الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25 / القضاء المصري وبطلان أحكام التحكيم إطلالة على المرتكزات القانونية لأحكام محكمة استئناف القاهرة

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 25
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    89

التفاصيل طباعة نسخ

مدخل ضروري:

    في هذه الورقة سنركز على الأطر القانونية الكلية المؤسسة لأحكام محكمة استئناف القاهرة فـي ما يتعلق بدعاوى بطلان أحكام التحكيم، أي أننا سوف نعرض عددا من المبادئ التحكيمية المحوريـة التي تعتنقها محكمة استئناف القاهرة وتتحرك في إطارها لتبرير تحليلاتها والمنطق القانوني لما قضت به في شأن بطلان أحكام التحكيم". وتتمثل الفرضية الأساسية في المسائل التي سوف نعرض لها، في فكرة مؤداها تفرد أسلوب التحكيم كنظام قانونی "عالمي" ذاتي يملك طبيعته وخصائصه المتميزة ولـو قليلا عن القضاء، وهو ما يعطي قواعده، هي الأخرى، معانيها المتفردة المتفقة مع أغراضه.

1- التحكيم أداة جوهرية من أدوات مجتمع السوق الكونية:

    لا شك في أن قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 ساير الاتجاهات الحديثة للتحكيم -السائدة وقت صدوره- متبنيا في ذلك قواعد قانون اليونـسترال "النمـوذجي". أورد المـشرع التحكيمي عددا من المواد التقريرية والتوجيهية أراد بها في الأساس تثبيـت الملامـح الهيكليـة (الإستراتيجية) لنظام التحكيم في مفهومه القائم على الصعيد الدولي أي بوصفه طريقـاً خاصـاً ومتخصصاً لفض المنازعات الاقتصادية، يجري اختياره وتيسير إجراءاته وفقاً لقواعد ارتـضاها أطرافه. وواضح أن المشرع راعي أن للتحكيم خصوصياته وخصائصه التي من أبرزهـا أنـه يستنكف عن الخضوع للقضاء، ذلك أن مجرد الاتفاق على التحكيم يعني رغبة أطرافه مقدماً في البعد عن قضاء الدولة –كل دولة- وتحقيق عدالة تحكيمية مرنة. ويمكن القول أن التحكيم صار حقيقة ملحة وأمراً واقعاً وجزءاً لا يتجزأ من مجتمع السوق "الكوني"، وأداة جوهرية من أدواته.

2- للتحكيم ضوابط ومعايير قانونية مشتركة على الصعيد الدولي (ضوابط ذات صبغة تحكيمية ومعايير دولية):

    كان لانطلاق التحكيم وسيطرته على منازعات التجارة الدولية الفضل في إبراز العديد مـن أفكاره وضوابطه ذات الصبغة الدولية المشتركة، وقد تم إدماجها (الجانب الأكبر منها) بـشكل أو آخر في الأنظمة القانونية الوطنية على اختلافها. للتحكيم أسسه الواقعية التي تتفق ومنبته الحديث أي باعتباره ثمرة من ثمار السوق وركناً من كيانه. لذلك يجب أن نسلم بداية أن للتحكيم مبادئـه ومعانيه المميزة التي تتسق وطبيعته وأطره وتركيباته.

   قطع التحكيم شوطاً بعيداً في طريق إرساء العديد من مفاهيمـه القانونيـة، ذات الاعتبـار التطبيقي العالمي (مقاييس دولية معاصرة)، لا ينبغي على القضاء الوطني إهدارها، بل عليـه أن يوثق صلته بها، لأنها تعكس وتستلهم مقتضيات التطور المتلاحق الحاصل فـي نطـاق مجتمـع التجارة ومزاجه الغالب. الحاصل أن الفكر القانوني –مع اعتبار اختلاف المرجعيات- يعمل بجهد نحو الوصول إلى صياغات وتفاسير قانونية "تحكيمية" وإرساء فهم مشترك لمجموعة من القواعد الرئيسية التي يقوم عليها كل تحكيم، بحيث يتعين الاستئناس بها أو التعويل عليها عند التطبيق - بالرغم من اختلاف وتباين النظم القانونية الوطنية- بحسبانها قواعد عرفيـة دوليـة أو سـوابق تحكيمية معترف بها أو لأنها تندرج في نطاق فكرة العدل. سعي المجتمع الدولي إلـى إيجـاد تفسيرات موحدة في الشأن التحكيمي أمراً لا يحتاج إلى بيان.

