو مسألة نفسية، مرتبطة بمدى قدرة الشخص على التجرد من نوازعه الطبيعية (أو بالأحرى "الغريزية"). فالشخص الفاقد للاستقلالية بصفة موضوعية يمكنه أن يكون على قدر من الاستقامة الأخلاقية والقدرة على مغالبة النفس بما يسمح له بأن يقضي بكامل التجرد في نزاع أحد أقرب أقربائه، كما يمكن للشخص الذي لا تربطه رابطـة موضـوعية بأحـد أطـراف الخصومة أن يتحيز لفائدة أحد الخصوم لأسباب أخـرى كـالجنس والعـرق والانتمـاء القبلـى والجهودي أو الحزبي أو حتى الاشتراك في تشجيع ناد رياضي أو لمسائل ذوقية أو حتى لـهـوى يقع في النفس لشخص، كأن يقع المحكم تحت تأثير جمال إحدى أطراف الخصوم أو محاميته أو كأن يخشى المحكم التعرض لنقد وسائل إعلام يعلم أنها موالية لأحد الخصوم، أو غير ذلك من الأمور. ففي جميع هذه الصور، يكون الشخص في وضع موضوعي يـوحي الاطمئنـان الـى حياديته، لكنه يخرج عن واجب التجرد ويميل إلى أحد الخصوم فيقضي له دون حق.

    وقد اعتبرت محكمة الاستئناف بتونس أن الاستقلالية (غياب الرابط الموضوعي) تقوم قرينة على الحياد، لكنها مجرد قرينة بسيطة قابلة للدحض. غير أن دحضها صعب ويقع فـي مطلـق الأحوال على عاتق المتمسك بالقدح. ومتى صدر حكم التحكيم، فإن إثبات العكس يصبح أمـراً مستحيلاً، ولا مجال للخوض فيه. ومن ثمة لا يمكن للمحكم أو للمحكوم ضده أن يزعم في تلـك المرحلة أن المحكم كان محايداً عند أدائه مهمته رغم وجود رابطة موضوعية تمس باستقلاليته. ذلك أن القاضي لن يتمكن في هذه المرحلة من النبش في حقيقة ضمير المحكم ونفسيته في تاريخ النظر في القضية، والتحقق مما اذا كان قد أصدر حكمه لصالح طرف معين تحت تأثير ما له من علاقات خاصة به أو بخصمه، سواء كانت علاقات ايجابية أم سلبية، الا إذا لجأ القاضـي الـى "تشريح" حكم التحكيم والقيام بتحليل "تنبـؤي" interpretation divinatoire قد يستند فيها الى مضمون حكم التحكيم". وفي هذه الحالة فان القاضي سيجري على حكم التحكيم رقابة تتجـاوز بكثير رقابة قاضي الاستئناف (قاضي الدرجة الثانية) مع أن رقابته لا تتجاوز الجوانب الـشكلية عملاً بأحكام الفصلين 42 و 78 من مجلة التحكيم، حيث يستنتج غياب الحياد من تحليـل حكـ التحكيم وما قد يكون به من أخطاء في تطبيق القانون، وما استند اليه المحكم من وقائع وحجـج ومثبتات ... وفي هذا قد يكون اجتهاد القاضي نفسه غير سليم، وقد يحل نفسه محـل المحكـم فيعتقد أن الحكم في أصل النزاع على غير الوجه الذي كان ذلك القاضي سيقضي به لو كان هو نفسه محكماً، دليل قاطع على انحياز المحكم وغياب النزاهة لديه. ولا شك في أن تقـديـر مــدى استقلالية المحكم في زمن ماض بناء على مثل هذا المنهج أمر بالغ الخطـورة، يحـرف مهمـة قاضي الرقابة بشكل كلي ويمضي بها الى غياب لا يتوقعها أحد ولا يرضاها المشرع الذي بنـى المنظومة بكاملها على تجنب دخول القاضي في تقييم مدى سلامة الحل الذي توصل اليه المحكـم ومدى صحة تحليله للوقائع أو انزال القاعدة القانونية على الوقائع الثابتة.

    وبالنظر إلى أن أغلب هذه المسائل يقع في منطقة ضبابية تتألف فيها المعطيات الموضوعية مع أمور نفسية باطنية لا يمكن استكناهها، فقد جعل القانون المعاصر من تقييم أطـراف النـزاع للمحكم أمراً جوهرياً. فللمحكم باطنية لا يمكن استكناهها، فقد جعل القانون المعاصر مـن تقيـيم أطراف النزاع للمحكم أمراً جوهرياً. فالمحكم الفاقد للاستقلالية يمكـن تثبيتـه كمحك confirmation إذا اعتبر الخصم الذي لم يعينه أنه يتمتع بدرجة عالية من التجـرد والنزاهـة. وفي هذه الصورة لا يتدخل القاضي مطلقا، وليس من شأنه أن يرشد ذلك الطرف الـى احتمـال تحيز المحكم، ولا أن يحل محله. ولذلك اعتبر الفقه المالكي منذ القديم أنه يجوز تحكيم الخـصم نفسه اذا رضي الخصم بذلك. كما اعتبرت محكمة الاستئناف بتونس أنه يجوز تحكـيم الممثـل القانوني للشخص المعنوي الذي له صفة الطرف في التحكيم، إذا كان الخصم عالماً بـذلك، ولـم يعارض في تعيين ذلك الشخص محكماً، ولا يجوز التمسك بعد صدور الحكم بأن ذلك الشخص لم يكن محايداً19. ويتأتى هذا الحل من مبدأ عدم جواز التناقض للايقاع بالخصم.

   والفرق الثاني بين مجلة التحكيم التونسية (قانون مقر التحكيم lex loci arbitri في قضية الحال) ونظام تحكيم غرفة التجارة الدولية يكمن في أن عبارات نظام التحكيم أكثر تركيزاً علـى وجوب التصريح بكل القوادح، وهو ما سمح لمحكمة الاستئناف بتونس أن تعتبر أن هذا النظـام يشترط في المحكم أعلى درجات الشفافية. ولذلك تعتبر محكمة الاستئناف بتونس أن نظام تحكـيم غرفة التجارة الدولية يكرس النظرية القائلة بوجوب التصريح بكل شيء مع ترك حرية التقـدير للأطراف ولسلطة الرقابة (محكم التحكيم ثم قاضي الابطال وقاضي التنفيذ).

    وينبغي أن نشير إلى أن قراءة محكمة الاستئناف بتونس لنظام التحكيم المعتمد فــي قضية المجموعة التونسية الكويتية للتنمية ضد شركة تونزيا هوتالس أند ريزورتس CTKD vs THR لا يبعد عن حقيقة الأمر، إذ أن أحد أهم مبررات التعديل الأخير لنظام تحكـيم غرفـة التجـارة الدولية يتمثل في تدعيم واجب الشفافية والالتزام بالتصريح المحمول على المحكمين. وقد جاء هذا التعديل في سياق دولي عام يتمثل في التركيز على الشفافية والافصاح transparency and disclosure، بما تجلى من خلال قواعد "الجمعية الدولية للمحامين" IBA وتعديل نظام تحكـيم اليونسترال واجتهادات فقه القضاء المقارن.

    كما لا يشكل هذا القرار استثناء أو تحولاً بالنظر الى مجرى فقه القضاء التونسي فـي مـا مضى. فنذكر، على سبيل المثال، قضية جديدة طرحت على القضاء التونسي منذ بضعة أعـوام، وهي قضية سانسيلا التي بتت فيها محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 8 مارس 2011. وتكمـن أهمية هذا القرار في أنه الأول من نوعه الذي يجيب عن جل الاشكاليات المتعلقة بـالتحكيم نزاعات تهم تجمع الشركات. وقد انطلق هذا النزاع بتعيين محكمين في نزاع يهم شركتين تنتمي كل واحدة منهما الى تجمع شركات مختلف، وأثر تكوين هيئة التحكيم تقدم أحد الأطراف بطلـب التجريح في محكم على أساس أن له روابط مع خصمه من شأنها أن تثير الريبة حـول حيـاده واستقلاليته. ولدى نشر القضية المتعلقة بالتجريح (القدح) تم ادخال شركات أخرى منتميـة الـى التجمعين غير أن شركة سفنسكا (المنتمية الى تجمع الشركات المدعى عليه) دفعت بأنها ليـست طرفاً في النزاع المذكور، رغم أنها تدخلت لضمان التزامات الشركة المـدعى عليهـا وطلبـت إخراجها من نطاق المطالبة. غير أن المحكمة تجاوزت هذه الدفوع وقضت بقبول طلب التجريح شكلاً وأصلاً وتنحية المحكم الذي تبين أنه سبق له أن قدم استشارة قانونية لشخص طبيعي اتضح أنه مسير لشركة لها مساهمة في رأس مال الشركة المعنية بالنزاع .

أ.1. وفي فقه القضاء المقارن، نذكر مثلاً بعض أحكام القضاء الأميركي والفرنسي.

   - ففي الولايات المتحدة الأميركية، بين الاجتهاد القضائي أن أسباب القدح في المحكم تتمثل عموماً في "التحيز الواضح"، وهو ما يبرز من جملة معطيات تتعلق بطبيعة المصالح الشخـصية للمحكم وحجمها وصفة العلاقة بين المحامي والطرف الذي يزعم أنه يحابيه إن كانت مباشـرة أم غير مباشرة، والعلاقة السببية بين تلك العلاقة والتحكيم، والتقارب الزمني بـين تلك العلاقـة والاجراءات التحكيمية. ومن البديهي أن تقدير مدى استقلالية المحكم يترتب على فحص مجمل هذه العناصر مجتمعة، دون إغفال أن أحدها اذا كان ذا وزن يكفي بنفسه لقبول طلب التجريح.

   - وفي فرنسا، سبق للمحاكم الفرنسية أن بينت أن واجب الاستقلالية لا يعني فقط أن يكـون المحكم مستقلاً إزاء الأطراف أنفسهم، بل يمتد أيضاً الى علاقة المحكم بمحامي الطـرف الـذي عينه ومستشاريه. واعتبرت المحكمة أن تواتر تعيين نفس الشخص محكماً في كافة النزاعات التي تهم شركة ما (51 مرة و 34 مرة!) بحيث أصبح تعيينه لمباشرة التحكيم في نزاعاتها أمراً "آلياً كاف في حد ذاته لايجاد شكوك مبررة في استقلاليته وحياده .

    وفي قرار صادر سنة 2011، أبطلت محكمة الاستئناف بباريس حكماً تحكيمياً بعد أن ثبـت لديها وجود علاقات أعمال بينه وبين الطرف الذي عينه، وهي علاقات لـم تـكـن عرضــية ولا متباعدة في الزمن.

