الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 24 / التحكيم في القانون العام

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 24
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    195

التفاصيل طباعة نسخ

    "الأصل العام هو بطلان التحكيم في العقود الإدارية – الإستثناء المتـصل أو المقـرر اتفاقية دولية للإستثمار - تساؤلات حول عقد امتياز المرفق العام وعقد ال .B.O.T كأحد تطبيقاته المعاصرة – بطلان العقد الإداري يمكن أن يكون موضوعاً لدعوى إدارية – مراجعـة تفـسير وتقدير مشروعية أو صحة العمل الإداري وإجلاء بعض التساؤلات حولها .

كلمات مفاتيح وموضوعات قانونية مثارة:

 اتفاقية دولية (17-27)                        عمل إداري

اختصاص مجلس شورى الدولة (12-20)  تقدير مشروعية ــــــــــــــــ (36)

ــــــــــــانتظام عام (22)                       قانون خاص

الأساس الدستوري لــ ــــــــــــ (12-20)   حالة خضوع الإدارة للـ ـــــــ (24)

أعمال متصلة بالعقد الإداري (11)           قرار تنظيمي (10-11)

التزام مرفق عام (7)                             قضاء إداري

ـــــــــــ بناء على قانون (7-14-23)         ـــــــــــــــ طبيعته (39)

امتياز الأولوية (2)                              قضاء شامل (34-35-36)

امتياز السلطة العامة (2-24)                    تمییز بین ــــــــــــــ وقضاء إبطال (35)

تفويض تشريعي (10-23)                     مراجعة تفسير عمل إداري (36-37)

حكم قضائي                                        مراجعة تقدير مشروعية عمل إداري (36-37)

ـــــــ سرعة إصداره (18)                       ـــــــ الجمع بين المراجعتين (38)

حياد تشريعي (20)                                مبدأ عام (17-19-25-26)

خطأ جسيم (4)                                     مرفق عام (7)

دستور (12-20)                                   أساليب إدارة الـ ـــــــــ (31)

سلطة استنسابية (13-14-23)                   المصلحة العامة (2-3-9)

السلطة العامة (2)                                  مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها (4)

السلطة القضائية (12)                             مهلة المراجعة (4)

الصيغة التنفيذية (24)                              مناقصة واستدراج عروض (31)

العقد الإداري (3-7-22-34)                      موظف (4)

إبطال ــــــــــ (35-34)

عقد امتیاز مرفق عام (9-22-30-31)

ـــــــــ طابع احتكاري (32)

عقد الـ . (33-30) B.O.T

ــــــــ شروط تعاقدية وتنظيمية (10)

 

م.ش. قرار رقم 639 / 2000-2001 تاريخ 2001/7/17

رقم المراجعة 9573 / 2000

المستدعية: الدولة

المستدعى ضدها: شركة ف.ت.م.ل (.F.T.M.L)

الهيئة الحاكمة:

     الرئيس: د. غالب غانم

     المستشار: يوسف نصر

     المستشار: د. طارق مجذوب

1- تنبع أهمية هذا الحكم، من خلال المسائل القانونية الهامة المثارة، ومحاولته الإجابة عن تساؤلات وإشكاليات كانت "منسية" ومهمشة في ظل الاجتهاد القضائي؛ فعمد هذا الحكم موضوع التعليق على إيضاحها وإخراجها إلى وضح النهار: مثل تلك التساؤلات التـي تتعلق أكثر ما تتعلق بعقود امتياز المرافق العامة، ويرتبط بها بالطبع عقـد ال .B.O.T (Build, Operate, Transfer)؛ والنوع الآخر من التساؤلات يدور حول إمكانية رفـع دعوى إدارية موضوعها المباشر إبطال عقد إداري أو أحد بنوده، كما هو مثـار فـي القضية الحالية في شأن إبطال البند التحكيمي (المادة 13 من العقد محـل المنازعـة)؛ وأخيراً يحاول الحكم الإجابة عن بعض التساؤلات التي تثيرها مراجعة تفسير وتقـدير شرعية القرار الإداري وتقدير صحته أو مشروعيته، ونعني بذلك تفسير وتقدير شرعية القرار الإداري فردياً كان أم تنظيمياً، لأن العقد الإداري لا يدخل في إطار تلك المشكلة التي واجهتها المادة 65 من فقرة أولى من نظام مجلس شورى الدولة. إضافة إلى هـذه النقاط تبرز المشكلة الأكثر خطورة وأهمية في الحكم محل التعليق، والتي ستكون محل البداية الأولى والعناية الأساسية، ألا وهي مدى شرعية الالتجاء إلى التحكيم في العقـود الإدارية وما يرتبط به من شرعية إيراد بند تحكيمي في العقد الإداري، الـذي هـو بطبيعته يتسم بطابع السلطة العامة، لأنه أبرم من سلطة إدارية لأجل المصلحة العامـة. ولكن قبل تعرضنا لمجمل هذه النقاط القانونية المثارة، سنبرز، في فقرة أولـى، وقـائع القضية موضوع الحكم، وفي فقرة ثانية، نتوقف على المشاكل القانونية المثارة وموقف مجلس شورى الدولة منها.

الفقرة الأولى- وقائع القضية وأدلة الطرفين:

أولا- وقائع القضية:

   2- إن أول ما يلفت نظرنا في هذه القضية هو أن المستدعية في القضية ليست جهة خاصة أو فرد، وإنما هي الدولة ذاتها، التي تكون عادة في القضايا الإداريـة فـي موقـف المستدعى ضدها. وهذا عائد بالطبع إلى تمتعها بامتياز الأولويـة، أو بحـق المبـادأة والتقرير اللذين يدخلان ضمن صلاحيات السلطة الإداريـة إزاء الأفـراد والهيئـات الخاصة.

إن الدولة والسلطة العامة بحسب القانون العام، لا تتساوى مـع الأفـراد، بـل تتمتـع بامتيازات السلطة التي تضعها في مستوى أعلى من الأفراد بوسائل متعددة منها القرار الإداري والعقد الإداري؛ ولا يخفى الهدف من وراء ذلك، لأن الأمر يتعلـق بتحقيـق المصلحة العامة بالفاعلية الواجبة والممكنة. ومن هنا قولنا بتمتـع الجهـات الإداريـة بمركز المدعى عليه أو المستدعى ضده، لأنها لها حق المبـادرة والمبـادأة مـستخدمة وسائل السلطة العامة، علماً أن قـرارات هـذه الـسلطة وأعمالهـا يجـب أن تتـسم بالمشروعية؛ وكل من ينازع في ذلك عليه إقامة الدعوى الإدارية ضد الإدارة مثبتا عدم شرعية قراراتها أو إجراءاتها الإدارية، على وجه العموم.

3- لكن، في بعض الأحيان النادرة، نجد أن الدولة أو الشخص العام يكـون فـي مـوقـف المدعي أو المستدعي، مثل حالة العقد الإداري، ولا سيما عندما يكـون المتعاقـد الإدارة مقصرا على نحو جسيم بحيث ينزل ذلك أفدح الخسائر بالمصلحة العامـة؛ خصوصاً عندما لا يكفي الحق العام مجرد مصادرة الدولة المتعاقدة لكفالة المتعاقد معها المالية التي يجب وضعها في صندوق الخزينة الخاص.

4- وكمثال آخر، في هذا السياق، نورد حالة للموظف الذي ارتكب خطأ شخـصياً جسيماً كان هو السبب في مقاضاة الدولة بصفتها مسؤولة عن أخطاء موظفيها المرتكبة أثنـاء العمل أو بأدوات المرفق. (راجع التفاصيل في مؤلفنا "القانون الإداري العـام" الكتـاب الثاني بيروت 2004 ص 300 وما يليها).

