الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25 / الرقابة القضائية على عقود الدولة التي تتضمن شرط تحكيم (مع تطبيق خاص لعقود البيع في إطار سياسة الخصخصة)

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    99

التفاصيل طباعة نسخ

 الفكرة المحورية:

   مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري، هو جهة القضاء التي تختص بمراقبة صـحة القـرارات الإدارية فيما يعرف بقضاء الإلغاء، كما يختص بنظر المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية.

    وإذا كان قاضي الإلغاء يتوسع في تقدير توافر شرط المصلحة والصفة لقبول دعوى الإلغاء، فإن قاضي العقد يتطلب توافر المصلحة الشخصية في مقيم الدعوى أمامه، وهي تتوافر أساساً في حق أطراف العلاقة العقدية. ومع ذلك فإنه، وإذ كان من المعلوم أن الإدارة قبل إبرام العقد تتخذ العديد من القرارات والإجراءات، ومنها تلك التي يعتبرها القضاء من القرارات المنفصلة actes détachables التي تقبل بشأنها دعوى الإلغاء متى توافرت في هذه الدعوى الصفة والمصلحة. ويثور الجدل في شأن ما يترتب من نتائج على الفصل في دعاوى الإلغاء هذه مـن آثـار علـى العملية التعاقدية ذاتها.

    وقد كانت ممارسة القاضي الإداري لإختصاصه في رقابة الإلغاء على ما قدره من القرارات المنفصلة المتصلة بعقود إدارية تتعلق ببيع وحدات إقتصادية تدخل في ملكية قطاع الأعمال العام - تطبيقاً لسياسة الخصخصة – مع ترتيب آثار قانونية، على ما رأى إلغاءه من قرارات سـاندت إبرام العقد، على صحة العقد ذاته في كل بنوده حتى ما كان من تلك البنود متعلقاً بشرط تحكـيم مثاراً لجدل فقهي، ، كما كانت مثاراً لمشكلات تكشفت عند الإقدام على التنفيذ العيني لمقتضاها. وبعض مما تقدم وإيضاحاً له هو موضوع ما يلي من عرض.

المبحث الأول:

   موقف القاضي الإداري حيال عقود الخصخصة: وأتناول بيان ذلك على النحو الآتي، فأبـدأ بالإلماح الى المناخ الإداري والتشريعي الذي أحاط تطبيق سياسة الخصخصة خـلال تـسعينيات القرن الماضي، ثم أتناول بالعرض الموجز أول الأحكام التي صـدرت عـن محكمـة القـضاء الإداري، وهو بجلسة 7 من مايو سنة 2011 في قضية بيع شركة "عمر أفنـدي"، والـذي تـأيـد بالحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا بجلسة الأول من أغسطس سنة 2013، وأصبح مفـاد الحكمين منهجاً جرت على هديه الأحكام الصادرة إعتباراً من هذا التاريخ؟

أولاً- حفلت سنوات تسعينيات القرن الماضي بتغيرات جوهرية رتبت لهـا الـسلطة المجالين التشريعي والإداري.

   1- فقد بدأت الحكومة خلال هذه الفترة في التخلي عن وحدات إقتصادية تتملكها الدولـة - في ظل أحكام دستور سنة 1971 الذي كان إشتراكي الطابع على نحو ما كانت تكشف عنه العديد من أحكامه التي منها ما تنص عليه المادة (4) من أن الأساس الإقتـصـادي للدولة هو النظام الإشتراكي، كما كانت المادة (30)، قبل تعديلها إعتباراً من 26 مارس سنة 2007، تنص على أن "الملكية العامة هي ملكية الشعب وتتأكد بالـدعم المـستمر للقطاع العام ويقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية"، وأن "للملكية العامة حرمة وحمايتها ودعمها واجب على كل مـواطن وفقاً للقانون بإعتبارها سنداً لقوة الوطن وأساساً للنظام الإشتراكي ومـصدراً لرفاهيـة الشعب". (المادة 33 قبل تعديلها في مارس 2007).

