الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن / رضاء حامل سند الشحن بشرط التحكيم بالإشارة دراسة تأصيلية مقارنة

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    303

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

    يتحقق النقل البحري للبضائع عن طريق العديد من العقود، وهي ليست كلها علـى نمـط واحـد، حيث يبرز من بينها "عقد نقل البضائع" و"عقد إيجار السفينة". فحيثما لا تكون البضائع بـالحجم الـذي يستلزم تخصيص سفينة كاملة أو جزء كبير منها لصالح نقلها؛ فإن متلقي خدمة النقل يلجـأ إلـى عقـد النقل البحري للبضائع. فإذا ما زاد حجم البضائع بالمقارنة بالسفينة الناقلة؛ فإن متلقي خدمة النقل يلج إلى استئجار السفينة لتنفيذ النقل. وإيجار السفن على أنواع، على أن الإيجار الـذي يـتم اللجـوء إليـه للحصول على النقل، هو إيجار السفينة مجهزة، لفترة زمنية أو لرحلة، والحالة الأخيرة هي الغالبة.

    وتحتل الكتابة أهمية كبيرة في شأن إثبات انعقاد النقل البحري وتنفيذه، سواء فـي مجـال عقد النقل البحري أو عقد إيجار السفينة. ففي مجال عقد النقل البحري للبضائع يتم إدراج بنـود التعاقد في مستند يصدر عن الناقل البحري أو ممن يمثله يطلق عليه "سند الشحن"، كذلك في عقد النقل البحري للبضائع بموجب مشارطة إيجار السفينة، فإن بنود العقد يتم إثباتها فـي "مـشارطة الإيجار". فكل من "سند الشحن" و"مشارطة الإيجار" تعبير عـن المحـرر "instrumentum" المثبت للعقد .

    ولئن كان تنفيذ النقل يتم بموجب عقد نقل البضائع وعقد إيجار السفينة، إلا أن ذلك لا يؤدي إلى الخلط بين العقدين، فلكل منهما طبيعته، وبالتالي نظامه القانوني. ويشترك العقدين فـي أن الناقل والمالك المجهز يسلم الشاحن مستنداً يثبت الاستلام، بل ويمكن هذا الشاحن من التـصرف فى الشحنة بالتصرف في هذا المستند، إنه سند الشحن.

   وبخلاف سند الشحن الصادر تنفيذا لعقد النقل البحري للبضائع؛ فإن سند الـشـحن الـصـادر تنفيذا لإيجار السفينة لا يتضمن شروط العقد، فهي واردة في مشارطة الإيجار، محرر إثبات عقد الإيجار، وتفادياً لتكرار بنود التعاقد بين سند الشحن الصادر بالتطبيق لمشارطة الإيجـار، وتلـك المشارطة؛ فإن هذا السند قد يتضمن إشارة (أو إحالة) إلى البنود الواردة في مشارطة الإيجار بما شأنه تكرار حكمها في سند الشحن، ودون الحاجة إلى تكرار نصها في السند. تلك الإشـارة (أو الإحالة) تتطلب العديد من الضوابط لتحقيق هذا الأثر، والذي يطلق عليه "الاحتجـاج" ببنـود مشارطة الإيجار في مواجهة أطراف سند الشحن، أو "اندماج" بنود المشارطة في سند الشحن.

    وتظهر أهمية ضوابط اندماج بند المشارطة في سند الشحن في الحالات التي يختلـف فيهـا أطراف مشارطة إيجار السفينة عن سند الشحن، وهو ما يتحقق في العلاقة بين حامل سند الشحن ومؤجر السفينة. فحامل سند الشحن، وهو المرسل إليه أو من يحل محله (مظهر إليه، أو مـؤمن البضائع)، يغلب ألا يكون طرفاً في عقد الإيجار، وهو بالتالي قد لا يعلم ببنود مشارطتها، فمــدى حقوقه والتزاماته يتحدد بسنده في طلب استلام الشحنة، ألا وهو سند الشحن. وذلك هو الوضع في عقد البيع سيف، والذي ينفذ البائع التزامه بالنقل بموجب عقد إيجار سفينة، فالبائع هو المـستأجر الشاحن، والمشتري هو المرسل إليه، بعكس الحال بشأن عقد البيع فوب، فالمشتري هـو الـذي يتحمل عبء إبرام عقد النقل، فإذا ما تم عن طريق استئجار سفينة، كان البائع الشاحن هو الغير، وكان المشتري (المستأجر) هو الطرف الآخر في عقد إيجار السفينة. واندماج شرط التحكيم فـي سند الشحن لا يثور في الحالة الثانية، والحال أن المرسل إليه طرف في عقد إيجار السفينة.

    وبعكس الحال عما هو عليه في سندات الشحن النموذجية، فإن مشارطات الإيجار النموذجية يغلب أن تتضمن شرط تحكيم. وحيث إن شرط التحكيم ليس من البنود التي تستلزمها عملية النقل ذاتها، فضلاً عن أنه قد يشكل عبء على متلقي خدمة النقل، فقد اختلف القضاء المقـارن حـول الضوابط المتطلبة لإلزام حامل سند الشحن بشرط التحكيم الوارد في مشارطة الإيجـار نتيجـة إشارة سند الشحن إليه.

   وما شرط التحكيم بالإشارة (أو بالإحالة) إلا صورة من صور شرط التحكيم؛ ومن هنا لم يعتن المشرع بتعريفه ولكن بوضع الضابط الذي به تحقق تلك الإشارة (أو الإحالة) ها، ألا وهي التزام أطراف العقد المشير بالشرط المشار إليه، وهو ما يعبر عنه باصطلاح "الاحتجاج بشرط التحكيم" أو كما يشار إليه في مجال النقل البحري باندماج شـرط التحكـيم فـي سـنـد الشحن.

    ولم يعتن المشرع المصري بتعريف "شرط التحكيم بالإشارة، وهـو الـذي يـشار إليـه باصطلاحات أخرى منها "شرط التحكيم بالإحالة"، و"شرط التحكيم المندمج"؛ فهو محض وصف فقهي لأحد أنماط شروط التحكيم، على أنه يمكن تعريفه في مجال إشارة سـنـد الـشـحن إلـى مشارطة الإيجار بأنه: "بند غير مدرج في سند الشحن، ولكنه يوجد في مشارطة إيجار الـسفينة الناقلة، حيث يشير إليه السند على نحو يؤدي إلى اندماجه ضمن بنوده، فتلتزم به أطـراف سـند الشحن (حامل السند ومالك السفينة) وإن اختلفوا عن علاقة المستند المشار إليه (المستأجر ومالك السفينة)".

    ونفضل اصطلاح "شرط التحكيم بالإشارة" على "شرط التحكيم بالإحالة"، حيث إن لاصطلاح "الإحالة" مفهوم فني خاص في إطار القانون الدولي الخاص. كما أن الاصطلاح المختار يفـضل ادفه، "شرط التحكيم المندمج"، من حيث صدقه في التعبير عن أهم ما يميز هذا الشرط، فهو لا يرد في صلب العقد، ولكن في مستند آخر يشار إليه. فضلاً عن أن هذا هو الاصطلاح الدارج في معالجة الموضوع محل هذه الدراسة في الفقه الفرنسي، وهـو la clause arbitral par référence. مع العلم بأن هذا الشرط يطلق عليه الفقه البحري أيضاً اصطلاح شرط التحكيم "غير المباشر .

    وبخلاف العلاقـات التجاريـة الدوليـة، والتـي ظهـور اتفـاق التحكيم؛ فإن عقد النقل البحري الدولي للبضائع يندر أن يتضمن شرط التحكـيم. علـى أن استخدام سندات الشحن في النقل البحري للبضائع بموجب مشارطة إيجار الـسفينة، وفـي ظـل انتشار استخدام شروط التحكيم في هذا النوع من المشارطات، طرح التساؤل نفسه حول مـا إذا كان شرط التحكيم الوارد في عقد الإيجار يمتد إلى المرسل إليه، والحال أنه ليس بطرف في عقد إيجار السفينة، وذلك إذا ما تضمن ذلك السند إشارة إلى عقد الإيجار؟ وهو التساؤل الذي يظل له محل سواء تقدم المرسل إليه المسمى في سند الشحن لاستلام الشحنة، أو حل محله آخر (مظهـر إليه ، أو حلول المؤمن البحري). إنه التساؤل الذي يدور حول ضوابط القول برضاء المرسل إليه بشرط التحكيم، حتى يلتزم به (أي يحتج به عليه) والحال أنه لم يرد في مستنده، سند الشحن؟

    وعلى الرغم من أن البعض يتحدث عن الاحتجاج بشرط التحكيم بالإشارة، أو اندماجه فـي سند الشحن، إلا أن الباحث يفضل الحديث عن "رضاء المرسل إليه"، وليس "الاحتجـاج" أو "الاندماج"، فالاحتجاج أثر للرضاء، والاندماج قرينة عليه؛ ودراسة الظاهرة يتم بالتعامـل معهـا ذاتها وليس بأثرها أو قرائن وجودها.