وفي هذه الحالة، تدفع الدولة التعويض، ثم تقيم دعوى إدارية للرجـوع علـى الموظـف مرتكب الخطأ الشخصي العمدي أو الجسيم. (هذه الدعوى تبقى دائمـاً مـن اخـتـصاص القاضي الإداري؛ فهي وإن لم تكن موجهة ضد قرار إداري، بل تبقى دعوى خاصة نص عليها القانون، ولذلك فإن مهلة الشهرين المنصوص عليها في نظام مجلس شورى الدولة لا تطبق على هذه الدعاوى. (م.ش. قرار رقم 106 تاريخ 1979/3/27 غير منشور).

5- إن قضيتنا الراهنة هي خير مثال لما أثرناه أعلاه؛ إذ نجد أنفسنا أمام دعـوى إداريـة أقامتها الدولة الممثلة الأولى للسلطة العامة ضد فرد أو هيئة خاصة هي فـي القـضية شركة خاصة المستدعى ضدها. إن الدولة اللبنانية ممثلة برئيس هيئة القضايا بـوزارة العدل تقدمت بمراجعتها بتـاريخ 2000/8/29، ضـد شـركة ف.ت.م.ل. .F.T.M.L  شركة مساهمة لبنانية، تطلب فيها الدولة من مجلس شورى الدولة إعلان بطلان البنـد التحكيمي الوارد في المادة 30 من العقد الموقع مع الشركة المذكورة؛ وإعلان صلاحية المجلس للنظر في النزاعات المتعلقة بتعليمات الإدارة إلى الشركة استناداً إلى سـلطاتها الدستورية في التوجيه والرقابة المكرسة في المادة 13 من العقد المذكور.

6- عرضت الدولة المستدعية، أن وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية ممثلـة بالوزير المختص قامت بإبرام عقدي امتياز لإدارة مرفق عام مع شركتين أجنبيتين بناء على قرار لمجلس الوزراء؛ وقبل ذلك بناء على قانون صادر عن مجلس النواب رقـم 218 لعام 1993 الذي أجاز لوزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية استدراج عروض عالمي لتحقيق نظام مشروع الراديو الخلوي الرقمي المتطور وتلزيمه لمدة لا تتجاوز الإثنى عشر عاماً.

7- وما يشير إلى أننا في إطار عقد التزام مرفق عام، الذي هو عقد إداري مـن الدرجـة الأولى في الأهمية، لأن موضوعه إدارة المرفق العام ذاته وبو اسطة هيئـة أو شـركة خاصة. إن الأمر يتطلب إصدار القانون المشار إليه لتحقيق الرقابة المسبقة للمجلـس النيابي على إبرام مثل هذه العقود الهامة المتميزة، تطبيقا لما نص عليه الدستور اللبناني في المادة 89 منه؛ علماً أن هذه المادة قد اشترطت سبق موافقة مجلس النواب بقـانون على كل عقد موضوعه التزام إدارة واستغلال مرفق عام أو استغلال ثروة من الثروات الطبيعية للبلاد.

والسبب في ذلك يعود إلى إتاحة المجال لممثلي الشعب، بممارسة حق المراقبة المسبقة للوقوف على الحاجة الملحة والضرورية لإبرام مثل هذه العقود المتعلقة بمصالح الدولة العليا. وفي هذا السياق، فإن أحد هذين العقدين اللذين أبرمهما وزير البريد والمواصلات مع شركة فرانس تلكوم أنترناشيونال بتاريخ 1994/6/18، وهو العقد الذي يتصل بـه النزاع موضوع قضيتنا الحاضرة.

 وقد نصت المادة التاسعة من هذا العقد على أن المسؤولية عن الأداء والتنفيذ فـي إدارة واستغلال المرفق موضوع العقد يجب تحويلها إلى شـركة لبنانيـة فرنسية تـدعى F.T.M.L (فرانس تلكوم) وهي الشركة المستدعى ضدها في القضية، التـي سـبق تسجيلها في السجل التجاري في جبل لبنان تحت رقم 52994/ بعبدا.

 

وإن المادتين في هذا العقد اللتين أثرتا في صلب وجوهر النزاع هما: المادة 13 التـى نصت على التزام الشركة بالأنظمة والتعاليم التي تصدرها السلطة العامة؛ ومن ناحيـة أخرى المادة 30 التي نصت على تسوية النزاعـات بـين الدولـة والـشركة عبـر المشاورات، وإلا طبقاً لقواعد المصالحة والتحكيم أمام غرفة التجارة الدولية.

8- واستطردت الدولة المستدعية قائلة بأن الشركة المستدعى ضدها ارتكبت عدة مخالفـات جسيمة أثناء تنفيذ المشروع، مما اضطر الوزراء إلى توجيه تعليمات خطية في شـأنها على مدار العامين 1999 و2000.

وعلى أثر ذلك، وبناء على قرار لمجلس الوزراء أصدر الوزير المختص أمر تحـصيل موجها إلى الشركة المستدعى ضدها بوجوب دفع مبلغ ثلاثماية ألـف دولار أمريكـي كتعويضات للخزينة. وقد اعترضت الشركة على أمر التحصيل، ثم تقـدمت بمعاملـة تحكيمية أمام غرفة التجارة الدولية في باريس استناداً إلى المادة 30 من العقـد سـابق الإشارة إليها، الأمر الذي دفع الدولة إلى تقديم هذه المراجعة لتفسير أحكام المادتين 13 و 30 من العقد، وبالذات طلب بطلان البند التحكيمي الوارد في المادة 30.

ثانياً- أدلة الفريقين:

بالنسبة إلى الدولة المستدعية:

9- أدلت الدولة بأن مجلس شورى الدولة هو صالح للنظر في المنازعات الناشئة عن تطبيق المادة 13 من العقد الذي هو عقد امتياز واستثمار مرفق عام وطني وقعه الوزير بنـاء على تفويض من المشترع. وإن التعليمات التي أصدرتها الإدارة استناداً للمادة 13 هي قرارات ذات صفة إدارية يعود أمر النظر فيها إلى المجلس بموجب أحكام المادتين 61 و 62 من نظامه.

ونشير بإيجاز هنا الى أن الدولة تبدو محقة في اعتبار هذا العقد هو عقد امتياز مرفـق عام، لأن موضوعه حاجة عامة للمواطنين ومصلحة عامة عهد أمر إدارتها وتحقيقهـا إلى الشركة الخاصة بموجب عقد مع الدولة ممثلة بالوزير المختص.

وبالفعل، فقد تضمن هذا العقد شروطاً تنظيمية ملزمة للشركة لضمان المصلحة العامـة للمرفق تمثلت أساساً في ما نصت عليه المادة 13 المذكورة والتي تعطي الدولة الطرف الأول (مانح الالتزام) سلطة إعطاء تعليمات ملزمة على سبيل الرقابة والإشراف طبقـاً لطبيعة هذا العقد الإداري.

10- لكن نتحفظ في أمرين: الأول إن القانون رقم 93/218 ليس تفويضاً مـن المـشرع؛ فكلمة تفويض غير ملائمة، لأننا لسنا إزاء نظام التفويض التشريعي المعطى لمجلـس الوزراء لإصدار مراسيم إشتراعية بناء على ذلك التفويض. وإنما القـول الأدق أنـه قانون يتضمن موافقة المجلس النيابي على إبرام عقد الإمتياز مع بعض الضوابط طبقاً للمادة 89 من الدستور، كما أشرنا من قبل.

