الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 10 / حكم دلة ضد باكستان وتحديد نطاق مبدأ الاختصاص بالاختصاص: النظرة الأولى لهيئة التحكيم ولكن الكلمة الأخيرة للقضاء

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 10
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    97

التفاصيل طباعة نسخ

   من المستقر لدى العديد من المتعاملين في مجال التحكيم التجاري الدولي أن القضاء الإنجليزي يعد "صديقاً للتحكيم" (arbitration friendly) وأن لندن، بقانونها العصري للتحكيم وقضائها المستنير، تعد من أفضل أماكن استضافة التحكيمات التجارية الدولية.

   فإذا كان تبني قانون عصري للتحكيم في بلد ما وانضمامه إلى الاتفاقيات الدولية أو الإقليمية ذات الصلة، وبصفة خاصة اتفاقية نيويورك للاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لعام 1958 ("اتفاقية نيويورك")، يعد أمراً ضرورياً لتوافر عناصر "البنية التحتية التحكيمية"، إلا أن ذلك لا يكفي في الواقع لجعل بلد ما مكاناً مناسباً للتحكيم التجاري الدولي، إذ لا بد وأن يكون قضاء هذا البلد، المنوط به تنفيذ القوانين والاتفاقيات الدولية، متفهما للطبيعة الخاصة للعملية التحكيمية عند ممارسته دوره المعـاون والمراقب للتحكيم وتحديداً أثناء مرحلتي التنفيذ والطعن في حكم التحكيم.

   وهذا هو الوضع القائم بالنسبة الى القضاء البريطاني، ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير إلى أنه منذ تطبيق اتفاقية نيويورك في المملكة المتحدة منذ أكثر من 35 عاماً، وعلى مدار تاريخ القضاء البريطاني لم يرفض تنفيذ حكم تحكيم أجنبي طبقاً لاتفاقية نيويورك، إلا مرتين فقط.

   ويأتي حكم دلة ضد باكستان الصادر عن المحكمة العليا البريطانية في 3 نوفمبر 2010 بمثابة الاستثناء على الأصل آنف البيان، إذ رفض تنفيذ حكم تحكيم صادر في باريس عن غرفة التجارة الدولية (ICC) لصالح شركة دلة للتنمية العقارية ضد دولة باكستان.

   وفي هذا الحكم، أيدت المحكمة العليا توجه محكمة الاستئناف الذي اعتبر أن هيئة التحكيم التي تشكلت في باريس طبقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية لم يكن لديها اختصاص بنظر النزاع ضد الحكومة الباكستانية، ومن ثم رفضت المحكمة تنفيذ حكم التحكيم الباريسي على أساس أن حكومة باكستان لم تكن ملزمة باتفاق التحكيم الذي لم توقعه.

خلفية النزاع:

   تتلخص وقائع النزاع في أنه تم التعاقد مع شركة دلة السعودية لإنشاء مساكن لإيواء الحجيج الباكستاني في مكة المكرمة. ولهذا الغرض، أنشأت الحكومة الباكستانية صندوقاً يدعى صندوق "أوامي" (Awami) للحج للتعاقد مع شركة دلة من أجل شراء الأرض اللازمة للمشروع في مكة المكرمة. وفي هذا السياق، أبرمت شركة دلة والصندوق عقداً من أجل إنشاء وتطوير هذه المساكن، وقد أحال هذا العقد جميع المنازعات الناشئة عنه على التحكيم في باريس طبقا لقواعد غرفة التجارة الدولية.

   وتكمن الإشكالية الأساسية في أن الصندوق المذكور انشئ استناداً إلى قرار موقت، وأنه لم يعد له أي وجود بعد سقوط حكومة بناظير بوتو عام 1996، ومن ثم أضحى المشروع بلا أي تأييد حكومي بعد تغير الظروف السياسية وانتهاء أجل القرار الموقت.