وكان هذا النهج الحكومي تطبيقاً لسياسة الخصخصة التي جرى التمهيد لهـا بإصـدار القانون رقم 203 لسنة 1991 بإصدار قانون شركات قطاع الأعمال العام، وقـد أريـد بإصدار القانون أن يكون إطاراً قانونياً يساند عمليات الخصخصة التـي كـان يجـري التخطيط لإجرائها، على نحو ما يكشف عنه ما أورده "دليل توسيع ملكية القطاع العـام" الصادر عن المكتب الفني لقطاع الأعمال العام بمجلس الوزراء في فبراير سنة 1993 والدليل الآخر الصادر سنة 1996، فيكشف الدليلان عن إتجاه الحكومـة الـى تحقيـق أمرين؛ طرح بعض الأصول العامة للبيع وإعادة هيكلة بعض الشركات العامة تمهيـداً لجذب مستثمرين لشرائها.

2- وإذ أثيرت شبهة عدم دستورية منهج التخلي عن مفهوم القطاع العام وإجازة التخلي عن وحداته، بعد تسميتها بمسمى آخر هو شركات قطاع الأعمال العام بمقتضى أحكام قانون شركات قطاع الأعمال العام، فقد تصدت المحكمة الدستورية العليا للفصل في شبهة عدم الدستورية وقضت بجلسة الأول من فبراير سنة 1997 (القضية رقم 7 لسنة 16 قضائية دستورية) برفض الطعن بعدم دستورية قانون شركات قطاع الأعمال العـام الـصـادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 على أسس يتحصل بيانها في "أن النصوص الدستورية لا يجوز تفسيرها بإعتبارها حلاً نهائياً ودائماً لأوضاع إقتصادية جاوز الزمن حقائقها"، بل "يتعين فهمها في ضوء قيم أعلى غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسياً واقتصادياً"، وأنه على ذلك فلا يجوز "قهر النصوص الدستورية وإخضاعها لفلسفة بذاتها يعـارض تطويعها لآفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها فلا يكون الدستور كافلاً لها بل حـائلاً دون ضمانها".

3- ورغم صدور حكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه، فقد ذهب رأى في الفقه الـى التشكيك في إتفاق أحكام قانون شركات قطاع الأعمال العام مع أحكـام دسـتور سـنة 21991، كما استمر تيار في الرأي العام في معارضة الإتجاه الحكومي في تطبيق نظام الخصخصة. وقد أوضح الدكتور مختار خطـاب الـوزير المكلف بتطبيـق سياسـة الخصخصة في ذلك الوقت، أن من المعوقات التي واجهت تطبيق هذه السياسة مقاومـة الرأي العام ؛ خاصة في ضوء ما كان يتداول من معلومات عن ضغوط تمارس علـى الحكومة للإسراع في بيع القطاع العام كشرط لتوقيع الإتفاق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي".

4- ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يجـري الإعـداد لتشريع يمهـد لتطبيـق سياسـة الخصخصة،  وهو قانون شركات قطاع الأعمال العام، في تعاصر مـع إعـداد قـانون للتحكيم في المواد المدنية والتجارية ينظم على وجه الخصوص ما يعتبر تحكيماً تجارياً وما يعتبر في مفهومه تحكيماً دولياً، وهو ما صدر به القانون رقم 27 لسنة 1994.

