الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 24 / التحكيم في العقود الادارية الدولية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 24
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    219

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

    إن اتجاه الدول الى نهج سياسة الخصخصة والتحرر من قيود التجارة الدوليـة، أدى فـي السنوات الأخيرة الى ارتفاع معدلات التبادل التجاري بين الدول، مما يتعين عليه نشوء نزاعـات بين أطراف العلاقة القانونية، وبالتالي كان لابد من وجود وسيلة أكثر قبولا لدى اطـراف العقـد لفض تلك النزاعات.

فالمستثمر الأجنبي، على سبيل المثال في الوقت الراهن، وقبل اقدامه على الاستثمار في أي دولة معينة، يدرس قوانين تلك الدولة، ويبحث في مدى ملاءمتها لحقوقه، وضـماناتها، ومـدى خضوعه لقوانينها الداخلية، ومدى سرعة أو بطء اجراءات التقاضي على المستوى الداخلي للدولة المضيفة للاستثمار"، هذه المراحل قد تدفع بالمستثمر الى اختيار التحكيم وسيلة لفض المنازعات التي قد تنشب بينه وبين الطرف الآخر المتمثل بالدولة المضيفة للاستثمار. فقد ارتبط التحكيم في السنوات الاخيرة بفكرة التنمية الاقتصادية وبجذب الاستثمارات الأجنبية، وقد اتسع نطاق الأخـذ بنظام التحكيم، حيث تعدى العقود التجارية الى عقود التنمية الاقتصادية سواء كانت عقوداً مدنيـة أم ادارية.

   وعقود الدولة الادارية ذات الطابع الدولي، وهي العقود التي تبرم بين الدولة أو من يعمـل لحسابها أو باسمها، ومشروع خاص أجنبي، يكون موضوعه استغلال ثروة طبيعية أو اقامة منشأة صناعية بهدف التنمية لأجل طويل. ومن أشهر هذه العقود عقد التشييد، وعقد الاستثمار، والتنمية.

    ولعل أبرز صورة لهذه العقود الادارية ذات الطابع الدولي هو عقد "البوت"، حيث أنه مـن الخصائص الأساسية لهذا العقد أنه يشرك القطاع الخاص في خدمات القطاع العام، ويؤمن للدولة الأساليب التي تحقق لها التوازن المالي من دون أن تلجأ الى فرض المزيد من الضرائب، وذلـك عن طريق منح شركات القطاع الخاص المتخصصة امتيازات، وفقاً لأصول ينص عليها الدستور والقوانين، من أجل تنفيذ بعض الأعمال والمشاريع التي هي أساساً من وصائف القطـاع العـام، كإنشاء المطارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمناطق الحرة وسواها على أن تمـول الـشركات الخاصة هذه المشاريع بأموالها الخاصة، من دون ارهاق الميزانية العامة للدولة وتكليـف الادارة العامة بأية نفقات، وعلى أن تؤمن الشركات الخاصة نفقاتهـا وتحقـق أرباحهـا مـن خـدمات المشروع.

    ولا شك في أن مشكلة التحكيم ومدى جوازه قد أثيرت في عقود الدولة ذات الطابع الدولي، حيث تبرم الدولة اتفاقاً مع طرف خاص أجنبي يتمتع بالشخصية القانونية، ويقصد بهذا الاتفـاق تحقيق التنمية الاقتصادية، ذلك أنه عادة ما تكون الدول النامية مضطرة لإبـرام هـذا الاتفـاق لحاجتها الى استقدام رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية لتحقيق التنمية، لذلك يصر الطـرف الأجنبي على تضمين العقد شرط التحكيم لفض المنازعات التي يمكن أن تنشأ مستقبلاً، لاستبعاد اختصاص محاكم الدولة من نظر ما قد ينشأ من منازعات، وبالتالي استبعاد تطبيق قانون الدولـة المتعاقدة.