    ويعـرف الفقه سند الشحن بأنه "إيصال يصدر من الناقل أو الربان بتسلمه البـضائع علـى ظهـر السفينة ، فهو دليل إثبات شروط عقد النقل وتنفيذه ، فضلاً عن تمثيله للبضاعة يطلبه . بما يمكن من تداولهـا بتداولـه بالطرق التجارية؛ ويلتزم الناقل بتمكين الـشاحن منـه حيثمـا يطلبه .

    وناهياً عن الذكر أن القليل من نماذج سندات الشحن الدولية تتضمن في ذاتها شروط تحكيم، حيث يشتهر منها سند شحن شل ”Shell Bill“ والذي يتضمن عدة اختيـارات منهـا، اختيـاراً للتحكيم ، وهو ما يخرج عن نطاق هذه الدراسة. كذلك يستبعد من نطاق هذه الدراسة شـرط التحكيم بالإشارة في سند الشحن عندما يكون ذات أطراف المستند المشار إليه هم أطراف المستند المشير (سند الشحن). كأن تكون الشركة المرسل إليها فرعاً للشركة المرسلة (المستأجرة)، فهنا لا توجد مشكلة فسند الشحن سيعد مجرد إيصال، والعلاقة العقدية تخضع للمستند المشار إليه. وذات الأمر يتحقق حينما يكون حامل السند طرفاً في عقد إيجار السفينة، وذلك هو الحال في عقد البيع فوب، كما سبقت الإشارة.

   ولقد حاولت قواعد هامبورج لعام 1978 المعاونة في وضع ضابط لاندماج شرط التحكـيم في سند الشحن، وهو الضابط الذي يرد في النص العربي باصطلاح "الملاحظة الخاصة" (المادة 22/2)، وهو تعبير غير واضح .

     وبذلك حق التساؤل عما إذا كان القضاء المصري - ومثيله من الدول التي تطبـق قواعـد هامبورج لعام 1978 (وفي المستقبل قواعد روتردام لعام 2008) - مطالب بإعادة النظر فيمـا بلوره من ضوابط في ظل غياب النص القانوني بشأن اندماج شرط التحكيم بالإشارة؛ مع العلـم بأن قانون التحكيم المصري، والصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1994، قد تحدث أيضاً عن ضابط اندماج شرط التحكيم بالإشارة بصفة عامة، فتطلب في شأنه أن يكون "واضحاً".

    ولا تتفق الأنظمة القانونية المختلفة، تشريعاً وقضاء، من مشكلة ضابط اندماج شرط التحكيم بالإشارة في سند الشحن؛ على أنه قد يكون من الأهمية العملية البدء بتحديد متـى يكـون حـلاً تشريعياً أو قضائياً ما ملزماً للقضاء المصري، وذلك قبل المقارنة الموضوعية بـين اتجاهـات القضاء المقارن. وبذلك تنقسم هذه الدراسة إلى فصلين، يتناول الأول منها تحديد القانون الواجب التطبيق على رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة؛ يعقبه الثاني والذي يتنـاول التحليـل الموضوعي لأحكام ضوابط رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة في القانون والقـضاء المقارن.

الفصل الأول: تحديد القانون الواجب التطبيق على رقابة رضاء المرسل إليه:

    يتميز النقل البحري بغالبية دوليته، فهو يتم لخدمة التجارة الدولية بين مواني الدول المختلفـة. كذلك الأمر بالنسبة لمشكلة البحث الماثل، فهي مشكلة ترتبط بالتجارة الدولية المنقولة بحـراً بـين الدول. وبذلك، فإنه وقبل التعرف على الأحكام الموضعية المختلفة والتي توجد في هذه الدولـة أو تلك بشأن المشكلة محل الدراسة، فإنه يجدر أولاً تحديد متى يكون هذا الحل أو ذاك واجب التطبيق،إنه الأمر الذي يتطلب تناول آلية تحديد القانون الواجب التطبيق على رقابة رضاء المرسـل إليـه هي آلية ذات شقين: الأول منها يتعلق بتحديد المختص بنظر النزاع؛ أما الشق الثاني، فهو المنهج الذي سوف يتبعه القضاء المختص في تحديد القانون الواجب التطبيق على تلك الرقابة.

المبحث الأول: الاختصاص بتحديد القانون الواجب التطبيق على رضاء المرسل إليه:

    تتعدد فروض القضاء المختص والذي سوف يدعى للفصل في مشكلة رضاء المرسل إليـه. فالغالب أن يلجأ المرسل إليه إلى القضاء، فيدفع الناقل بعدم القبول لوجود شرط التحكيم بالإشارة، فهل يجوز عندئذ للقضاء التعرض لمدى وجود شرط التحكيم بالإشارة، أم يتعين عليه ترك ذلـك للمحكم، تطبيقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص. إنه الموقف الذي يتنازعه القضاء الفرنسي رأيين، يصفهما الباحث بمذهب الاختصاص القاصر؛ في مواجهة الاختصاص المشترك.

أولاً: مذهب الاختصاص القاصر للمحكم في رقابة رضاء حامل الـسن- الأثـر الـسلبي لمبـدأ الاختصاص بالاختصاص:

    على الرغم من أن القضاء الفرنسي يتبنى ضوابط متشددة للقول برضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة، مما يفسح المجال إلى اتساع فرصة اختصاص القضاء بنظر المنازعات التـى تثار فيها مثل تلك الشروط، وهو ما سوف يتم تناوله تفصيلاً في أحكام الفصل الثاني؛ إلا أن هذا الاتجاه قد فقد أهميته الفعلية بما صدر من أحكام قضائية فرنسية في مجال آخر، ألا وهو مجـال تحديد المختص برقابة استيفاء تلك الضوابط، وذلك بموجب حكمين قضائيين صدرا فـي عـامي 2005 و2006، في قضيتي السفينتين "Lindos" و "Pella".

1- استعراض قضاء "Lindos" و"Pella":

    بموجب حكمين قضائيين صـدرا فـي عـامي 2005 و2006، فـي قـضيتي السفينتين Lindos"Pella""، انتهت محكمة النقض الفرنسية إلى أن المختص ببحث تلك الـضوابط هو المحكم، وذلك تطبيقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، والذي قننه المشرع الفرنسي في المادة 1466 من قانون المرافعات الفرنسي. وذلـك تطبيقـاً للأثـر الـسلبي لمبـدأ الاختـصاص بالاختصاص، والذي يمتنع بموجبه على القضاء التعرض بداءة لما يتعلق بأختـصاص المحكـم، فهذا من شأنه على أن له أن يراقبه عقب ذلك، ومن ذلك المنازعة أمام القضاء حول صـحة أو مضمون شرط التحكيم .

2- نقد قضاء "Lindos" و"Pella":

    انتقد الفقيهان بوناسييه وسكابل قضاء "Lindos" و "Pella"، حيث وصفا هذا القضاء بالتطبيق المتشدد وشبه الآلي لقانون التحكيم، وذلك بالنسبة لمبدأ الاختصاص بالاختصاص فـي وجـهـه السلبي، حيث عززا نقدهما بالحجج التالية: استحالة الرقابة الفعلية في فرنسا؛ وارتفـاع تكلفـة التقاضي على أصحاب الشأن في البضاعة؛ وخطر الخضوع لاختصاص موضـوعي مختلـف؛ الجور على الاختصاص القضائي؛ تعطيل بعض المعاهدات الدولية البحرية الهامة؛ مخالفة الدستور بإنكار العدالة؛ حيثما لم يلجأ أي من الأطراف إلى التحكيم كان على القضاء الحكم؛ بعض الأنظمـة القانونية الأجنبية لا تعرف مبدأ الاختصاص بالاختصاص؛ وتفصيل ذلك كالتالي:

أ- استحالة الرقابة الفعلية في فرنسا:

    إذا أخذ في الحسبان بأن شرط التحكيم بالإشارة يشير إلى مشارطات إيجار تستقر أغلبهـا على إجراء التحكيم في خارج فرنسا، وبصفة خاصة في المملكة المتحدة، فـإن الأخـذ بقـضاء الاختصاص القاصر للمحكم في الرقابة سوف يؤدي من الناحية الفعلية إلى استحالة رقابة صـحة ونفاذ شرط التحكيم في فرنسا.

