الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 10 / الطعن في شرط التحكيم في الشريعة الإسلامية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 10
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    71

التفاصيل طباعة نسخ

   ان الشرط التحكيمي أو اتفاقية التحكيم يعتبران المدخل الذي يفتح للأطراف إمكانية ولوج التحكيم والخروج عن سلطان القضاء.

   لذلك كانت صياغة الشرط التحكيمي أمراً مهماً جداً، لأن "العبرة في صحة المدخل" كما قال الجاحظ، وهو ما يتطلب دقة في التعبير وإلماماً بتقنيات التحكيم ومرجعياته ومحيطه القانون والجغرافي ومعرفة بمقتضيات وواقع المتعاملين المحتملين معه. وكل أو تغافل او جهل بأحد تلك العناصر قد تكون له نتائج كارثية على الطرفين وطعن في مؤسسة التحكيم ذاتها وفي نجاعتهـا بما يعيد الأطراف إلى سلطان القضاء الذي توافقوا منذ البداية عن تفاديه.

   ولعل دراسة متأنية لكل القوانين والأنظمة التحكيمية تقودنا إلى استنتاج الحيز الفسيح الذي تركته تلك الأنظمة للأطراف لاختيار ما يناسبهم من شروط تتعلق بكيفية التحكيم ونوعه والقانون المنطبق على الأصل والقانون المنطبق على الإجراءات ووسائل الإثبات ونوع المحكمين ولغة التحكيم، الى غير ذلك من العناصر التي على الأطراف التمعن فيها وتحديد موقفهم منها مسبقاً تفادياً لمفاجآت غير سارة عندما يبدأ التحكيم أو في نهاية الأمر فيجد هذا الطرف أو ذاك نفسه تحت سيف القانون الذي جهله أو لم يقرأ له حساباً.

   لقد ظهر شرط تطبيق الشريعة الإسلامية بظهور التعقيدات في المعاملات التجارية الدولية حتى قبل العولمة، لكنه أصبح أوكد وأشد إلحاحاً بعد طغيان العولمة وتشابك المصالح والانسياق وراء تنامي الاحتياجات واختلاف المتعاملين التجاريين وطناً وحضارة وديناً.

   وإذا كان تطبيق الشريعة الإسلامية لا يمثل مشكلة بين المسلمين قلباً وقالباً وما دون ذلك هو الاستثناء فأن المشكلة تكمن في كيفية فرض هذا الشرط في معاملاتنا، خصوصاً مع غير المسلمين ممن نحن في حاجة الى التعامل معهم أو بالعكس بحيث تختلف موازين القوى من حالة الى حالة ومن موقع تفاوض إلى آخر،

   وبطبيعة الحال فإننا لا نستطيع أن نفرض على غير المسلم شرط تطبيق الشريعة الإسلامية ما لم لم نكن في موقع القوة وفي موقف تفاوض أفضل، مما يجعل الطرف الآخر يقبل ذلك الشرط مرغماً غير راغب. كذلك الشأن بالنسبة لأولئك المسلمين بشهادة الميلاد فقط، والذين لا هم لهم سوى الربح والهوى ولا شأن لهم بتطبيق الشريعة الإسلامية، بل ولا مصلحة لهم فيها، لأنها تحد من سلطان تحايلهم ورغبتهم الجامحة في الربح، ولكن قبولهم بشرط تطبيق الشريعة كان في نطاق الرغبة في تحقيق الربح وعدم تفويت الفرصة لا غير. لكن سرعان ما يظهر هؤلاء على حقيقتهم ويظهر الصادق من المنافق حالما يبدأ تنفيذ المعاملة ولا يفوتون أية فرصة للانقلاب على ذلك الشرط إذا كانت نتيجته تعمل ضد مصالحهم.

   انه العود الى الرغبة في تحقيق أكبر قدر من الربح دون ضوابط أو قيم دينية أو أخلاقية.

   عندها يحاول ذلك الطرف الخائف من شريعة الله أن يتخلص من ذلك السيف الذي لا يجامل أحداً وهو سيف الشريعة من خلال الطعن في الشرط المتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية أو محاولة الالتفاف عليه بطرق ملتوية، من أهمها الالتجاء الى القضاء سواء للطعن في الشرط بهدف إبطاله أو إبطال الشرط التحكيمي أو حتى العقد بمجمله للهروب الى سلطان المحاكم والقانون الوضعي أو من خلال الاعتراض على عملية تنفيذه عند طلب اكساء القرار التحكيمي الصادر وفق أحكام الشريعة الإسلامية بالقول ان أساس القرار باطل ويتعارض مع قوانين البلد أو حتى النظام العام رغم أن كل قوانين التحكيم في العالم تعطي أطراف العقد حرية اختيار القانون الواجب التطبيق والمثال الابرز على ذلك معاهدة انشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار لعام 1965 التي تنص في المادة 42: (1- تحكم المحكمة في النزاع القانوني وفق القواعد القانونية التي يتفق عليها الطرفان – 2 لا يجوز للمحكمة أن تصدر حكماً لا يفض النزاع على أساس سكوت القانون أو غموضه).