ومن اليسير إدراك الصلة بين القانونين، فكلاهما إستهدف، على مـا قـدره المـشرع، تشجيع الإستثمار، وعلى الأخص الأجنبي منه. فعلى سبيل المثال، تضمنت المـذكرة الإيضاحية لقانون التحكيم أنه يعد تشريعاً مكملاً لأحكام قانون الإستثمار على أساس أن المستثمر "يهمه ويطمئنه أن يجد عند قيام النزاع للفصل فيه قضاء يسير على القواعـد والأصول التي استقرت في المعاملات التجارية الدولية"، وهذا المعنى هـو مـا أكـده مندوب الحكومة أمام مجلس الشعب أثناء مناقشته مشروع القانون، حيث قرر سيادته أن المستثمر الأجنبي الذي يريد أن يستثمر في مصر لا يطمئن "إلا إذا أمـسـك فـي يـده بأمرين؛ إختيار القانون الذي يطبق على الموضوع الذي يستثمر فيـه وثانيـاً غيـر القانون- إختيار القضاة الذين يحكمون بينه وبين زميله في الدولة النامية التي تستفيد من تدخله"؟

وعلى أي حال فقد ثار الجدال عما إذا كان "قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية" وهي التسمية التي صدر بها القانون رقم 27 لسنة 1994، مما تسري أحكامـه علـى العقود الإدارية وهي عقود تدخل في الإختصاص القضائي لمحـاكم مجلـس الدولـة. وحسماً للأمر فقد أصدر المشرع تعديلاً على أحكام القانون تضمنه القانون رقم 9 لسنة 1997، بإضافة فقرة جديدة الى نص المادة (1) من قانون التحكيم مفادها تطلب موافقة الوزير المختص على الإتفاق على التحكيم في العقود الإدارية. وفـي تقـديري فـإن القاضي الإداري إستمر، رغم صدور القانون رقم 9 لسنة 1997، في قلقه حول مـدى جواز التحكيم في منازعات العقود الإدارية بالنظر الى ما تتفرد بـه مـن خـصوصية إتصالها بسير المرافق العامة في مختلف صورها ضمانا لحسن سير هذه المرافق مـع مراعاة الحفاظ على التوازن المالي في تنفيذ العقود، وكل ذلك من الأمور التي يـهـيمن على صحة مراعاتها قاضي العقد الإداري. ولعل أن بالغ حرص قاضي العقـد الإداري على مراعاة الإعتبارات الخاصة لطبيعة العقد الإداري، مما يـصلح تفسيراً لبعض الإتجاهات القضائية الصادرة في شأن التحكيم في منازعات العقود الإدارية.

5- ومن محصلة ما سبق يمكن، في إستخلاص سائغ، القول بأن الحكومة كانت تمهد لبيـع وحدات القطاع العام بأن أصدرت، في تعاصر، قانون قطاع الأعمال العام الذي أعتبـر الشركات التي ينظم أحكامها من أشخاص القانون الخاص مما يمكن التصرف فيه، كما أصدرت قانون التحكيم بناء على رؤية مفادها أن المستثمر، الذي كان يـراد التمهيـد لإجتذابه الى السوق الإقتصادية المصرية، لا يرضى إلا بالتحكيم سبيلاً لحل ما قد ينشأ عن إستثماره من منازعات على نحو ما سبق إيضاحه.

   ثانياً- إستعراض الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري ، المؤيد من المحكمة الإدارية العليا، في شأن إلغاء القرار الصادر من المجموعة الوزارية للسياسات الإقتصادية بتاريخ 25 من سبتمبر سنة 2006 بالموافقة على بيع 90% من أسهم شركة "عمر أفندي" الـي شـركة أنـوال المتحدة للتجارة، مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها بطلان عقد البيع المبرم بـيـن الـشركة القابضة للتجارة وكل من شركة أنوال المتحدة للتجارة وجميل عبدالرحمن القنبيط وبطلان شـرط التحكيم الوارد في المادة عشرين من العقد مع إسترداد الأصول المسلمة للمشتري وإعادة العاملين الى سابق أوضاعهم الوظيفية.

    ويمكن إيجاز ما قام عليه الحكم، على الأخص فيما أنتهى إليه من بطلان شـرط التحكـيم على النحو الآتي:

1- أنه يتعين التمييز بين العقد الذي تبرمه الجهة الإدارية وبين الإجراءات السابقة التمهيدية لإبرام العقد، حيث تدخل هذه الإجراءات في رقابة المشروعية التي يجريهـا قاضـي الإلغاء.