ب- ارتفاع تكلفة التقاضي على أصحاب الشأن في البضاعة:

    وحيث إن الغالب في القضايا المثار بشأنها شرط التحكيم بالإشارة هو تعلقها بدعاوى يرفعها المرسل إليهم على الناقلين، أو دعاوى من يحل محلهم مـن مـؤمنـي البـضاعة، فـإن نظريـة الاختصاص القاصر للمحكم في الرقابة سوف يؤدي إلى ارتفاع تكلفة التقاضي علـى أصـحاب الشأن في البضاعة، بما في ذلك من يحل محلهم من مؤمنيهم .

ج- خطر الخضوع لاختصاص موضوعي مختلف:

     إن غلبة اللجوء إلى التحكيم خارج فرنسا، سوف يعرض أصحاب الشأن في البضاعة خطر الخضوع لتفسيرات مختلفة للنصوص القانونية عما هو عليه الحـال فـي فرنسا، وهى نصوص يغلب عليها الطابع الأمر؛ أي هناك خطر من الخضوع لاختصاص موضوعي مختلـف عما هو عليه في فرنسا .

د - الجور على الاختصاص القضائي:

    إن قضاء الاختصاص القاصر للمحكم في شأن الرقابة سوف يؤدي إلى انهيار في اتجاه واحد للأشياء، حيث سوف يقتصر الاختصاص على التحكيم على حساب القضاء لمجرد أن يظهر في الأفق شرط تحكيم؛ أي أن هناك جور على الاختصاص القضائي عند التفسير الحرفي لمبـدأ الاختصاص بالاختصاص .

 هـ- تعطيل أحكام اتفاقية بروكسل لعام 1952 بشأن الحجز التحفظي:

    إن اتجاه القضاء نحو التطبيق الحرفي لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، وترك رقابة شـرط التحكيم للمحكم سوف يؤدي إلى خطر تعطيل معاهدة بروكسل لعام 1952 بشأن الحجز التحفظي على السفن. فإذا ما تم اللجوء إلى القضاء فرفض نظر دعوى صحة الدين لمجرد وجود شـرط تحكيم بالإشارة فإن ذلك سوف يؤدي عملاً إلى تعطيل أحكام هذه الاتفاقية .

و- مخالفة الدستور بإنكار العدالة:

    إن المحاكم وقبل أن تكون ملتزمة بتطبيق قاعدة من قواعد التشريع العادي، وهـي قاعـدة الاختصاص بالاختصاص؛ فإنها مختصة قبل كل شيء بالالتزام بقواعد الدستور والتـي تلزمهـا بالحكم، وبموجب التطبيق المتشدد لمبدأ الاختصاص بالاختصاص نكون قد أنكرنا العدالـة ضـد مصلحة المرسل إليه .

    إن مبدأ الاختصاص بالاختصاص لا يمنع القضاء من التعرض للحالات التي يكون شـرط التحكيم فيها وبوضوح باطلاً أو غير قابل للتطبيق، وعدم نفاذ شرط التحكيم في مواجهة المرسل إليه ما هو إلا صورة من صور عدم القابلية للتطبيق .

ز- حيثما لم يلجأ أي من الأطراف إلى التحكيم كان على القضاء التصدي:

    وطالما أن الطرف الذي يتمسك بشرط التحكيم لم يفعله باللجوء إليه، فـإن علـى القاضـي ممارسة اختصاصه في تنفيذ نصوص القانون، والتصدي برقابة رضاء الطرف المدعي في حقه بإلزامه باتفاق التحكيم (المرسل إليه) .

ح- بعض الأنظمة القانونية لا تعلم مبدأ الاختصاص بالاختصاص:

    ينبغي عدم المبادرة الآلية إلى تطبيق المبدأ فقد يجري التحكيم في الخارج في ظـل أنظمـة قانونية لا تعلم مبدأ الاختصاص بالاختصاص .

     وهكذا نخلص من المبحث الأول والذي خصصناه لتحديد الجهة المختصة برقابـة رضـاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة إلى أن القضاء المقارن يشهد نظريتين الأولى تتشدد بحصر ذلك في المحكم حينما يتمسك أحد الأطراف بالشرط تطبيقاً للأثـر الـسلبي لمبـدأ الاختـصاص بالاختصاص. على أن بعض الفقه ينتقد ذلك، فطالما لم يتم طرح النزاع بعد على المحكم؛ كـان من حق القضاء رقابة رضاء المرسل إليه بالشرط، والحال أن مبدأ الاختصاص بالاختصاص لا يمنعه من رقابة شرط التحكيم الواضح البطلان أو غير القابل للتطبيق، وحالة شرط التحكيم غير النافذ في مواجهة حامل سند الشحن يصلح لأن يكون من قبيل شرط التحكيم غير القابل للتطبيق.

    وبغض النظر عما إذا كان القاضي أو المحكم هو المختص ببحث رقابة رضاء المرسل إليه من عدمه؛ فإنه يحق التساؤل عن المنهج الذي سوف يتبعه هذا المحكم أو القاضـى شـأن الضوابط المقررة في هذا الشأن؟ فهل سوف يلجأ القاضي أو المحكم إلى نظامه القانوني فيطبق ما لديه من ضوابط بهذا الشأن؟ أم أنه سوف يلجأ إلى منهج تنازع القوانين والذي قد تؤدي قاعـدة الإسناد فيه إلى تطبيق قانون اختصاص هذا القاضي أو المحكم أو قانون دولة أخرى أجنبي عنه؟ هذا ما سوف يتم تناوله في المبحث التالي.

المبحث الثاني: منهج تحديد القانون الواجب التطبيق على رضاء المرسل إليه:

    يختلف القضاء المقارن في تحديد منهج القانون الواجب التطبيق حول رضاء المرسل إليـه بشرط التحكيم بالإشارة، وهو اختلاف منبعث من خلاف أكبر حول منهج القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم، حيث أتبع البعض منهج التنازع في حين فضل البعض المنهج المادي.

أولاً: منهج التنازع:

    يعد إتباع منهج التنازع، أي قاعدة الإسناد، في تحديد القانون الواجب التطبيق علـى اتفـاق التحكيم من أقدم المناهج، وهو يتميز بإمكانية أن تأتي الحلول بشكل مختلف بحسب تكييف العلاقة محل التنازع، وباختلاف القانون الواجب التطبيق على تلك العلاقة. ونركز هنا على الاختلاف العائد إلى اختلاف حول التكييف، فمن المعلوم أن النظرة التقليدية لاتفاق التحكيم ترى فيه عمـلاً إجرائيا، وعندئذ يخضع لقاعدة إسناد الأعمال الإجرائية إلى قانون بلد الإجراء؛ على أنه قد ينظر إلى اتفاق التحكيم على أنه تصرف قانوني، وهذا هو الاتجاه الحديث، وعندئذ يخضع للقانون الذي يتفق عليه الأطراف صراحة أو ضمناً أو لضوابط الإسناد الاحتياطية.

1- اتفاق التحكيم كعمل إجرائي:

     يعد تكييف اتفاق التحكيم بأنه "عمل أجرائـــي "act de procédure“، مـن الاتجاهـات القديمة والمنتقدة، وهو الاتجاه الذي يرجع في شأن كل ما يتعلق بذلك الاتفاق، وبالتـالي مـسألة الإشارة، إلى قانون دولة مكان إجراء التحكيم "lex loci arbitri“، وذلك باعتبـاره القـانون الواجب التطبيق على الإجراءات. إنه الاتجاه الذي أخذ به قـانون التحكـيم السويسري القـديم (الكونكوردا) ، ، وهو الاتجاه الذي استقر في قضاء محكمة النقض المصرية لأمد طويل.