   وقد بادرت شركة دلة بتحريك إجراءات تحكيم بباريس أمام غرفة التجارة الدولية ضد الحكومة الباكستانية للمطالبة بتعويض عن الخسائر التي لحقت بها من جراء قيام وزير الشؤون الدينية الباكستاني بإنهاء العقد. وادعت دلة أن الحكومة الباكستانية كانت طرفاً في اتفاق التحكيم على الرغم من عدم توقيعها العقد موضوع النزاع، في حين دفعت الحكومة في جميع مراحل التحكيم بعدم اختصاص هيئة التحكيم على أساس أنها لم تكن طرفاً في العقد المذكور.

   وقد اعتبرت هيئة التحكيم التي تم تشكيلها من السادة غالب محمصاني (رئيساً) واللورد ماستيل (عضواً) ونسيم شاه (عضواً) أن الحكومة الباكستانية هي بمثابة طرف في اتفاق التحكيم، رغم أن العقد موضوع النزاع كان مبرماً بين شركة دلة وبين صندوق Awami، ومن ثم قضت هيئة التحكيم لمصلحة دلة بتعويض مقداره 20 مليون دولار أمريكي ضد الحكومة الباكستانية.

   وفي إطار جهودها لتنفيذ هذا الحكم، سعت دلة إلى إكسائه الصيغة التنفيذية والحجز على أموال الحكومة الباكستانية في لندن، فما كان من الحكومة إلا أن طعنت في إجراءات التنفيذ على أساس بطلان اتفاق التحكيم الصادر بموجبه حكم التحكيم، وذلك استناداً إلى نص المادة الخامسة الفقرة 1/ (أ) من اتفاقية نيويورك، كما هي مطبقة بموجب المادة 103/2 (ب) من قانون التحكيم البريطاني لعام 1996، والتي تجيز عدم الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي في حالة ما إذا كان اتفاق التحكيم باطلاً طبقاً للقانون الذي أخضعه له الأطراف أو، في حالة عدم الاتفاق، طبقا لقانون البلد التي صدر فيه الحكم".

   وكانت محكمة أول درجة أيدت دفوع الحكومة الباكستانية ورفضت تنفيذ الحكم، فأعادت دلة المحاولة أمام محكمة الاستئناف، ولكن باءت محاولتها بالفشل للمرة الثانية، إذ رفضت هذه المحكمة تنفيذ الحكم مؤكدة أن الفصل في مدى وجود اتفاق تحكيم صحيح بين الأطراف يقتضي إعادة النظر بشكل كامل في كل المسائل والوقائع ذات الصلة، ومن ثم كان لابد للقضاء البريطاني أن ينظر مجدداً في الدفوع بعدم الاختصاص، وليس فقط مجرد "مراجعة" ما انتهى إليه حكم هيئة التحكيم في هذا الشأن.

   كذلك رفضت محكمة الاستئناف دفع شركة دلة القائم على أساس أن رقابة محاكم دولة مكان التحكيم (القضاء الفرنسي في حالتنا) يكون لها نوع من الغلبة على توجهات محاكم الدولة المراد تنفيذ الحكم فيها (المحاكم البريطانية في حالتنا)، واعتبرت المحكمة أنه كان يتعين عليها أن تكون عقيدتها في هذا الشأن على سبيل الاستقلال دونما تأثر بقرار هيئة التحكيم، ومن ثم أكدت محكمة الاستئناف أنه ليس هناك ما يستدعي قيام أحد الأطراف بالطعن في حكم التحكيم أمام محاكم بلد منشأ الحكم حتى يتسنى له لاحقاً مقاومة تنفيذه في أي بلد آخر. وانتهت محكمة الاستئناف إلى تأييد حق الحكومة الباكستانية في الطعن في تنفيذ حكم التحكيم في لندن ولم تحرمها من هذا الحق لمجرد أنها لم تطعن في هذا الحكم ابتداء في باريس.

   ولم تيأس شركة دلة فطعنت في حكم محكمة الاستئناف أمام المحكمة العليا البريطانية (أعلى جهة قضائية في البلاد)، ولكنها فشلت مجدداً، إذ رفض تنفيذ الحكم ضد الحكومة الباكستانية في بريطانيا على أساس أنها لم تكن طرفاً في اتفاق التحكيم.