 

لذلك نقسم البحث الى فرعين:

الفرع الأول: تجاهل شرط تطبيق الشريعة الإسلامية:

أولاً- تجاهل شرط تطبيق الشريعة الإسلامية:

    تعتري صيغة الشرط التحكيمي أحياناً شوائب ونقائص تفتح باب التشكيك في الشرط المتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية ان لم يطل الطعن الشرط التحكيمي برمته كما في حالة وجود عيب في اهلية الطرف المعاقد شخصاً طبيعياً كان أو ذاتاً اعتبارية او كان موضوع العقد غير قابل للتعاقد أو التحكيم أو كانت شروط التعاقد مجحفة وغير متكافئة.

   ولهذا السبب دعونا نقول بداهة أن محرري العقود أو اتفاقية التحكيم هم الذين يتحكمون في مصيرهما بكل جزئياتهما. وبقدر ما يكونوا عالمين بخفايا التحكيم ومشاكله ومقتضياته والاتجاهات المختلفة لفقه القضاء بشأنه وملمين بقواعد اللغة العربية وحقيقة معاني كل كلمة أو صيغة يحسنون فنون التفاوض بما يمكنهم من فرض آرائهم والشروط الأصلح لهم مقابل التنازل عن جوانب هامشية لا تؤثر في لب الموضوع ولا في جوهر الحق عند التحرير أو أثناء التنفيذ أو بعده فأنهم يضمنون قدراً أكبر من السلامة لاتفاق التحكيم ومآل القرار التحكيمي.

1- رفض شرط تطبيق الشريعة الإسلامية:

    ان المحكم أياً كان أصله وموطنه ما هو الا بشر يتأثر بمحيطه وبنشأته والتعليم الذي تلقاه والقوانين التي درسها وخبرها، ولذلك فمن الطبيعي جداً أن يجد هذا المحكم نفسه أميل الى تطبيق قانون بلده الذي خبره.

   ولكن من الطبيعي جداً أيضاً أن يكون المحكم فطناً وذا حد أدنى من الثقافة والمنطق في التعامل مع الاشكاليات بحيث لا يصرح بوضوح أنه لا يقبل تطبيق قانون وقع اختياره من الطرفين واستناداً إلى قاعدة قانونية متعارف عليها دولياً وفق القانون الدولي العام وهي أن العقد شريعة المتعاقدين (Pacta sunt servanda).

   وهكذا يمكن أن نجد أنفسنا أمام ثلاث حالات:

- عدم وضوح الشرط.

- عدم اعتبار الشريعة قانوناً مما يؤدي إلى اختيار قانون أكثر التصاقاً وهو قانون وطني.

- تناقضات الآراء الفقهية في شأن تلك الحالة قد يزودها سوءا اختلاف آراء المستشارين.

الحالة الأولى: عدم وضوح شرط تطبيق الشريعة:

   يظهر ذلك مثلاً في الصيغة التي نجدها في عديد العقود وهي صيغة "بشرط عدم مخالفته للشريعة الإسلامية" أي ان التحكيم يكون وفق قانون محدد وأحياناً بما يختاره المحكمون كقانون أكثر التصاقاً بالنزاع، لكن بشرط أن لا تكون نتيجة مقتضيات القرار التحكيمي مخالفة للشريعة الإسلامية.

    فهذا الشرط ليس صريحاً في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على النزاع، بل على العكس من ذلك يمكنني القول أن مثل تلك الصيغة تؤدي حتماً إلى اعتبار الطرفين قد تركا للمحكمين حرية اختيار القانون الواجب التطبيق وهذه هي القاعدة، لكن ذلك المبدأ العام متوقف على شرط يتعلق بالنتيجة، وهي انها يجب أن لا تكون مخالفة للشريعة الإسلامية كالحكم بفائض تجاري في شكل نسبة مئوية مثلاً، وهذا أمر يسير يمكن أن يتحقق حتى بتطبيق القوانين الشيوعية في كوبا أو الصين.