    وتبين للمحكمة أن المحكم كان محامياً خارجياً of counsel في شـركة محامــاة (شـركة ف.ف.) ثم غادرها، لكنه ظل يقدم لها الاستشارات ونظم لفائدتها ملتقى علمياً قبل تعيينه بأربعـة أيام. ولم يغير من الأمر شيئاً أن المحكم صرح بأنه قدم استشارات لشركة المحاماة المذكورة مرتين أو ثلاثة حول نقاط قانونية محددة، خاصة أن المحكمة لاحظت أنه لم يبين تاريخ تقديم تلك الاستشارات. ذلك أن شركة المحاماة المذكورة لم تكن تمارس الدفاع عن أحد الخصوم في النزاع غیر أنه اتضح أن محامي الطرف الذي عين المحكم المذكور كان في زمن التحكيم متعاوناً مـع شركة المحاماة ف.ف. نفسها.

    أما ثبوت أن المحامي "صديق" ami للمحكم على صفحة التواصل الاجتمـاعي "فيسبوك" facebook فلا يكفي بذاته لايجاد شكوك معقولة في الحياد. وفي قرار "تکنيمونت ضد آفاکس" الصادر عن محكمة استئناف "ريمس" Reims سنة 2011، اقتدت المحكمة بقرار محكمة النقض الصادر في 20 أكتوبر 2010، واعتبرت أن قاضي الإبطال محمول على إبطال حكم التحكـيم إذا تبين أن المحكم أخل بواجب التصريح. وتتعلق وقائع القضية في أن شركة "آفـاكس" قامـت بالتجريح برئيس هيئة التحكيم أثناء سير الاجراءات التحكيمية، بناء على أنه ثبت لديها أنه كـان يقدم استشارات "خارجية" of counsel لفائدة شركة محاماة كبيرة في باريس، وهـي شـركة المحاماة التي قامت بعدة اجراءات قضائية باسم الشركة الخصيمة أو شـركات مترابطـة معهـا (شركات فرعية société affiliées).

    وقد قررت مؤسسة التحكيم (غرفة التجارة الدولية) رفض طلب القدح وتواصلت اجـراءات التحكيم حتى صدر حكم تحكيمي ضد طالبة التجريح في 10 ديسمبر 2007، فطلبت إبطاله مـن محكمة الاستئناف بباريس التي قضت لصالح الطالب بناء على غياب الشفافية والإخلال بواجـب التصريح، ومن ثم غياب الاستقلالية. غير أن محكمة النقض الفرنسية نقضت هذا الحكم بناء على أن كل المؤشرات تؤكد أن تلك الشركة كانت على علم بالوقائع التي أسست عليها طلب الابطـال قبل صدور حكم التحكيم، استناداً إلى أن المحكم مطالب بأن يعلم الأطراف في كل وقـت أثنـاء الاجراءات بكل ظرف من شأنه أن ينشيء شكوكاً معقولة حول استقلاليته وحياده، على الرغم من تمسك المطلوبة بأن الطالبة فوتت على نفسها فرصة القدح في المحكم بعدم القيام بالطلـب فـي الآجال، مما أدى الى رفض طلبها من قبل مؤسسة التحكيم، وهو ما يستوجب أيضاً رفض طلبها من قبل محاكم الدولة.

    وردت محكمة "ريمس" على ذلك ملاحظة أن إجراءات القدح المقام بها أمام مؤسسة التحكيم ذات طبيعة ادارية داخلية، وهي منفصلة عن الاجراءات القضائية ولها موضوعها الخاص بهـا، ومن ثمة لا يتصل بها القضاء ولا يمكن الاستناد اليها أمام قاضي الدولة. ذلك أن قاضي الدولـة في صورة التحكيم المؤسسي لا ينظر في صحة تركيبة هيئة التحكيم. واعتمدت المحكمـة ف حكمها قراءة واسعة لواجب التصريح بالقوادح، مسايرة في ذلك التوجه العالمي الغالب. فخلافـا للتشريعات القديمة التي كانت تضع على عاتق المحكم واجبات "سلبية" تتمثل في تجنب الارتبـاط بأحد الخصوم بروابط ماسة باستقلاليته، أصبحت القوانين الحديثة تحمله "واجبات ايجابيـة دنيـا" obligation positive minimum حسب تعبير ايمانويل غايار Emmanuel Gaillard وهو واجب التصريح بالقوادح أو أيضاً في غياب القوادح، كما أنشأت حقاً جديداً لفائدة الأطراف وهو "الحق في الشك في المحكمين". ويلاحظ الدارسون بوضوح أن محاكم مختلف البلــدان أصـبحت تفرض على المحكمين معايير متزايدة الارتفاع والتشدد في مجال التصريح بالقوادح. فالقاعدة أن المحكم عليه أن يضع نفسه في مكان الأطراف ويصدر حكمه على الوضعية أو العلاقة القائمـة بين ذلك المحكم وأحد أطراف النزاع بعين الطرف (الخصم) لا بعين المحكم. وتضيف المحكمة تفصيلاً مهماً، وهو أن واجب الشفافية يقع على عاتق رئيس هيئة التحكيم أكثر مـن المحكمـين المعينين مباشرة من الأطراف. ولا شك في أن هذه الاشارة (التي قلما وردت في أحكام أخـرى مثل القضية موضوع قرار محكمة الاستئناف بتونس الصادر في 10 ديسمبر 2013) تتأسـس على معاينة الواقع، وهو أن المحكمين المعينين مباشرة هما في الواقع "محكما الطرفين"، وأنهمـا أقرب الى المحامين منهما الى القضاة، وأن رئيس الهيئة هو الذي يغلب أن يكون متمتعاً بـأعلى قدر من الحياد. غير أن هذه الاشارة تبدو لنا في الحقيقة خاوية وبلا جدوى قانونية في منظومـة تقر أعلى قدر من الحياد. غبر أن هذه الاشارة تبدو لنا في الحقيقة خاوية وبلا جدوى قانونية في منظومة تقر أعلى درجات الشفافية ووجوب التصريح "الشامل" الـذي لا يستثني أي واقعـة أو رابطة أو وضعية أو معطى يؤثر بشكل أو آخر على تقييم الأطراف لمدى استقلالية المحكم، كما أن القاضي يعسر أن يظهر التساهل والتسامح اذا تبين أن خرقاً واجب التصريح بالقوادح صـدر عن محكم عينه أحد الخصمين.

وتبين المحكمة الفرنسية أن التصريح بالقوادح يهدف الى الغاء كل شك معقول فـي حيـاد المحكم، وأن المحكم ينبغي أن يتمتع في تقديره لما ينبغـي التـصريح بـه بأقـصى درجـات الموضوعية، ومن ثم فإنه مطالب بأن يصرح بكل ما هو شخصي، وأيضاً بكل ما هو مهني وما يتعلق بالمكتب أو شركة المحاماة التي ينتمي اليها ودرجة انصهاره في المصالح التي يمثلها ذلك المكتب أو يدافع عنها. ولا عبرة في ذلك بمقدار الأتعاب التي يتحصل عليها المحامي أو الباحث أو الخبير (المعين محكماً) من ذلك المكتب، بل المعتبر هو درجة متانة علاقته بذلك المكتب.

    وعلى غرار الجدال الذي أثاره قرار 10 ديسمبر 2013 – ومـن الطبيعـي أن يثيـره – والتخوفات من أن يكون مؤشراً على ظهور توجه جديد نحو التشدد في معاملة التحكيم، فقد ثـار الجدال نفسه في فرنسا بمناسبة قضية "تكمونت" وغيرها. فلئن دعا "ايمانويل غايار" المحكم الـى أن يكون "كالقرد الصيني"، فإن بعضاً من الفقهاء ناهض فكرة "التصريح الشامل"، فكتب -Louis Christophe Delanoy قائلاً أن المبالغة في الشفافية تمس حتماً من سرعة اجراءات التحكـيم وفاعليتها، كما يمكن أن تمس من حرمة الحياة الخاصة، ومن سـرية التحكـيـم ومـن الأسـرار المهنية. وبذلك فأن اشتراط التصريح الشامل هو اشتراط غير متوازن ولا موزون وغير متناسب مع مقتضيات الحال exigence démesurée. فالمحامي المنتمي الى مكتب محاماة عملاق يجـد نفسه مطالباً بأن يقوم ببحث استقصائي حول جميع علاقات ذلك المكتب بأحد أطراف الخـصومة أو بكل الشركات التي لها علاقة بذلك الطرف، وهو عمل يستنزف وقتاً وجهـداً كبيـراً يعطـل تشكيل هيئة التحكيم.

    كما لاحظ الدارسون أيضاً أن التوسع في وجوب التصريح الـى المستشارين الخـارجيين Of counsel الذين يقدمون الاستشارات من حين الى آخر الى بعض شركات المحاماة بالتصريح بما لهم من العلاقات مع تلك الشركات، وما لتلك الشركات من علاقات مع تجمعـات الـشركات المتشعبة يحمل المحكم واجباً على درجة هائلة من الثقل، كما يمس بسرية المعاملات، كما يمـس خصوصاً بسرية التحكيم، اذ يؤدي الى التصريح بوجود قضايا تحكيمية وقعـت استـشـارة ذلـك الشخص بمناسبتها.

    أ.2. وفي التشريعات المقارنة، يلاحظ أن القانون الفرنسي الجديد المتعلق بالتحكيم والصادر في 13 جانفي 2011 نص أيضاً على واجب التصريح، وتأثر في ذلك بالممارسـات العالميـة وخصوصاً بقواعد غرفة التجارة الدولية.

   أ.3. ونشير على وجه الخصوص الى القواعد التوجيهية للجمعية الدولية للمحامين القواعـد المادية للتحكيم التجاري الدولي IBA Guidelines المتعلقة بتضارب المصالح فـي التحكيم التجاري الدولي الصادرة في 22 ماي 2004 – والتي تشكل المرجع الرئيسي في العالم في مـا يتعلق بتضارب المصالح في التحكيم. وهي بمثابة مجموعة من القواعد المادية التـي أصـبحت معتمدة في التحكيم التجاري وفي تحكيم الاستثمار سواء تعلق الأمر بالتحكيم المؤسسي أو التحكيم الحر. وتقتضي هذه القواعد ما يلي:

التصريح من قبل المحكم:

    (أ) إذا وجدت وقائع أو ظروف من شأنها أن تولد في نظر الأطراف شكوكاً حـول مـدى استقلالية المحكم وحياده، يجب على المحكم التصريح بهذه الوقائع أو الظروف الـى الأطـراف والى مؤسسة التحكيم، والى سلطة التعيين (إن وجدت أو إن اشترط نظام تحكيم مؤسسة التحكـيم المطبق ذلك) والى باقي المحكمين إن كانوا، وذلك قبل قبول مهمته أو، إن وقع ذلك لاحقا، بمجرد علمه بتلك الأمور".