أما الأمر الثاني والذي نتحفظ فيه عن أقوال الدولة هنا فهو أن القرارات والتعـاميم الصادرة عن الإدارة سواء عن مجلس الوزراء أو الوزير المختص طبقاً للمـادة 13 هي للوهلة الأولى إجراءات ترتبط بتنفيذ العقد، وتنتمي بالتالي للقضاء الشامل طبقـاً للإجتهاد المستقر لمجلس شورى الدولة، وهذا يعني عدم اعتبارها قرارات إدارية تقبل الطعن بالإبطال استقلالاً، ولذلك كان الأصح بحسب وجهة نظرنا القول بأن عقد امتياز إدارة المرفق العام (ومن تطبيقاته عقد ".B.O.T") له طبيعة متميزة لكونه يتعلق بإدارة المرفق ذاته من جانب المتعاقد مع الإدارة (الشركة الخاصة)؛ وبالتالي، فإن له طبيعة مزدوجة عقدية وتنظيمية في آن؛ وهكذا يغدو من الواجب أن يتـضمـن نـوعيـن مـن الشروط مالية وعقدية من ناحية وتنظيمية لضمان حسن تنظيم وسير المرفـق، مـن ناحية ثانية.

11- إن السير بهذا التحليل يحتم بشكل صريح وجوب التفرقة في أعمال المادة 13 من العقد بين الإجراءات والقرارات ذات الصفة العامة المجردة، أي التنظيميـة وتكـون لـهـا الطبيعة الإدارية كقرارات إدارية تنظيمية دائماً تقبل الطعن استقلالاً بالإبطال لتجـاوز حد السلطة، وبين الإجراءات ذات الصفة الفردية وغير العامة وتعتبر مجرد إجراءات مرتبطة بتنفيذ العقد يطعن فيها بدعوى العقد كقضاء شامل وليس بـدعوى الإبطـال لتجاوز حد السلطة.

12- أما بالنسبة للبند التحكيمي الوارد في المادة 30 من العقد، فقد اعتبرته الدولة أنه بنـد باطل؛ وهذا هو بالفعل العقدة الأساسية والجوهرية في النزاع في هذه القضية. وتعلـل الدولة ذلك البطلان المطلوب من مجلس الشورى إعلانه، بأن العقد المعني هو عقـد إداري له طابع السلطة مثل طبيعة العقود الإدارية، ولا سيما أنه عقد امتیـاز مـرفـق عام؛ وهذا يعني استحالة استبعاد سلطة القضاء الإداري الوطني عـن الفـصـل فـي منازعات هذا العقد لمصلحة هيئة تحكيم خاصة. ويلاحظ أن مجلس شـورى الدولـة سوف يستعيد هذه الحجة في الحكم ويزيد عليها تدعيماً بإسـناد اختصاص القـضاء الإداري في لبنان (أي مجلس الشورى) إلى الدستور اللبناني ذاته في المادة 20 كمـا سنرى؛ إن هذا الموقف يحتاج كما نعتقد إلى الإيضاح والتدعيم، خصوصاً وأن هـذه المادة اقتصرت على القول بأن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصها؛ وبالتالي فهي لم تحدد نظام الإزدواج القضائي وتراوحه بـيـن القـضاء العدلي والإداري؛ بل أحالت تنظيم المحاكم واختصاصاتها إلى القانون أو "ضمن نظام ينص عليه القانون".

وبالتالي، فإننا لا نرى أي أساس دستوري لاختصاص القضاء الإداري، وهذا يعني أن المادة 20 بنصها الحالي لا يمكن أن تؤسس بذاتها هذا الأساس الدستوري. أما الأمـر في فرنسا فهو مختلف بعض الشيء عن لبنان؛ فالقانون الصادر في 24 أيـار 1872 نص على اختصاصات مجلس الدولة الفرنسي، مركزاً على دوره كقضاء مفوض بعد أن كان قضاء مقيداً. وجاء من بعده المجلس الدستوري الفرنسي ليؤكـد اسـتخلاص القيمة الدستورية للقضاء الإداري من المبادئ الأساسية لقوانين الجمهورية، التي تعتبر أحد المصادر الدستورية بناء على مقدمة دستور 1946 المحال إليها من مقدمة دستور 1958 الحالي.

 )C.C. n° 86-224 DC du 23 janvier 1987, Conseil de la concurrence, Rec. Cons. const. p. 8(.

وهذه هي بالفعل خصوصية فرنسية لا يوجد مثيل لها في لبنان طبقاً لتنظيمها القانوني والدستوري. وهذا يعني بصريح العبارة عـدم جـواز الأخـذ بالقيمـة الدستورية لاختصاص مجلس الدولة الفرنسي في لبنان، لاختلاف الظروف القانونية والدستورية. (المجلس الدستوري اللبناني قرار رقم 2000/4 تـاريخ 2000/6/22 الصادر فـي الطعن بالقانون رقم 228 تاريخ 2000/5/31- مجموعة قرارات المجلس الدستوري 2000-1997 ص446). تتت

13- أخيراً، أضافت الدولة المستدعية لطلب إبطال البند التحكيمي أن القانون رقم 93/218 سابق الإشارة إليه، لم يجز إدراج بند تحكيمي في عقد الـ .B.O.T بموجب مراسیم، وهي تعني العقد موضوع البحث. إن هذه الحجة واهية، بحسب وجهة نظرنا، لأن دور هذا القانون يبقى مجرد الموافقة والسماح للسلطة التنفيذية بإجراء التعاقد أو اسـتدراج العروض للتعاقد تاركا لها السلطة الإستنسابية في تحديد بنود ومواد العقد؛ وهذا يعني أن القانون لم يسمح، كما أنه أيضاً لم يمنع، إمكانية التحكيم.

 بالنسبة للشركة المستدعى ضدها:

14- ردت الشركة المستدعى ضدها طلبات الدولة المستدعية على الشكل التالي:

    - إنه يقتضي رد المراجعة لعدم الاختصاص، لأن اختصاص النظر في صـحة البنـد التحكيمي يعود للمحكم نفسه.

    - إنه يقتضي عدم قبول المراجعة المباشرة التي تستهدف تقدير صـحة عمـل إداري، وكذلك بالنسبة لمراجعة التفسير، لعدم وجود عمل إداري مبهم أو غـامض؛ وعـدم وجود نزاع قائم بين الفريقين حول تفسير العمل؛ كما أنـه لا يجـوز الجمـع بـين مراجعة التفسير وطلب تقدير صحة العمل الإداري. وهذا أمر غير دقيق ومـردود عليه، كما سنرى.

وأضافت الشركة المستدعى ضدها أن العقد الذي يربط الطرفين ليس امتيازاً بدليل أن القانون رقم 93/218 لم يعط أي امتياز للمتعاقد مع الإدارة، لأنه أطلق يد الحكومة في التعاقد مع غير شركة واحدة.

وهذا الأمر هو أيضاً غير دقيق، لأن المادة 89 من الدستور اللبناني تستهدف فقط قيام المجلس النيابي للنظر في ملاءمة إجراء عقد الامتياز أو الالتزام؛ وليس القيام بالتعاقد نفسه مع الشركات، لأنه أمر إستنسابي للسلطة الإدارية بحكم تخصصها ووظيفتها.

15- وقد اعتبرت الشركة المستدعى ضدها، من ناحية أخرى، أن التحكيم أصبح جائزا في القانون اللبناني بعد إلغاء المادتين 828 و 408 من قانون أصول المحاكمات المدنيـة القديم، ولم يرد حكمها في القانون الجديد: المادة 809 و 795 لمصلحة جواز التحكيم في مثل النزاع المعروض. وفي هذا السياق، جاءت المادة 809 لتجيز للدولة ولـسائر الأشخاص المعنوية العامة الأخرى اللجوء إلى التحكيم الدولي فـي كـل مـا يتعلـق بمصالح التجارة الدولية. أما المادة 795/ فقرة ثانية، فإنها تـنص علـى اختـصاص رئيس مجلس شورى الدولة بإعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي، إذا كان النزاع موضوع التحكيم من اختصاص القضاء الإداري.