   ولعل أهم ما يميز قضاء المحكمة العليا البريطانية، موضوع هذا المقال، هو تحديده نطاق مبدأ الاختصاص بالاختصاص (compétence-compétence) المنصوص عليه في قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم وفي معظم قوانين التحكيم الوطنية ومنها قانون التحكيم البريطاني والقانون المصري رقم 27 لسنة 1994. وسنخصص الجزء التالي من المقال لتناول أهم المبادئ الممكن استخلاصها من هذا الحكم الجوهري.

هيئة التحكيم لا تتمتع باختصاص حصري للفصل في اختصاصها:

   تولى كل من القضاة اللورد مانس Lord Mance واللورد كولينز Lord Collins تحليل مبدأ الاختصاص بالاختصاص عن طريق عقد مقارنة بين التطبيقات القضائية والتحكيمية لهذا المبدأ في العديد من دول العالم. ويعد هذا التحليل القضائي المقارن من أفضل ما يلفت النظر في هذا الحكم المهم. وليت القضاء الجالس في الوطن العربي يتعمق بهذه الدرجة في التعرف الى تجارب القضاء المقارن ومواقفه في مجال التحكيم.

   ويؤكد هذا التحليل القضائي مدى الاعتراف الواسع بمبدأ الاختصاص بالاختصاص قانوناً وقضاء في أهم أماكن التحكيم في العالم. بيد أن هذا لا يعني بالضرورة أن هيئة التحكيم تملك اختصاصاً مطلقاً بلا معقب للفصل في اختصاصها. فقد أشارت المحكمة العليا إلى أن كل دولة ...تطبق شكلاً أشكال الرقابة القضائية على قرار المحكم في شأن اختصاصه، إذ لا يمكن بطبيعة الحال أن يمنح العقد هيئة التحكيم أي سلطة... إذا لم يبرم أصلاً سلطة... إذا لم ييرم أصلا بين الأطراف". وإذا كانت هيئة التحكيم تملك القدرة على الفصل في مسألة اختصاصها، فإن ذلك لا يمنحها -على حد قول المحكمة العليا - اختصاصاً حصرياً في هذا الخصوص، إذ لا تكون لهيئة التحكيم بالضرورة الكلمة الأخيرة" في هذا الشأن.

   وفي سبيل تحديد حدود مبدأ الاختصاص بالاختصاص، تبنت المحكمة العليا المواقف الفقهية التي ترى أنه لا يجوز للمحكمين أن يكونوا القضاة الوحيدين في شأن تحديد اختصاصهم، إذ أن ذلك لا يكون منطقياً ولا مقبولاً، حيث أن الغرض الحقيقي من مبدأ الاختصاص بالاختصاص ليس بأي حال ترك مسألة اختصاص هيئة التحكيم في أيدي المحكمين وحدهم، وإنما يجب مراجعة اختصاصهم بواسطة القضاء أثناء نظر الطعن في الحكم. هذا ولا يحول مبدأ الاختصاص بالاختصاص دون قيام محكمة التنفيذ أيضاً بإعادة فحص اختصاص هيئة التحكيم.

لا يشترط لمقاومة تنفيذ حكم التحكيم في بلد تنفيذه سبق الطعن فيه في بلد إصداره:

   كما أسلفنا، دفعت شركة دلة بأن قضاء بلد مكان التحكيم (القضاء الفرنسي) تكون له الغلبة في تحديد أي مسألة تتعلق باختصاص هيئة التحكيم، وأن محكمة التنفيذ تؤدي دوراً ثانوياً في هذا الخصوص. وقد استند هذا الدفع إلى ما تمنحه اتفاقية نيويورك من دور أساسي لمحاكم بلد مكان التحكيم في مجال الرقابة على الحكم، وأن هذه المحاكم تختص وحدها بإعادة النظر في المسائل المتعلقة بوجود اتفاق التحكيم وصحته.

   وقد رفضت المحكمة العليا هذا الدفع مشيرة إلى أنه لا يوجد أي أساس لافتراض مثل هذه التفرقة بين قضاء بلد إصدار حكم التحكيم وبلد تنفيذه، وأنه لا يغير من ذلك إمكانية صدور أحكام متعارضة في شأن الاختصاص من المحكمة أو المحاكم التي قد يطلب منها تنفيذ الحكم ومحكمة بلد مكان إصدار حكم التحكيم.