3- خضوع التحكيم لقواعد قانونية تحكيمية:

    والذي يتعين الالتفات إليه أن القواعد التي يخضع لها التحكيم هي قواعد قانونية تحكيميـة، بمعنى أنها قواعد مستمدة من متطلبات البيئة التي يعمل ويتحرك فيها. فالنصوص التحكيمية تملك دلالات تحكيمية متميزة تهيمن عليها فكرة حماية مصالح مجتمع السوق وتفعيل مبدأ سلطان إرادة الأطراف المحتكمين وحماية توقعاتهم القانونية المشروعة. هذا الأمر يستتبع فهم الضوابط الواردة في النصوص التحكيمية بشكل تقديري (فهم مخصوص) مختلف عن مثيلتها التي تحكـم العمـل القضائي. فنصوص التحكيم -ذات الطبيعة المرنة- إنما تفسر عند استنباط أحكامهـا بـافتراض اتصال معانيها وترابطها، وإنها لا تنعزل عن خصوصية نظام التحكيم وبما يكفل إزالـة شـبهة تعارضها ومقوماته أو أهدافه. معاني النصوص التحكيمية قد تكون مختلفة –ولـو قـلـيـلاً- مفاهيمها أو مضامينها أو حدودها عن مثيلتها المطبقة في شأن الخـصومة القضائية؟. قـانون التحكيم لا يحقق مراميه إلا بفهم وتفسير نصوصه وتطبيقها في ضوء الأطـر العامـة للتحكـيم، ووفقاً لمفاهيمه الخاصة، وفي ضوء طبيعته الاتفاقية. المبادئ المطبقة علـى الـساحة العالميـة تشارك مجتمعة في البناء القانوني لنظام التحكيم كأسلوب متفرد للفصل فـي منازعـات الـسوق وروابطه الاقتصادية.

4- ثقافة التحكيم واحتياجاته تختلف عن أسس النظام القضائي وضروراته:

     اختلاف فكرة التحكيم ولو قليلاً عن فكرة القضاء، لازمه أن لا تكون حلول التحكيم تقليـدا محضا للحلول المتبعة في الشأن القضائي، فقد تكون القاعدة التحكيمية مشابهة أو مماثلة لقاعـدة من قواعد قانون الإجراءات القضائية، ومع ذلك يكون لكل منها مضموناً مستقلاً أو فهماً مختلفـاً أو مدلولاً مغايراً. فعلى عكس الحال في التحكيم، فإن الأصل في النصوص القضائية أنها تحتوي على ضوابط آمرة لا مهرب منها، فيصير تفسيرها تفسيراً جامداً شكلياً رتيباً". أما نشأة التحكـيم وثقافته واحتياجاته فهي مختلفة عن أسس النظام القضائي وضروراته، ومرجعية القضاء ومزاياه ليست هي مرجعية التحكيم ومزاياه (أو نقائصه). يملك التحكيم روحه التجارية الاتفاقية ومحيطه القانوني المتصل بمصالح حيوية واقتصادية واجتماعية وسياسية، تهم كل دولة في مجتمع السوق المفتوحة، وهي مصالح يرمي كل مشرع وطني إلى تأكيدها وحمايتها؟. باختصار يعتبر التحكـيم في ثوبه العصري جزءاً من منظومة السوق الدولية -عنصر أصيل مـن مكوناتهـا- لا يمكـن إنكاره أو إغفاله أو إهدار معانيه أو استخدامه على وجه يعطل المقاصد العامة للمجتمع الدولي.