    وتعتبر الفقرة الموالية من ذات المادة أنه إذا قدم المحكم تصريحاً من نوع ما ذكر فإن ذلـك يعني بالضرورة أنه يعتبر أنه يتمتع بالحيادية الكافية للحكم في النزاع بنزاهة رغم وجود القوادح المصرح بها. أما اذا كان يعتبر أنه غير قادر على الحكم في النزاع بحياد فينبغي عليه أن يرفض المهمة. ولا تختلف هذه القواعد عن قواعد الفقه الاسلامي، بما في ذلك قراءات المذاهب الأكثـر ليبرالية كالمذهب المالكي الذي يجيز تحكيم الخصم نفسه إذا رضي الخصم الآخر بذلك، باعتبـار أن الفقه الاسلامي يحمل المحكم واجباً أخلاقياً يخضع تقديره اليه هو نفسه دون الرجـوع الـى سلطة التعيين أو الى الخصم، وهو يتمثل في أن يرفض المهمة اذا كان لا يأنس في نفسه القـدرة على الحكم في النزاع بكامل التجرد، وذلك حتى اذا كان الخصم يعتقد العكس.

   وبالنسبة لمعايير تقدير مدى تأثير العوامل والمعطيات القائمة على حيادية المحكم، فإن قواعد الجمعية الدولية للمحامين تركن في ذلك الى حكم الرجل المحايد (الغير) الذي يكون مطلعاً علـى تلك المعطيات، فإن اعتبر هذا الشخص أن المحكم المعين لا يمكنه أن يتجرد من كـل ميـل أو انحراف عند الحكم رغم وجود معطيات أو عوامل ما، فإنه يمكن تثبيته في مهمته ولو وقع القدح فيه. والعبرة في ذلك بالأرجح، أي أن يميل الغير العاقل والمطلع على الوقائع الـى أن الأغلـب على الظن هو أن المحكم لن يتمكن من ملازمة الحيدة والتجرد، ولا يشترط فـي ذلـك اليقـين القاطع. فهذه القواعد مبنية على مبدأ الحيطة واجتناب المجازفة بحقوق الناس، خاصة أن المحكم يتمتع باستقلالية كبيرة في السير بالإجراءات وتتمتع السير بالإجراءات وتتمتع أحكامه بنوع من الحـصانة مـن الطعـون باعتبار أنها لا تخضع للرقابة الشاملة (الاستئناف) بل تخضع لرقابة محدودة تقتصر في المجمـل على الجوانب الشكلية والاجرائية مع إطلالة محتشمة على الجوانب المرتبطة بالنظام العام.

   وتضع قواعد الجمعية الدولية للمحامين قرينة على أن الشخص لا يمكنه أن يقضي بكامـل التجرد اذا كان هو نفسه طرفاً في الخصومة، أو اذا كان هو الممثل القانوني لشخص معنوي لـه صفة الخصم في النزاع أو اذا كانت له رابطة مالية أو شخصية ذات بال في النزاع.

   ويحتاج الأمر إلى توضيح مسألتين: المشترط هو أن تكون العلاقـة الماليـة أو الشخـصية معتبرة أو ذات بال أو دلالة significant. فالمديونية تكون مؤثرة في حيادية الشخص اذا كانت بمبلغ هام. أما اذا كان أحد طرفي العلاقة مديناً للآخر بمبلغ بسيط لا يؤثر في ضمير أغلب الناس فلا عمل به. ومثاله أن يكون المحكم قد اقترض من البنك مبلغاً مالياً بسيطاً على أن يقوم بسداده في آجال مريحة وبشروط معتادة من حيث نسبة الفائض وآجال الخلاص والتوثقات المقدمة. فهذه المديونية لا تؤثر في قدرة المحكم على الحكم باستقلالية في النزاع الذي يهم ذلك البنك. ومثالـه أيضاً أن يكون المحكم قد أودع مبلغاً مالياً ما في حساب فتحه لدى ذلك البنك. فعقد وديعة النقـود هو صنف من أصناف القرض وتنشأ عنه علاقة دائنية لصالح صاحب الحساب. لكـن اذا كـان المبلغ المودع في الحساب غير معتبر، فإنه لا يؤثر في ضمير المحكم.

    ومن جهة أخرى، فأن نص قواعد الجمعية الدولية للمحامين يشير الى وجود رابطة خاصـة بين المحكم والنزاع، في حين أن القانون التونسي يحيل الى وجود رابطة بين المحكم والخـصم المعني. وفي هذا فان القانون التونسي أكثر دقة وصواباً، إذ العبرة بما بين المحكـم والـشخص الذي يعينه من صلات، قد لا تكون لها علاقة بالنزاع نفسه. فالمحكم المتحيز يتحيز لـشخص لا الى نزاع أو موقف.

    والحقيقة أن القانون التونسي لا يبلغ هذه الدرجة من التدقيق ولو أن عبارته تسمح بإقامة هذه التفرقة بين المصلحة المالية المعتبرة والمصلحة المالية البسيطة غير المـؤثرة علـى الحياديـة. وكذلك الشأن في ما يخص العلاقات الشخصية، أي العلاقة الدموية أو العداوة أو الصداقة أو مـا اليهما. فهي لا تمنع الشخص من تولي التحكيم إلا اذا كانت معتبرة. فالقرابة الدمويـة الفـاترة لا يعتد بها، ومثاله أن يكون المحكم والطرف الذي عينه حاملين اللقـب العـائلـي نفـسه، لكـن لا تجمعهما قرابة من درجة متينة، بل ربما كانا يجتمعان عند الجد العاشر، بحيث تجمعهمـا قبيلـة واحدة، وكذلك انتماء المحكم والخصم الى نفس الجهة أو المدينة أو حتى الحي أو دراستهما نفس المدرسة أو الكلية أو كونهما من مشجعي نفس النادي الرياضي أو انتماؤهمـا الـي نفـس الحزب السياسي ... فجميع هذه الأمور يغلب أن لا تكون ذات دلالة، وأن تعتبر غير مؤثرة في القدرة على الحكم بتجرد واستقلالية، وإنما يتم النظر فيها حالة بحالة، وتقدر كل حالـة بقـدرها. فالانتماء إلى نفس الحزب يصبح مؤثراً بالنسبة الى بعض الأحـزاب الـصغيرة القائمـة علـى التعصب أو حتى الكراهية للآخرين، حيث تصبح الرابطة بين أعضاء الحـزب الواحـد متينـة، وتشكل نوعاً مما يسميه عبد الرحمن بن خلدون "العصبية". ولذلك يبقى التقدير خاضعاً لمنطـق التفريد individualisation ولا يمكن وضع قواعد جامدة تنطبق في جميع الصور المتشابهة. ويحوصل الدارسون مضمون قواعد الجمعية الدولية للمحامين على أنه انتهى الـى وضـع ثلاثة جداول للحالات الممكنة، تصنفها ثلاثة أصناف: قائمة خضراء وقائمـة برتقاليـة وقائمـة حمراء". وتضم القائمة الخضراء الحالات التي تعتبر فيها العلاقة بين المحكم والطرف المعن أو مستشاريه أو مساعديه غير مؤثرة في الحيادية. أما القائمة البرتقالية فتضم الحالات التي تعتبر  فيها تلك العلاقة المذكورة مؤثرة بدرجة محدودة، في حين تضم القائمة الحمراء الحـالات التـ تعتبر فيها تلك العلاقة ذات تأثير بليغ على قدرة الشخص أن يقضي في النزاع بكامـل التجـرد. ويهدف نشر هذه القائمات الى مساعدة مؤسسات التحكيم والمحكمـين والقـضاة علـى وضـع مرجعيات ثابتة في هذا المجال التميز عالمياً بعدم الوضوح وانعدام الثبات والاستقرار، خاصة مع امتناع بعض مؤسسات التحكيم الكبرى في العالم عن نشر قراراتها الداخلية المتعلقة بـالتجريح، مثل غرفة التجارة الدولية ICC والجمعية الأميركية للتحكيم AAA.

    ويلاحظ أيضاً أن فقه القضاء الحديث في فرنسا وغيرها لا يستثني الأنشطة العلمية من نظر عند بت مدى توافر الحياد من عدمه. فهو يعتبر أن مشاركة شخص ما في نشاط علمي نظمه أو شارك فيه شخص آخر له صلة بقضية تحكيمية وقع فيها تعيين الأول في الذكر محكماً، لا يمكن أن تعتبر في حد ذاتها دليلاً على حيادية ذلك الشخص أو على غياب المصلحية في تلك العلاقـة. ذلك أن العلاقات الأكاديمية يمكن أن تخفي وراءها مصالح مادية، خاصة أن واقع التحكيم الدولي اليوم يؤكد التداخل المزمن بين الأنشطة الأكاديمية والمصالح، وأن جـل المؤسسات المهتمـة بالتحكيم تهيمن على سلطة القرار فيها مجموعة من الأشخاص الذين يتعاملون مع حلقة معينة من الأشخاص والخبراء ورجال القانون، والغالب أن تجدهم يعين بعضهم بعضاً في قضايا التحكـيم، كما تتكرر أسماؤهم في نفس الدوريات المتخصصة من مجلات ونحوها. كما أن عديد الجمعيات والمنظمات المهتمة بالتحكيم، انما هي في الحقيقة "واجهة تجارية" vitrine أو "بطاقـة زيـارة" carte de visite هدفها التعريف بأصحابها أو بمكاتب المحاماة التي يملكونها أو حتـى تحقيـق أرباح من أنشطة التدريب والتعليم والنشر وتنظيم الندوات التي يكون فيها الحضور بمقابل مـالي هام .

     وليس في ذلك حط من مصداقية الأنشطة العلمية التي تكاثرت في هذا الزمن، وخـصوصاً في اتصال بالتحكيم، بل هو تنبيه الى البعد البراغماتي الذي يتخلل أكثر الأنشطة البشرية نـبلاً ويمازجها، فيطغى عليها حين يتعلق الأمر بضعاف النفوس، ويلين الطبائع المتحجرة حين يتعلـق الأمر بنبلاء القوم. وقد سبق أن لفتنا النظر الى أن أعمق المشاعر البشرية وأجملها لا يخلو مـن النفعية والأنانية، حتى قال عبد الله بن المقفع على لسان احدى شخصياته الخيالية في قصة "كليلة ودمنة": "اعلم أيها الملك أن الانسان انما يحب الحياة محبة لنفسه، وأنه لا يحب من أحب مــن الأحباب الا ليتمتع بهم في حياته".