   وهذا الرأي ذهبت اليه خصوصاً المحاكم الانكليزية مثلما هو الحال في قضية بنك شامل البحريني ضد شركة الأدوية Beximco الأمريكية المحدودة عام 2004 حيث اعتمدت المحكمة الانكليزية القانون الانكليزي اعتماداً على عدم وضوح شرط تطبيق الشريعة الإسلامية، خصوصاً ان الطرفين رضيا بالانضواء تحت سلطة القضاء الانكليزي وهذا ما يدل على عدم رغبتهما في تطبيق الشريعة، اذ ان القاضي الانكليزي ليس مؤهلاً لذلك، اضافة إلى ان محتوى العقد يخفي قروضاً بفائدة.

   بل على العكس من ذلك لعل صيغة الشرط في تلك القضية "بعدم التعارض مع الشريعة الإسلامية" قد طبق ضد بنك شامل البحريني، لأنه زيادة على وقوع تطبيق القانون الانقليزي على علاقة الطرفين فقد وقع الاقتصار على البحث في كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية على اقساط الترجيع التي اعتبرها القضاء الانكليزي تخفي فائضاً مقنعاً وهذا لا يجوز حسب الشريعة الإسلامية فحرم البنك من فارق الثمن المعتمد في عقد المرابحة، وهكذا كان سوء تحرير العقد فيما يتعلق بشرط تطبيق الشريعة الإسلامية سبباً في الانقلاب على البنك البحريني مرتين: مرة باقصاء تطبيق القانون الاسلامي على العلاقة، ومرة بحرمان البنك من حقوقه التي يضمنها عقد المرابحة بالالتفاف والتحايل على مقتضيات عقد المرابحة من خلال التظاهر بتطبيق الشريعة، ولكن بتأويل منحرف.

   مع وهذا ما حصل أيضاً مع مؤسسة الخليج للإستثمار الإسلامي التي مقرها باهاما في نزاعها Symlhony Gems حيث ينص عقد المرابحة بصراحة على تطبيق القانون الانكليزي بشرط عدم مخالفة الشريعة الإسلامية. وبالرغم من ان الخبراء في التمويل الاسلامي الذين وقعت استشارتهم قدموا توضيحاً حول عقود المرابحة ومقتضياتها وأسسها، ولكن انتهى الأمر بالقاضي الانكليزي إلى القول أن تطبيق القانون الانكليزي يعود بناء على اتفاقية روما حول القانون الواجب التطبيق وهذه الأخيرة تتحدث عن القوانين الوطنية التي يحق للأطراف اختيارها في عقودهم.

   بل أضاف القاضي الانكليزي تعليلاً أسوأ من ذلك كله عند ما اعتبر ان البنك الذي له مجلس رقابة شرعية كان بإمكانه عدم الموافقة على هذا العقد لو كان ينوي فعلاً تطبيق الشريعة الإسلامية، ولكن غايته من تضمين تلك العبارة "بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية" هو التظاهر بواجهة إسلامية فيما يقوم به البنك من أعمال.

   أما في غرفة التجارة الدولية بباريس فقد كان الموقف مشابهاً إلى حد كبير من خلال استبعاد تطبيق الشريعة بالقول ان دولة المالديف التي حصل النزاع فيها أصدرت قانوناً جديداً للعقود عام 1991 أي بعد ابرام عقد المقاولة (الإنشاء) وقبل انطلاق النزاع بين الطرفين.

    وقد تم اللجوء إلى رأي خبيرين قدما رأيين استشاريين للمحكم الوحيد (وباتفاق الأطراف) وأشارا فيه إلى أن تطبيق نصوص الشريعة الإسلامية في هذا النزاع يؤدي إلى بطلان اتفاق التحكيم أصلاً من خلال بطلان بنود العقد بسبب الغرر ووجود عقدين في عقد واحد وتنصيص العقد على الفائدة وبأن اشتراط التحكيم في العقد هو على أمر مستقبلي لا يجوز التعاقد بشأنه شرعاً.

   وكان ملخص ما يستنتج منهما: "ان للتجارة.... وللتجارة الدولية على وجه الخصوص مستلزماتها التي تجدر مراعاتها. وما فعلته أغلب الدول الإسلامية هو الرجوع إلى القوانين المعاصرة بهدف تلطيف او حتى التغاضي احياناً عن أحكام الشريعة الإسلامية.... وفي ما يتعلق بالمسائل الأخرى، وعند عدم توافر قوانين معاصرة حول نقطة معينة، يطبق القانون الاسلامي المكتفي أحياناً بالاعراف العامة المحلية" (مجلة التحكيم بيروت - عـ 5ـدد – 2010 ص 764 مع تعليق الدكتور محمد سليم العوا).