5- تميز التحكيم بقواعده المكملة المرنة، وهي سمة من سمات نظام التحكيم:

    بالنظر إلى طبيعة التحكيم وخصائصه وحقيقة مراميه وصبغته العالمية، نجد أنه ينفـر مـن القواعد القانونية الجامدة المقيدة. لذلك يضحي من المفيد، بل من المطلوب أن تصطبغ القواعـد التشريعية التي تتناوله في جملتها بمرونة الصياغة. فمن طبيعة النصوص التشريعية الجامـدة "الخشنة" أن تضفي على المادة التي تحتويها ثباتاً نسبياً. مثل هذا الثبات التشريعي يتنافى ونظـام التحكيم ذاته، بل أنه يظلمه، فرغم الاتفاق على طبيعة التحكيم ومناخـه وأركانـه أو معطياتـه الأولية لا يزال -على الصعيد العالمي- في حالة تكوين ذاتي بالنسبة للعديد من قواعده وأيـضاً بالنسبة لتحديد الكثير من المفاهيم القانونية المرتبطة به والواجب أخذها في الاعتبـار وإتباعهـا (مرحلة سيولة تحكيمية جاري تجاوز الكثير منها).

    فدائماً ما يواجه التحكيم في الممارسة العملية -على اتساعها- حالات مـستجدة وفـروض متنوعة، بحيث يترك شأنها والتصدي لها لتحليلات هيئات التحكيم واجتهاد الفقه وأحكام القضاء، وباضطراد العمل بالقاعدة أو المعيار أو التفسير أو التوضيح التفصيلي (استخلاص معاني الألفاظ والمصطلحات التحكيمية) بصورة متكررة معتادة داخل مجتمع وبيئة السوق حتى الوصول إلـى استقرار ورجحان واضح للحلول المتبعة (بعد تلاقي الآراء والأفكار وتفاعلها) رغـم اخــتلاف القوانين المحلية بما في ذلك نصوصها التي تتناول الشأن التحكيمي وبغض النظر عن التفسير أو التطبيق المحلي الخاص بكل بلد.

    نصوص التشريعات التي تتناول التحكيم في كل بلد بها قدر كبير من المرونة التي يسعها نظام التحكيم وأصوله الاتفاقية وخصومته المتفردة، لذلك فالملاحظ أن النصوص التحكيمية هـي في عمومها قواعد احتياطية، مفسرة أو مكملة لسد ما يحتمل أن يفوت الأطراف الاتفاق عليه عند تنظيم شؤون تحكيمهم.

6- قانون التحكيم هو قانون المرافعات التحكيمية:

    يعد قانون التحكيم المصري بمثابة قانون المرافعات بالنسبة لشؤون التحكيم أو هو "قـانون الإجراءات التحكيمية" بحسبانه متضمناً القواعد الإجرائية الهيكلية المنظمة للتحكيم، بدايـة مـن الاتفاق عليه حتى الأمر بتنفيذه، وذلك في مقابل قانون المرافعات القضائية الـذي هـو قـانون الإجراءات المدنية والتجارية الذي يتعلق أساساً بالسلطة القضائية واللصيق بقضاء الدولة- فلكـل قانون منهما محله ومجاله وغرضه وأيضاً قيوده. فكما إن للقضاء سلطانه فإن للتحكيم هو الآخر سلطانه، كل في مجاله وبحسب معاييره الخاصة به، ولكل فضله وشرعيته.

    ونشير بشكل مبدئي إلى أنه يمكن أن يرجع إلى قانون المرافعات القضائية "بوصفه القـانون العام في الإجراءات" لتفسير ما غمض من أحكام قانون التحكيم أو لسد ما نقص فيه. بـشرط أن يكون مناط هذا الرجوع مناسباً ومقبولاً وكافلاً لأهداف التحكيم (تسمح بـه متطلباتــه ولـيـس إعناتا، وأن يراعي بدقة (بحرص زائد) احترام خصوصية الخصومة التحكيمية وعدم إنكارهـا، فهذه الخصوصية لا تتغير طبائعها ولا يتهاون في حدودها الدنيا، خاصة فـي مجـال الدولي.