    فبالرجوع إلى أحكام محكمة النقض المصرية، نجدها تستقر في ظل قواعد التحكيم في قانون المرافعات، والتي ألغيت بموجب قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية، والصادر بموجـب القانون رقم 27 لسنة 1994، على التكييف الإجرائي لاتفاق التحكيم". وبالتالي تركت المحكمـة بحث انعقاد اتفاق التحكيم وصحته وآثاره لقانون الدولة التي يجري فيها ذلك التحكيم. ولقد حسمت المحكمة الطبيعة الإجرائية بنصها إلى أن تطبيقها لقانون دولة إجراء التحكيم يأتي تطبيقاً لحكم المادة 22 من القانون المدني، والتي ترسي قاعدة الإسناد في المسائل الإجرائية.

    فمن المعلوم أن المادة 22 من التقنين المدني تنص على أن "يسري على قواعد الاختصاص وجميع المسائل الخاصة بالإجراءات قانون البلد الذي تقام فيه الدعوى أو تباشر فيه الإجراءات".

    وبناء عليه تصبح مسألة رضاء حامل السند بشرط التحكيم بالإشارة مسألة إجرائيـة يتـرك حسم ضوابطها للقانون الواجب التطبيق في بلد إجراء التحكيم، إنها النتيجة المنطقيـة للتكييـف الإجرائي لاتفاق التحكيم.

    وفي رأي الباحث يعد تكييف محكمة النقض المصرية لاتفاق التحكيم بكونه عملاً إجرائيـاً، تكييف وظيفي قصد منه رمي الكرة في ملعب قانون الدولة التي يجري فيها التحكيم. ففـي ظـل فترة غلب فيها الاتفاق على التحكيم في الخارج، في ظل قصور ونقد لنصوص التحكيم في قانون المرافعات القديم، لم يكن أمام محكمة النقض من مخرج لتفادي تطبيق القانون الداخلي المنتقـد، سوى التكييف الإجرائي لاتفاق التحكيم.

    فمن المعلوم إن المادة 502/3 من قانون المرافعات، وقبل إلغائها بموجب قانون التحكـيم الجديد، كانت تنص على وجوب بيان أسماء المحكمين في مشارطة التحكيم أو في اتفاق مـستقل، وذلك بنصها على أنه: "ومع مراعاة ما تقضي به القوانين الخاصة يجب تعيين أشخاص المحكمين في الاتفاق على التحكيم أو في اتفاق مستقل". وهو ما عللته المذكرة الإيضاحية لمشروع مجموعة المرافعات الصادرة لعام 1968 بأن "... الثقة في حسن تقدير المحكم وفي حسن عدالته هي فـي الأصل مبعث الاتفاق على التحكيم". وهو ما اعتبرته محكمة النقض نصاً غير متعلق بالنظــام العام، ولم تجعل منه وسيلة لعرقلة تفعيل آثار اتفاق التحكيم طالما كان القانون الواجب التطبيـق في مكان إجراء التحكيم يقره.

    ولا شك أنه بإلغاء المادة 502/3 من قانون المرافعات، لم يعد هناك مبرر لمحكمة النقض المصرية في أن تأخذ بالطبيعة الإجرائية لاتفاق التحكيم، فضلاً عما وجه إلى التكييف الإجرائـى لاتفاق التحكيم من نقد.

    فمن المعلوم أن الفقه الإجرائي التكييف الإجرائي لاتفاق التحكيم "... ذلك أن هـذا الاتفـاق قبل بدء الخصومة، فلا يمكن اعتباره عنصراً من عناصرها، وما دام لـيـس عنـصـراً فـي يبرم الخصومة، فهو لا يأخذ طبيعة أعمال الخصومة، ولا يعد بالتالي عملاً إجرائياً.

    ويستشهد الفقه الإجرائي الحديث على انتفاء الطبيعة الإجرائية لاتفاق التحكيم مـن الأمـور التالية:

  • اختلاف القانون الواجب التطبيق على موضوع وشكل اتفاق التحكيم عنه بالنسبة للقـانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم .

  • عدم مشاركة المحكم في تكوين اتفاق التحكيم، وعدم تأثر صحة ذلك الاتفاق بموقفه

  • عدم سريان مواعيد الأعمال الإجرائية على تقادم هذا الاتفاق أو سقوطه 45

  • عدم خضوع اتفاق التحكيم لمشكلة العمل الإجرائي كقيام موظف رسمي بالتوقيع عليه أو التصديق عليه، أو كتابته باللغة الرسمية للدولة.

  • لا يخضع اتفاق التحكيم لنظام البطلان الإجرائية ولكـن لنظريـة بطـلان التـصرفات القانونية .

2- اتفاق التحكيم بوصفه تصرفاً قانونياً:

    يذهب الاتجاه الحديث نحو اعتبار اتفاق التحكيم من قبيـل التـصرفات القانونيـة actes "juridiques، وبذلك يخضع لما تخضع له التصرفات القانونية من قواعد إسـناد، وحيـث إن الرضا هو ركن من أركان انعقاد اتفاق التحكيم (التصرف)، فإنه يتعلق بموضوع ذلك التصرف، وبالتالي يخضع للقانون الواجب التطبيق على موضوع اتفاق التحكيم. والراجح إنه ما لـم يتفـق الأطراف على قانون صريح لهذا الشأن طبق القانون الواجب التطبيق على العقد. وفي حالة شرط التحكيم بالإشارة في مجال سندات الشحن، فإن القانون الواجب التطبيق على التصرف هو القانون الواجب التطبيق على عقد النقل البحري للبضائع وليس مشارطة الإيجار.

 ثانياً: المنهج المادي:

    من المشاهد في العصر الحديث أن اتفاق التحكيم الدولي يتم تنظيمه بقواعد مادية قد تكـون داخلية، أو دولية، تغني في الحالتين من اللجوء إلى قاعدة الإسناد. ويحق التساؤل عما إذا كـان لذلك أثر في مجال رقابة رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة.

1- القاعدة المادية الداخلية:

    يلاحظ أن القضاء الفرنسي عندما كان يراقب رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشـارة، كان يذهب مباشرة إلى ما استقر لديه من ضوابط في هذا الشأن، وبغض النظر عن مكان إجراء التحكيم (التكييف الإجرائي لاتفاق التحكيم)، أو القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم (تكييف اتفاق التحكيم كتصرف قانوني)، لا يحد من ذلك سوى أولوية القانون الأوروبي في التطبيـق ودون الحاجة إلى تناول مضمون تلك الضوابط الآن، فإن ذلك يعني أن القضاء الفرنـسـي كـان يطبق المنهج المادي في تحديد القانون الواجب التطبيق على رضاء المرسل إليه بشرط التحكـيم بالإشارة، وذلك بإخضاعه لقاعدة قضائية مادية ذات مصدر داخلي، هـي الاجتهـاد القـضائي الفرنسي في ذلك الشأن.

2- القاعدة المادية الدولية:

    على أن المشاهد حديثا اهتمام المعاهدات الدولية للنقل البحري للبضائع، منذ صدور قواعـد هامبورج لعام 1978، وصولاً إلى قواعد روتردام لعام 2008، بتنظيم ضوابط رضاء المرسـل إليه بشرط التحكيم بالإشارة، مما يدفع إلى التساؤل حول مضمون تلك الضوابط، وآلية تطبيقها.

    فأما المضمون فإن الباحث يستبقي نقاشه إلى الفصل الثاني من هذه الدراسة، على أنه يكفي هنا الإشارة إلى أن قواعد هامبورج لعام 1978 (وقواعد روتردام لعام 2008 علـى منوالهـا): أولاً، لم تكتف بمراعاة خصوصية عقد النقل البحري للبضائع من حيث ضـابط انـدماج شـرط التحكيم، فقد تطلبت رضاء المرسل إليه دون تشدد بتطلب القبول الصريح فاكتفت بوضوح عبارة الإشارة، أي وجود قرينة على القبول الضمني؛ إنها، ثانياً، اعتنت بمراعاة الخصوصية من حيث الحد من مبدأ سلطان الإرادة بتقييد الحرية الإجرائية، وحرية تحديد القانون الواجب التطبيق. وكل ذلك على تفصيل يلي بيأنه لاحقاً.