  أ.4. فقه القضاء التونسي: خط مستقر على اشتراط أعلى درجات الشفافية:

    اعتبرت محكمة التعقيب التونسية في قضية طرحت عليها أواخر القرن الماضي أنـه رغـم وجود اختلاف بين الاستقلالية والحياد (الأخلاقي)، باعتبار أن الاستقلالية independence حالـة موضوعية تقوم على غياب رابطة موضوعية تجعل المحكم بعيداً عن كل تأثير موضـوعي مـن الأطراف (قرابة – دائنية – مديونية – تبعية)، فان غياب الاستقلالية يستنتج منه غيـاب الحيـاد، وهو قرينة غير قابلة للدحض. ومن ثم فإن المحكم الذي يتضح أنه تولى – بصفته محامياً – نيابـة أحد الخصوم في قضية أخرى منشورة لدى إحدى المحاكم، مع أنه كان صرح للطرف الآخر بأنـه سبق له أن تولى نيابة نفس الطرف في قضايا أخرى، وتحصل على موافقة على توليتـه المهمـة التحكيمية، رغماً عن ذلك - طالما أنه توقف عن نيابة تلك الشركة لدى القضاء منذ توليـه مهمـة التحكيم – يكون - يكون مفتقداً للاستقلالية لقيام رابطة دائنية مع أحد الخصوم بعد تولي التحكيم، ومن ثـم فلا يمكنه أن يدعي أنه ظل ذهنياً بعيداً عن كل تأثير بعد مباشرته تلك المهمة، وتقوم قرينة قاطعـة على أن علاقة الدائنية الجديدة أثرت في عدالته وتقديره للنزاع، فيتجه لذلك اعتبار أنه افتقد الحياد، فخرق بذلك مبدأ من المبادىء الأساسية للاجراءات المدنية والتجارية، وتوجب إبطـال حكمـه لكن هذه القرينة تزول برضا الأطراف، وذلك اذا ما ارتضوا تحكيمه رغم علمهم بالقادح.

    ومن الواضح أن ما أثر في المحكمة في هذه القضية هو وضوح التصريح الـصـادر عـن المحكم، اذا ذكر أنه كان محاميا للشركة التي عينته مع استعمال صيغة الماضي، بمـا يـوحي، بصفة الملاحظ الموضوعي المحايد، أنه لم يعد مرتبطاً بمثل هذه العلاقة منذ توليه التحكيم، ومن ثم فان ظهور ما يفيد أنه تولى نيابة الشركة نفسها في نزاع جديد طرأ بعد بداية التحكيم من شأنه أن يثير شكوكاً مبررة بصفة معقولة وموضوعية حول طبيعة علاقته بتلك الشركة، وهو ما يجعل حكمه محاطاً بشك كبير يتجه معه إبطاله. فالإبطال يمنح الطرفين معاً حظوظـاً متساوية الانطلاق من جديد في اجراءات يمكن أن تنتهي بحكم عادل (على الرغم مـن خـسارة المـال والوقت والجهد) في حين أن الابقاء على حكم التحكيم والإذن بتنفيذه رغم وجود هـذا المعطـى يترك ظلال شك داكنة تحيط بحكم المحكم ومن ورائه بحكم القاضي الذي أيده وأدخلـه بـصفة رسمية في النظام القانوني الرسمي.

    وقد استندت محكمة الاستئناف بتونس عند نظرها في مسألة علاقة المحكم بالأطراف الـى أحكام الفقه الاسلامي، وتحديداً الى موقف المذهب المالكي الذي يعتبر أن التحكيم عماده الثقة في المحكم، وهو احتكام الى ضمير شخص يعتقد الأطراف أنه محايد أخلاقياً ومستقل ذهنياً بصرف النظر عن صلاته الموضوعية بالخصوم أو ببعضهم، ومن ثم يجوز حتى تحكيم الخصم نفـسه، لأن هذا الاحتكام الى ضمير الخصم لا يختلف عن توجيه اليمين الحاسمة للنزاع، التي هي أيضاً احتكام الى ضمير الخصم بالنظر إلى أن هذه اليمين تحسم الدعوى، صادقة كانت أم كاذبة.

   ففي تحكيم دولي، تبين أن أحد المحكمين هو الممثل القانوني للذات المعنوية التي هي طرف  التحكيم، لكن اتضح أن هذه الصفة كانت قائمة زمن ابرام اتفاقية التحكيم، وهي الاتفاقية التي نصت على تعيينه كمحكم. وقد رفضت محكمة الاستئناف بتونس إبطال الحكم التحكيمي الصادر عن هيئة كان هذا المحكم عضواً فيها بناء على ما ذكر، وعلى أنه من الواضح أن الطرف الآخر كان يعلم بصفته أو ما كان له أن يجهلها .

   ويتبين هكذا أن صفة القواعد الاجرائية الأساسية كقواعد تهم النظام العام الاجرائي لا تتنافى مع امكانية التنازل عنها. لكن هذا التنازل ينبغي أن يصدر عن ارادة واعيـة ومدركـة بحقيقـة الخرق ومداه وتأثيره في عدالة المحاكمة، مما يؤكد أن عدالة المحاكمة أولا وبالذات مـسألة هي ذاتية مرتبطة بأحساس المختصمين، طالما أن العدالة البشرية تبقى دائماً عدالة نسبية. ولعل هـذا هو كنه الفصل 50 من مجلة التحكيم الذي يكرس امكانية التنازل عـن حـق التمـسـك بجميـع الاخلالات الاجرائية دون تمييز، سواء كان التنازل صريحاً أو ضمنياً، وذلك بخلاف النظام العام الأصلى Ordre public de fond الذي يغلب أن يهم مصالح المحتكمـين، لكنـه يـهـم أيـضاً وبالأساس نظام المجتمع برمته، فلا يجوز للخصوم التنازل عنه بأي صيغة كأنت، وهو ما يفسر امكانية إثارة خرق النظام العام الأصلي فقط من قبل القاضي بصفة تلقائية ودون حاجة لأي طلب من الخصوم، بخلاف كافة الاخلالات الأخرى.

 ب. ضوابط واجب التصريح بالقوادح أو بالاستقلالية حسب الحالة:

   توجب عدة أنظمة تحكيم على المحكم التصريح باستقلاليته أو بوجود القوادح. فهـو مـلـزم بالتصريح في كافة الأحوال.

    وبالنسبة للتصريح بالقوادح، فإنه يجب توجيهه الى كل واحد من الأطراف، والى مؤسـسة التحكيم في صورة التحكيم المؤسسي، أو الى سلطة التعيين بحسب الحالـة. والأفـضل أن يـتم التصريح به أيضاً إلى باقي المحكمين حتى يحددوا كيفية تعاملهم مع المحكم المعني. وكثيراً ما يصبح رئيس هيئة التحكيم على وجه الخصوص أكثر حذراً في التعامل مع المحكم الذي يتبين أن له صلات وثيقة بأحد الأطراف، ولو لم يقع التجريح فيه، فيحذر من الافصاح له عـن توجهاتـه حتى لا يقع كشفها الى الطرف المعني.

    والقاعدة الذهبية التي لها اتصال واضح بالقضية موضوع القرار محل التعليق هي كان هناك شك أو تردد حول مدى وجوب التصريح بالقوادح من عدم ذلك في وضعية معينة فانه يجب ترجيح التصريح، بحيث يبقى الحكم على مدى تأثير الواقعة أو الوضعية أو العلاقة "المريبة" على حيادية المحكم للطرفين، وخصوصاً للطرف الذي لم يعينه أو يساهم في تعيينه فقرة 3 (ج). وفي قيامه بواجب التصريح يجب على المحكم أن يراعي كون التحكيم ما زال في بدايته أو أنه تقدم أشواطاً كبيرة (فقرة 3 (د)). وليس من الواضح إن كان المقصود هو أن واجب التصريح يصبح محل تسامح أكبر اذا تقدمت الاجراءات أشواطاً أم العكس. وقد اعتبر فريق العمل الـذي كلفته الجمعية الدولية للمحامين بدراسة هذه المسألة أن هذه التفرقة لا معنى ولا دلالة لها.

   وتقيم كافة هذه القواعد آلية لاختبار مدى حيادية المحكم. وهذه الآلية تقع في البداية وبدرجة أساسية بين يدي المحكم وعلى عاتقه. فهو مدعو في البداية الى أن يحكم على نفسه، وأن يقـيم نفسه. ثم أنه مدعو ثانياً الى إخضاع نفسه لتقييم خارجي صادر عن الخصم الذي لم يعينـه ولـم يشارك في تعيينه. وفي المرحلتين، يجب على المحكم أو الخصم المعنـي أن يتحلـى بأقـصى درجات التجرد حتى ينتهي الى رأي موضوعي وعقلاني في خصوص حياديته. ومن الغريب أن يطلب من الشخص أن يحكم على نفسه بتجرد، كما أنه من الغريب أن يطلب من طرف في نزاع أن يحكم بتجرد على شخص عينه خصمه. غير أن هذا هو شأن العدالة البشرية، فهـي عدالـة سببية، ميزتها أنها لا ترقى عن الشك، وهي قابلة للجرح والتعدين، سواء قبل الحكم أو بعده. لكن المشرع تحاشى أخطر خطأ يمكن أن يقع وهو الحكم على حيادية المحكم الى مـا بعـد صـدور حكمه. ذلك أن "نصف الناس أعداء القاضي إن عدل"، كما ينسب الى عمر بن الخطاب. ولـذلك تجد الطرف المحكوم ضده، وبعد أن كان يكيل المديح والشكر الى المحكم، ويعبر عـن تقـديره واحترامه له، يطلق العنان للسانه لوصفه بجميع ما يقع في طريقه من النعوت السيئة وكل صنوف التجريح والخدش والتحقير بعد أن يصدر الحكم ضده. وتلك جبلة في البشر، لا يمكـن تجنبهـا، وانما يحد منها اذا أغلق القانون الباب أمام التجريح المتأخر، أي اللاحق للحكم.

ويتضح من جميع ذلك ما يأتي:

- مع الاقرار بأن الأطراف ربما تكون لهم مصلحة في معرفة كل ما يحيط بحيـاة المحكم وسيرته وخصاله الأخلاقية والعلمية وعلاقته بالنزاع وأطرافه، فإنه ينبغي التعامـل مـع المسألة من خلال منظور موضوعي معتدل احتراماً لحرمة الحياة الخاصة للمحكم. ولا ينفـي ذلك أن التوسع في التصريح من شأنه أن ينشيء شكوكاً غير مبررة في أذهان الأطراف حـو المحكم والتحكيم بما يمس دون موجب من الثقة في التحكيم. –

- أن مجال واجب التصريح أوسع من مجال امكانية تنحية المحكـم عـن المهمـة تبعـاً للتجريح، وهو ما قد يوحي عدم جدوى التوسع في واجب التصريح. لكن ينبغـي التـذكير بـأن التصريح بأمر ما لا يعني الاقرار بتأثيره الحاسم على الحيادية، بل هو يعني فقط أن تقدير مـدى هذا التأثير متروك لاجتهاد الخصم المعني والقاضي أو مؤسسة التحكيم أو جهة التعيين.

- أن الجمعية الدولية للمحامين وضعت قائمة خـضراء للحـالات التـي يتوجـب فيهـا التصريح، وقائمة رمادية للحالات التي يجب فيها التصريح، لكن ذلك لا يكفـي للتجـريـح فـي المحكم، وقائمة سوداء للحالات التي ينبغي فيها التصريح، ويكون فيها التجريح مقبولا إن طلبـه الطرف المعني.