2- أن عقد البيع، محل الدعوى، قامت به الشركة القابضة للتجارة – التي تعتبر طبقاً لقانون قطاع الأعمال العام من أشخاص القانون الخاص – نيابة عن الحكومة، وبالتـالـي فـإن القرارات والإجراءات السابقة على إبرام العقد تعتبر في حقيقتها قرارات إدارية تخضع معه لرقابة قاضي الإلغاء.

3- إستظهر الحكم صدور القرار بالبيع بالمخالفة للضوابط والأسـس المقـررة، وأن هـذه المخالفات من شأنها أن تنحدر بالعقد الى درك البطلان المطلق. وقد جاء تعبير الحكـم بأن "المخالفات التي شابت القرار الطعين وجعلته معدوماً، ومن حيث جاء العقد المبـرم بين الشركة القابضة للتجارة بصفتها مفوضة من وزير الإستثمار في إجـراءات البيـع وبين المستثمر السعودي بشخصه وبصفته باطلاً بطلاناً مطلقاً".

4- وعن إمتداد أثر بطلان العقد الى شرط التحكيم الوارد فيه، أورد الحكم أنه ولئن كان من المستقر استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي، وهو ما قننه حكم المـادة (23) مـن قانون التحكيم الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، إلا أنه يتعين، علـى مـا أورده الحكم، التفرقة بين العقد المدني والعقد الإداري الذي تلزم بشأنه موافقة الوزير المختص على قبول التحكيم. وهذه الموافقة وجوبية يترتب على تخلفها بطلان الشرط ذاته. وقـد إستظهر الحكم الأهمية الخاصة، وبالتالي ترتيب الآثار على الموافقـة، مـن حـرص المشرع على النص على الحظر الصريح للتفويض بالإختصاص في هذا الشأن.

5- وفي إستطراد للحكم، ”Obiter dicta“ فقد تعرض لمدى إمكانية التجـاء المـستثمر المتعاقد للتحكيم، وإنتهى إلى عدم الإمكانية. ففي إطار تطبيق أحكـام إتفـاق التعـاون الإقتصادي والتجاري والإستثماري والفني بين حكومتي مـصر والمملكـة العربيـة السعودية الموقع بالرياض بتاريخ 1990/3/13، والذي صدر به القرار بقـانون رقـم 208 لسنة 1990، فإنه إذ لم يتضمن الإتفاق تحديداً لأسلوب فـض المنازعـات بـين المستثمر والدولة المضيفة، فمن ثم يكون القضاء الوطني هو صاحب الإختصاص بنظر المنازعات الناشئة بين رعايا أي من الدولتين والدولة المضيفة، كل ذلك فضلاً عـن أن المتعاقد، في واقع المنازعة، يفتقد صفة المستثمر الحق الذي "يسهم في تنمية المجتمـع الذي يستثمر أمواله فيه ويعمل على النهوض بالمشروع المكلف بتنميته وتطويره". كما تعرض الحكم لمدى إمكانية التجاء المتعاقد الى مركـز التحكـيم الـدولي بواشنطن (ICSID)، حيث أورد عدم إمكانية ذلك لسببين أولهما يلخص في أن من شروط قبول الدعوى أمام المركز وجود إتفاق بين أطراف التعاقد على قبول إختـصاص المركـز، الأمر غير المتحقق في واقع المنازعة، وثانيهما ما استقرت عليه الأحكام الصادرة مـن هيئات التحكيم في إطار المركز من أن العقد المتحصل عليه بطريق الفساد يكون غيـر جدير بالحماية الدولية المقررة للإستثمارات الأجنبية لما يشوبه مـن مخالفـة للنظـام الدولي .