    والتحكيم يعد أمراً حتمياً بالنسبة الى هذه الطائفة من عقود الدولة، وفـي مقابـل اصـرار الطرف الأجنبي في العقد على اللجوء الى التحكيم، لذا أثير التساؤل عن مدى جواز التحكيم فـي العقود الادارية الدولية؟ ومدى جواز لجوء الأشخاص المعنوية العامة في تلك العقـود اليـه؟ أو بعبارة أخرى ما مدى جواز التحكيم في العقود الادارية ذات الطابع الدولي؟

مبحث تمهيدي: تعريف التحكيم وصوره وأنواعه

   استعمل التحكيم وسيلة لحل المنازعات الدولية قبل القضاء، فقد عرف اليونـان والرومـان التحكيم، كبديل للحرب، ويفهم أن التحكيم وسيلة سلمية، كما عرفت القـرون الوسـطـى حـالات الالتجاء الى التحكيم، وكان التحكيم في تلك العصور يتم بالتجاء الدول المتنازعة الـي شخـصية كبيرة أو الى رئيس ديني لكي يفصل في النزاع. واستعمل التحكيم بعد ذلك عندما أخذت الـدول تتفهم الامتيازات التي يمكن أن تنتج من استعماله، فتدارسته الدول في مؤتمري لاهـاي اللـذين انعقدا سنة 1899 و1907، وقدعرف التحكيم في المؤتمر الثاني بكونه وسيلة لحـل المنازعـات بواسطة قضاة تختارهم الدول المتنازعة، هذا الحل على أساس احترام القوانين.

المطلب الأول: تعريف التحكيم

   يعرف التحكيم لغة من مادة حكم وحكم، بتشديد الكاف، تعني طلب الحكم ممن يتم الاحتكـام اليه، ويسمى الحكم، بفتح الحاء والكاف، أو المحكم، بضم الميم وفتح الحـاء والكـاف مـشددة. ويقصد بالتحكيم في الاصطلاح القانوني: اتفاق أطراف علاقة قانونية سواء أكانت عقدية أم غير عقدية، على الفصل في المنازعة التي تثار بينهم بالفعل أو التي يحتمل أن تثـور، عـن طـريـق أشخاص يتم اختيارهم كمحكمين.

   كما عرفت المادة 27 من اتفاقية لاهاي رقـم 1 لـسنة 1907 الخاصـة بالحـل الـسلمي للمنازعات الدولية التحكيم، بالآتي: "التحكيم الدولي يهدف الى حل المنازعات بين الدول بواسطة قضاة يختارونهم على أساس احترام القانون".

    كما عرف الفقه التحكيم بأنه رغبة الطرفين في عدم عرض النزاع على القضاء المدني في الدولة ورغبة الأطراف في اقامة محكمة خاصة بهم يختارونها بأنفسهم ويحددون لها موضـوع النزاع، والقانون الذي يحكم نزاعهم. فالمحكم ليس قاضياً مفروضاً على الطرفين، وانما هو قاض مختار بواسطتهم.

المطلب الثاني: صور التحكيم

     قد يحرر الأطراف وثيقة أو اتفاقاً مستقلاً، في إحالة ما قد يثور بينهم من نزاعات بمناسـبة العقد الأصلي الى التحكيم، وقد يتفقون على ذلك قبل حدوث أي خلاف بينهم، فيرد اتفاقهم في هذه الحالة في شكل شرط او بند من بنود العقد أو الاتفاق الذي ينظم علاقـتهم الأصـلية، والقاسـم المشترك بين الصورتين، أن الاتفاق على التحكيم له طابع التحسب للمستقبل، ويسمى هذا الاتفاق في صورته بشرط التحكيم، ويجوز للأطراف الانتظار، فاذا ما شجر نزاع بين الطرفين أحـالوه الى التحكيم، ويسمى هذا الاتفاق مشارطة أو وثيقة التحكيم.

    ويعني اتفاق الأطراف على الالتجاء الى التحكيم، سواء أخذ شكل شرط أو مشارطة تحكـيم اتجاه الارادة المشتركة للأطراف الى ترتيب أثرين قانونيين هما:

   سلب اختصاص قضاء الدولة، الذي كان يتحتم طرح النزاع عليه، وقبول الأطراف طواعية، وعلى نحو نهائي قرار التحكيم الذي يصدره المحكم أو المحكمون.

المطلب الثالث: أنواع التحكيم

   ينقسم التحكيم الى عدة أنواع، فمن حيث الزاميته ينقسم الى تحكيم اختياري وتحكيم اجباري، ومن حيث الجهة التي تتولى الفصل في النزاع ينقسم الى: تحكيم حر وتحكيم مؤسـسـاتي، ومـن حيث مكانه ينقسم الى تحكيم وطني ودولي.  

    حيث يعتبر التحكيم اختياريا، وهو الغالب في منازعات التجارة الدولية، وذلك لأنـه يكفـل تحقيق الثقة للأطراف، وهو عصب هذه التجارة.

