1- من اهم انجازات لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية (يونسيترال) خلال عقـدها الاول إعداد واقرار القواعد الاجرائية التي تحكم ما يتم من تحكيمات غير مؤسسية (Ad hoc) وذلك تسهيلاً للأطراف التي تلجأ لهذا النوع من التحكيم، بحيث لا يكون المحتكمون بحاجـة الى التفاوض حول كافة المسائل الإجرائية المتوقع حدوثها منذ تقديم طلب التحكيم الى حـين صدور حكم التحكيم النهائي وابلاغه لأطراف التحكيم، مرورا بكافة المراحل المتعلقة بتقديم المذكرات وسماع الشهود والخبراء وقواعد الإثبات الواجبة الإتباع. دو
2- وبصدور هذه القواعد التي ملأت فراغاً كان موجوداً سابقاً، بما كان يمثله كعقبة أمـام هـذا النوع من التحكيم، بدأت صفحة جديدة في تطور ظاهرة شيوع اللجوء الـى التحكـيـم لـحـل المنازعات ذات الطابع الدولي، خاصة بالنسبة للدول النامية التي لم تعد في وضـع يجعلهـا بالضرورة تلجأ الى قبول النص في العقود التي تبرمها على تطبيـق القواعـد الإجرائيـة المعمول بها في مراكز التحكيم المؤسسية الموجودة في العالم الغربي، مثل باريس بالنـسبة لتحكيم غرفة التجارة الدولية، ولندن بالنسبة للتحكيم لدى محكمة تحكيم لندن، أو نيويورك في إطار تحكيمات مؤسسة التحكيم الأمريكية (AAA) .
3- وتكشف الأعمال التحضيرية التي صاحبت إعداد قواعد اليونسترال عن رغبة مؤكـدة فـي إيجاد قواعد متوازنة تكفل مصلحة المتعاملين من مختلف انحاء العالم وبعيدة عـن الطـابع الذي كان سائداً من قبل والمرتبط بمعاملات نشأت وترعرعت في العهد الاستعماري الـذي كانت فيه غالبية الدول الإفريقية والآسيوية وفي امريكا اللاتينية مجرد اسواق تورد المـواد الأولية لصالح المراكز الصناعية في كل من اوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
4- والطبيعة المتوازنة لقواعد اليونسترال ادت بالجمعية العامة للامم المتحدة الى إصدار قـرار تناشد فيه مختلف الدول الاعضاء ان تتبنى هذه القواعد في معاملاتها (القرار رقم 98 للدورة 31 الصادر في 15/12/1976). وهذه المناشدة من جانب الجماعة الدولية كان لها اثرعميق وقبول ملحوظ لدى اللجنة القانونية الاستشارية الأفروآسيوية التي بادرت بإتخاذ قـرار مـن شأنه اقامة مراكز تحكيمية اقليمية في كل من القاهرة وكولالمبور ولاجـوس تتـولى ادارة التحكيمات وفقاً لقواعد اليونسترال. 5- وبذلك تحولت قواعد اليونسترال من مجرد اطار إجرائي وضعت اصـلاً لتحكيمـات غيـر مؤسسية الى حقيقة تتصف بالدوام والاستقرار من خلال مؤسسات تحكيمية مستحدثة تساعد على نقل مراكز الثقل في التحكيم التجاري الدولي من العواصم الغربية الى الـدول الناميـة خدمة للمتعاملين من مواطني هذه البلاد.
6- ولم يقتصر النجاح الذي لاقته اليونسترال على هذا النطاق، وانما دخلت مرحلة جديدة كإطار تنظيمي لتحكيمات هامة في مجال الاستثمارات الاجنبية بعقودهـا الطويلـة الاجـل وتعقـد جوانبها نتيجة وجود الدولة او احد اجهزتها وهيئاتها العامة كطرف في هـذا النـوع مـن التحكيمات.