- أنه حسب هذه القواعد، فأن المحكم إذا داخله الشك في مدى وجوب التصريح من عدمه،فان عليه أن يقوم بالتصريح بالقادح.

- لكن اذا كانت للمحكم دوافع مهنية لعدم التصريح كالسر المهنـي أو غيـر ذلـك مـن الاعتبارات التي تمنع عليه التصريح، فأن عليه أن يرفض المهمة أو أن يستقيل منها.

- إن تقدير ما إن كان هناك ما يستدعي التصريح أو التجريح يرجـع فيـه الـى معيـار "الفحص الموضوعي لما ينبغي التصريح به" objective test for disclosure. وقد أوضح فقه القضاء الدولي في أطر أخرى أنه ينبغي الرجوع الى معيار "الملاحظ المعتدل fair-minded observer وما يمكن أن يخطر بباله بشكل معقول في مثل الظروف المعنية.

  - إن محكمة الاستئناف بتونس سبق لها أن اعتبرت أنه اذا أخفى المحكم علاقـة مهنيـة ومالية تربطه بالطرف الذي عينه وصرح مع ذلك بأنه كان محامياً لذلك الطرف واقتصر علـى استعمال صيغة الماضي في التصريح، ثم تبين أنه تولى النيابة كمحام عن نفس ذلك الطرف فـي قضية لا علاقة لها بالتحكيم (قضية شغلية) ثم قدم مطلباً في طرح تلك القضية، فإنه ينبغـي مـع ذلك أبطال حكم التحكيم بسبب إخفاء تلك العلاقة على الرغم من أنها تبدو "عابرة" وغير مـؤثرة في قدرته على الحكم في النزاع بحياد واستقلالية. . وحسب الفقه فإن المحكمة اختـارت مـنهج التشدد في بلد ما زالت فيه التجربة التحكيمية فتية، ويخشى فيها من أن يؤدي تساهل القضاء مسائل الحياد والاستقلالية الى ضرب الثقة في التحكيم أصلاً بما يؤدي الى القضاء عليه.

- وفي علاقة بالقضية موضوع التعليق بالذات، جاء بشروحات قواعد الجمعيـة الدوليـة للمحامين حول تضارب المصالح أنه ينبغي النظر في أنشطة مكتب المحاماة التابع للمحكم بصفة موضوعية، حالة بحالة. ولا يعتبر شمول أنشطة مكتب المحاماة التابع للمحكـم لأحـد أطـراف مع النزاع في حد ذاته عنصراً كافياً للاقرار بوجود تضارب مصالح أو بوجوب التـصريح. واذا كان أحد أطراف التحكيم شركة تنتمي الى تجمع شركات، وكان المحكم محامياً لإحدى الشركات الأعضاء في تجمع الشركات المذكور، فأن ذلك لا يكفي بذاته وبصفة آلية لوجوب التـصريح أو لقبول طلب التجريح، بل ينبغي النظر الى المسألة حالة بحالة. وفي هذا الصدد يعامـل مـسيرو الذات المعنوية في ما يتعلق بنوع العلاقات المبررة للتصريح أو للتجريح بمثل ما تعامل به الذات المعنوية.

   - يراعي حجم شركات المحاماة في تقدير مدى وجوب التصريح أو قبول طلب التجـريح. ويجب الموازنة بين المصالح. والأصل أن تعتبر مصالح المحكم كشخص طبيعـي ممتزجـة مـع مصالح الشركة التي ينتمي اليها، لكن أنشطة الشركة لا يتشكل منها تضارب مصالح فـي جميـع الأحوال. وتراعي في تقدير المسألة مثل علاقة الأنشطة المعنية بالقضية التحكيمية، وطبيعة الأعمال التي قامت بها شركة المحاماة لصالح الطرف المعني، وزمن التكليف بأعمـال النيابـة والمحامـاة ومجالها. كما تراعى في ذلك درجة انغماس الشركة في التكفل بمصالح الطرف المعني في التحكيم "involvement“. وينبغي النظر أيضاً في مدى متانة علاقة الشركات المكونة لتجمع الشركات.

الفقرة الثانية: جزاء غياب الاستقلالية:

     يترتب على ثبوت غياب الاستقلالية والحياد لدى المحكم جواز طلب التجريح فيه، وهو ما أقره القانون بصريح النص. لكن هذا الجزاء لا يكون له معنى اذا تـم اكتـشاف القـادح المذكور بعد ختم المرافعة أو حتى بعد صدور حكم التحكيم، وهو ما جعل القضاء التونسي يعتبر يجوز في هذه الحالة طلب إبطال الحكم التحكيمي. ولما كانت كل هذه الجـزاءات غير رادعة بالقدر الكافي، فقد توجه المتقاضون الى طلب التصريح بمسؤولية المحكم المدنية وحتى الجزائية.

    أ. فالجزاء الأول والمباشر يتمثل في التجريح في المحكم. ويجوز التجريح في المحكـم اذا كان للشك في حياده واستقلاليته ما يبرره، وهو ما يعني أن أسباب التجريح ينبغـي أن تكـون على درجة من الموضوعية تجعل الشخص العادي يرتاب في استقلال المحكم. أما الأسباب التي لا تقنع سوى من يثيرها، فلا يعتد بها القاضي. وكذلك الشأن اذا ظلت الادعاءات حـول وجـود روابط خاصة بين المحكم وأحد الخصوم أو محاميه غير كافية. وعملاً بمبدأ النزاهـة ومنـع التناقض، لا يجوز لشخص التجريح في محكم عينه بنفسه أو ساهم في تعيينه، إلا إذا أثبت أنه لم يعلم بموجب التجريح الا بعد التعيين.

     ب. وقد يبدو التجريح كعقاب للمحكم على فقدانه الحياد. لكن هذا القول فيه مبالغة، خاصـة إذا بادر المحكم بأعلام الأطراف في الابان بموجب التجريح. فأن لم يرضوا بتحكيمه بعد ذلـك، فلا عقاب في الأمر، وانما هو إجراء "وقائي" الغاية منه تفادي صدور حكم مثير للشبهة والريب، خاصة أن الريب لا يصيب نفس المحتكم المقضي ضده فحسب، بل يـصيب المحكـوم لفائدتـه والمحكم نفسه، لأنه إن قضى في نزاع يحرك فيه عاطفة خاصة لفائدة خصم أو ضد آخر، فأنه لا يأمن نفسه أن يكون قد قضى بالهوى، فيخالطه الشك ويخلخل جأشه، حتى أن الحـرص علـى الحياد قد يحمله على الحكم ضد الطرف الذي له ميل اليه.

    أما اذا منحه الأطراف ثقتهم المطلقة رغم العلم بالقادح، فهو مخير بـين مواصـلة المهمـة والتخلي عنها، إن لم ترتح نفسه الى حياديته. فإن واصلها، فان تلك الثقة تبعث فيه راحة نفسية من الأرجح أن تزيح عنه الهواجس والخشية من مزالق الهـوى. والله أعلـم بـالنفس البـشرية وبخباياها.

ت. ابطال حكم التحكيم:

ت.1. إن الجزاء الأكثر خطورة لغياب الحياد لدى المحكم يتمثل في إبطال حكـم التحكـيم. وهو جزاء خطير لأنه يهدم كل ما بذله الأطراف والمحكمون من مال وجهد ومـا تكبـدوه مـن مشاق للتوصل الى هذه النتيجة التي يعتقد أغلبهم على الأقل أنها منهية للخصومة.

   غير أن هذا الجزاء يعترضه عائق تشريعي كبير يتعلق بعدم التنصيص عليه من بين صور الابطال. كما أن التسليم بوجود سند قانوني "غير مباشر" لهذا الجزاء لا ينفي أن التصريح بـه ينبغي أن يبنى على ثبوت عدم العلم به قبل ختم المرافعة بوجه القطع والجزم.

    ت.2. السند القانوني للإبطال بسبب عدم حياد المحكم:

    لم ينص الفصلان 42 و 78 من مجلة التحكيم على إبطال حكم التحكيم الصادر عن محكـم غير محايد، سواء كحالة مستقلة أو كحالة فرعية. ولقد بعث هذا السكوت على التساؤل عن مدى جواز التوسع في الحالات الواردة في الفصلين المذكورين أو البحث في ثناياهما عما من شأنه أن يجيز هذا الابطال. ولقد عرضت هذه المسألة على القضاء التونسي فـي قـضايا تهـم التحكـيم الداخلي، فاعتبر دون تردد أن الإبطال يجد سنده في الفصل 42 من مجلة التحكيم، وهو حل يمكن نقله الى مجال التحكيم الدولي. ففي أول قضية من هذا النوع، وجب علـى محكمـة الاستئناف بتونس أن تعتمد تحليلاً مطولاً لم يخل من "البهلوانيات" acrobaties للتوصل الى هذه النتيجـة. أما محكمة التعقيب، فلم ترهق نفسها بتحاليل مماثلة، وتوصلت الى النتيجة نفسها.

    فمحكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 49205 بتاريخ 27 جانفي 1998، انطلقت من ملاحظة أن "التجريح في المحكم يكون للأسباب التي يجرح بها في القاضي، كما يجرح فيه أيضاً بأسباب أخرى خاصة به أوردتها الفقرة الثانية من الفصل 22 المذكور وتتمثل في وجود أمـور من شأنها أن تثير شكوكاً حول حياد المحكم أو استقلاليته، ثم لاحظت أنه "من الثابت مـن أوراق الملف أن تعيين المحكم السيد (ط) وقع بسعي واختيار من المطلوبة الآن، ولم تعينـه الطاعنـة، وانما صادقت عليه بعدم تجريحها فيه أثناء سير اجراءات التحكيم"..

    وتمضي المحكمة لتقول أنه "يتضح من نسخة العقد المبرم بين شركة (ف) وشركة (ب) في 1995/10/7 والمتعلق باقامة مركب تجاري وترفيهي... ان السيد (ط) أمضاه بوصفه "باعثـا"، كما أن محاضر الجلسات المنعقدة في 1996/5/24 و 1996/8/9 جاء فيها جميعـاً أن المحكـم المذكور حضرها بمعية المسمى (ج) الذي يمثل شركة (ب) بوصفه باعثا وذلك للنظر في مسائل تتعلق بتنفيذ عقد المقاولة المذكور، كما أن المكتوب الموجه من شركة الدراسات والاستشارات العقارية والسياحية في 1996/9/26 الى المحكم نفسه تضمن موافقة الشركة المذكورة المكلفـة الاشراف الفني على تنفيذ العقد على خلاص مؤسسة (ر) في خصوص الصفقة المذكورة.