    ويجب التفرقة بين التحكيم الاختياري والتحكيم الاجباري المفروض على الأطراف، حيث لا يكون لإرادة الأطراف أي تدخل في اللجوء اليه، وذلك لطابع الالزامية فيه، بحيث اذا لـم يلجـأ الطرفان الى التحكيم يعتبر تصرفهما مخالفا للقانون ويمكن الطعن فيه وفقا للقانون .

   وهناك نوع آخر من التحكيم وهو التحكيم الحر، حيث يختار فيه أطراف النزاع المحكمـين دون التقيد بنظام دائم، على غرار التحكيم المؤسسي الذي تتولاه منظمات دولية أو وطنية قائمـة، وتطبـق في شأنه قواعد واجراءات محددة وموضوعة سلفاً من قبل اتفاقيات دولية أو القرارات المنـشئة لهـا ولوائح هذه الهيئات تكون واجبة التطبيق بمجرد اختيار الأطراف هذه الهيئة للفصل في النزاع.

    أما التحكيم من حيث المكان المقام فيه فينقسم الى تحكيم وطني وتحكـيم دولـى، فـالتحكيم الوطني هو التحكيم الذي تكون كل مقوماته أو عناصره منحصرة في دولة معينة مثل محل اقامة طرفي النزاع، والقانون الواجب التطبيق ومكان انعقاد التحكيم.

   وعندما تتعدى هذه العناصر حدود الدولة فالتحكيم هنا غير وطني أو بمعنـى آخـر يعتبـر تحكيماً أجنبياً أو دولياً، مثلما اذا كان أطراف النزاع ينتمون بجنسيتهم الى دولة واحـدة، وكـان نزاعهم يتعلق بمشروعات أو أموال موجودة في دولة أخرى.

    ففي ميدان العقود الدولية ان التحكيم الدولي الذي يحمل فيه المحكم الثالث جنسية مختلفة عن جنسية الطرفين المتعاقدين أمر مرغوب فيه طالما أنه يحقق ضمان الاستقلالية والحيـاد، الا أن هذا الخيار لا يمكن تحقيقه دائماً.

المبحث الثاني: التحكيم في العقود الادارية الدولية

   ان العقود الادارية ذات الطابع الدولي، تعد أداة تسيير ووسيلة للمبـادلات الاقتصادية عبـر الحدود، ولا سيما في مجال التجارة الدولية، وتتنوع هذه العقود بتنوع موضـوعاتها، فهنـاك العقـود الدولية التقليدية، كعقد البيع الدولي، وعقد التأمين، وعقد النقل، وعقد العمل. وبتطور قوانين الاستثمار والتنمية الاقتصادية، ظهرت عقود أخرى لها وزنها الاقتصادي والقـانوني مثـل عقـود الأشـغال والتجهيز، والتوريد.. الخ، وتعد العلاقة دولية، عندما تكون الغاية من هذه العلاقـة تحريـك بعـض القواعد القانونية، التي أعدت خصيصاً لحكم العلاقات الدولية، لترتبط بأنظمة قانونية أخرى، وتتعــدى القانون الداخلي، فيكون اسباغ الصفة الدولية، على التحكيم بالاستناد الى الطبيعة الدولية لذلك النزاع، مثل عقود الاستثمار، التي تعد عقوداً ادارية دولية نتيجة لتوافر العنصر الأجنبي في العقـد، والـذي يمثل المعيار القانوني، واتصال العقد بمصالح التجارة الدولية، والذي يمثل العنصر الاقتصادي.

    ان ظهور الدولة طرفا في التحكيم يضفي صبغة خاصة على العملية التحكيمية بدءاً بتـاريخ ابرام اتفاق التحكيم ومروراً بالإجراءات، وحتى وقت الاعتراف بالحكم وتنفيذه. وقد ثار خـلاف في الفقه والقضاء، حول مدى جواز لجوء الدولة والأشخاص المعنوية العامة الى التحكيم لفـض نزاع مع طرف أجنبي، مستندين في موقفهم الى بعض الحجج، يتمثل أهمها بأن لجوء الدولة الى التحكيم مع طرف أجنبي متعاقد معها يتعارض مع مبدأ سيادة الدولة، كما يتعارض مع اختصاص القضاء الإداري للدولة، ويشكل اعتداء على اختصاصه، إلا أن هناك رأياً آخر يرى أن اللجـوء الى التحكيم هو فكرة سديدة لا تتماشي وهذه الحجج، مستندا في ذلك الى عدم وجود نص قانوني يرفص فكرة اللجوء الى التحكيم في العقود الادارية ذات الطابع الدولي .