7- في مسألة الربط بين نص قانون المرافعات القضائية -عند ضرورة اللجوء إليـه وبـين الوسط التحكيمي:

   إتصالاً بالفقرة السابقة، فالذي يمكن فهمه أن الإجـراءات التحكيميـة، وإن كانـت تتـأثر بالضرورة بالمبادئ الإجرائية العامة في القوانين الإجرائية، خاصة قانون المرافعات القـضائية، فإن الأخذ بمضمون هذه المبادئ في الشأن التحكيمي -عند لزوم ذلك- لا يكون بالدرجة نفسها أو بالمفهوم ذاته الذي تطبق فيه على إجراءات الخصومة أمام القضاء، فالأمر مختلف، وذلك لسبب جوهري، هو أن القاعدة في نظام التحكيم هي حرية الإجراء وليس شكليته، فالمبدأ في خصومة التحكيم يقرر "أن أحدا لا يلزم بدون رضاه" والاتفاقات متنوعة ومتغيرة .. على الجملة فإن الشكل الإجرائي في خصومة التحكيم ليس دائما أمراً جوهرياً، لأن قواعد التحكيم ترمي وفي الأسـاس إلى تنظيم حماية "خاصة" لحقوق "خاصة" للمحتكمين في مجال معاملاتهم التجارية "الخاصة".

8- موجهات تفسير القواعد الحاكمة للتحكيم:

    في كل الأحوال فهناك مسافة بين الطبيعة الخاصة للخصومة في التحكيم وبـين مجموعـة القواعد المنظمة للخصومة أمام القضاء، وأيضاً بين المهمة التحكيمية وبين الوظيفـة القـضائية. لذلك فعند تفسير القواعد المنظمة للتحكيم -خاصة تلك الواسعة الفضفاضة التي تقتضيها طبيعته- يتعين مراعاة التباين بين البيئة التحكيمية القائمة في الأساس على الاتفاق والاختيـار والمرتكـزة على حرية النشاط الاقتصادي وسرعة الإجراءات وفعاليتها، وبين البيئة القضائية الجامدة المبنية على الخضوع لقواعد عامة مجردة ملزمة لا يجوز معارضتها باتفاقات فردية.

   على خلاف التحكيم، فالتشريعات المتصلة بقضاء الدولة في مجموعها تتصل بسلطة عامـة من سلطات الدولة، لأن الحماية القضائية (أهدافها وإجراءاتها وضوابطها) هي تاريخياً وسيادياً وظيفة من وظائف الدولة. وعلى الرغم من أنه لا يمكن الفصل تماماً بين نظام القـضاء ونظـام التحكيم، فإن الاتجاه الشائع الذي يسبغ على التحكيم طبيعة قضائية يسبب كثيرا من من الخلط في شأن المسائل التحكمية، وقد يؤدي إلى نتائج غير صحيحة أو يوصلنا إلى حلول ضبابية مفرطـة فـي عموميتها مفتقرة إلى الوضوح والتحديد. صار من غير المقبول اعتبار القضاء أصلاً والتحكـيم استثناء.

9- التزام القضاء بحماية الحقوق التحكيمية وضمان فاعليتها:

    بحسب القواعد الأصولية، فإنه إذا كان النص التشريعي يحتمل أكثر من معنى وقام القضاء بترجيح معنى على الآخر فهو لا يفعل أكثر من تفسير النص والكشف عن مضمونه، ولأن تفسير القانون أمر لازم لتطبيقه على الواقع المطروح، لذلك فإن تفسير النص القانوني يعد من صـميم عمل القضاة، وكل حكم هو في حقيقته (في نهاية الأمر) رأياً خاصاً وتقديراً شخصياً لمن أصدره ولو كان منقولاً عن أراء كبار "أهل الذكر". تفسير النص التشريعي بوجه عـام يعنـي توضـيـح الغموض الذي يحتويه أو تحديد محتواه ونطاقه أو شروطه أو إزالة ما به من لبس، وغالبـاً مـا يكون الغرض الرئيسي من التفسير هو اكتشاف قصد المشرع. لذلك فإن الطبيعة الخاصة للتحكيم تستلزم أن تفسر قواعده (المرنة والمتسقة وطبيعته الاتفاقية) بما يتفق والهدف المأمول من اللجوء إليه والأغراض التشريعية المقصودة، أي البحث عن الغايات المقصودة من النص مـن داخـل الفلسفة التشريعية التي تحكم نظام التحكيم وعناصره الأولية. والقضاء ملزم هنا (عند تفسير ومن ثم تطبيق القاعدة التحكيمية) بحماية الحقوق التحكيمية وضمان فاعليتها. بدون ذلك يفقد التحكـيم مبررات وجوده .