وأخيراً أضافت الشركة المستدعى ضدها من قبيل الإستطراد، إنه حتـى فـي حـال استبعاد تطبيق المادة 809 من قانون أصول محاكمات مدنية المـشار إليهـا، والتـي أجازت للدولة ولكل شخص عام أمر اللجوء الى التحكيم الدولي، فإن التحكـيم يبقـى جائزاً بوجه خاص في العقد الماثل موضوع النزاع، لأنه جاء تطبيقاً للإتفاقية الموقعة في باريس بين الحكومتين اللبنانية والفرنسية في شأن تشجيع وحمايـة الإسـتثمارات المتبادلة. تلك الإتفاقية التي أجاز إبرامها القانون الصادر عن مجلس النواب اللبنـاني رقم 1999/60. وهذه الإتفاقية قامت بتعريف معاني الإستثمارات والمستثمر وتطبـق على النزاع المعروض؛ خصوصاً ان الشركة الأم الفرنسية .F.T.M.L تملك أغلبيـة أسهم الشركة اللبنانية.

الفقرة الثانية- المشاكل القانونية المثارة:

16- سنعالج فيما يلي المشكلات القانونية المثارة، والمشار إليها في عنوان هـذا التعليـق على التوالي:

أولاً- الأصل العام هو بطلان التحكيم في العقود الإدارية:

17- هذه هي الإشكالية الأم والأساسية المثارة هنا والتي تمثل عصب القضية وجوهرهـا؛ وقد حرص مجلس شورى الدولة في هذا السياق على أن يقرر المبدأ العام أو الأصل العام وهو بطلان التحكيم في العقود الإدارية؛ سواء ورد التحكيم في بند فـي العقـد الإداري أو نص عليه في اتفاق خاص، أو حتى مشارطة التحكيم في شأن عقد إداري بین شخص معنوي عام وبين شركة خاصة أجنبية أو وطنية. ولكن ونظراً إلى تعـذر وجود مبدإ عام مطلق، فإن كل أصل عام أو مبدأ عام يقبل الاستثناء؛ وهذا هو بالضبط ما لمسناه في هذا الحكم الذي سمح بإمكانية قبول الاستثناء؛ أو بعبارة أخـرى أجـاز التحكيـم في أحد أو بعض العقود الإدارية على أن يكون ذلك، إما بـنـص تـشريعي خاص – بإعتبار أن المبدأ القانوني العام يمكن استبعاد تطبيقه بنص خاص – ولكـن ليس بنص تنظيمي، وإنما بنص قانوني أو تشريعي صريح. كما أن الاستثناء يمكـن تحققه في اتفاقية دولية مبرمة بين الحكومة اللبنانية وحكومة أجنبية ينص فيها صراحة على إمكانية وجواز التحكيم في منازعات الاستثمار؛ وبشرط أن تكون هذه الاتفاقية قد أجاز إبرامها قانون صريح في المجلس النيابي تطبيقاً للدستور اللبناني. 18- ما يهمنا هنا في الدرجة الأولى هو تأسيس وإسناد هذا الأصل العام أو المبـدأ العـام ببطلان التحكيم في العقود الإدارية. وفي هذا الصدد حرص مجلس شورى الدولة على حشد الحجج والأسانيد القانونية لتأسيس هذا البطلان الذي اعتبره من الانتظام العام. وقبل بدء البحث في هذه الحجج، لفتتنا السرعة التي أصدر فيها مجلس شورى الدولة هذا الحكم، والتي لم تتجاوز السنة، ولعل مجلس الشورى أراد أن يبين أنه أسرع مـن الهيئات التحكيمية في فصل النزاعات، وبالتالي لا عـذر للقـائلين بـبطء إجـراءات التقاضي من أجل تبرير اللجوء إلى التحكيم.

19- يؤسس المجلس البطلان كأصل عام بناء على الاجتهادات المستقرة لمجلـس الدولـة الفرنسي؛ إذ يقول مجلس الشورى "... وبما أن التحكيم في العقود الإدارية هو مبـدأ راسخ في العلم والاجتهاد الإداريين..." ويشير في هذا الصدد إلى ثلاثة أحكام قديمـة لمجلس الدولة الفرنسي ترجع إلى القرن التاسع عشر. وكان يمكنه أيضاً ذكر أحكـام في نهايات القرن العشرين. ثم أتى المجلس على ذكر الرأي الاستشاري للجمعية العامة لمجلس الدولة الفرنسي في قضية Euro Disney Land بتاريخ 1986/3/6، حيث أكد المجلس الفرنسي أن مبدأ عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية هو من المبادئ العامة للقانون التي لا يجوز مخالفتها، إلا بنص تشريعي صريح. ولكن في الوقت ذاته أسقط مجلس شورى الدولة التعديل التشريعي الفرنسي الشهير العائد لعـام 1986؛ والـذي أجاز التحكيم في العقود الإدارية المبرمة لمصلحة اقتصادية وطنية عبر مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء.

كما وأنه في تأسيسه للأصل العام في عدم جواز التحكيم في العقـود الإداريـة ذكـر مجلس الشورى قرارين له في هذا الصدد، أحدهما صادر عام 1948 (قرار بتـاريخ 1948/12/7 مجموعة حاتم ج71 ص23) والآخـر عـام 1988 (قـرار بتـاريخ 1988/2/1 الدولة/ مدريكو، م.ق.إ. العدد الخامس ص37). وقد رتب مجلس الشورى على ما سبق بأن منع التحكيم في العقود الإدارية هو مبدأ يتعلق بالانتظام العام، ممـا يقتضي إثارته عفواً. وهذا ما نلمسه بالفعل في بعض الأحكام الفرنسية التي أوردهـا مجلس الشورى اللبناني، التي تعتبر القرار التحكيمي باطلاً فيما لو صدر؛ ليس هـذا فحسب، بل يعود الى الشخص العام حق التمسك ببطلانه رغم سبق مشاركته وقبولـه لإجراءات التحكيم.

20- من ناحية أخرى، استند مجلس الشورى إلى أقوال للعلامة Laferrière، أحـد كبـار فقهاء القانون العام التقليدي القدامي، مؤكداً أن مبررات عدم جواز التحكيم ما زالـت قائمة؛ وهي أن مقتضيات النظام العام توجب على الدولـة ألا تخـضع إلا للمحـاكم الوطنية؛ وبالذات للقضاء الإداري، ولا سيما في ظل نظام ازدواج القـضاء العـدلي والإداري، إلا ما استثني منها بنص خاص.

وفي هذا السياق، حاول مجلس الشورى اللبناني التأكيد من ناحيته أن هذا المبدأ له في لبنان قيمة دستورية من خلال عبارات المادة 20 من الدستور اللبناني. هذه المادة التي نصت على أن "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصها ضمن نظام ينص عليه القانون...". لكن سبق وأبدينا مخالفتنا لهذا التوجه، مشيرين إلى حيادية هذه المادة في هذا الشأن؛ فهي لا تؤكد بذاتها تلك القيمـة الدستورية لمبـدأ اختصاص القضاء الإداري، بل تشير فقط إلى اختصاصات المحاكم بأنواعهـا وفـق النظام الذي يحدده القانون؛ فهي أحالت على القانون، ولم تشر الى اختصاص القضاء الإداري على نحو خاص، وإعطائه هذه القيمة الدستورية. بالإضافة إلى أن المجلـس الدستوري اللبناني نفسه رفض اعتبار مبدأ خصوصية القضاء الإداري في لبنان مبـدأ ذا قيمة دستورية (قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم2000/5 سابق الإشارة إليه). 21- إلا أننا يمكن أن نستخلص من المادة 20 من الدستور جواز اللجـوء إلـى التحكـيم الإختياري في العقود الإدارية بموافقة الإدارة المسبقة، وفقاً للأصول القانونيـة، أمـا التحكيم الإجباري في كل أنواع العقود الإدارية على إطلاقها وبدون تحديد فهو مخالف للدستور، حتى ولو جاءت إجازته بنص تشريعي.

 (يراجع: الدكتور خالد قباني - اجتهاد المجلس الدستوري والتحكيم الإلزامي في العقود الإدارية- مجلة القضاء الإداري2005 باب المقالات ص11).