   ونركز هنا على آلية تطبيق حلول معاهدة هامبورج لعام 1978 (وقواعـد روتردام لـعـام 2008)؛ حيث يحق التساؤل إذا ما كانت المنازعة الخاضعة لضوابط قواعد هامبورج لعام 1978 (أو قواعد روتردام لعام 2008)، هل تبقى هناك حاجة إلى الأخذ في الاعتبار بأحكـام القـانون الإجرائي في بلد إجراء التحكيم، كأن يكون القانون الإنجليزي، نظراً لأن التحكـيم اتفـق علـى إجرائه في لندن؟

    أولاً، سبق ونبه الباحث إلى أن تطبيق قانون مكان إجراء التحكيم منتقد؛ لأنه يعني التكييـف الإجرائي لاتفاق التحكيم، وهو غير صحيح، ولقد ظهر في ظروف تاريخية لم يعد لها مبرر. ثـم ثانياً، فإن قواعد هامبورج لعام 1978 (وهو ما ينطبق بنفاذ قواعد روتردام لعام 2008 أيـضاً) يمنع من اللجوء إلى ضوابط أخرى غير الضوابط التي ترسيها تلك القواعد.

    وبناء عليه؛ فإن القضاء المصري ملزم بأن يلتفت عن اجتهاده السابق، والحال أنه الآن ملزم بتطبيق نص معاهدة دولية، يقدم له الحل بموجب المنهج المادي، فنص المعاهدة قاعدة مادية ذات مصدر دولي. وهي في علاقتها بقانون التحكيم المصري، علاقة القاعدة الخاصة التي تقيـد مـن القاعدة العامة، وفي رأي الباحث فإنه لا تنازع بينهما، حيث إن كلاهما يتطلب الرضاء، ومعياره وضوح عبارة الإشارة.

    ورأي الباحث لا يعني أن السوابق القضائية لدى الأنظمة القانونية الأخرى لـن تعـد ذات قيمة، بل بالعكس فإن قواعد هامبورج لعام 1978 قد قننت الرأي المعتدل في القـضاء المقـارن بشأن ضابط رضاء المرسل إليه، وبالتالي يتعين التعرف على الاتجاهات المختلفة لذلك القـضاء وهو ما يتم تناوله في الفصل التالي بيانه.

الفصل الثاني: ضوابط رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم بالإشارة:

    في رأي الباحث فإن شرط التحكيم بالإشارة في مجال النقل البحري يختلف عما هو عليـه الحال في غير ذلك من المجالات، وهو ما انعكس بتمتع رقابة رضاء المرسـل إليـه بـضوابط خاصة حتى يمكن إلزامه بذلك الشرط. وبالتالي قد يكون من المناسب قبـل تنـاول الاتجاهـات المختلفة في القضاء المقارن بشأن تلك الضوابـط، البدء باستعراض أوجـه خـصوصية تلـك الإشارة.

المبحث الأول: خصوصية ظروف الإشارة في عقد النقل البحري للبضائع:

    تعود خصوصية ظروف الإشارة بالنسبة للمرسل إليه في مجال عقد النقل البحري للبـضائع إلى جملة من الأمور تتضمن التالي: عدم تطابق النطاق الشخصي للعلاقة التي تتضمن الإشـارة مع تلك المشار إليها؛ وشرط التحكيم ليس من قبيل الشروط العادية لعقد النقل البحري للبـضائع ولكن الاستثنائية منها؛ وغياب الحرية الفعلية على التفاوض؛ وأعباء تنفيذ شرط التحكيم؛ و خطر حرمان أصحاب الشأن في البضاعة من حماية القوانين الآمرة.

أولاً: عدم تطابق النطاق الشخصي للعلاقة التي تتضمن الإشارة مع تلك المشار إليها:

    إن النطاق الشخصي للعلاقة التي تتضمن الإشارة لا يتطابق مـع النطـاق الشخـصي للعلاقة المشار إليها. فتلك الإشارة تحدث عندما يقوم مرسل البضائع (المستأجر) باستئجار سفينة من مجهز للسفينة (المؤجر) حيث تتضمن مشارطة الإيجار على شرط التحكيم. وعقب تمام الشحن يحصل المستأجر على سند شحن يشير إلى المشارطة، هذا السند ترسل نسخة منه إلى المرسل إليه لاستلام الشحنة، والذي قد يخول طرف آخر باستلامها بموجـب نقـل ملكيتها تجارياً بحسب شكل السند (ويغلب أن يكون السند لأمره، وبالتـالي تنتقـل ملكيتـه بالتظهير). وعند وصول الشحنة يتقدم حامل السند لاستلام الشحنـة (وهو المرسل إليـه أو من انتقلت إليه ملكية سند الشحن أو من يحل محله)، وهو ليس بطرف في المشارطة، فإذا بالناقل يحتج عليه بشرط التحكيم الوارد في المشارطة نتيجة الإشارة إليـه فـي سـند الشحن.

 ثانياً: شرط التحكيم ليس من الشروط العادية للنقل بل الاستثنائية منها:

    أن شرط التحكيم لا يتعلق بالتزامات أطراف عقد النقل التي تترتب على انعقاد عقـد النقـل البحري بموجب مشارطة إيجار السفينة بالرحلة؛ وهو ما يشار إليه بأن شرط التحكيم ليس مـن الشروط العادية للنقل ولكن بشروطه الاستثنائية.

ثالثاً: غياب الحرية الفعلية على التفاوض:

إن شرط التحكيم في مجال النقل البحري ليس من الشروط التي تخضع للمفاوضة، ولكنهـا من قبل الشروط النموذجية المعدة مسبقاً، والتي لا ينتبه إليها الشاحن والمرسـل إليـه إلا عقـب وقوع المنازعة.

رابعاً: أعباء تنفيذ شرط التحكيم:

    أن شرط التحكيم قد تترتب عليه تبعات جسيمة على أصحاب الشأن فـي البـضاعة (مـن مرسلين ومرسل إليهم ومن يحل محلهم)، بما في ذلك إرهاق وتكلفة التحكيم في الخارج، ونهائية حكم التحكيم. فإذا أخذ في الاعتبار بأن منازعات عقود نقل البضائع تعد من المنازعات متوسطة القيمة، بل ويغلب عليها قلة القيمة، فإنه سيصبح شرط التحكيم في الخارج بشأنها في حكم شـرط الإعفاء من المسئولية. ومن هنا يستقر القضاء في بعض البلدان على وصف شرط التحكيم بأنـه: "طريق استثنائي لفض الخصومات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية بمـا تكفلـه مـن ضمانات ... ".

خامساً: خطر حرمان أصحاب الشأن في البضاعة من حماية القوانين الآمرة:

    أن شرط التحكيم قد يؤدي إلى حرمان أصحاب الشأن في البضاعة من حماية القانون البلدان ذات الصلة بالعقد، خاصة بلد الوصول، بإخضاعهم لقوانين دول أخرى غير ذات صـلة بالتحكيم يجري فيها ذلك التحكيم.

 المبحث الثاني: مدى تلبية الأحكام الموضوعية لخصوصية ظروف المرسل إليه:

    يعد شرط التحكيم بالإشارة في سندات الشحن من أكثر مجالات التحكيم البحري التي حظيت بالاجتهاد القضائي في ظل غياب التنظيم التشريعي إلى وقت قريب. صحيح أن قواعد هـامبورج لعام 1978 قد تعرضت لهذا الموضوع، وبعدها نقلت العديد من التشريعات والمعاهـدات، إلا إن هذا الموضوع قد ظل، ولا يزال، محل اجتهاد قضائي بامتياز. بل أن معظم ما جاء في قواعـد هامبورج لعام 1978 (بخاصة أحكام المادة 22) ما هو إلا تحصيل لبعض المختارات من ذلـك الاجتهاد القضائي

    والملاحظة أن الاجتهاد القضائي لم يتخذ موقفاً واحداً من ضوابط شرط التحكيم بالإشارة في مواجهة المرسل إليه، فالبعض ناصر حرية التحكيم ولم يأخذ في الحسبان بخصوصية هذه الحالة، في حين تشدد البعض الآخر منطلقاً من ظروف الخصوصية والتي تقتضي التقييـد مـن حـريـة التحكيم.