    وحيث يتبين من جميع ذلك أن علاقات تجارية وروابط أعمال تربط بين المحكم الـسيد (ط) وشركة (ب)، ولو أن المحكم المذكور تصرف بصفة أصلية كممثل لشركة، إلا أن استعمال اسمه الشخصي مع صفة "الباعث" يفيد أنه مهتم شخصياً بأنشطة تلك الشركة، ولـه علاقـة شـخـصية بنشاطها وبالمتعاملين معها، خصوصاً وأنه يتضح من القانون الأساسي للشركة أنه مالك لثلاثـين حصة من حصصها الاجتماعية من ضمن مائة حصة أي 30 بالمائة من رأس المال.

   وحيث أن وجود مثل هذه الروابط من شأنه أن يثير شكوكاً لها ما يبررها حول حياد المحكم واستقلاليته بالنسبة لأطراف التحكيم، خصوصاً وأنه اتضح أن المحكم نفسه قد تولى النيابة لـدى القضاء عن الشركة المطلوبة الآن التي هي طرف في التحكيم، بأن قدم في حقها عريـضة الأمر بالدفع الى محكمة تونس الابتدائية في 1997/10/27 تحت عدد 36012 والحال أن هيئـة التحكيم كانت متعهدة آنذاك بالنظر في القضية التحكيمية بمقتضى مطلب الشرح.

    وحيث أن الخصومة التحكيمية لا تنقضي بمجرد صدور القرار التحكيمـي الأصـلي، بـل تتواصل إلى انتهاء آجال طلب الشرح أو الاصلاح المنصوص عليها بالفصل 34 وما يليه مـن مجلة التحكيم أو الى تاريخ صدور حكم الشرح أو الاصلاح إن تعهدت هيئة التحكيم بطلب فـي الغرض... و... يتحصحص من ذلك أن المحكم السيد (ط) عاد لينوب شـركة (ب) التـي هـي طرف في المنازعة التحكيمية حال تعهده بالقضية التحكيمية بصفة محكمة، كما أنه كان نائبا لهـا قبل ذلك حسب ما يبينه التنبيه بارجاع الشيك المتضمن تعيين مقر مختار للشركة المذكورة بمكتب محاميها الأستاذ (ط).

    وحيث أن صفة وكيل الخصام تتجافى مع صفة المحكم، إذ أن مهمة المحكـم هـي مهمـة قضائية حسب ما يتضح من أحكام الفصل الأول من مجلة التحكيم وتتطلب في صـاحبها الحيـاد والاستقلالية بالنسبة للأطراف، عملاً بالفصل 22 من مجلة التحكيم. و... أنه لا وجود لما يفيـد علم طالبة الإبطال بصفة المحكم تلك بوجود علاقة الأعمال بينه وبين المطلوبة الآن".

    ثم تمضي المحكمة في تحليل طبيعة الروابط القائمة بين أطراف التحكيم والمحكمين، فتقول "ان اتفاقية التحكيم تشمل في الحقيقة أمرين:

    - أولاً- الاتفاق على مبدأ إخضاع النزاع للتحكيم مع ضبط اجراءات اختيار المحكـم أو المحكمين وعدد المحكمين وغير ذلك من الأمور العامة.

    - ثانياً- اختيار أعضاء هيئة التحكيم.

     ومن ثم فإن عقد التحكيم هو عقد متعدد الأطراف، يشترط فيـه رضـا طـرفـي المنازعـة ورضاء المحكمين بالمهمة، وإن رضاء كل طرف من أطراف الخصومة التحكيمية بـالمحكمين ضروري حتى بالنسبة للمحكم الذي يعينه خصمه، وإلا فله القدح فيه أمام هيئة التحكيم، كما لـه التخلي عن القدح فيه والرضاء بتحكيمه رغم وجود القوادح.

    وحيث أنه لا يصح التحكيم إذا انبنى رضاء أحد أطرافه بالتحكيم أو بالمحكمين على الغلط.

    وحيث يتضح من أوراق القضية أن المحكم لم يصرح بالقوادح، عملاً بالفصل 22 من مجلة التحكيم، وأنه تبين أنه تربطه علاقات أعمال بالمطلوبة الآن، ومن ثمة يتأكد غلط الطالبـة فـى الصفة الجوهرية للمحكم. و ... إن مثل هذا الغلط هو الذي جعل طالبة الابطال تمسك عن القدح في المحكم أثناء سير اجراءات التحكيم، مما يجعل رضاها بتحكيمه حرياً بالابطال، عملاً بالفصل 43 من مجلة الالتزامات والعقود.

    وحيث أن بطلان فرع من فروع عقد التحكيم موجب لإبطـال أعمـال التحكـيم والقـرار التحكيمي أيضاً، ولو كان غياب الاستقلالية والحياد خاصاً بأحد المحكمين دون سواه...".

    فالمحكمة تعتبر الاتفاق المبرم بين الخصوم (كمجموعة) مع المحكم علـى توليتـه مهمـة التحكيم فرعاً من فروع اتفاقية التحكيم، بل تذهب أكثر من ذلك فتعتبر أن هذه الرابطـة العقديـة تجمع الخصم بالمحكم الذي عينه الخصم الآخر، وذلك من منطلق أنه يوجد رضـا "افتراضـي" بتحكيمه يتجسم في إمساك ذلك الخصم عن التجريح فيه وطلب تنحيته عن التحكيم، وبالتالي تعتبر الغلط في الصفة الجوهرية للمحكم مبطل لاتفاقية التحكيم برمتها. وهذا التحليل، مع ما فيه من تعقيد، لا يتفق مع ما ذهب اليه الفقه من القول بوجود رابطة عقدية مستقلة عن اتفاقيـة التحكـيم convention d'arbitrage، وهي "عقد المحكـم" le contrat d'arbitre الـذي يبـرم بـين الأطراف والمحكم، وهو ما يقوض هذا التحليل من أساسه، ويوجب التفكير فـي سـنـد بـديل، وجدته محكمة التعقيب في ما جاء في الفصل 42 من مجلة التحكيم من وجوب إبطال حكم التحكيم في صورة عدم سلامة تركيبة هيئة التحكيم وخرق النظام العام والمبادىء الاجرائيـة الأساسـية معاً .

 

    فقد لاحظت هذه المحكمة أن "أحد المحكمين وهو الأستاذ ح المعين من طرف الطاعنـة وإن صرح بجلسة يوم 1997/10/28 باستعداده لمواصلة مأموريته مع التذكير بأنه كان نائباً لمن عينته في قضايا أخرى لا علاقة لها بموضوع التحكيم، الا أنه لم يقف عند هذا الحد، بـل نـاب الطاعنة الآن في قضية أخرى بتاريخ 1997/12/12 دون أن يصرح بذلك ودون أن يوجد فـي الملف ما يثبت علم المعقب عليه بهذا الأمر، علماً أن هذا الأخيـر رضـي بمواصـلة المحكـم الأستاذ... إثر قيام هذا الأخير بالتصريح الصادر عنه بجلسة 1997/10/28، ملاحظاً أنه طالما كان الأمر يتعلق بقضايا سابقة عن قضية التحكيم الحالية ولا علاقة لها بالخصام، فإنه لا يـرى مانعاً في استمراره كمحكم. (و) إن محكمة القرار لما اعتبرت أن إخـلال المحكـم الأسـتاذ ... بـ(مبدأ الحياد) واخفائه ما كان يجب عليه التصريح به من شأنه أن يقوم قرينة قاطعة على انعدام الحياد في جانبه ويجعل قرار التحكيم خارقاً للمبادىء الأصولية للإجراءات ولقواعد النظام العام، تكون قد أقامت قضاءها على ما له أصل صحيح من حيث الواقع والقانون، وطبقت الفـصل 42 من مجلة التحكيم تطبيقاً سليماً، فأمسى الطعن فاقداً لما يسنده واستحق بذلك الرفض".

    وقد كتبنا عن هذه القضية منذ نحو ثمانية أعوام أنه "لئن كانت وقائع القضية بسيطة نسبياً، لأن المحكم المعني يمتهن المحاماة، وقد صرح بأنه كان ينوب الشركة التي عينتـه فـي بعـض النزاعات، ثم نابها في قضية شغلية بعد تولي التحكيم ولم يعلم الأطراف بذلك، وربما كان ذلـك سهوا منه، كما أن القضية تم طرحها بعد جلسة واحدة، فإن فقه القضاء التونسي قد أصاب ف التصدي بصرامة لهذه المسألة، ولم يتسامح مع الحالات "البسيطة" ظاهرياً حتى لا يتسامح فـي المستقبل مع الحالات "الخطيرة"، وهو ما يدعو المحكمين الى تحري اليقظة والصراحة المطلقـة وتجنب الإخفاء وترك الشبهات تحوم حول حياده واستقلاليته. ولقـد قـال رسـول الله: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". فعلى المحكم الاقتداء بذلك ضماناً لسلامة التحكيم وجدواه، اذ لا جـدوى مـن اصدار حكم تحكيمي مآله الإبطال مع إمكانية القيام على المحكم بدعوى المسؤولية، لأن الالتزام بالتصريح التزام بتحقيق نتيجة لا بمجرد بذل عناية.

    ومن الواضح أن قرار 10 ديسمبر 2013 جاء بعد هذه السنوات الطويلة ليؤكـد مواصـلة محكمة الاستئناف نهجها الواضح في التشدد في مسألة التصريح بالقوادح وضمان الشفافية، على الرغم من تغيير كافة القضاة المكونين للدائرة المتخصصة في قضايا التحكيم في الأثناء. ولا شك في أن هذه الاستمرارية تشكل في حد ذاتها أمراً إيجابياً، إذ تضمن للمتقاضين قدراً عاليـاً مـن وضوح الرؤية والقدرة على توقع الحلول prévisibilité مما يحقق درجة معقولة مـن الأمـان القانوني sécurité juridique. كما أن توخي التشدد والصرامة في مسألة الشفافية يتماشى مـع التوجه العالمي العام، كما أنه ينسجم مع خيارات تونس الجديدة الرامية الـى ترسيخ مبـادىء الشفافية والصراحة والنزاهة.

 ب.2. أعلى درجات الشفافية في مواجهة أعلى درجات الاثبات:

    إن اشتراط أعلى درجات الشفافية في جانب المحكم ينبغي أن يقابله اشتراط أعلى درجـات الصرامة في الاثبات. فخطورة الجزاء ينبغي أن يرافقها تشدد كبير في الشروط والاثبات. فينبغي في مطلق الأحوال أن تعالج مسألة إبطال حكم تحكيم بسبب غياب الحياد في جانب المحكم ينبغي بكثير من التروي والتعمق التحقق من أمرين معاً: ما إن كانت الـروابط القائمـة بـين المحكـم والطرف الذي عينه معلومة من الخصم قبل تاريخ إقفال المرافعة، وما إن كانت ذات دلالـة وفي هاتين المسألتين، لا يكفي الانطلاق من عبارات مجردة، بل يجب التدقيق في وقائع القضية والحجج المقدمة، ومن واجب المحكمة أن تطالب كلا الطرفين بموافاتها بأقصى ما يمكـن مـن وسائل الاثبات، وذلك للتثبت من أن طالب الابطال لم يكن يعلم، ولم يكن بامكانه أن يعلم بالرجوع الى الظروف الموضوعية المحيطة بالتحكيم وبالمحكمين، أن ذلك المحكم كانت تربطـه علاقـة معينة بالطرف الذي عينه أو بمحاميه. وينبغي لذلك القيام ببحث على الانترنـت مثلمـا لاحظـه محامي الشركة المطلوبة للتثبت من أن المعلومة متوافرة بسهولة ويمكن العثور عليها عند القيـام ببحث جدي من نوع ما ينبغي أن يقوم به شخص حريص عند تعيين محكم مـن قبـل خـصمه. فالقاعدة أن كل خصم ينبغي أن يقوم بتحريات معقولة حول المحكم الذي يعينه أو يقوم خـصمه بتعيينه حتى لا يتفاجأ في ما بعد بأنه غير حائد.