لذا رفض مجلس شورى الدولة التحكيم بالمطلق الذي يتحول إلى نوع مـن التحكـيم الإجباري. (م.ش. قرار رقم447 تـاريخ 2003/4/15 شـركة المرافـق اللبنانيـة ش.م.م.).

22- وفي معرض تأكيده بطلان التحكيم في العقود الإدارية أبرز مجلس شورى الدولـة حجة خاصة تتصل بطبيعة عقد امتياز المرفق العام، الذي هـو عقـد إداري مـن الدرجة الأولى ليس فقط لاتصاله بإدارة المرفق العام نفسه، بـل أيـضاً وبالـذات لاحتوائه على أحكام تنظيمية تعطي الدولة بما لها من سلطة عامة سيادية في تنظيم هذا المرفق العام، وهو ما رددته المادة 13 من العقد محل النـزاع. كـذلك اسـتند مجلس شورى الدولة إلى خصوصية أخرى تتصل بعقد الامتياز، والتي تحول دون أي اختصاص تحكيمي في شأنه، وهو ما نصت عليه المادة 77 من قانون أصـول المحاكمات المدنية اللبناني التي نصت على أن "الدعوى المتعلقة بصحة أو مخالفـة امتیاز ممنوح أو يعترف به من قبل الدولة اللبنانية تقـام إلزاميـاً لـدى المحـاكم الوطنية". وهو ما يعني تكريس هذا النص لقضاء الدولة (بالذات القضاء الإداري) في النزاع الحاضر لتعلقه بصحة أو بطلان مواد في عقد امتیاز مرفق عـام؛ أمـا مسألة الاختصاص فتبقى في النظام العام مثل كل مسائل الصلاحية طبقاً للاجتهـاد المستقر لمجلس شورى الدولة.

23- كما أنه، وفي معرض تأسيسه لبطلان التحكيم في العقود الإداريـة، اسـتند مجلـس الشورى إلى أن القانون رقم 218 تاريخ 1993/5/13 الذي فوض الوزير المخـتص بإجراء استدراج عروض عالمي لتلزيم مرفق الاتصالات الخلوية، ولـم يتـضمن أي نص بالإجازة له التوقيع على بند تحكيمي في العقد؛ وهذه في نظرنا حجة واهية فـي الحكم، لأن القانون المشار إليه جاء تطبيقاً لأمر الدستور فـي المـادة 89 والقاضـي بضرورة موافقة المجلس النيابي بقانون على كل امتياز مرفق عام أو استثمار مـورد من موارد الثروات الطبيعية. وفي هذا السياق لا بد لنا من إبداء ملاحظتين حول هـذا القانون:

- فهو لم يقم بأي حال من الأحوال بتفويض تشريعي بالمعنى الصحيح، كما سبق وأشرنا، وإنما اقتصر دوره فقط بالموافقة على مبدأ التلـزيم بالموافقـة والـتـرخيص للسلطة التنفيذية أو الحكومة باتخاذ إجراءات العقد التفصيلية.

- ومن ناحية ثانية، فإنه ليس من طبيعة مثل هذا القانون الذي أعطى الضوء الأخـضر لمبدأ الموافقة على التلزيم أن يهتم بالتفاصيل المتعلقة بإمكانية الالتجاء الى التحكيم في شأن هذا العقد الذي ستتخذ إجراءاته، لأنه من غير المتصور أو المعقول أن ينص مثل هذا القانون على هذه المسألة طالما أنه ترك إجراءات وتفاصيل وبنود العقـد برمتهـا للحكومة بسلطتها الإستنسابية؛ محتفظاً فقط بتحديد المدة القصوى للتلزيم، والتي حددها باثني عشر عاماً.

24- وأخيراً، أزال، أو حاول مجلس الشورى أن يزيل من أمامه العقبة الأخيرة التي تقـف ضد الأصل العام من عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية؛ وقد تمثلت هذه العقبة في نص كل من المادة 809 والفقرة الثانية من المادة 795 من قانون أصول المحاكمـات المدنية الجديد. إن المادة 809 – كما سـبقت الإشـارة – أجـازت للدولـة وسـائر الأشخاص المعنوية العامة اللجوء إلى التحكيم الدولي في كل ما يتعلق بمصالح التجارة الدولية.

وجاء تفسيرها في هذا الحكم محل التعليق حاصراً تطبيقها في العقود التـي تجريهـا الدولة وتخضع فيها للقانون الخاص؛ أي أنها لا تمارس فيها امتيازاتها كسلطة عامـة، وبالتالي تخضع منازعاتها للقانون الخاص؛ مما يجعلها بعيدة كل البعد عـن العقـود الإدارية التي تخضع للقانون العام ولاختصاص القضاء الإداري. إننا، ولأول وهلـة، نرى أن هذا التفسير من جانب مجلس شورى الدولة من شأنه أن يخـصـص عمـوم النص دون سند، لأن النص العام يجب أن يفهم على عمومه؛ لأنه وحتى ولو فرضـنا أن الدولة قد وافقت على إخضاع عقد إداري للتحكيم في شأن منازعاته مع الطـرف الأجنبي لاحتياجات التنمية الاقتصادية، فلماذا يكون ذلك غير مشروع مـع إطـلاق النص؟ ثم إن الإصرار على إخضاع مثل هذا العقد لاختصاص القضاء الإداري، رغم صفته الإدارية، يتضمن إضرارا بالمصلحة القومية الاقتصادية التي استهدفت الدولـة تحقيقها من وراء العقد، مثل عقد .B.O.T يتضمن إنشاءات ضخمة وإدارة مرفق عام اقتصادي حيوي. وما الخطر في ذلك لو أن الدولة في بنـود العقـد أخـضعت إدارة وتنظيم المرفق لإشرافها ورقابتها على النحو الذي توجبه طبيعة عقد امتياز المرفـق العام!!!

25- أما بالنسبة إلى النص الآخر وهو الفقرة الثانية من المادة 795 التـى نصت علـى اختصاص رئیس مجلس شورى الدولة بإعطاء القرار التحكيمي الصيغة التنفيذيـة، إذا كان النزاع موضوع التحكيم من اختصاص القضاء الإداري. إن التفسير المنطق المباشر لهذا النص يفيد إمكانية وجواز التحكيم في العقود الإدارية، وإلا لم يكن هناك داع أو سبب لإعطاء رئيس مجلس الشورى كقضاء إداري هذه الصلاحية، إن لم يكن العقد موضوع النزاع إدارياً.

ومع ذلك حاول مجلس الشورى تفريغ هذا النص من ذلك المعنى المنطقي المباشـر؛ وذلك بقصد حصر مجال تطبيقه على الحالات الاستثنائية التي يكـون فيهـا التحكـيم جائزاً في بعض العقود الإدارية، إما بناء على نص تشريعي صريح أو بنـاء علـى اتفاقية دولية. ونشير إلى أن تعديل 2002 التشريعي الذي أجاز التحكيم في لبنان فـي العقود الإدارية، جاء في رأينا ليضعف تحليل مجلس شورى الدولة؛ وفي هذا السياق، قد يقال أننا ما زلنا في إطار هذا التحليل، من ناحية أننا إزاء نص تشريعي خـاص أجاز التحكيم بناء على مرسوم من مجلس الوزراء، بحيث يبقى المبدأ العـام خـارج إطار النص الخاص هو بطلان أو عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية. ولكن النص التشريعي الجديد لم يخصص عقوداً إدارية بذاتها وإنما جاء عام الإطار؛ وبالتالي فإنه لا مناص في رأينا من اعتبار المبدأ العام صار هو المبدأ العكسي تماماً، لأن الجـواز أصبح هو الأصل العام أو المبدأ العام وليس عدم الجواز.

(يراجع: د. غالب غانم اجتهاد مجلس شورى الدولة اللبناني فـي حقلـي التحكـيم والاستثمار - مجلة القضاء الإداري 2004 باب المقالات ص11).