6- وإذ تأيد الحكم محل التعليق بالحكم الصادر مـن المحكمـة الإداريـة العليـا بجلـسة 2013/8/1، وتواتر صدور أحكام قضائية بذات المضمون، فقـد نـشـأ تـصادم بـين مقتضيات إحترام حجية الأحكام القضائية التي هي في أعلـى مراتـب النظـام العـام والتطبيق الحقيقي لمفهوم خضوع الدولة للقانون، وبين واقع عملي تبين حـال الإقـدام على التنفيذ العيني للحكم بعد سنوات، طالت أو قصرت، من إبرام عقود البيـع. وهـذا التصادم ومحاولة إيجاد الحلول لتجاوزه في إطار من إحترام حجية الأحكام في ضـوء الواقع الفعلي هو ما يتناوله المبحث التالي.

   المبحث الثاني: مواقف الإدارة والمشرع لمعالجة آثار الإتجاه القضائي الذي أنتهجه مجلس الدولة بشأن تطبيق سياسة الخصخصة.

    أولاً- موقف الإدارة حيال معوقات تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في شأن البطلان الـذي شاب بعض عقود التصرف في وحدات قطاع الأعمال العام.

1- وإذ كانت الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري في شأن بطـلان عقـود بيـع وحدات تابعة لقطاع الأعمال العام، في إطار تطبيق سياسة الخصخصة، هـي واجبـة النفاذ، على نحو ما ورد بمنطوقها؛ ولما كانت الأحكام التي توالی صدورها مـن تلـك المحكمة قد رتبت آثاراً بعينها خصتها بالذكر في منطوقها، ومن ذلـك، علـى سـبيل المثال، عودة الأصول مطهرة من أي حقوق عينية، وأيضاً عودة العاملين الى الخدمة، فقد كان لزاماً على الحكومة تنفيذ هذه الأحكام، ليس فقط بإعتبار ذلك تطبيقاً صحيحاً للإلتزام بحجية الحكم، وإنما أيضاً تفادياً لعقوبة جنائية ترتبها المادة (2/123) من قانون العقوبات على كل موظف يمتنع عمداً عن تنفيذ حكم قضائي، تصل الى الحكم بـالحبس والعزل.

2- وإزاء ما كان من واقع نشأ بعد إبرام العقد وبين صدور الأحكام القضائية ببطلانه، أدى في كثير من الأحيان الى إستحالة التنفيذ العيني لتلـك الأحكـام علـى نـحـو مـا ورد بمنطوقها، فقد طلبت الحكومة من الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع إبداء الرأي عن الوجه الصحيح للتصرف في ضوء الرغبة الصادقة في الإلتزام بالحجية أمام واقع قد يستحيل معه إعمال مقتضى الحجية عيناً.

3- ومن ذلك ما كان من طلب الحكومة الرأي من الجمعيـة العموميـة لقـسمي الفتـوى والتشريع بشأن كيفية التنفيذ الصحيح للحكم الصادر في شأن إلغاء القرار بإدراج شركة النيل لحليج الأقطان على قوائم البيع ضمن برنامج الخصخصة. وقد إنتهى رأي الجمعية العمومية بجلسة 18 من يونيو سنة 2014 إلى أنه ولئن كان تنفيذ الأحكـام القـضائية واجبة النفاذ هو التزام لا يجوز التحلل منه بإعتبار الأحكام المشار إليها حجة على مـا فصلت فيه من حقوق فلا يجوز قول ينقض هذه الحجية، إلا أنـه قـد تبـين للجمعيـة العمومية إستحالة رد الشركة بجميع أصولها وممتلكاتها وفروعها مطهرة، مما تم عليها من تصرفات الى الدولة، إذ أن الشركة تم بيعها بالكامل بموجب القرار المقضي بإلغائه من خلال طرح أسهمها في بورصة الأوراق المالية خلال عامي 1997 و1998 وجرت عمليات بيع وشراء لأسهمها فاقت المليون عملية منذ سنة 1997 حتى 2011، مما من شأنه أن يرتب حقوقاً لحائزي الأسهم حسني النية فضلاً عن أن شركة أخرى إنـدمجت بها، فأصبح للمساهمين في الشركة المندمجة حقوق تحول دون إمكانية المـساس بهـا قانوناً. وقد رتبت الجمعية العمومية، على ما سبق، أن الإلتزام بـالرد العينـي، تنفيـذاً للحكم، يتحول الى التزام بأداء تعويض تستأديه الدولة من شركة النيل لحليج الأقطـان دون أن يكون في ذلك إخلال بقوة الأمر المقضي على أن يقدر التعويض بقيمة الضرر وقت صدور الحكم به أو الإتفاق الذي يتم في شأنه.