    كما أن بت مثل هذه المسألة ينبغي أن يتم بعد التثبت من حقيقة نشاط الأكاديميـة المعنيـة وموقع كل واحد من الأشخاص المعنيين فيها، إذ أن العلاقة يمكن أن تكون عابرة أو غير عميقة أو غير ذات تأثير فلا ينبغي أن يترتب عليها هدم حكم تحكيم لم يتم التوصل الى إصداره إلا بعد مراحل إجرائية طويلة من المتوقع أن يكون فيها كل خصم قد سعى الى حـسم النـزاع لفائدتـه بمختلف الوسائل والحجج. وفي هذا أيضاً فإن مجرد إحداث مؤسسة علمية أو تدريبية لا يكفـي بذاته وبصفة آلية للدلالة على وجود الروابط المريبة أو عدم وجودها. فالأمر يحتاج الى تعميـق نظر قد يستدعي مطالبة المحكم نفسه بتقديم ملف عن هذه المؤسسة وهيكلتهـا وتوزيـع الأدوار داخلها والجوانب الاقتصادية والمالية في نشاطها. ويفترض في المحكمة أن تكون قد تثبتت فـى كافة هذه الأمور قبل اصدار هذا الحكم المرجعي .

    إن مبنى فكرة اشتراط أعلى درجات الصرامة في الاثبات هو أن الخصوم محمولين علـى التحري في شأن المحكمين الذين يعينونهم أو الذين يعينهم باقي الأطراف. فالمتقاضي الذي يؤتى اليه بشخص ليحكم في نزاع يخصه محمول على التحري حول ذلك الشخص، خاصة أنه لـيس بقاض من قضاة الدولة، بل هو مختار من قبل خصمه في النزاع، فلا يعذر بتهاونه في البحـث والتحري. وينبغي أن يكون فتح الباب أمام إمكانية الابطال مشروطاً بأعلى درجات اليقـين فـ الاثبات، بحيث أن من يرغب في إبطال حكم التحكيم بعد كل المصاريف وكامل المراحل والوقت التي استوجبها إصدار الحكم التحكيمي، والتي كان بامكان ذلك الطرف أن يتفطن فيها الى علاقة المحكم بخصمه، يكون بالضرورة مطالباً ببيان كيفية توصله الى الاطلاع على المعطى الذي يبني عليه طلب الابطال وزمن توصله بالحجة المثبتة له، كما ينبغي عليه أن يبين كيف أنه لـم يكـن بامكانه أن يتفطن اليه قبل ختم المرافعات. ولا يمكن الاقتصار في ذلك على مجـرد التأكيـدات العامة أو التصريحات الفضفاضة التي تذكر فيها ذلك الشخص أنه لم يكن عالماً بهذه المعطيـات قبل صدور حكم التحكيم أو أنه علم بالأمر على وجه الصدفة. فالأطراف يقومون بـصفة آليـة بالتحري عن المحكمين، وكثيراً ما يعلمون ببعض الأشياء عن المحكم، لكنهم يعتبرونها غير ذات بال وغير مؤثرة في حياد المحكم، لكن أحدهم يعود اليها ويبني عليها اعتراضات ومطالب إبطال بعد صدور حكم التحكيم ضده. وهذا سلوك غير أخلاقي وغير مسؤول وينبغـي علـى القـضـاة التصدي له بكل صرامة.

   فكما أن المحكم مطالب بأعلى درجات الشفافية، فأن الخصوم مطـالبون بـأعلى درجـات الوضوح والصراحة، وذلك بالتصدي في الإبان لكل عملية تعيين محكم يعتقدون أنه غير مؤهـل للحكم في النزاع بكامل التجرد بسبب ما يعلمونه من علاقات تجمعه بالطرف الآخـر فـان لــم يفعلوا فأنهم يخلون بذلك بمبادىء الشفافية والنزاهة بنفس قدر إخلال المحكم بها عندما يتغاضـى عن التصريح بأمور من شأنها أن تنشيء شكوكاً لها ما يبررها في حياده واستقلاليته.

    وفي قضية الحال ليس من الواضح أن المحكمة تحرت ودققت في خصوص زمـن العـلـم بانتماء كل من المحكم والمحامي الى المؤسسة العلمية نفسها وطبيعة علاقة كل واحد منهما بهـذه الأكاديمية ودور كل واحد منهما وطبيعة المصالح المالية التي تجمع كل واحد منهما بالأكاديميـة من جهة أولى، وعلاقة كل واحد منهما بالآخر من جهة ثانية. وهذا ما يمكن اعتباره من مواطن الغموض الهامة في هذه القضية.

ج. مسؤولية المحكم:

ج.1. غلبة واجب التصريح على واجب التحري:

    أكدت محكمة الاستئناف بتونس في قرار 10 دسيمبر 2013 أن "كل خصم ينبغي أن يقـوم بتحريات معقولة حول المحكم الذي يعينه أو يقوم خصمه بتعيينه".

    وفي قرار محكمة الاستئناف بباريس الصادر في 14 أكتوبر 2014، اعتبرت المحكمـة أن المحكم مطالب بالتصريح التلقائي بكل ما من شأنه أن ينـشيء شكوكاً مبـررة حـول حيـاده واستقلاليته وليس له أن يتعلل للتقصي من ذلك بأن الأطراف عليهم واجب التحري أو البحث عن معطيات تتعلق به. ولا يمكن أن تستثنى من ذلك إلا المعطيات المشهورة التي لا يمكن أن يجهلها أحد.

    فعوض وضع معيار "رب البيت المعتني بأموره" لتقييم سلوك الطرف المتمسك بعدم الحياد، ينبغي الرجوع الى معيار "المحكم النزيه الشفاف الذي ليس له ما يخشى انكشافه" لتقيـيـم سـلـوك المحكم. فعوض التركيز على الخصوم، ينبغي التركيز على المحكم.

ث. المسؤولية المدنية:

    علاوة على التجريح (كإجراء وقائي) وإبطال حكم التحكيم (كإجراء علاجي) فإن إبطال حكم تحكيمي بسبب انتفاء المصداقية لدى المحكم يعني أيضاً أنه مخالف لالتـزام أخلاقـي وقـانوني بالشفافية والصراحة، المستمد من الالتزام بالتعامل بحسن نية، ومن ثمة تنشأ المسؤولية المدنيـة للمحكم. وتقوم هذه المسؤولية على المبادىء القانونية العامة، وخاصة منهـا المبـدأ التعويـضي le principe indemmitaire الذي يقتضي أن يكون الشخص الذي يرتكب خطأ أفـضـى الـى ضرر مطالب بجبر ذلك الضرر، كل الضرر ولا شيء غير الضرر. ولم تطرح هذه المسألة في هذه القضية، وبالتالي فلا حاجة للاطناب في الحديث عنها في هذا التعليق.

ث.2. المسؤولية الجزائية للمحكم: سيف "دمقليس" البتار:

    قضت محكمة الإستئناف بباريس في 14 أكتوبر 2014 بادانة المحكـم الكنـدي هنـري (محكم وحيد في النزاع) جزائياً من أجل التدليس ومسك واستعمال مـدلس faux et usage de faux، وذلك بسبب تصريح بالاستقلالية لم تذكر فيه بعض المعطيـات التـي اعتبرتهاالمحكمـة ضروررية لإعلام الأطراف بحقيقة علاقاته بأحد الخصوم. وتتمثل وقائع القضية في أن هـذا المحكم عيّن في قضية لإجراء التحكيم في بربادوس، فصرح للأطراف بأنه خال من القوادح، كما ورد في هذا التصريح ما يلي:

     "I wish to disclose that a partner in my firm's Toronto office has represented Leucadia National Corporation in Canada in respect of Canadian based matters over a number of years. I understand that at present there are no matters in respect of which my firm is currently providing advice to Leucadia National Corporation".

    ثم ظهر الخلاف لاحقاً حول مدلول هذه العبارة وما إن كانت تعنـي حـسـب صـياغتها أن العلاقة كانت قائمة في الماضي وانتهت أم أنها تواصلت إلى ما بعد بـدء اجـراءات التحكـيم فأستندت المحكمة الى الجملة الأخيرة التي تشير بوضوح إلى أن زميل المحكم لـم يعـد يــدي خدماته الى الشركة الأم في تاريخ التصريح، في حين أن موقع شـركة المحامـاة الالكترونـي ومجلة Lexpert المتخصصة في مجال الأعمال والموجهة للمحامين، نشرت ما مفاده أن شـركة المحاماة المعنية ساعدت الشركة في بيع مساهمتها في منجم نحاس في ديسمبر 2010. غير اتضح لاحقاً أن ثلاثة من شركاء المحكم في المكتب سبق لهم تقديم المشورة للشركة الأم التـي تملك سلطة القرار في الشركة المحتكمة، وذلك في عملية ذات حجم مالي محدود.

   وقد استندت الشركة المعنية بالنزاع الى ذلك النقص في التصريح بالقوادح لترفـع شـكوى جزائية الى محكمة باريس سنة 2012 أحيل بموجبها الملف على قاضي التحقيق للتحري حـول شبهة ارتكاب المحكم جريمتي التدليس ومسك واستعمال مدلس طبق المادة 113-2 مـن مجلـة الاجراءات الجزائية التي تنص على ما يلي:

     Article 113-2 du Code de Procédure Pénale français: «Toute personne nommément visée par une plainte ou mise en cause par la victime peut être entendue comme témoin assisté. Lorsqu'elle comparaît devant le juge d'instruction, elle est obligatoirement entendue en cette qualité si elle en fait la demande si la personne est nommément visée par une plainte avec constitution de partie civile, elle est avisée de ce droit lorsqu'elle comparaît devant le juge d'instruction.

    Toute personne mise en cause par un témoin ou contre laquelle il existe des indices rendant vraisemblable qu'elle ait pu participer, comme auteur ou complice, à la commission des infractions dont le juge d'instruction est saisi peut être entendue comme témoin assisté ».