أولاً: اتجاهات تجاهل الخصوصية: نظرية الإحالة العامة:

   لقد بدأ الاجتهاد القضائي المصري لمحكمة النقض المصرية في موقفه مـن شـرط التحكيم بالإشارة متحرراً، وهو ما انسجم مع إعلائه لمبدأ سـلطان الإرادة، أسـاس التحكيم. فأولاً، لم يتعجل هذا القضاء في تطبيق ضوابطـه الموضوعية في هذا الشأن، حيث أرجأ تطبيقها حيث يكون القانون المصري هـو الواجـب التطبيق. وبالتالي فإنه من الوارد أن تطبق ضوابط موضوعية أشد من تلك المستقـر عليهـا في مصر حيثمـا يكون القانون الواجب التطبيق الأجنبي متضمناً لها، ومن هنا طبق القضاء المصري نظرية الإحالة الخاصة بمفهومها في القضاء الإنجليزي حيثما كـان هـذا هـو القـانون الواجـب التطبيق .

    والتساؤل، ماذا فعل القضاء المصري عندما، كان القانون الواجب التطبيـق هـو القـانـون المصري؟ أو كان هذا القانون هو الواجب التطبيق، نظراً لعدم إثبات مضمون القانون الأجنبـي الواجب التطبيق؟

    لقد كانت محكمة النقض المصرية مطلعة، في ظل ما عرض عليها من سـوابق، لأحكـام قوانين دول أخرى متشددة من شرط التحكيم بالإشارة والتي أخذت بالإشـارة الخاصـة، ولكـن المحكمة هنا اختارت لنظامها القانوني حلولاً موضوعية مختلفة، وهي بالتأكيد مخففة، وذلك فى صورة ما يمكن أن يطلق عليه "الإحالة العامة".

    فنظرية الإحالة العامة لدى محكمة النقض المصرية تقوم على أمرين: أولاً، تركيز الرضاء في الشاحن دون المرسل إليه، فلم تتطلب المحكمة من المرسل إليه رضاء مضافا، سـواء فـي صورة لاحقة، أو في صورة خاصة؛ ثانياً، إلزام المرسل إليه بما التزم به الشاحن مـن شـروط عادية وأخرى استثنائية، وتكفي لذلك الإحالة العامة في المستند الذي ارتضى بموجبه أن يصبح طرفاً ذو شأن في عقد النقل البحري، وهو هنا سند الشحن.

   وتنتقد نظرية الإحالة العامة، من حيث: أولاً، عدم تقديمها ما يفسر أسـاس انتقـال حقـوق والتزامات الشاحن إلى المرسل إليه، وهو ما جعل هذا الأخير باصطلاحاتها "ذو شأن"؛ ثانيـاً، أهملت النظرية استقلال اتفاق التحكيم عن العقد محل النزاع؛ ثالثاً؛ لم تفـرق النظريـة بـين الشروط المعتادة والأخرى الاستثنائية لعقد النقل.

 ثانياً: اتجاهات استيعاب الخصوصية:

    يشير القضاء والتشريع المقارن إلى غلبة استيعاب خصوصية ظروف عقد النقـل البحـرى للبضائع، على أن تلك الاتجاهات قد اختلفت بين متشددة وأخرى معتدلة.

1- الاتجاهات المتشددة في استيعاب الخصوصية:

    في رأي الباحث فإن الاتجاهات المتشددة في استيعاب خصوصية التحكيم في عقـد النقـل البحري للبضائع تضم الاتجاهات التي أبطلت الاتفاق على تحكيم منازعات النقل البحـري فـي الخارج، وتلك التي تشددت في إلزام المرسل إليه بها فتطلبت صدور رضائه في مرحلة لاحقـة وفي صورة خاصة.

أ- بطلان الاتفاق على التحكيم في الخارج:

   لقد نظر بعض قضاء الدول إلى شرط التحكيم في عقد النقل البحري للبضائع من منظـور علاقة الاختصاص القضائي (التحكيمي) بالاختصاص التشريعي. فحيث أن أصحاب الشأن فـي البضاعة هم أطراف ضعفاء تدخل القانون بحمايتهم (الاختصاص التشريعي)؛ فإنـه لا يجـوز بالاستناد إلى مبدأ سلطان الإرادة أن نسمح للطرف القوي (الناقل البحري) بأن يخرج الحماية من مضمونها بأن يجر أصحاب الشأن في البضاعة (أصحاب الإرادة غير الحقيقية) نحو اختـصاص قضائي (تحكيمي) لا يوفر لهم الحماية التي توفرت في دولة القاضي. وبالتالي أبطل هذا القضاء استثناء شرط التحكيم في الخارج إذا كان موضوع النزاع عقد نقل بحري للبضائع، وذلك بغـض النظر عما إذا كان شرط التحكيم قد ورد كاملاً في سند الشحن، أو أعتبر مضمونه مندمجاً فيه بما تضمنه من إشارة إلى شرط تحكيم كامل في مستند آخر (يغلب أن يكون مشارطة إيجار سفينة). ومثال ذلك أستراليا (قانون نقل البضائع بالبحر لعام 1991 والمعدل في عام 1998)، وجنـوب أفريقيا (قانون نقل البضائع بالبحر لعام 1986).

     والجدير بالذكر أن محكمة النقض المصرية قد تم اختبارها في موقفها من مشروعية اللجوء إلى التحكيم في الخارج منذ زمن بعيد، وذلك قبل بدء نفاذ اتفاقية نيويورك لعـام 1958 فـي جمهورية مصر العربية، وذلك في ظروف تشريعية وسياسية غير مواتية للتحكيم، على إنهـا عبرت ببصيرة يشهد لها بها بمبدأ الجواز، بل ولم تستثن منـه حتـى العلاقـات ذات التنظـيم التشريعي الخاص، فهي لم تربـط بـين الاختـصاص التشريعي والاختصاص القـضائي (التحكيمي).

   كما لم تستجب محكمة النقض المصرية للدفع بتعطيل شرط التحكيم "... لعدم إمكان الالتجاء إلى التحكيم في الخارج بسبب نفقاته الباهظة التي لا تتناسب مع قيمة النـزاع ..."، حيـث ردت على بأن "... هذا القول – بفرض صحته – ليس من الأسباب التي يقررها القـانون – لـنقض شرط التحكيم الوارد بسند الشحن" 68₁

ب- عدم النفاذ في غياب قبول المرسل إليه:

   لم يصل الاتجاه المتشدد من شرط التحكيم في عقد النقل البحري للبضائع إلى إبطاله في الأحوال التي يختلف فيها الاختصاص القضائي (التحكيمي) عن الاختصاص التشريعي، فمعظ دول العالم تتضمن قوانين تراعي المركز الضعيف لأصحاب الشأن في البضاعة. وبالتالي فإنه قد يختلف الاختصاصين، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى الرفع الكامل لحماية الطرف الضعيف.

     ومن هنا جاء تطلب رضاء المرسل إليه بشرط التحكيم، فلا يكفي رضاء الشاحن، ولا يكفي رضاء هذا المرسل إليه بشروط العقد بصفة عامة، بل يلزم في ذلك قبول شرط التحكيم بذاته، إنه ضابط القضاء الفرنسي، والذي يطبق بوصفه قاعدة مادية داخلية، والذي تم بلورته منـذ حـكـم السفينة "Osprey Stolt" والصادر عن محكمة النقض الفرنسية في 29/11/1994، والذي أرسى مبدأ أنه: "لكي يحتج على المرسل إليه بشرط التحكيم المدمج في العقد فإنه ينبغي أن يرتقي ذلـك إلى علمه ويكون محلاً لقبوله في ميعاد لا يتأخر عن تسلمه للشحنة، بما من شأنه لحاقـه بعقـد النقل.

     ولقد اختلف القضاء في مدى تشدد صورة القبول بين أحكام تطلبـت الرضـاء الـصريح، وبالتالي انتهت إلى عدم إلزام المرسل إليه، من الناحية الفعلية؛ وأخرى اكتفت بالقبول الضمني لتوافر ذلك الرضاء، بتوافر ما يفيد العلم"، وهو ما يقترب من القضاء الإنجليزي بما أخذه مـن نظرية الإحالة الخاصة.

    على أن التطبيق الحرفي لمبدأ الاختصاص بالاختصاص من قبل محكمة النقض الفرنسية، بتركها تطبيق ضابط قبول المرسل إليه لهيئة التحكيم عقب أحكام عامي 2005 و2006، والسابق الإشارة إليها، قد أفرغ تشددها بشأن قبول المرسل إليه لنفـاذ شـرط التحكـيم بالإشـارة مـن مضمونه .