     ومما يذكر أن ما انتهت إليه الجمعية العمومية يتفق مع ما إنتهى إليه القضاء الإداري فـي فرنسا وفي مصر في شأن أثر إستحالة التنفيذ العيني للأحكام الصادرة بالإلغاء، بـل إن هنـاك إتجاهاً قضائياً في فرنسا ذهب الى إسباغ الإختصاص لقاضي الإلغاء في تحديد الآثار المترتبـة على الحكم دون التقيد بالمنطق المجرد للأثر الكاشف لحكم الإلغاء، تغليباً للإعتبارات العملية التي قد تتوافر في الواقع. وليس ما يمنع، في تقديري، من إتباع هذا المسلك في مصر، إذ قد يكـون ذلك أدنى الى تحقيق مفهوم العدالة في جوهره الحقيقي، حتى وإن كان ذلك بالتجاوز عن نظريات جامدة قد يحيل التمسك بها إلى ما من شأنه المساس بهذا الجوهر.

ثانياً- المعالجة التشريعية: وتتحصل فيما يلي:

   1- طلب السيد وزير التجارة والصناعة والإستثمار بتـاريخ 2014/4/8 مراجعـة قـسم التشريع بمجلس الدولة لمشروع قانون بشأن بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة. وفي رده بتاريخ 2014/4/12 أوضح القسم ما يلي: أ- أن الأسباب التي تـدعو الـى إصدار القانون تتحصل في رغبة الدولة في استعادة الثقة في العقـود التـي تبرمهـا الوزارات وغيرها من وحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة والـشركات التي تساهم فيها الدولة. ب- أن الأصل في التشريعات المنظمة لحق التقاضي إشـتراط توافر الصفة والمصلحة كشرط لقبول الدعوى، وعلى ذلك فلا يقوم مانع في القانون من إصدار التشريع المقترح، المتضمن إقتصار حق الطعن على العقود التي تبرمها الدولـة وغيرها من الأشخاص الإعتبارية التي عددها الإقتراح على طرفي العلاقة العقديـة، خاصة وقد "إستشرت في المرحلة الأخيرة ظاهرة التعسف في إستعمال حق التقاضـي وهو ما يهدد المجتمع كله في حالة إستطالة هذه الظاهرة الى ما يلحق الضرر البـالغ بالأنشطة الإجتماعية والإقتصادية سواء الإستثمارية أو الصناعية أو السياحية". ج- كما أشار القسم الى أنه ليس في الإقتراح ما يتعارض وحكم في الدستور، خاصة وقد عدل المشرع الدستوري في المادة (34) من دستور سنة 2014 عن الحكم الخاص بوجـوب حماية المواطنين لهذه الملكية العامة، وهو الحكم الذي كان قد ورد فيه نص المادة (33) من دستور سنة 1971، والذي كان مما إستندت إليه الأحكام القضائية التي استخلـصت من هذا النص أنه يكفي توافر صفة المواطنة حتى تقبل دعوى الإلغاء التـ قراراً تأسيساً على مساسه بالملكية العامة إهداراً أو إنتقاصاً.