المطلب الأول: عدم جواز التحكيم في العقود الادارية الدولية

    ذهب هذا الرأي الى عدم جواز التحكيم في العقود الادارية ذات الطابع الدولي استناداً الـي عدة حجج أهمها:

أولاً- التحكيم يتعارض مع سيادة الدولة:

    تنهض هذه الحجة على أساسين، يتمثل الأساس الأول في أن التحكيم يعتبر في حقيقته سلب لاختصاص القضاء الوطني الذي هو مظهر أساسي من مظاهر سيادتها، فان كان مقبولاً بالنـسبة الى منازعات الأفراد، فلا يجوز للدولة، اذ يعتبر ماساً بهذه السيادة.

فالسيادة هي سلطة عليا داخل الدولة، لا يمكن خضوعها لأحد، أو أن تعلوها سلطة مـا، اذ تعتبر السيادة العنصر الجوهري في تكوين الشخصية الاعتبارية للدولة، بحيث تتميز السيادة بـأن لها طابعاً خارجياً، بحيث لا تخضع في علاقاتها الخارجية لأي طرف أجنبي، ولجوء الدولة الـى التحكيم في مجال العقود الادارية الدولية التي تبرمها مع طرف أجنبي، غالباً ما يثيـر احتمـال تطبيق قانون أجنبي على العلاقة العقدية، فتتردد الدول في غالب الأحيان في اللجوء الى التحكيم، خاصة دول العالم الثالث، وبالذات في ما يتعلق بعقود استغلال الثروات الطبيعية، ولاشك في أن ذلك راجع الى التاريخ الطويل، للاستعمار في هذه الدول، وما رافقه من نهب لثرواتها، وتقريـر الامتيازات للأطراف الأجنبية فيها، لذا تسعى بعض الدول النامية لتجنب مثل بعض هذه الأمور، المتمثلة في استغلال الأطراف الأجنبية المتعاقد معها من شرط التحكيم.

    وفي الحقيقة أن الاحتجاج بسيادة الدولة في هذا المجال ليس أمراً مطلقاً، بحيث مـع التـسليم بأن التحكيم يعتبر في حقيقته سلباً لاختصاص قضاء الدولة، الا أن ذلك لا يكون الا بمقتضى قانون يسمح به داخل الدولة المتعاقدة مع الطرف الأجنبي، ومن ناحية أخرى، أنه مـن مزايـا التحكـيم اختيار الأطراف المتعاقدة للقانون الواجب التطبيق على محل النزاع، وقد تتجه ارادة الأطراف الى اختيار القانون الوطني للدولة المتعاقدة في مرحلة ابرام العقد، خاصة من جانب الأشخاص العامـة، وللطرف الثاني الأجنبي حق القبول أو الرفض، وهذا لا يتعارض مع مبدأ سيادة الدولة.

ثانياً- التحكيم في العقود الدولية يعتبر اعتداء على اختصاص القضاء الاداري:

    تأتي في مقدمة مبررات الالتجاء الى التحكيم الدولي، وهي رغبة أطراف العلاقة القانونية في تفادي طرح نزاعهم على القضاء المختص، لما تتسم به اجراءات التقاضي من بطء وتعقيد، علاوة على احتمال اطالة أمد النزاع بسبب درجات التقاضي، وامكانية الطعن في الأحكام، فـالمحكم لـه الحرية في اختيار القانون الذي يراه مناسباً ومعبراً عن الارادة الضمنية للأطراف، فبالنسبة لعقـود التجارة الدولية، أو عقود الاستثمار، فالأطراف فيها ينتمون في الغالب الى جنسيات مختلفة وأنظمة قانونية مختلفة، تجعل من الصعب خضوع الطرف الأجنبي، للقاضي الإداري للدولة المتعاقـدة . لهذا يلجأ الأطراف الى التحكيم، الذي يؤدي بالتالي الى سلب ولاية القضاء الاداري للدولـة، لأن التحكيم يتركز على مبدأ سلطان الارادة. لذا يجب على الدولة أن تهيمن علـى تنظــم اجـراءات التحكيم، خاصة في الدول النامية، التي تمثل الطرف الضعيف في العلاقات التجارية الدولية.