26- كما أنه قد يقال أن النص الجديد التشريعي وضع شروطاً لتطبيقه منها مـثلاً تطلـب مرسوم من مجلس الوزراء لكل عقد إداري على حدة. ونرد بدورنا بالقول بـأن كـل نص تشريعي أو كل مبدأ عام بالضرورة لا ينطبق إلا بتحقق الشروط التـي تطلبهـا النص؛ إن هذا لا يهم، وإنما المهم هو أن التحكيم كأصل عام أصـبـح جـائزاً، ممـا يضعف إلى حد كبير تحليل مجلس الشورى. ولا سيما أن مجلـس الـوزراء وهـو المهيمن على المصالح العامة للدولة يستطيع وبمرسوم تلبية متطلبات التجارة الدولية، وفقا لمصالح التنمية الاقتصادية التي هي المصلحة العامة الأساسية لكل دولة نامية.

ثانياً- إجازة التحكيم في العقود الإدارية بناء على اتفاقية دولية:

27- على الرغم من المبدأ العام لبطلان التحكيم أجاز مجلس الشورى في هذا الحكم إمكانيـة التحكيم، إما بناء على نص خاص أو بناء على اتفاقية دولية بين حكومة لبنان وحكومـة أجنبية أجاز إبرامها تشريع خاص من مجلس النواب. وهذا بالفعل ما أكده الحكم محـل التعليق، إذ بعد أن أفاض مجلس الشورى في حشد كل الحجج والأدلة الفقهية والقضائية نحو تأسيس المبدأ العام لبطلان التحكيم في العقود الإدارية، وبوجه خاص فـي عقـود امتياز المرفق العام، جاء ليقبل هذا الاستثناء في الجواز بناء على اتفاقية دولية.

28- وفي هذا الشأن يقول مجلس الشورى في الحكم "بما أن القانون رقم 60 الصادر فـي 1999/3/31 أجاز للحكومة إبرام اتفاقية حول تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلـة بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة الجمهورية الفرنسية...". ثم عـرض الحكـم لجوهر مضمون هذه الاتفاقية في تشجيع وحماية الاستثمارات، وتابع: "وبما أنه ثبـت بأقوال المستدعى ضدها المعززة بالمستندات... إن غالبية أسـهـم شـركة F.T.M.L اللبنانية التي تم التنازل عن العقد لمصلحتها مملوكة من شركة F.T.M.L الفرنسية. وهذا يعني أن الشركة اللبنانية خاضعة لسيطرة الشركة الفرنسية على الأقل "بـصورة غير مباشر. من هنا وجوب تطبيـق الاتفاقيـة موضـوع المناقشة علـى النـزاع المعروض...".

ثم يعرض الحكم في هذا الشأن إلى أن المادة السادسة من الاتفاقية إمكانية اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاعات الناشئ عن الاستثمارات بين البلدين في حال فشل الاتفاق أو التسوية الودية خلال فترة الستة أشهر من تاريخ نشوئه، فإنه يحال على التحكيم بنـاء على طلب أي من الفريقين طرفي الخلاف لدى المركز الدولي لتسوية الخلافات حول الاستثمارات المنشأ بموجب اتفاقية واشنطن لعام 1965 في شأن تسوية الخلافات حول الاستثمارات بين الدول ورعايا دول أخرى.

وإذا كان أحد الفريقين المتعاقدين غير منضم إلى اتفاقية واشنطن المشار إليها، يحـال الخلاف على التحكيم، بناء على طلب أي من الطرفين لدى هيئة تحكيمية خاصة تنشأ بموجب أنظمة التحكيم الخاصة بلجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية.

29- ولقد أبرز الحكم أن الاتفاقية المعنية تطبق في إطار النزاع الحالي، مما يفيـد جـواز تطبيق آلية التحكيم الوارد فيها العقد موضوع النزاع رغم صـفته الإداريـة. وكنـا نتصور أنه بعد كل ذلك سينتهي مجلس الشورى في الحكم إلى رفض إبطـال البنـد التحكيمي موضوع النزاع، باعتبار أن تأسسه قد تم على أسـاس الاتفاقيـة اللبنانيـة الفرنسية التي أجازت مبدأ التحكيم في العقود الناشئة عن الاستثمارات بـين البلـدين وشركاتهما. ولكن مع ذلك انتهى المجلس إلى بطلان البند التحكيمي الوارد في المـادة 30 من العقد محل النزاع في القضية؛ وذلك بسبب أنه لم يتبع ذات الآلية التحكيميـة المرسومة في الاتفاقية المشار إليها، وإنما نصت هذه المادة 30 على التحكيم في غرفة التجارة الدولية بباريس. –

ثالثاً- بعض التساؤلات حول عقد امتياز المرفق العام:

30- حاولت الشركة المستدعى ضدها – دون أن تفلـح – أن عن العقـد الإداري موضوع النزاع صفته كعقد امتیاز مرفق عام، وقد فند مجلس شورى الدولـة هـذه الدفوع، ورد عليها بالنفي تباعاً، ليؤكد وعن حق طبيعة العقد الحقيقية المتمثل بأنه عقد امتیاز مرفق عام. ومن هنا تأتي أهمية الحكم أيضاً ليرد علـى تلـك التساؤلات أو مواطن التشكيك في طبيعة العقد كعقد امتياز. كذلك أكد الحكم – وهذا مـوطن آخـر لأهميته – إن عقد الـ .B.O.T الشهير والذي تلجأ إليه الدول الناميـة فـي العـصر الحاضر بكثرة، ما هو إلا صورة من عقد إمتياز المرفق العام لكونه يستجمع مقومات هذا العقد الأساسية. وهذا ما سوف نراه في الفقرة التالية:

31- أ- أولا- عن التساؤلات المثارة حول طبيعة عقد امتياز المرفق العام، فقـد أثارتهـا الشركة المستدعى ضدها ورد عليها تباعا مجلس الشورى كما يلي: - الإدعاء بأنه لا مجال للقول بوجود عقد امتياز عندما يـتم التلـزيـم عـن طـريـق المناقصات واستدراج العروض.

ربما قد يكون أساس هذا الإدعاء من جانب المستدعى ضدها هو أنه عـادة الاتجاه الشائع أن يتم إبرام عقد امتياز المرفق العام بناء على سلطة الإدارة الإستنسابية شبه المطلقة بأسلوب الاختيار المباشر، وليس بأسلوب المناقصات واستدراج العروض للمفاضلة، كما يحدث في باقي العقود الإدارية الشائعة مثل عقـدي الأشغال العامـة والتوريد (توريد اللوازم).

وذلك بالنظر إلى أن عقد الامتياز ليس عقداً إدارياً عادياً، بل أخطر وأهم من ذلك هو يمثل أحد أساليب إدارة المرافق العامة، بواسطة شركة خاصة على نفقتها ومسؤوليتها لقاء تقاضي رسوماً من المنتفعين بالمرفق. ولهذا يجب أن تتوافر في هـذه الـشركة القدرة المالية الكبيرة، وكذلك القدرة الفنية التخصصية في الإدارة، وبالذات في نوعية المرفق العام المعنية.

ولكن – وهو ما أثبته مجلس الشورى بحق – ليس ما يمنع مع ذلك أن تلجأ الدولة إلـى أسلوب المناقصة العامة والدولية بإستدراج العـروض بـيـن الـشركات العالميـة – أو الداخلية – الكبرى المتخصصة وذات السمعة وذات القدرات المتميـزة، حتـى تختـار الحكومة أفضلها لمصلحة المرفق العام. وأضاف مجلس الشورى لتدعيم رأيـه فـي أن العقد موضوع المراجعة هو امتياز، منح بناء على قانون، رخص للحكومـة صـراحة بإجراء الامتياز عن طريق استدراج العروض؛ وأضاف القانون بأن تحـدد التفاصــل والأصول العائدة للمشروع فنياً وإدارياً واستثمارياً ومالياً بمراسيم تتخـذ فـي مجلـس الوزراء. ولا شك في أن استصدار قانون خاص بالترخيص بالتلزيم يؤكد صـفة العقـد کامتیاز مرفق عام، لأن المادة 89 من الدستور اللبناني استلزمت ذلك لأهمية هذا العقد.