2- وبالفعل فقد صدر القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014 بتنظيم بعض إجـراءات الطعـن على عقود الدولة. وقد تضمن في المادة الأولى منه قصر حق "الطعن ببطلان العقـود التي تبرمها الدولة، أو أحد أجهزتها من وزارات ومصالح وأجهزة لها موازنات خاصة ووحدات الإدارية المحلية والهيئات والمؤسسات العامة والشركات التي تمتلكها الدولة أو تساهم فيها أو الطعن بإلغاء القرارات أو الإجراءات التي أبرمت هذه العقود إستناداً لها، وكذلك قرارات تخصيص العقارات، من أطراف التعاقد دون غيرهم، وذلك ما لم يكـن قد صدر حكم بات بإدانة طرفي التعاقد أو أحدهما في جريمة من جرائم المـال العـام المنصوص عليها في البابين الثالث والرابع من الكتاب الثاني من قـانون المرافعـات، وكان العقد قد تم إبرامه بناء على تلك الجريمة".

3- وفي تطور لاحق طلب مجلس الوزراء بتاريخ 2014/9/25 من قسم التشريع بمجلـس الدولة مراجعة إقتراح إضافة فقرة الى عجز عبارة المادة الأولى من القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014 تجري عبارتها بالآتي "لا يجوز تحريك الدعوى الجنائية في ما يتعلـق بالعقود والقرارات المشار إليها إلا بناء على إذن مجلس الوزراء".

4- كما أعدت لجنة الأمن القومي المنبثقة من اللجنة العليا للإصلاح التشريعي مـشـروع قانون بتعديل بعض أحكام القرار بقانون رقم 32 لـسنة 2014، وتضمن المشروع إضافة فقرة الى كل من المادتين الأولى والثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014. ويجري النص المقترح إضافته إلى المادة الأولى بما يأتي "ولا يجوز تحريك الـدعوى الجنائية في ما يتعلق بالعقود والقرارات والإجراءات المشار إليها إعتبارا مـن تـاريخ العمل بهذه الفقرة، إلا بناء على إذن كتابي من مجلس الوزراء". كمـا تجـري عبـارة النص المقترح إضافته إلى المادة الثانية بما يأتي "وفي حالة وجـود إسـتحالة يقـدرها مجلس الوزراء تحول دون تنفيذ الأحكام القضائية الباتة تنفيذاً عينياً فيتم التنفيـذ عـن طريق التعويض، ويعتبر من قبيل إستحالة التنفيذ أن تكون النتائج الإقتصادية المترتبـة على التنفيذ العيني لا تتناسب والخسائر التي تعود على الدولة".

5- أن المعالجة الإدارية والتشريعية قد تتطلب إبتداء أو بالأقل بالتوازي مع ما يرى إتخاذه من إجراءات أو إصداره من تشريعات، التوفر على دراسة أسباب الأحكام، خاصة فيما تناولته من مسلك إداري كشف للمحكمة عن نواحي قـصـور أدت الـى الوقـوع فـي المخالفات التي أورد الحكم أنها شابت الإجراءات. فأحد أمرين، أما أن تكون القواعـد والنظم المقررة مما لا يحقق المصلحة العامة، فيتعين في هذا الفرض تعديل هذه الـنظم بما يحقق هذه المصلحة، وإما أن يكون المسلك الإداري للقائمين على التصرف إتصف بمخالفة النظم واللوائح وهذا يتعين، مع المساءلة، وضع النظم التي تكفل عـدم إمكـان تكرار هذه المخالفات.