   فالاختصاص القضائي يتمتع بقوة الزامية ولا يمكن مخالفته اتفاقياً، ويجب أن ترفع منازعات القانون العام الى القضاء الإداري، وبالتالي يحظر على أطراف النزاع في عقود الدولة الادارية، أن يرفع النزاع باختيارهم الى جهة أخرى، تدخل في اختصاص القضاء الاداري. وهو الـذي يختص بمنازعات الدولة، عن طريق مجلس الدولة.

 

    فهجران الدولة قضائها الاداري لصالح التحكيم، هو نزول الى مرتبة في التقاضي أقل مرتبة من القاضي الاداري، الذي ينفذ أحكام القانون الاداري، ويضمن الحقوق، وبالتالي تصبح الضمانة ذات دور أكبر وأخطر حين تكون الدولة او أحد الأشخاص المعنوية العامة طرفـاً فـى النزاع، لذا ما زال الطرف الأجنبي يشترط ادراج شرط التحكيم في عقود الدولـة، لاعتقـاده أن السلطة القضائية ليس لها الاستقلال الكافي في مواجهة السلطة السياسية، وكذلك الاعتقاد بغيـاب المحاكم المختصة التي لا تتوافر لها الدراية الكافية بشؤون هذه العقود.

المطلب الثاني: جواز التحكيم في العقود الادارية الدولية

   صار للتحكيم دور مهم في الفصل في المنازعات التي يمكن أن تثار في العقـود الاداريـة الدولية، على مختلف صورها. فالدولة المضيفة للاستثمار ترى أنه ليس من الأوفق اللجوء الـى قضائها الوطني في منازعات الاستثمار، لأن ذلك يؤدي الى صـدور حكـم لـصالحها، وذلـك يتعارض مع مصالح المستثمر الأجنبي، ويؤدي الى تخوفه وعدم الاقدام على الاستثمار في مثـل هذه الدولة. وقد اتخذت مبادرات عديدة على المستويين الوطني والدولي، لدعم كفـاءة التحكـيم والترغيب فيه كوسيلة لتسوية منازعات التجارة الدولية، وأنه أصـبح القاضـي الطبيعـي لـهـذا المجال، مما جعل المتعاملين في اطار العلاقات الدولية، يفضلون التحكيم على قضاء الدولـة، وذلك لسرعة الاجراءات وسرية المعاملات، ولما أضحى انتقال رؤوس الأموال من قطـر الـى قطر آخر، سمة العصر الحديث، والتنافس بين الدول لجذب الاستثمارات الأجنبية، فإن التحكـيم يؤدي الى زيادة الضمانات والمزايا للمستثمر وتحسين مركزه القانوني.

     فالمحكم يقوم بعمل يشارك فيه الأطراف، فحكم التحكيم هو نتيجـة عمـل جمـاعي بـين الأطراف والمحكمين، لا تحكمه اعتبارات الخصومة، ورغبة كل طرف في الانتصار لنفسه، كما هو الشأن في الخصومة القضائية، حيث وسائل الطعن ومواصلة طرقها قد تؤدي في النهاية الى ضياع الحق من صاحبه، فالتحكيم يغل كل ابواب هذا التماطل، فثمة مواعيد يحـددها أطـراف التحكيم، لإصدار الحكم، ويهيمن المحكمون على اجـراءات التحكـيم بعـد تحديـدها بواسـطة الأطراف، أو وفقاً للقواعد المعمول بها في احدى هيئات التحكيم الدائمة كغرفة التجارة الدوليـة بباريس، أو المركز الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي بالقاهرة، أو وفقاً لقواعـد اليونـسترال أي قواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي.

    ان عملية التنمية الاقتصادية الشاملة التي تسعى الدول النامية الى تحقيقها، تضطر الدولة أو الأشخاص المعنوية العامة الى الدخول في ابرام أو الاشراف والرقابـة علـى عقـود التنميـة الاقتصادية، ما دامت أن الدولة تشارك في اختيار المحكمين واختيار القانون الواجب التطبيق، يعد أكثر مواءمة مع سيادتها، ذلك أنه حائز ارادتها، فالمنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها في مجال التجارة الدولية هي منازعات ذات طبيعة تجارية خالصة، وأن التحكيم في هذه المسائل، لا ينال من سيادة الدولة، وحتى لو مس بالسيادة، فإنها ليست من الأمور التي مـن هيبـة الدولـة ومصالحها، وبالتالي لا يجوز أن تخرج من نطاق عرضها على التحكيم.