10- ليس للقضاء اقتحام المجال الحيوي للتحكيم:

   وعلى ذلك، فإن تدخل القضاء في مسائل التحكيم يتبلور في الأساس، بقراءة التحكـيـم مـن خلال كونه تحكيماً، أي بمنطق وعين التحكيم، وليس بعين القضاء ومنطقـه المحـافظ الرتيـب. والتعامل معه بحسبانه أسلوباً متفرداً يعظم مبدأ سلطان الإرادة، يقوم على تحقيق إرادة الأطراف (أعراف وعادات وأساليب مجتمع التجار) في حسم نزاعهم بعيدا عـن محـاكم الدولـة، وأنـه ضرورة للعيش في المجتمع التجاري في كل دولة، فكل دولة مرتبطة بغيرها بمعاملات وروابـط حيوية.

    ولازم ذلك ومقتضاه، يصير من غير المسموح به أن تنزلـق سـلطة تفسير النصوص التحكيمية –أياً كانت هذه السلطة- إلى ما يتصادم وطبيعة التحكيم أو اقتحام المجال الحيوي الذي يؤكد فعاليته حسب المقاييس الدولية المعاصرة، باتخاذ التفسيرات والاجتهادات القضائية المحليـة ذريعة لتعطيل مصالح التجارة وإفراغ اتفاق التحكيم في جوانبه التطبيقية- من جوهر خصائصه وتقيده بما ينال منه أو يحول دون إنفاذ محتواه. وهذا الأمر وثيق الصلة بحريات الأشخاص فـي التعاقد، فالحق في التحكيم يفترض ابتداء وبداهة تمكين كل من أطرافه من إعمال مضمون اتفاقهم على التحكيم –بشروطه الرضائية- إعمالاً ميسراً لا تحول دونـه أو تثقلـه عوائـق إجرائيـة "قضائية"، بحيث يفقد الاتفاق على التحكيم من الناحية العملية قيمته، لأنه يكون حينـذاك عـصياً على التنفيذ الميسر أو معلقا –في حقيقة الأمر - على محض إرادة الطـرف المتعنـت صـاحب الموقف القانوني الضعيف .

11- حكم التحكيم هو نوع من الأحكام قائم بذاته (هو حكـم بـالمعنى الإجرائـي، ذو طبيعـة وخصائص تحكيمية):

    بالنظر إلى خصوصية التحكيم، بحسبانه نظاماً قانونياً مغايراً للقضاء لا يتفرع عنه ولـيـس استثناء منه، فإن المشرع لم يعامل حكم التحكيم المعاملة التي يعامل بها الحكـم القـضائي، لأن الحكم الذي يصدره المحكم يعد حكماً تحكيمياً خالصاً له خصائصه الذاتية، وإن اشـتبـه بـالحكم القضائي، فهما غير متساويين. وحكم التحكيم لا يصدر في دعوى أو خصومة قضائية، بل فـي دعوى أو قضية تحكيمية، وعن هيئة تحكيم اختارها الأطراف خارج نطاق القضاء، فلا يـصدر حكم التحكيم عن محـاكم الدولة ولا باسمها. كما أنه يصدر طبقا لإجـراءات تحكيميـة ولـيس إعمالاً لإجراءات قضائية. لذلك فحكم التحكيم هو نوع من الأحكام قائم بذاتـه، يقابـل الحكـم القضائي باعتباره نوعا آخر قائم بذاته. وبالتالي يخضع حكم التحكيم لنظامه التحكيمـي الخـاص المتميز عن الحكم القضائي. ومع ذلك فكلاهما يخضع للمبادئ العامة للحكم الإجرائي على نحـو يلائم الطبيعة الخاصة لكل منهما. بوضوح فحكم التحكيم هو حكم بالمعنى الإجرائي، ذو طبيعـة وخصائص قانونية تحكيمية.