32- ب- إن المشرع في القانون رقم 93/218 لم يعط أي امتياز، بدليل أنـه أطلـق يـد الحكومة في التعاقد مع أكثر من شركة. أي أن التساؤل الثاني المثـار مـن جـانـب المستدعى ضدها بأن عقد امتياز المرفق العام يتضمن بالضرورة إنشاء احتكـار فـي إدارة المرفق العام وتجهيزه من شركة واحدة هـي الـشركة الملتزمـة أو صـاحبة الامتياز.

في الحقيقة، يبدو الامتياز في غالب الأمر بصورة احتكار للشركة التي وقع عليها اختيار الحكومة أو الوزارة. ولكن في المقابل، وكما أثبت عن وجه حق مجلس شورى الدولة، فإن هذا الاحتكار لا يعتبر شرطاً ضرورياً يتصل بطبيعة وجوهر عقد امتياز المرفـق العام. وخير دليل على ذلك أن القانون رقم 93/218 أراد أن تكون للحكومة رؤيتهـا واستنسابها إذا ما شاءت أن تمنح الامتياز أو التعاقد مع أكثر مـن شـركة واحـدة. والمشرع هنا قد يرى أن تحقيق المصلحة العامة قد يتطلب نوعاً من التعدديـة بـين الشركات، بحيث ينصب التلزيم على أكثر من شركة كما رأينا في شـأن الاتصالات الخلوية.

إن الاحتكار كما نعلم هو نظام متميز لا يرتبط حتماً بالإمتياز؛ والدليل على ذلـك أن المادة 89 من الدستور اللبناني تفرق بين هاتين الطريقتين: أن هذه المـادة اسـتلزمت إصدار قانون عن المجلس النيابي سواء بالنسبة لامتياز المرفق العام أو لاستثمار ثروة طبيعية، أو سواء بالنسبة لإنشاء احتكار. إذا الاختلاف واضح؛ صريح وظاهر. وهذا ما يحملنا على التأكيد أن إيجاد نوع معين من الازدواجية أو التعددية هو خيار أنـسب للمصلحة العامة أكثر من السعي وراء احتكار ينزل أشد الضرر بالمنتفعين من المرفق العام.

33- أخيراً، ولنفي صفة عقد الإمتياز لجأت الشركة المـستدعى ضـدها إلـى أن اسـتناد المستشار المقرر في تقريره إلى قرار سابق لمجلس شورى الدولة هو استناد في غير محله - والمقصود بالطبع هو قرار المجلـس الـصـادر تحـت رقـم 585 تـاريخ 1996/5/9 .

هذا وقد فقد مجلس الشورى في الحكم هذا الإدعاء بقوله أن القرار رقم 585 وصـف عقد الـ (B.O.T) بأنه عقد امتياز مرفق عام؛ لكنه في المقابل فـرق بـيـن امتیـاز المرافق العامة وبين امتياز الأشغال العامة؛ خصوصاً من الناحية الدستورية حيـث يتطلب العقد الأول صدور قانون خاص من المجلس النيابي بخلاف العقد الثاني.

أما محاولة الشركة المزج بين عقد امتياز المرفق العـام والعقـد الحـديث المـسمى الـ (B.O.T) وبأنهما لا يختلفان في الجوهر؛ فقد ورد في الحكم وأيضاً فـي تقريـر المستشار المقرر للرد على ادعاء الشركة بأنهما عقدان مختلفان في طبيعتهما.

وكما أثبت مجلس الشورى وبحق أن قـرار المجلـس الـسابق رقـم 585 تـاريخ 1996/5/9، كان قد أكد لأول مرة أن عقد الـ (B.O.T) هو الصورة المعاصـرة أو المستحدثة لعقد امتياز المرافق العامة، فهما يتفقان في الجوهر؛ غاية مـا هنالـك أن الـ (B.O.T) هي التسمية الإنجلوسكسونية من حيث المظهر الشكلي فقـط. وعـاد مجلس الشورى في القضية محل التعليق ليؤكد مرة ثانية هذه الحقيقة، موضحاً تماثـل عناصر عقد الـ (B.O.T) مع ذات عناصر عقـد امتيـاز المرفـق العـام. فعقـد الـ (B.O.T) يعني ثلاثة عناصر هي:"B" أي Build إنـشاء (أو تجهيـز المنـشآت والأدوات) و "O" أي operate بمعنى تشغيل المرفق العام و "T" بمعنى transfer أي إعادة المرفق العام بمنشآته وتجهيزاته إلى الدولة. وهذه العناصر الثلاثة هي ذات عناصر عقد امتياز المرفق العام، فعقد الامتياز هو الأصـل وهـذا ومفهومه الفرنسي؛ وعقد الـ B.O.T هو الـصورة المـستحدثة فـي المفهـوم الإنجلوسكسوني. ولكن جوهرها واحد، والأصح القول بأن الإنجلوسكسوني نهـل و معنـاه من الأصل الفرنسي.

رابعاً- العقد الإداري يمكن أن يكون موضوعاً لدعوى إبطال:

34- نفت الشركة المستدعى ضدها، أي إمكانية لأن يكون العقد الإداري موضوعاً لدعوى إبطال. ذلك أن دعاوى العقد قد تكون للمطالبة بحقوق ذاتية من المتعاقـد الإدارة وهي الصورة الغالبة، كمثل الحقوق المالية المستمدة من بنود العقد، وإمـا للمطالبـة بتطبيق الظروف الطارئة والتعويض عن عبئها الذي أخل بتوازن العقد علـى نـحـو صارخ، وإما لطلب التعويض عن تعديل الإدارة للعقد؛ وأخيراً بطلب فسخه لإخـلال الإدارة بالتزاماتها على نحو شديد أو لوجود قوة قاهرة.

أما طلب إبطال العقد الإداري أو بعض بنوده، كما في المنازعة الراهنة فهو أمر غير مألوف، لأنه يبدو أن ذلك يدخلنا في إطار قضاء المشروعية والذي يتعلق بـالقرارات الإدارية وتجاوزها لحد السلطة.

وأضافت الشركة في هذا الإطار الذي عرضناه أن طلب إبطال العقد أو بعض بنـوده أمر يمتنع أن يختص به القضاء الإداري، لأنه بذلك يتدخل في أعمـال الإدارة عـن طريق إلزامها بموقف غير الذي ارتضته. وربما نرد على ذلك بالقول بأن الأمر هنـا في الإتجاه العكسي، إذ أن الإدارة ذاتها هي التي تطلب من القاضي الإداري إبطـال أحد بنود العقد وهو البند التحكيمي، وطلب الإبطال لم يأت من الشركة كشخص خاص في مواجهة الإدارة!

35- وعلى أية حال، فإن مجلس الشورى تصدى في القضية لهذه المسألة، مؤكداً أنه لـيس ما يمنع من إمكانية وجود دعوى بطلب إبطال العقد الإداري، وذلك بقوله أنه لو كـان صحيحاً عدم إمكانية ذلك لأصبح محظوراً على القاضـي الإداري النظـر فـي أي موضوع يتعلق بالعقود الإدارية، وليس هذا الأمر وارداً أو ممكناً بالطبع. وقد عـالج مجلس الشورى ذلك في بند تأكيد اختصاصه بالمنازعة.

وفي هذا الإطار، لا نستطيع هنا أن نمنع أنفسنا من بيان عدم قوة هذا الرد من جانـب مجلس الشورى في هذه النقطة. فهو لم يرد بصورة محددة وواضحة ليبين كيـف أن منازعات العقود هي قضاء شامل يمكن أن تتضمن نزاعـاً خاصـاً بالمشروعية أي مشروعية العقد. ...