قاضي التنفيذ يملك إعادة النظر مجدداً في اختصاص هيئة التحكيم دون التقيد بقرارها:

   ذكرت دلة أن اتفاقية نيويورك لا تسمح بإعادة النظر مجدداً في اختصاص هيئة التحكيم بواسطة قاضي التنفيذ، مشيرة إلى أن السماح بذلك من شأنه "إضافة درجة من تقصي الوقائع إلى العملية التحكيمية لم يتصورها واضعو اتفاقية نيويورك، مما قد يؤدي إلى تقويض أو إضعاف نهائية وفاعلية نظام التحكيم".

   كذلك ذكرت دلة أنه يتعين على محكمة التنفيذ أن تنزل عند رأي هيئة التحكيم، فيجوز لها فحص حكم التحكيم بدلاً من إعادة النظر مجدداً في الدفع بعدم الاختصاص وتجاهل ما انتهت إليه هيئة التحكيم، وأضافت دلة أن درجة النزول عند حكم هيئة التحكيم تتوقف على مدى خبرة هيئة التحكيم وطبيعة حكمها، ومن ثم لا يجوز لمحكمة التنفيذ أن تحل محل هيئة التحكيم في تتعلق بشكل أساسي بالوقائع مثل مسألة الفصل في الدفع بعدم الاختصاص.

   وقد رفضت المحكمة العليا البريطانية هذه الحجج، مشيرة إلى أنه إذا كانت اتفاقية نيويورك تشجع على الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية بواسطة قضاء الدول المنضمة الى هذه الاتفاقية مع تقييد نطاق الرقابة القضائية على ما تنتهي إليه هيئة التحكيم المختارة بواسطة الأطراف، فإنه يتعين إعادة النظر في مسألة الاختصاص على أساس أن هيئة التحكيم تنظر في مسألة اختصاصها بشكل مبدئي تطبيقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، وذلك لحين طرح الأمر على القضاء الذي يملك في هذه الحالة إعادة النظر مجدداً في اختصاص هيئة التحكيم.

   ووفقاً للمحكمة، يجب أن تتسم رقابة القضاء بنوع من الاستقلال في فحص مدى اختصاص هيئة التحكيم، بحيث لا يكتفي بمجرد مراجعة موقف هيئة التحكيم في هذا الشأن. وفي هذا الإطار، لخص اللورد مأنس بشكل واضح طبيعة هذا الفحص المستقل ونطاقه على النحو التالي: "لا يكون لوجهة نظر هيئة التحكيم ذاتها في مسألة اختصاصها أي قيمة قانونية أو حجية عندما يتعلق الأمر بما إذا كانت هيئة التحكيم تملك في الأصل أي سلطة شرعية حيال الحكومة، ويكون هذا بصرف النظر عن سبق تقديم أدلة كاملة أمام هيئة التحكيم وأيا ما كان مستوى جودة المداولة حول النتيجة التي توصلت إليها، وكذلك بصرف النظر عن تشكيل هيئة التحكيم ...".     

   وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة العليا اعتبرت هذا التوجه توجهاً عالمياً، فقد أسفر التحليل المقارن للمحكمة عن تشابه حدود مبدأ الاختصاص بالاختصاص ونطاقه بشكل كبير في دول عديدة ومنها فرنسا رغم اختلاف الإجراءات.

   فطبقاً للقانون الفرنسي، إذا تم الدفع أمام القضاء بعدم وجود أو صحة اتفاق تحكيم، فإنه يتعين على القضاء الفرنسي أن يحكم بعدم اختصاصه لصالح هيئة التحكيم ما لم يجد من ظاهر الأوراق أن اتفاق التحكيم كان باطلاً، ذلك أن لهيئة التحكيم أن تفصل في مسألة اختصاصها طبقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص.أما إذا كانت هيئة التحكيم قد فصلت بالفعل في مسألة اختصاصها وأقيم طعن أمام القضاء لإبطال حكم التحكيم، فيكون للقضاء سلطة واسعة في فحص الوقائع والتوصل استقلالاً إلى ما يراه من نتائج في شأن مسألة الاختصاص. هذا، ويمنح قانون المرافعات الفرنسي القضاء الفرنسي الحق في رفض الاعتراف أو تنفيذ حكم التحكيم الصادر في غياب اتفاق تحكيم، علماً أنه يجوز للقضاء الفرنسي في سبيل التأكد من مدى وجود اتفاق تحكيم صحيح، إعادة النظر بشكل كامل وليس فقط مجرد مراجعة قرار هيئة التحكيم في هذا الخصوص.