2- الاتجاهات المعتدلة في تلبية حاجات الخصوصية:

     يبدو إن الغلبة تنعقد للاتجاهات المعتدلة في تلبية حاجات خصوصية عقـد النقـل البحـري للبضائع، فبدون الإفراط في تجاهل رضاء المرسل إليه الخاص بشرط التحكيم، ودون التشدد في متطلبات ذلك الرضاء، استطاع القضاء الإنجليزي أن يبلور موقفاً وسطاً، في ظـل مـا يعـرف بالإحالة الخاصة، وهو ما أخذت به المعاهدات الدولية للنقل البحري (قواعـد هـامبورج لعـام 1978، وقواعد روتردام لعام 2008) مع تعزيز التوازن الإجرائي لهذا النوع من التحكيم. إنـه اتجاه عدم النفاذ في غياب الإحالة الواضحة مع الحد من مبدأ سلطان الإرادة.

أ- النفاذ في غياب "الإحالة الخاصة":

    يتميز القضاء الإنجليزي بأنه قد تبنى حلاً معتدلاً يلبي خصوصية منازعـات عقـد النقـل البحري للبضائع عندما يتعلق الأمر بشرط التحكيم بالإشارة. فمن جهة لم يهدر هذا القضاء صحة ذلك الشرط بين طرفيه الشاحن والناقل، فهو لم يربط بين الاختصاص التشريعي والآخر القضائي (التحكيمي). كما أنه لم يكتف في شأن المرسل إليه بمجرد علمه العام، فاستلزم علمه الخـاص، على أنه لم يستلزم أن يصدر عنه قبول صريح. إنه ضابط رضاء المرسل إليـه مـستدلاً عليـه بقرينة وضوح عبارة الإشارة، وذلك من خلال ما يعرف بالإحالة الخاصة، فهي قرينة على العلم، وبالتالي القبول الضمني.

    وتتحقق الإحالة الخاصة لدى القضاء الإنجليزي في ثلاث حالات، أوردهـا الفقيـه سـمير منقباضي، بمناسبة تعليقه على قواعد هامبورج لعام 1978، على النحو التالي:-   

   الحالة الأولى: حيثما يتضمن بند الإشارة كلمة "التحكيم" ، فهنا تم لفت نظر المرسل إليـه، فإذا ما سكت استفيد رضاءه الضمنـي باللجـوء إلى التحكيـم على تفاصيل الـواردة فـي المستند المشار إليه (مشارطة الإيجار). على أن بعـض الأحكـام القـضائيـة تعمـل رقابـة التجانس بين تلك التفاصيل وعلاقة عقد النقل البحري، فحيثما لا يتحقق ذلك، فإنه لا تكفي تلـك الإشارة.

    الحالة الثانية: حيثما يشار إلى رقم بند شرط التحكيم في المـشارطة، فمـن المعلـوم أن الشروط القانونية للمشارطات ذات نص نموذجي ومعلن، وبالتالي فإنه بالإشـارة إلـى مـصدر مضمون النص المتاح للمرسل إليه، وبنكوص هذا المرسل إليه عن رفض الإشارة، فإنه يفترض القبول، فقد أتيحت فرصة الإطلاع، ولم يستخدمها المرسل إليه.

    الحالة الثالثة: عندما تكون هناك إشارة إلى مشارطة إيجار، وتلك المشارطة تنص علـى أن شرط التحكيم فيها ينطبق على منازعاتها ومنازعات سند الشحن .

   وفي حقيقة الحال، فإنه بالإطلاع على الحالتين الأولى والثانية نجدها تتحدث عـن ظـروف تجعل سكوت المرسل إليه ملابساً بما من شأنه أن يقوم قرينة على الرضاء دون الحاجـة إلـى الإفصاح عنه.

    وعلى الرغم من أن محكمة النقض المصرية قد اكتفت بالإحالة العامة في أحكامها القديمـة لنفاذ شرط التحكيم بالإشارة في مواجهة حامل سند الشحن إلا أنها لم تطبق هذا الضابط المخفف حيثما كان قانون مكان إجراء التحكيم لا يأخذ به، كما هو حال القضاء الإنجليزي والـذي يأخـذ بالإحالة الخاصة، فلقد كانت المحكمة تخشي إن لم تنظر هي النزاع، لم يكن من الممكـن تفعيـل التحكيم في مكان إجرائه، وبالتالي حرم المرسل إليه من منصة للعدالة.

     ويبدو أن الحالات الثلاث المشار إليها بعاليه، لم تكن تحت نظر محكمة النقض المـصرية عند تفسيرها للإحالة الخاصة في بعض الحالات، ففي حكم غير منشور، وعلى الـرغم مـن أن عبارة الإشارة تضمنت لفظ "شرط التحكيم" إلا أن محكمة النقض اعتبرت بأن ذلك ليس كافيـاً ووصفت تلك الإشارة بأنها "إحالة مجهلة"، وأن مثل هذا الشرط لا يعتـرف بـه القـانون الإنجليزي كإحالة خاصة، على الرغم من إنه يعد أولى حالاتها الأكثر جلاء.

ب- عدم النفاذ في غياب الإحالة الواضحة مع الحد من مبدأ سلطان الإرادة:

       إن المشكلة لم تكن أبدأ في شرط التحكيم في ذاته، فهو الوسيلة الأصلح لتحقيـق المـصالح المشروعة للمدعين في منازعات عقد النقل البحري للبضائع، والذين يغلب أن يكونوا من المرسل إليهم، والذين يطوقون إلى عدالة ناجزة ومتخصصة يتميز بها التحكيم على القضاء لاســما فـي دولنا النامية. فالمشكلة كانت في الظروف الملابسة التي أفرغت شرط التحكيم من مميزاته، وذلك حينما ينص على التحكيم في الخارج في ظل قلة قيمة المنازعـة، أو فـي دولـة لا تقـدم ذات المستوى من الحماية التشريعية، كما هو الحال في دول تنص قوانينها على الإعفاء من المسئولية عن الخطأ الملاحي بخلاف عما وصلت إليه الحماية في الدول الطرف في قواعد هامبورج لـعـام 1978 أو تلك التي أخذت عنها.

    ففيما يتعلق بمضمون ضوابط قواعد هامبورج لعام 1978 (وقواعد روتردام لعـام 2008)؛ فإن خلاصة تلك الضوابط هي: أولاً، عدم كفاية رضاء الشاحن (المستأجر) بشرط التحكيم حتـى يتم إلزام المرسل إليه (ومن يحل محله) بشرط التحكيم الوارد في سند الشحن، أي استقلال رضاء المرسل إليه ومن يحل محله عن رضاء الشاحن، وبالتالي لا أهمية الآن لبحث المركز القـانوني للمرسل إليه؛ ثانياً، عدم كفاية الإشارة العامة إلى بنود المشارطة لكي تمتد بما فيها مـن شـرط تحكيم إلى علاقة سند الشحن؛ أي استقلال شرط التحكيم عن بقية شـروط مـشارطة الإيجـار؛ وبالتالي تطلب الأمر رضاء مستقلاً من المرسل إليه بشرط التحكيم، وهو ما لا يـستلزم القبـول الصريح، فهو مفترض من "وضوح" عبارة الإشارة.

    لقد تعدد وصف عبارة الإشارة، ففي النص العربي لقواعد هامبورج لعام 1978 تم استخدام اصطلاح "الملاحظة الخاصة"، بالتطابق للنص الإنجليزي "special annotation"، وبالمخالفة للنص الفرنسي والذي استخدم عبارة "الشرط الصريح" "clause expresse" . وهو مـا تكـرر أيضاً في قواعد روتردام لعام 2008، فجاء النص العربي ليتحـدث عـن "الإشـارة الخاصـة"، بالمطابقة للنص الإنجليزي "specific reference"، وبالمخالفة للنص الفرنسي والـذي اسـتخدم عبارة "الشرط الصريح" "clause expresse  ,

    لقد اختلف الفقه في تفسير "الملاحظة الخاصة" في قواعد هامبورج لعام 1978 بـيـن مـن تطلب تكرار شرط التحكيم بنصه الوارد في المستند المشار إليه، مرة أخرى في المستند المشير، فأنكر على نظرية شرط التحكيم بالإشارة الوجود في المنازعات الخاضعة لقواعد هامبورج لعـام 1978. وتخفف البعض فاكتفى بالإحالة العامة.