ونحن نقول: ولماذا لا؟ لأن الفصل بين قضاء المشروعية والإبطال والقضاء الشامل، إذا كان واضحاً من حيث المبدأ العام ومجالات تطبيقهما، إلا أن هناك حـالات جديـة يتلامس ويختلط فيها أو يمتزج فيها النوعان من القضاء، خصوصاً أن موضـوعات القانون العام ليست كلها دائماً أبيض وأسود. ولنضرب مثلاً على ذلك: القضايا المتعلقة بالحقوق المالية للموظفين، فلو أن الإدارة أخطأت في تحديد التعـويض الـذي حــده النص القانوني لأحد الموظفين أو حتى راتبه؛ إن هذه الدعوى هـي دعـوى قـضـاء شامل، ومع ذلك فالموظف يطلب إبطال قرار الإدارة وإعادة التقدير القانوني الـسليم. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن منازعات الضرائب والرسوم رغم أنها تعرض أمـام مجلس الشورى بطريق الاستئناف، والأمر نفسه في منازعات الانتخابات الإدارية إذا ما طلب المرشح الخاسر إبطال الانتخاب رغم أن هذه المنازعات تقليديا تنتم القضاء الشامل. وبالتالي، فليس ما يحول قانوناً من أن يطلب أحد الفريقين فـي عقـد إداري إبطال هذا العقد أو أحد بنوده، ولا سيما إذا طلب المتعاقد مع الإدارة هذا الأمر نظراً لما شاب إبرام العقد من مخالفة قانونية كخرق مبدأ المساواة في مناقصة عامة أو إستدراج عروض إلخ ...

خامساً- مراجعة تفسير تقدير مشروعية عمل إداري:

36- تمسكت الشركة المستدعى ضدها بعدم قبول المراجعة المقدمة من قبل الدولة لإبطـال البند التحكيمي في العقد؛ والسبب في ذلك يرجع بحسب وجهة نظرها إلـى أن هـذه المراجعة لا تنتمي إلى فئة مراجعات تفسير العمل الإداري، نظراً لوضوح بنود العقد. ليس هذا فحسب، بل ذهبت الشركة المستدعية إلى حد التصور بأنه حتى ولو تمثلـت هذه المراجعة التي بين أيدينا بشكل طلب تقدير صحة أو مشروعية عمل إداري، فإنه لا يجوز الجمع بينها وبين طلب التفسير؛ أو لا يجوز تقرير طلب تقدير صـحة هـذا العمل بدعوى أو مراجعة مباشرة، بل في إطار مراجعة عدلية أو أصلية أثيرت خلالها مسألة مشروعية العمل الإداري تبقى لمفهوم المادة 65 من نظام مجلس شورى الدولة. إن إثارة هذه الإشكالية المتعلقة بتطبيق المادة 65، قد رفضها مجلس الشورى مـن الأساس، بل رفض حتى مجرد البحث فيها؛ لأنها وبحسب رأيه تتعلق بتفسير أو تقدير مشروعية عمل إداري فردي أي قرار إداري، وليس عملاً إدارياً تعاقدياً. وفـي هـذا الإطار، ذكر مجلس الشورى ما سبق وأشار إليه بأن المنازعة موضوع هذه المراجعة هي منازعة قضاء شامل تتعلق بصحة أو إبطال أحد بنود عقـد إداري؛ ومنازعـات العقود الإدارية هي كما نعرف تنضوي تحت راية منازعات القضاء الشامل؛ مما يعني أننا خارج إطار المادة 65 من نظام مجلس شورى الدولة.

37- هذا وفي سبيل التأكيد على اجتهاده اعتبر مجلس الشورى أن مراجعة التفسير أو تقدير مشروعية عمل إداري معين التي يمكن أن تثور بمناسبة مراجعة عدليـة تـستوجب وجود ما سمي المسألة المستأخرة. يستأخر على أثرها القاضي العـدلي النظـر فـي الدعوى بعد اطلاعه على مشروعية هذا العمل، أو على مدلولاته من قبـل القاضـي الإداري. لكن هذا الأمر لا يمنع من إقامة مثل هذه المراجعات بـصورة مباشـرة؛ أو حتى الجمع في المراجعة نفسها بين طلبي تفسير العمل الإداري وتقدير مشروعيته في آن واحد، وقد استشهد مجلس الشورى على هذا الأمر بقراره السابق رقـم 91/110- 92 تاريخ 1992/3/16 مجلة القضاء الإداري عدد 1992-1993 ص314.

38- وبالتالي، ، فلماذا يكون الجمع غير ممكن بين هذين الطلبين؟ فلنفرض أننا إزاء مـشكلة متعلقة بغموض قرار إداري في مضمونه ومعناه، وقد ثار في الوقت نفسه مدى صحة هذا القرار وشرعيته من الناحية القانونية. فالحقيقة هنا فإنه ليس ما يمنع قانوناً الجمع بين المسألتين المرتبطتين في اجعة مباشرة، طالما أن تقديم المراجعة مباشرة مـن دون الاستناد إلى قرار من المحكمة العدلية هو من الأمور الممكنة؛ وقد سبق وأقـره اجتهاد مجلس شورى الدولة في قراره السالف الذكر، والذي لا يعد السابقة الأولى لهذا الاجتهاد. 39

- وفي الختام، إن مسألة التحكيم في العقود الإدارية التي هي من المسائل المهمة، وقـد بدأت تفرض نفسها شيئاً فشيئاً في القانون الداخلي. فبالرغم من جهود مجلس الشورى اللبناني المتجه نحو عدم إقرار مبدأ عدم جواز التحكيم، وبالتالي إبطال البند التحكيمي، إلا أن الوقائع والأحداث فرضت نفسها عليه. فجاء التعديل التشريعي لعام 2002 فـي قانون أصول المحاكمات المدنية ليجيز التحكيم في العقود الإدارية مع شرط بسيط ليس من الصعب تجاوزه أو تحققه، وهو إجازته في العقد الإداري بمرسوم صـادر عـن مجلس الوزراء. ولا ننسى ما قد يصيب المصلحة القومية مـن أضـرار وكـم مـن الخسائر ستلحق بجهود التنمية إزاء عقد B.O.T ضخم استلزم الطـرف الأجنبـي المستثمر خضوع منازعاته للتحكيم، وجاء مجلس شورى الدولة ليبطل البند التحكيمي فيه، في حين سبق لمجلس الوزراء أن وافق عليه بمرسوم. لكن، هذه القضية علـى أهميتها لم تحجب قضايا أخرى تصدى لها مجلس الشورى ببراعته المعهودة. ولاسيما تلك المتمثلة بإمكانية تقديم مراجعة مباشرة لإبطال عقد إداري أو أحد بنـوده دون أن يخرج ذلك عن إطار مراجعات القضاء الشامل، وكذلك إمكانيـة مراجعـة التفسير المباشرة لعمل إداري، أو أخيراً إمكانية الجمع بين طلبي التفسير وتقـدير مشروعية العمل الإداري. وهكذا يثبت القضاء الإداري أنه قضاء إنشائي متطور؛ إذ أنه وعلـى الرغم من استقرار المبادئ الكبرى في القانون العام، إلا أن تفاصيل تطبيقاتهـا تثيـر دائماً النقاش والخلاف والاجتهاد؛ وهذا راجع بالطبع إلى أن الحقيقة لا تنجلي دائماً إلا بالحوار والنقاش العلمي المتميز بالشفافية والصدق.

فالقاضي الإداري الذي لا يستطيع التغاضي عن النصوص القانونية، فإنه يحاول أحياناً تلطيفها والتخفيف من صلابتها قدر المستطاع (يراجع: د.غالب غانم- اجتهاد مجلـس شورى الدولة اللبناني في حقلي التحكيم والاستثمار - مقالة سابقة الذكر).