القانون الفرنسي يشترط توافر نية مشتركة للالتزام باتفاق التحكيم من أجل القضاء بامتداده إلى غير موقعي العقد :

   بعد أن أكدت المحكمة العليا البريطانية سلطتها في إعادة النظر في مدى وجود اتفاق تحكيم صحیح بين دلة وبين الحكومة الباكستانية، درست إمكانية امتداد اتفاق التحكيم إلى غير الموقعين وفقا للقانون الفرنسي باعتباره قانون مكان التحكيم الواجب التطبيق في هذا الخصوص بالنظر إلى عدم الاتفاق صراحة على القانون الحاكم لهذا الأمر.

   وفي هذا الإطار، رأت المحكمة أن القضاء الفرنسي يأخذ في اعتباره تاريخ علاقة الأطراف وكذلك مسلكهم، ويشمل ذلك في القضية الماثلة مدى تدخل الحكومة الباكستانية في تنفيذ المشروع والتفاوض حول العقد. والغرض من ذلك وفقاً للمحكمة- هو التأكد من نية الأطراف من خلال سلوكهم الموضوعي، والذي من شأنه أن يظهر ما إذا كانت لدى جميع أطراف إجراءات التحكيم ...النية المشتركة للالتزام باتفاق التحكيم".

   وبإعمال القانون الفرنسي على وقائع النزاع، قضت المحكمة، بأنه لم تكن هناك نية مشتركة، بأن تكون الحكومة الباكستانية "طرفاً حقيقياً في الاتفاق"، وبالتالي لا يمكن إلزامها بشرط التحكيم المدرج في العقد موضوع النزاع.

   وقد استند هذا القضاء إلى عدة عناصر أهمها أنه قد تم تعمد إنشاء صندوق Awami ليكون كياناً مستقلاً عن الحكومة الباكستانية التي كانت مجرد ضامن للقروض الممنوحة له. كذلك لم أن توقع الحكومة أي اتفاق من شأنه تأكيد كون الصندوق خاضعاً لرقابتها أو تابعاً لها، فضلاً الصندوق وليس الحكومة- هو الذي بادر باتخاذ إجراءات قضائية ضد دلة في باكستان، كما أن العقد المبرم بواسطة جهة حكومية لا يلزم بالضرورة الحكومة ذاتها، وهو أمر كان يتعين أن يعيه مكتب المحاماة الذي كان يمثل دلة عندما أبرمت العقد مع الصندوق دون الحكومة.

   وطبقاً لرأي اللورد مانس، فإن المعيار الذي اعتمدته هيئة التحكيم فيما يتعلق بامتداد اتفاق التحكيم إلى غير موقعي العقد قد خفض من السقف المعتاد في هذا الشأن إلى درجة قد تؤدي إلى إيجاد قرينة على أن عدداً كبيراً من غير موقعي اتفاق التحكيم يمكن اعتبارهم أطرافاً في عقود تعمد أطرافها استبعادهم منها.

   وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة العليا استمعت في شأن موقف القانون الفرنسي إلى خبيرين قانونيين فرنسيين، كما أن تطبيق المحكمة للقانون الفرنسي قد لاقى استحساناً لدى بعض الخبراء الفرنسيين. بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن القضاء الفرنسي، المعروض أمامه الطعن ببطلان حكم التحكيم، سوف يتبنى ذات وجهة نظر القضاء البريطاني.