    على أن الرأي الراجح هو أن المقصود هو تطلب الرضاء في المرسل إليه، لكن دون لزوم قبوله الصريح، فقد يقع بالقبول الضمني، وهو يتحقق بالعلم بشرط التحكيم والسكوت عن رفضه، وهو ما يتحقق عند وضوح عبارة الإشارة. ووضوح تلك العبارة مسألة واقع، والمؤكد أنـه لا تكفيها الإشارة العامة، وتقوم في حالات "الإحالة الخاصة" لدى القضاء الإنجليزي.

    ولم يعد القضاء بحاجة للتشدد ووصف شرط التحكيم بالخطورة، والحال أن قواعد هامبورج لعام 1978 (وكذلك قواعد روتردام لعام 2008) قد هذبت من خطورته بتقييد مبدأ سلطان الإرادة في تنظيمه الإجرائي والموضوعي.

    فمن حيث حرية الإرادة الإجرائية فإنه بالإضافة إلى مكان التحكيم المتفـق عليـه، يتمتـع المدعي (في قواعد روتردام فقط أصحاب الشأن في البضاعة) باختيار إجراء التحكيم في مكان متصل بالعقد هو: المحل الرئيسي لعمل المدعى عليه (وإن لم يوجد له محل عمل رئيسي فالمحل الاعتيادي لإقامة المدعى عليه)؛ ومكان إبرام العقد (بشرط أن يكون للمدعى عليه فيه محل عمل، أو فرع أو وكالة، أبرم العقد عن طريق أي منها)؛ وميناء الشحن؛ وميناء التفريغ .

     أما من حيث حرية الإرادة الموضوعية، فإن المحكم وبغض النظر عن مكان إجراء التحكيم ملزم بتطبيق قواعد هامبورج لعام 1978 (أو قواعد روتردام لعام 2008).

الخاتمة:

     وبذلك يخلص الباحث إلى أن دخول قواعد هامبورج لعام 1978 في حيز النفاذ (وهـو مـا سوف يتكرر أيضاً بنفاذ قواعد روتردام لعام 2008) يقتضي من قضاء الدول المطبق لأحكامها - كما هو الحال في جمهورية مصر العربية – مراعاة الجديد في أحكامها بالنسبة لشرط التحكـيم بالإشارة في مجال عقد النقل البحري الدولي للبضائع، وذلك من جهتين: أولاً، أن القضاء لم يعد بحاجة إلى تحديد القانون الواجب التطبيق على ضابط اندماج شرط التحكيم بالإشارة فـي سند الشحن، والحال أن قواعد هامبورج لعام 1978 تتضمن قاعدة مادية دولية مباشرة التطبيق فـي هذا الشأن؛ ثانياً، أن القاعدة المادية في شأن ضابط اندماج شرط التحكيم بالإشارة في سند الشحن، هو ضرورة توافر الرضا في المرسل إليه، وهو ما يتحقق طالما أن سند الشحن يتضمن إشـارة واضحة إلى شرط التحكيم، فلا يلزم القبول الصريح، فقد يتحقق القبول الضمني بثبوت قرينة العلم وذلك بوضوح عبارة الإشارة.

      إن مدى وضوح عبارة الإشارة مسألة موضوعيـة تختلف من حالة إلى أخرى، لكـن يمكن الاستهداء في تحديدها بأحكام القضاء المقارن، ومن ذلك مـا انتهـي إليـه القـضاء الإنجليزي من بلورة ما أطلق عليه "الإحالة الخاصة". فالإحالة الخاصة تتحقق بالنسبة له في ثلاث حالات: الأولى، حينما تتضمن عبارات بند الإشارة لفظ شرط التحكيم؛ والثانية، عندما تشير عبارات بند الإشارة إلى رقم بند التحكيم في مشارطة الإيجار؛ والثالثة، عندما يـنص شرط تحكيم مشارطة الإيجار على انطباقه على منازعات مشارطة الإيجار وكذلك منازعات سند الشحن.

    وبدخول قواعد هامبورج لعام 1978 حيز النفاذ لم يعد مقبولا ترديد وصف شرط التحك بأنه شرط خطير، فلقد خففت تلك القواعد من خطورته بما أتت به من قيود على الحرية الإجرائية والموضوعية للأطراف. بل بالعكس، فإنه من المنطقي أن يتحول التحكيم بعد تنظيمه في قواعـد هامبورج لعام 1978 (وهو ما تم نقله إلى قواعد روتردام لعام 2008) إلى الـصديق الـصدوق لأصحاب الشأن في البضاعة، فهو يمكنهم من مميزات التحكيم من الخبرة والسرعة، ويحد مـن عيوبه بالنسبة إليهم بإجرائه في أقرب مكان لهؤلاء الأطراف، ووفقاً لأفضل القواعـد المحققـة لمصالحهم المشروعة.

قائمة المراجع:

أولا: المراجع العربية:

  • أحمد محمود حسنی، قضاء النقض البحري، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2007. -  

  • أحمد مخلوف، اتفاق التحكيم كأسلوب لتسوية منازعات عقود التجارة الدولية: دراسة تحليليـة تأصيلية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2001.

  • حفيظة السيد الحداد، "شرط التحكيم بالإشارة"، مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادي، العدد الأول والثاني 1995، ص 1-45.

  • حفيظة السيد الحداد، الموجز في النظرية العامة في التحكيم التجاري الدولي، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2010.

  • رضا السيد، "شرط التحكيم في عقود النقل البحري"، مجلة الدراسات القانونية، يونيـو 1984، ص 195-279.

  • عاطف الفقي، "شرط التحكيم بالإحالة في مشارطات إيجار السفن"، أعمال المـؤتمر العربـي الأول للقانون التجاري والبحري حول "الاتجاهات الحديثة في القانون التجـاري والبحـري"، 13-12 مايو 2007.

  • عبد المنعم خلاف، غرامة التأخير ومكافأة كسب الوقت فـي النقـل البحـري، دار النهـضة العربية، القاهرة، 1988.

  • علي بركات، خصومة التحكيم في القانون المصري والقانون المقارن، دار النهضة العربيـة، القاهرة، 1996.

  • فتحي والي، الوسيط في قانون القضاء المدني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1987.

  • محسن شفيق، الجديد في القواعد الدولية الخاصة بنقل البضائع بالبحر: اتفاقية هامبورج بتاريخ 31 من مارس 1978، دار النهضة العربية، القاهرة، بدون تاریخ نشر.

  • محمد الفقي، التحكيم في المنازعات البحرية: دراسة مقارنـة للتحكـيم البحـري فـي لنـدن ونيويورك وباريس مع شرح أحكام قانون التحكيم المصري في المـواد المدنيـة والتجاريـة 1994، دار النهضة العربية، القاهرة.

  • محمد عبد الفتاح ترك، "التحكيم بالإشارة والشروط الواجب توافرها في نص الإحالة"، مجلـة الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، مجلد 28، العدد 55، يناير 2003، ص .19-9

  • محمد نور عبد الهادي شحاتة، النـشأة الاتفاقيـة للـسلطات القضائية للمحكمـين: نطاقهـا ومضمونها، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993.

  • محمود سمير الشرقاوي، القانون البحري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1992، ص 337.

  • مصطفى كمال طه، القانون البحري، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2000.

  • هشام صادق، تنازع القوانين، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1974.

ثانيا: المراجع الأجنبية:

 ▪ Farouk Malash, "New Trends in Dispute Settlement by Arbitration in Time and Voyage Charterparties", in The Journal of the Arab Academy for Science and Technology and Maritime Transport, Vol. 20, No. 40, July 1995, pp. 30-38.

 ■ José Domingo Ray, L'arbitrage maritime et les Règles de Hambourg, DMF, 1981, p. 643.

 ▪ Pierre Bonnassies et Christian Scapel, Droit maritime, LGDJ, 2008.

 ▪ Rolf Herber, Jurisdiction and Arbitration - Should the new Convention contain rules on these subjects, in Lloyd's Maritime and Commercial Law Quarterly, Part 3, August 2002, pp. 405-417.

  Stuart C. Gauffreau, “Foreign Arbitration Cluases in Maritime_Bills of Lading: The Supreme Court's Decision in Vimar Seguros Y Reaseguros v. M/V Sky Reefer", North Carolina Journal of International Law and Commercial Regulation, Vol. 21, pp. 395-420 (1996).