7- وجاءت فاتحة الطريق في هذا المجال الجديد بإبرام إتفاقية الجزائر بين كـل مـن ایـران والولايات المتحدة الأمريكية في مستهل عام 1981 التي انشأت هيئة تحكيمية خاصة تتـولى حل المنازعات القائمة انذاك نتيجة الأحداث التي اعقبت الثورة الإسلامية في إيران وازمـة الرهائن وتجميد الأموال الإيرانية بواسطة السلطات الأمريكيـة . فالمحكمـة الإيرانيـة / الأمريكية التي اقيمت لحل المنازعات بين الدولتين ومواطنيهما إعتمدت قواعد اليونــسترال كإطار إجرائي لحل ما يربو على الأربعة آلاف قضية تحكيمية التي رفعت امامها . ولمـن يدرس الثروة القانونية المتراكمة، كما تعكسها الحوليات التي نشرت مـن خلالهـا الأحكـام الصادرة من المحكمة الإيرانية / الأمريكية بدوائرها الثلاث وهيئـة دوائرهـا المجتمعـة يستطيع ان يتبين كيف صارت قواعد اليونسترال تشكل العمود الفقري للقواعد الإجرائية التي اسهمت في ارساء قواعد مئات المبادئ التي تدور حولها حلـول مـشكلات الإستثمارات الأجنبية في عالمنا المعاصر، خاصة وان كثيراً من القضايا التي تتم في اطر تنظيمية اخرى، بما فيها مركز حل منازعات الإستثمارالتابع للبنك الدولي (ICSID)، تستلهم الحلول من تلك التجربة بالغة الثراء والتي لم تجد بعد على حد علمنا – دراسة متعمقة باللغة العربية تفتح ابواب المعرفة في هذا الشأن امام شباب المشتغلين بالتحكيم الاستثماري في مواجهة القضايا المتزايدة حول هذه المسائل.
8- ولم تقف اهمية قواعد اليونسترال في المجال الاستثماري عند ذلك الحد، بل صارت عنصراً هاماً في العديد من التحكيمات التي تتم في اطار الاتفاقيات الجماعية فـي مجـالات هامـة كالطاقة (The Energy charter) او الثنائية لتشجيع وحماية الاستثمارات (BITs التـي تجاوز عددها الآلاف، وتشير إلى بدائل لحل المنازعات، من بينها التحكـيم وفقـاً لقواعـد اليونسترال.
9- ولعل مركز التحكيم بإستكهولم يعد من أهم المنظمات التحكيمية التي تتولى حل المنازعـات المتعلقة بالإستثمارات الأجنبية وفقاً لقواعد اليونسترال من جانب والسلطات الحكوميـة فـي الدولة المضيفة من جهة أخرى. وكان مجموع هذه القضايا التحكيمية المقامـة فـي إطـاره والمتعلقة بالاستثمارات قد بلغ خلال العقد الماضي 30 قضية، بدأت في عام 2001 بقضيتين وإرتفع عددها في عام 2008 الى 7 قضايا. 10- كما أن عدداً من القضايا الهامة يتم حلها وفقاً لقواعد اليونسترال في ظل محكمـة التحكـيم الدائمة في لاهاي، ومنها القضية التي تبلغ المطالبات فيها عدة مليـارات مـن الـدولارات والقائمة بين مساهمين في شركة YUKOS Universal وبين الاتحـاد الروسـي وهـي القضية رقم PCA Case No. AA227، والتي صدر بـشأنها الحكـم الجزئـي حـول الإختصاص والقبول في 30 نوفمبر 2009 وبلغت صفحات الحكم 215 صفحة. ولعله من المفيد أن نعطي بيانا موجزاً عن هذه القضية الهامة التي نظرتها هيئـة التحكـيم المـشكلة برئاسة الكندي Yves Fortier وعـضوية كـل مـن السـويـسري Charles Poncet والامريكي Stephen Schwebel بالتطبيق لقواعد اليونسترال . فقد واجهت هيئة التحكيم منذ بداية الإجراءات مشكلات عدة تمت معالجتها وفقاً لما ورد في القواعـد الاجرائيـة الصادرة عن اليونسترال في عام 1976. وكانت أولى هذه المشكلات طلب الـرد فـي 13 يوليو 2007 المقدم ضد الأستاذة/Gabrielle Kaufmann- Kohler من جانب الحكومـة الروسية بسبب بعض المعلومات التي كشفت عن علاقات مكتبها للمحاماة ببعض المساهمين في شركة YUKOS. واحيل طلب الرد الى الأمين العام لمحكمة التحكيم الدائمـة إعمـالاً لحكم المادة 12 من قواعد اليونسترال. فبعد إتاحة الفرصة للجانبين كي يوضـحا وجهـة نظرهما في طلب الرد، قام الأمين العام في 4 سبتمبر 2007 بالإستجابة لطلب الرد، ودعى المحكتمين الى تعيين محكم آخر بالتطبيق للمادة 7 من قواعد اليونسترال، حيث تم بالفعـل تعيين خلف لها في 24 سبتمبر 2007 (الفقرتين 15 و16 من الحكم).