6- وقد يكون في إتباع أسلوب يتصف بالشفافية التي يتعين أن تكـون أساسـاً لتـصرف الجهات الإدارية، مع إتاحة حق المواطنين في المعرفة، وهو ما أصبح مـن الحقـوق الأساسية للمواطن، ما يعتبر ضمانة حقيقية لمحاصرة أوجه الفساد. وفي هذا الصدد فقد كان المشرع الفرنسي سباقا الى تنظيم الحق في الإطلاع على الوثائق الإداريـة بـدءا بالقانون الصادر في 1978/7/17 المكمـل بقـانون 1979/7/11 وإنتهـاء بقـانون 2000/4/12. ومفاد أحكام هذه القوانين تقرير وكفالة حق الإطـلاع علـى الوثـائق الإدارية. ويقوم التنظيم على أنه فيما عدا ما تم إستثنى من القاعدة العامة بإتاحـة حـق الإطلاع، فإن السلطات الإدارية تلزم بإطلاع الأفراد على ما يتوافر لديها مـن وثـائق متى طلبوا ذلك، شريطة ألا تتجاوز الطلبات الحدود المعقولة. وضماناً لتفعيل الحق في الإطلاع فقد نص القانون على تشكيل لجنة تختص بمراقبة كفالة الحق بحيـث يكـون اللجوء إليها وصدور قرارها شرطا لقبول الدعوى أمام القاضي الإداري حال حجب هذا الحق عن الأفراد.

ملاحظات ختامية: ودون الخوض في تقييم للرؤية الإدارية والمنهج التشريعي الـذي إتبعـه المشرع سواء في القانون رقم (32) لسنة 2014 أو في مقترحات تعديلـه، فإنـه يمكـن إبـداء الملاحظات العامة الآتية:

   أ- أنه ولئن كانت الأحكام التي أثارت صعوبات في تنفيذها تتعلق أساساً بعقود أبرمت فـي إطار سياسة الخصخصة، إلا أن رد الفعل التشريعي إنصرف الى تنظيم أحكام تتعلـق بكل العقود التي تبرمها مختلف أجهزة الدولة بما فيها أيضاً الشركات التي تساهم فيهـا، بحيث يحظر قبول الدعوى ببطلان العقد أو بطلب إلغاء القرارات والإجراءات السابقة علیه، متى ساندت إبرامه إلا من أطراف العقد، كما يسري هذا الحظر على القـرارات الصادرة بتخصيص العقارات.

   ب- أن مفاد حكم المادة الأولى من القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014 هو قصر حق الطعن على القرارات والإجراءات التي أبرمت العقود إستناداً إليها، إلا من أطـراف العلاقـة العقدية. وبالنظر الى إمكانية تعدد القرارات والإجراءات السابقة على إبرام العقد، فقـد يقوم صالح خاص لفرد في النعي على قرار أو إجراء، في مرحلة سابقة علـى إبـرام العقد، فيبادر بالطعن على القرار أو الإجراء قبل إبرام التعاقد فعلاً. ومن صور مثلاً إستبعاد عطاء من مناقصة لسبب أو آخر، أو إستبعاد مقدم عطاء دون وجه حـق، فيثور التساؤل عما إذا كانت إقامة الدعوى بطلب إلغاء مثل هذه القرارات السابقة على ذلـك التعاقد، قبل إتمام التعاقد فعلاً مما ينسحب عليها الحظر فيقضي بعدم القبول، رغـم أن ب الدعوى كانت مقبولة قبل إبرام العقد.

ج- ولعل أن إتجاه مجلس الوزراء في الإستعانة برأي جهة الإفتاء الأولى، وهي الجمعيـة العمومية لقسمي الفتوى والتشريعي لبيان كيفية تنفيذ الأحكام القضائية التي قـد يلتـبس على جهة الإدارة كيفية تنفيذها، مما يتفق مع صحيح الإلتزام بحكم الدستور الذي يقـيم من سيادة القانون والخضوع لأحكام القضاء أساساً لقيام دولة القانون، هـو المـسلك الجدير بالتقدير. وعلى ذلك فقد تبدو التعديلات المقترح إدخالها على أحكام القانون رقم 32 لسنة 2014، مما يستحق التأني في تقدير مدى ملاءمة الأخذ بها وتوقيت ذلك.