12- آلية إبطال حكم التحكيم في النظام القانوني المصري:

    تميز التحكيم عن العمل القضائي هو أساس تغاير النظام الإجرائي لتعييب أحكام التحكيم عن النظام المتبع في شأن تعييب أحكام القضاء. هذا التغاير يجد صداه لدى الأنظمة القانونية المقارنة، ومنها قانون التحكيم المصري. فحتى لا يهدر المشرع متطلبات التحكيم والغاية المقصودة منـه، فإن القانون في مصر لا يعرف سوى طريق وحيدة للطعن في أحكام التحكيم هي دعوى الإبطال، أو الطعن ببطلان حكم التحكيم بطريق الدعوى المبتدأة. في كل الأحوال، لا تعتبر دعوى البطلان هذه امتداداً للخصومة التي كانت مطروحة أمام التحكيم، كما أنها لا تهدف إلى تقويم المعوج من أحكام التحكيم وإبرام الصحيح منها، بل إنها ترمي بوجه عام إلى الحفاظ علـى نزاهـة العمليـة التحكيمية.

    في تقديرنا أن أسباب بطلان حكم التحكيم غير محددة حصراً في قانون التحكيم أي أنه يمكن الاستناد في البطلان لأسباب أخرى غير تلك المبينة في المادة 53 منه، على أن تكـون أسـباباً جوهرية تتعلق بخصومة التحكيم كعمل إجرائي تحكيمي، كما لو أثبت المدعي بالبطلان أن هيئـة التحكيم جاوزت أو خالفت قاعدة إجرائية أساسية، وأن هذه المخالفة أو ذلك التجاوز كان "واضحاً وخطيرا" ومؤثراً في نتيجة حكم التحكيم.

13- في نطاق دعوى البطلان:

    على العموم لا تستطيع محكمة الإبطال استبدال وجهة نظر المحكم بوجهة نظرها، عليها فقط أن تقرر ما إذا كان حكم التحكيم المطعون فيه باطلاً، إلا في الأحوال الخصوصية المبينـة فـي القانون (المادة 53 أو في كل حالة يكون فيها الحكم بحسبانه عملا إجرائيا تحكيميا باطلا) والتـي تدور في جوهرها حول التثبت أو عدم التثبت من أن الحكم أنطوى على عورات إجرائية تجـافي العدالة بصورة واضحة ملموسة من عدمه، بمعنى البحث في توافر المفترضات الضرورية لإقامة العدالة في الخصومة التحكيمية.

    ومن حق جهة البطلان –إذا ما اقتضى الأمر ذلك- استظهار العناصر الواقعيـة بمراجعـة ظاهر المستندات التي سبق طرحها على هيئة التحكيم، وتملك جهة البطلان كذلك البحث الظاهري في عناصر القانون التي طبقها المحكم في دعوى التحكيم، وذلك فقط بالقدر الذي يسمح له بتقدير وجود المخالفة سبب البطلان أو عدم وجودها، أي لكي تتمكن من الكشف عن ان وجود المخالفة المنسوبة لحكم التحكيم هي مخالفة جوهرية (أساسية) وملموسة بشكل جلي .

كلمة أخيرة:

   السبب في ازدهار التحكيم –كظاهرة قانونية كونية- هو حريته، هـذه الحرية تتطلب فـي المقام الأول إبعاد محاكم الدولة قدر الإمكان عن التحكيم وعن الحلول الجاهزة المعول بها فـي الشأن القضائي التي تشرب وتقيد بها القضاء –كل قضاء- ونشأ عليها. ينبغي على القـضاء ألا ينظر إلى مسائل التحكيم من منطلق محافظ، أي باعتباره خطراً على المصلحة الوطنيـة وافتأتـاً على النظام القضائي وعدالة المحاكم. على القضاء أن يمارس دوراً خلاقاً فـي إرسـاء مبـادئ التحكيم،، فلا يقتصر على التفسير الحرفي أو التطبيق الجامد (الخشن أو الصلب أو المـصمت) للنصوص التي تتناول التحكيم الوطني أو الدولي، وبحيث لا يفتئت هو على العملية التحكيمية بما يهدر حقوق الأطراف والمصالح المرتبطة بنظام التحكيم، خاصة أن المشرع المصري لم يفـرق كثيراً بين التحكيمات الأجنبية أو الدولية والتحكيم الوطني الداخلي.