   وبالفعل صدر بتاريخ 17 فبراير 2011 حكم محكمة استئناف باريس في دعوى البطلان المقامة من الحكومة الباكستانية ضد حكم التحكيم استنادا إلى سبب بطلان وحيد هو عدم وجود اتفاق تحكيم بين الحكومة الباكستانية وبين شركة دلة. وقد رفضت محكمة استئناف باريس إبطال حكم التحكيم مؤكدة بذلك صحة ما انتهت إليه هيئة التحكيم من اختصاصها بنظر النزاع، واستندت المحكمة في ذلك إلى رأي مناقض لرأي القضاء البريطاني، إذ أشارت إلى أن الحكومة الباكستانية قد أظهرت بجلاء في مرحلة ما قبل التعاقد، وكذلك بعد إبرام العقد، أنها كانت طرفاً في اتفاق التحكيم بالرغم من أنها لم تكن من موقعي العقد موضوع النزاع.

   ويأتي هذا الحكم الفرنسي الحديث بمثابة طوق نجاة لشركة دلة التي وإن فشلت في تنفيذ حكم التحكيم في بريطانيا، إلا أن الطريق بات مفتوحاً أمامها للحصول على الصيغة التنفيذية من القضاء الفرنسي باعتباره قضاء بلد مكان التحكيم. بيد أن ذلك لا يعني نهاية رواية دلة التحكيمية، بل فقط بداية فصل جديد وشيق أمام القضاء الفرنسي، خاصة وأن فرنسا قد أدخلت اخيراً تعديلات جوهرية وعصرية على الفصل الخاص بالتحكيم في قانون المرافعات من شأنها تأكيد مكانة فرنسا كمكان للتحكيم التجاري الدولي، بحيث يصعب تصور أن يستهل القضاء الفرنسي عهده مع التعديلات الجديدة بإبطال أو رفض تنفيذ حكم تحكيم دولي أو التدخل تحت أي مسمى في قضاء هيئة التحكيم.

الخلاصة:

   يمكن للوهلة الأولى تصنيف حكم دلة ضد باكستان على أنه ضد التحكيم، إلا أن التعمق فيه يؤكد اتساقه مع ما استقر عليه القضاء البريطاني في مجال الرقابة القضائية على اختصاص هيئة التحكيم في حالة وجود طعن من أحد الأطراف بأنه لم يكن طرفاً في اتفاق التحكيم.

   ونرى أن أهمية هذا الحكم، وبصرف النظر عن مصير حكم التحكيم أمام القضاء الفرنسي، تكمن في الواقع في التفرقة الدقيقة التي تبناها بين الرقابة القضائية على وجود اتفاق التحكيم ذاته، وبين تلك المتعلقة بنطاق اتفاق تحكيم موجود بالفعل، فكما أكد بحق- اللورد كولينز إذا تم الدفع بعدم وجود اتفاق التحكيم بغرض رفض تنفيذ حكم تحكيم، فإن القضاء يملك إعادة النظر مجدداً في اختصاص هيئة التحكيم، وذلك حماية للحقوق الأساسية التي تكفلها المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك لصالح الطرف الذي لم يوافق على التحكيم، ومن ذلك حقه في الدفع بعدم اختصاص هيئة التحكيم.

    أخيراً، فإن هذا الحكم المهم يؤكد المفهوم الصحيح لمبدأ الاختصاص بالاختصاص ويزيل بشكل عملي أي لبس حول نطاقه وغرضه، إذ أن المقصود به في الواقع ليس تحصين قرار هيئة التحكيم في مسألة اختصاصها من أي رقابة، وإنما منح الأولوية للمحكمين للفصل في مدى اختصاصهم قبل أن يتدخل القضاء لإسباغ رقابته أثناء مرحلة بطلان أو تنفيذ حكم التحكيم.

    فمن غير المنطقي أن يمارس قاضي التنفيذ رقابته على حكم التحكيم الصادر في غياب اتفاق تحكيم صريح دون أن يتمكن من فحص كافة الوقائع ذات الصلة. بيد أن هذا لا ينفي في رأينا ما يكون لحكم هيئة التحكيم من قيمة على الأقل استرشادية- باعتبار هيئة التحكيم هي أول من يتصدى لمسألة الاختصاص، ومع مراعاة أنها وإن كانت تملك ميزة إلقاء النظرة الأولى فإن قرارها في هذا الشأن لا يتمتع بالضرورة بحجية الكلمة الأخيرة.