    ولذلك يجب العمل على التفرقة بين الأمور التي تتعلق بالسيادة، والأمور التـي تنـال مـن السيادة في مجال التحكيم، لأن ادراج شرط التحكيم في عقود الدولة، وان مس السيادة أحياناً، الا أنه لا ينال من سيادة هذه الدولة، فالدولة عندما تقوم بتقييد نشاطها في خصوص عمل تجاري بناء على نص تعاقدي، انما تقوم بذلك في حالة من الرضائية، وبموجب ما تملك من سـيادة، فهـي حقيقة تتفق على عرض أمور تتعلق بسيادتها على التحكيم استنادا الى ما تملك من سيادة لا اهداراً منها لهذه السيادة، ان بعض عقود الدولة قد تتضمن اشارات تبين طابعها السياسي، وتشير الـى ضرورة احترام مبدأ سيادة الدولة على ثرواتها الطبيعية، والتي تنعكس آثـاره علـى الحلـول القانونية لحل النزاع، وتتخذ هذه المسألة أبعاداً خاصة في الواقع، أو العلاقات التجارية الدولية بين الدولة المتقدمة وبين الدولة النامية، وذلك ما يعرف باسم النظام الاقتصادي الجديد..

   ويمكن القول ان لجوء الدولة والأشخاص المعنوية العامة الى التحكيم في العقـود الاداريـة الدولية، انما يعكس تطوراً كبيراً في مفهوم الدولة في القرن التاسع عشر الذي كان يقـوم علـى مفهوم السلطة التي تتمثل وظيفتها الأساسية في توفير الأمن، الا أن هذا الأمر تغير أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت الدولة والأشخاص المعنوية العامة لهـا صفة التاجر، إن صح القول، فأصبح مفهوم السيادة والسلطة في نظر الدولة متجها نحو التخفيف لصالح خدمة الأفراد، والعمل على تحقيق الرفاهية والاستقرار. للأفراد داخل الدولة.

   فلجوء الدولة الى التحكيم في عقودها الادارية ذات الطابع الدولي، لا يـؤدي الـى اهـدار قوانينها الداخلية في حالة نشوب نزاع، بل على العكس من ذلك، فهي تلزم المحكـم بتطبيقاتهـا وهو يلتزم باحترامها، بالإضافة الى أن حكم التحكيم لا يمكن تنفيذه الا بعد الحصول على الصيغة التنفيذية من القاضي الرسمي في الدولة، ويعد ذلك نوعاً من الرقابة اللاحقة على التحكيم، وبذلك يتفوق القاضي على المحكم لأن المحكم وحده لا يستطيع أن يعطي أمراً بالتنفيذ، وذلك لاحتكـار القاضي لهذا الأمر، وبالتالي لا يجوز حرمان الدولة، أو الأشخاص المعنوية العامة من اللجـوء الى التحكيم، في حالة ابرام عقود ادارية ذات طابع دولي.

الخاتمة

    كذلك يمكن القول ان الانتشار الواسع للتحكيم كوسيلة لفض المنازعات، أصبح واقعاً فرضته ظروف العولمة والاتجاهات العالمية الحديثة حتى شمل بنطاقه عقود الدولة الادارية ذات الطـابع الدولي، ترافق ذلك مع تحول وظيفة الدولة من دولة حارسة الى دولة تاجرة، ان صح التعبيـر حيث دخلت في ميدان التجارة على الصعيدين الداخلي والدولي، وترتب على ذلك أن نزلت الدولة عن جزء من سيادتها وهيبتها لصالح الارتقاء بالتنمية الداخلية لها، عن طريق ابرام عقـود مـع أطراف أجنبية لتلبية احتياجات أفرادها المختلفة، عن طريق عقود "البوت"، وعقود الاستثمارات الأجنبية، وعقود الأشغال العامة... الخ، وكانت العلاقة بين الدولة والأشخاص الخاصة الأجنبيـة في تلك العقود ينظر اليها على أنها ذات طابع انمائي أكثر منه طابع اذعان.

يمكن اجمال بعض التوصيات من بينها:

   - نأمل من الدول النامية، وخاصة الدول العربية، الانضمام الى الاتفاقيات الدولية، الخاصة بالتحكيم الدولي، خاصة في مجال منازعات الاستثمار الأجنبية، وكذا الاتفاقيات الخاصـة بتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية.

   - تشجيع المتعاقدين من الحكومة، مع الطرف الأجنبي، على اللجوء الى التحكيم، باعتبار أن ذلك لا يمس سيادة الدولة، وانما يعمل على تحقيق التنمية، من خلال تشجيع المستثمرين على التعاقد مع الطرف الحكومي.