ويعطي الحكم التحكيمي في فقراته (من 17 الى 34) صورة كاملـة توضـح مختلـف مراحـل الاجراءات التي تمت في خصوص الدفع بعدم الإختصاص وعدم القبول ومدى التعقيــدات التي أحاطت بنظر هذه المسائل سواء عن طريق المذكرات المكتوبـة أو سـماع الشهود والخبراء والمرافعات الشفوية وماتلاها، وذلك خلال الفترة ما بين 28 فبرايـر 2006 و15 سبتمبر 2009. والانجاز الذي تم في شأن الإلمام بعشرات آلالاف من الأوراق والمستندات والشهادات بفضل المرونة التي أتسمت بها قواعد اليونسترال يعد خیر شاهد علـى مـدى مناسبة هذه القواعد رغم مرور أكثر من ثلث قرن على إقرارها ودخولها حيز التنفيذ.
11- ونتيجة لهذا الدور المتزايد لقواعد اليونسترال في مجال الاستثمارات الاجنبية، فقد إقتـرح البعض تعديل بعض النصوص الواردة في قواعد اليونـسترال لتقنــين جوانـب کـشفت التطبيقات العملية عن الحاجة اليها، وذلك بإدخال نصوص خاصة فـي مجـالات معينـة. ويمكن تلخيص المقترحات المطروحة في النقاط التالية:
12- اولاً: الحاجة الى وضع نظام يكفل الابلاغ بكافة البيانات المتعلقـة بـذلك النـوع مـن التحكيمات عن طريق نشر بيانات كافية عن طلب التحكيم وتشكيل الهيئة التي عهد اليهـا بنظرالنزاع والمراحل الاجرائية التي يمر بها نظر النزاع وذلك على خلاف مـا تقـرره المادة 3 التي تقصر الابلاغ على اطراف النزاع.
13- ثانياً: وكذلك الشأن فيما يتعلق بالوثائق والمستندات المقدمة في قضية التحكيم والتي تجعـل المادة 15 فقرة 3 تداولها مقصوراً على اطراف النزاع، فان التزام الدولة بمبـدأ الشفافية يجعل من الواجب عليها إطلاع المواطنين على مواقفها في الامور التي تتصل بمصالحهم، ولهؤلاء والجماعـات المدافعـة عن حقوقهـم العامـة ان يتقدموا بما يعرف اصطلاحاً بـ amicus curiae معبرة عن وجهات النظر المعبرة عن مقتضيات الحفاظ على البيئـة ومصالح الجماهير المعنية.
14- ثالثاً: إيجاد تنظيم يسمح بجعل جلسات المرافعات وسماع الخبراء والشهود مفتوحة للمهتمين بموضوع النزاع من ذوي الشأن حتى يقفوا على مجريات الامور في شأن يمس مصالحهم كمواطنين. وهو ما يقتضى تعديل المادة 25 فقرة 4 من قواعد اليونسترال التي تقرر سرية الجلسات.
15- رابعاً: تعديل المادة 32 فقرة 5 التي تتطلب موافقة الطرفين حتـى يمكـن نـشـر القـرار التحكيمي او على الاقل نشر مقتطفات من التسبيب الذي اقامت هيئة التحكيم علـى اساسـه قضاءها.
16- خامساً: الحاجة إلى نصوص تعالج متطالبـات الـشفافية فـي التحكيمـات التـي تتعلـق بالإستثمارات حيث يكون الطرف الآخر أجهزة الدولة أو هيئاتها العامة. وفي هذا المجال تقتضي المصلحة العامة إتاحة فرصة إعلام الجميع بما صدر من احكام أو قرارات عن هيئات التحكيم، سواء أكانت نهائية أو جزئية أو أوامر إجرائية، وذلك بوضعها على شبكة الإنترنت.