    وبموجب ذلك تمت دعوة المحكم للإدلاء بأفادته في القضية بصفة "شاهد متمتع بالمـساعدة" témoin assisté، وهي صفة بين صفتي الشاهد والمتهم .

   وهذا التتبع الجزائي هو الثالث من نوعه سنة 2013 الى جانب التتبـع الجز المحكمين في قضيتي "برنار تابي ضد الدولة الفرنسية" و"ألف ضد انترنفط" .

    وعلى الرغم من محدودية المصالح المالية المترتبة على تلك الاستشارة، ومـع أن علاقـة المحكم بالواقعة مصدر الإشكال تعتبر ضعيفة فقد اعتبرت محكمة الاسئناف بباريس أن المحكـم كان عليه أن يتوخى أقصى قدر من الشفافية لاعلام الأطراف بجميع ما من شأنه أن يثير شكوكاً مبررة حول حياديته واستقلاله، على أن يترك لهم بذلك سلطة تقدير مدى خطورة المؤشرات التي تظهر من التصريح أو جديتها، والنبش في حقيقتها وما ان كانت تخفي مـصالح أكثـر أهميـة. واستندت في ذلك الى أن مكتب المحاماة نفسه اعتمد الاستشارة المثيرة للاشـكـال فـي سياســته الاعلامية. ويتسق هذا القرار مع فقه القضاء المستقر لدى محكمة الاستئناف بباريس منـذ نـحـو عشرة أعوام، ولم يأخذ بعين الاعتبار كون المعلومة محل الاشكال منشورة على الشبكة العنكبوتية العالمية.

    وهكذا، ففي نظر محكمة الاستئناف بتونس ومحكمة الاستئناف ببـاريس، يطغـى واجـب الشفافية على واجب الاسترشاد، فالمحكم له المعلومة اليقينية حول علاقته بأحد الأطـراف ومـن اليسير عليه أن يصرح بها، وهو أمر ينبغي ترجيحه على فرضية قدرة الأطراف علـى القيـام بالبحوث اللازمة باستعمال الكلمات المفاتيح المناسبة للعثور على تلك المعلومة والتي قـد تكـون مشتتة أو تعرض على صفحات الواب بشكل غير دقيق أو مبهم. فالأطراف "لا يمكـن تحمـيلهم واجب البحث المتواصل في الانترنت وغيره من وسائل الاعلام طيلة مدة التحكيم" .

    ولا نبغي أن نخطىء في إعطاء قرار محكمة الاستئناف بباريس دلالة مبالغ فيها، لأنه لـم ينف واجب الاسترشاد ولم يعلن وأداه. فالمحكمة لاحظت أن المعطى المتمثل فـي أن الـشركة المتمسكة بالخلل هي التي اقترحت على خصيمتها تعيين المحكم الوحيـد، لا تـأثير لـه علـى المسؤولية، اذ يظل المحكم ملزماً بالتصريح. غير أن العبارة التي استعملتها تدل علـى وجـود استثناء – ولو كان محدوداً – للصورة التي يكون فيها القادح مشهوراً لدى الكافة، شرط أن تكون المعطيات عامة ويمكن النفاذ اليها بسهولة كبيرة. فقد جاء في القرار:

     "La circonstance que le nom de l'arbitre ait été proposé par AGI n'était pas de nature à le dispenser de son obligation d'information à l'égard de cette partie : que cette obligation doit s'apprécier au regard de la notoriété de la situation critiquée et de son incidence sur le jugement de l'arbitre".

    ولم تقتصر المحكمة على معاينة محدودية مبلغ الأتعاب التي تحصلت عليها شركة المحاماة، اذ لاحظت أن عملية بيع المساهمات في حد ذاتها كانت عملية ضخمة، وأن شركة المحاماة أعلنت على موقعها الالكتروني أنها ساهمت في اعطاء المشورة بشأنها، مما يدل على أهميـة العمليـة بالنسبة لها من الناحية الدعائية والترويجية على الأقل.

    وعلاوة على رفض منح الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي، قضت المحكمة بتغريم الشركات المستفيدة من الحكم بمبلغ هام وهو 200 ألف يورو بعنوان أتعاب التقاضي، وهو مبلغ من شـأنه أن يردع الأطراف المستفيدين والمحكمين الذين يتهاونون في التصريح بـالقوادح مهمـا كانـت التعلات التي يمكنهم الاعتذار بها. والأكيد أنه كلما رفع المشرع أو القاضي درجـات الاحتيــاط المطلوبة، جاءت هذه السياسات بنتائج ملموسة رغم كل الاحتجاجات والاعتراضـات والـتعلات الجاهزة سلفاً.

    ولا شك في أن هذا القرار، الى جانب قرار القضاء بوضع المحكم بيــار أسـتوب Pierre Estoup، القاضي السابق وعضو هيئة التحكيم في قضية برنار تابي ضد وزارة المالية الفرنسية، موضع الاتهام الجزائي وتقييد حريته mise en examen من أجل التحيل في اطـار عـصابة منظمة، من شأنه أن يذكر الجميع بأن استقلالية التحكيم الدولي لا تعني إطلاقاً أنه قضاء خارج عن تحكم السلطة العمومية وعن أيادي القضاء الجزائي. فهو يظل في كـل الأحـوال نـشاطاً خاصاً بمقابل يصنف كنشاط حر، لا يمنح أطرافه والمشاركين فيه أي حصانة.

خاتمة:

     ستظل مسألة حياد القضاة مستشكلة ومعقدة ومرتبطة بتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وبالنسبة للمحكمين، ستحتفظ مسألة التصريح بالقوادح بصعوبات التعامل معها بحكم عدم وضوح الحدود بين ما يعتبر تافهاً أو بسيطاً أو عادياً أو غير مؤثر، من جهة، وما يعتبر مبرراً للـشكوك الجدية في استقلالية المحكم وحياديته، من جهة أخرى. وستظل المناطق الرمادية مـسرحاً للمـد والجزر: ففي فترات ما، يضع القضاء الحد عالياً للتقليص من ألاعيـب المحكمـين والخـصوم، مستذكراً قول الإمام البوصيري في بردته الشهيرة:

       ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً         فأنت تعرف كيد الخصم والحكم

     ثم في فترة لاحقة، نجد أن القضاء يتراجع عن تشدده ويلين موقفه اذا ما لاحـظ أن موجـة التشدد أدت الى المساس بالحياة الخاصة وبسرية المعاملات وحملت المحكمين واجبات لا طاقـة لهم بها.

    ولا عجب في أن تتوخى محكمة الاستئناف بتونس منهج التشدد في ما يتعلـق بالتـصريح بالقوادح في مرحلة تتميز على الصعيد الداخلي بالحاجة الى تدعيم الثقة في التحكيم كآلية، وفـي المحكمين كأشخاص، وفي مؤسسات التحكيم، وحتى في مؤسسة القضاء العمومي نفسه، كما تتميز على الصعيد الداخلي بموجة تشدد في خصوص نفس المسألة بسبب تشعب المعاملات والعلاقات داخل السوق الاقتصادية، من ناحية أولى، وداخل مهنة المحاماة على وجه الخصوص، من ناحية أخرى.

    كما أن إبطال حكم تحكيمي صادر في ظل غرفة التجارة الدولية في بلد مثل تونس، لم يسبق أن أجريت فيه تحكيمات كثيرة في ظل مؤسسات تحكيم عالمية عملاقة، ولم يسبق فيه أن رفـض منح الصيغة التنفيذية إلا لعدد ضئيل جداً من أحكام التحكيم الدولي في هذه الربـوع. فالمحكمـة الفيدرالية السويسرية ظلت هي أيضاً لعشرات السنين لا تبطل من أحكام التحكيم إلا النزر القليل، كما لم تبطل أي حكم تحكيمي من أجل خرق النظام العام الموضوعي، إلا سنة 2011. وفـي فترة لاحقة للفترة التي صدر فيها قرار 10 ديسمبر 2010، افتتحت هذه المحكمة سنة 2014 بأن أبطلت حكماً تحكيمياً صادراً في ظل غرفة التجارة الدولية بسبب عدم احترام حقوق الدفاع.

    ويعتبر قرار 10 ديسمبر 2013 اختباراً جدياً لمحكمة الاستئناف بتونس أكدت مـن خـلالـه عزمها على مواصلة السير على نهج فقه قضائها السابق مع اثرائه باجتهادات القضاء الدولي وفي تناغم مع اجتهادات محاكم أكثر البلدان تجذراً من حيث تجربتها التحكيمية كفرنسا. ولا يعتبـر تشددها في مسألة التصريح بالقوادح وواجب الشفافية مفاجئاً بالنظر الى التيار الدولي فـي هـذا المجال، ولو أن هذا الخط يعيدنا ككل مرة الى النقاش حول حدود واجب التصريح، باعتبار أنـه ينبغي في مطلق الأحوال الوقوف به عند حد معين. وهذا الحد قد يصعب ضبطه بعبارات عامـة وفضفاضة، لكن عند تنزيلها على وقائع محددة فإن الأمر يكون مستشكلاً وقابلاً للرؤى المتعددة. كما لا نرى في هذا القرار بوضوح ما يدل على أن القضاة الذين أصدروه دققوا في مسألة اثبات زمن العلم بالعلاقة القائمة بين المحكم ومحامي الطرف الذي عينه، ولا في طبيعة تلك العلاقـة، وما قد يخفيه الاشتراك في الأنشطة الأكاديمية من مصالح مالية. وهذه الأمور تمثل نقاط ظل كان من الممكن توضيحها حتى يوازن القضاء التونسي بين واجب الشفافية المحمول علـى المحكـم وواجب اليقظة والتثبت المحمول على الأطراف، في حدوده الدنيا على الأقل. فلا يكفي أن يدعي طالب الإبطال أنه علم بالمعطى الذي يستند اليه في التجريح "بطريق الصدفة" و"بعد صدور حكم التحكيم" دون تقديم أي بيانات أخرى. فهو مطالب بشيء من الجديـة والأمانـة، وذلـك بـذكر ملابسات الصدفة التي ساقت اليه تلك المعلومة وزمن ورودها عليه. ذلك أنه في كثير من الأحيان تكون تلك المعلومة في حوزته منذ البداية ويتعمد الاحتفاظ بها الى نهاية التحكيم حتى يتسنى لـه طلب الإبطال لاحقاً إن صدر الحكم ضده، مخالفاً بذلك أحكام الفصل 50 من مجلة التحكيم .

   ومع جميع ما تقدم فان فضل قرار 10 ديسمبر 2013 التونسي وقرار 14 أكتوبر 2014 الفرنسي أنهما أوضحا الخيط الرفيع الحاسم، وهو أن واجـب التـصريح أرجـح مـن واجـب الاسترشاد، وهو نهج سليم في تقديرنا وفيه ضمان لعدم انحراف التحكيم عـن غاياتـه بتحميـل الأطراف ما لا يطيقون واعفاء المحكمين مما يطيقون.