   وواضح من خلال هذا القرار أن المحكم الانكليزي لا يريد تطبيق الشريعة الإسلامية في هذه المعاملة التي كان فيها شرط تطبيق الشريعة شرطاً مختلطاً (مشتركاً) ولكن حتى لو كان الشرط افرادياً (أو موحداً) فإن حيثيات قراره تدل على انه سيركن في نهاية المطاف إلى تطبيق القانون الانكليزي وحده، وربما طبق قواعد الشريعة الإسلامية جزئيا فقط بحرمان الطرف الإسلامي من عناصر الربح بحجة التشابه بينها وبين الربا المحرم إسلامياً، ودون أن يكون مستعداً لتطبيق الشريعة فيما عدا ذلك.

   لذلك فإن غموض الشرط التحكيمي وسوء تحريره وعدم ضبط مقتضياته من شأنه أن يطيح ذلك الشرط منذ البداية سواء كان ذلك أمام هيئة تحكيم أو أمام القضاء وهو الأخطر.

1) تأويل العقد بما يتعارض مع الشريعة:

   ان قضية مؤسسة الخليج للاستثمار الإسلامي الآنفة الذكر أظهرت إلى أي مدى يمكن للقاضي وحتى للمحكم إذا لم يكن ذا ثقافة إسلامية عالية أن يحاول الطعن في العقد حتى لا يواجه الشرط التحكيمي المتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية ذاته.

   فقد امتد النقاش فيها الى كنه عقد المرابحة وتحليل كيفية حصول التمويل من المؤسسة المصرفية الإسلامية ووقع اعتبار ذلك مخاطرة غير مقبولة من وجهة نظر القاضي الانكليزي لم يكن البنك محقاً في الاقدام عليها.

   وهذا ما حصل في قضية بنك شامل البحريني ضد Beximco حيث رأى القاضي الانكليزي ان عقود المرابحة والإجارة موضوع القضية تمثل اتفاقيات قروض تقليدية، وإنما اتخذت صيغ المرابحة والإجارة للتمويه والتحايل لدفع فوائد ربوية مما يجعلها اتفاقيات باطلة وفق الشريعة الإسلامية.

   ولعلنا هنا نفهم لماذا لجأت المؤسسات المالية في ماليزيا إلى إبرام عقود تأمين تخص عقود المرابحة لتوفير ضمان أكبر وقاية من المخاطر.

   ورغم أن القوانين الغربية كلها تحترم مبدأ حرية التعاقد وسلطان الارادة سواء باختيار التحكيم وسيلة لفض المنازعات أو باختيار نظام الإجراءات أو القانون الواجب التطبيق في الموضوع، الا انه ظهر جلياً أنه بمجرد العثور على شرط تطبيق الشريعة الإسلامية فإنه يقع الالتجاء إلى التأويلات الخاطئة وإلى عناصر هدم العقد أو الشرط سواء من خلال بطلان العقد بكامله أو من خلال بطلان بعض أجزائه ليقع الوصول بعد ذلك إلى استبعاد العمل بشرط تطبيق الشريعة.

    ويكفي الحديث عن الشرط التحكيمي المضمن في العقد المحدد للعلاقة للقول بأمكانية بطلان الشرط التحكيمي المتضمن تطبيق الشريعة بذريعة أن التعاقد على أمر مستقبلی ممنوع شرعاً.

   فتنصيص العقد على الربح الفائت أو الشرط الجزائي التغريمي مثلاً، كثيراً ما يفسر على انه فائض مقنع ومحرم شرعاً، ويكون ذلك مطية سواء لاستبعاد ذلك الفرع من العقد أو ما ترتب عليه من حقوق أو القول ببطلان العقد بكامله، لأن موضوعه مخالف للشريعة أو أن احتواء العقد على شرط مخالف للشريعة يستتبع حتماً عدم تطبيق الشريعة على النزاع تماماً.

   كما ان وجود عقدين في عقد واحد في عمليات المرابحة يفسر أيضاً بالغرر المحرم شرعاً الشيء ، الذي يبرر بطلان العقدين معاً لاستحالة تحديد ثمن أو بدل كل جزء من المعاملة. وهذا التأويل الخاطئ كان يمكن تفاديه من خلال توضيح علاقة كل طرف بالطرف الآخر وتحديد المقابل المالي لكل معاملة على حدة.

   ولعل الحكم القضائي رقم 153/2009 الصادر في 23-11-2009 (تعليق الدكتور عبد الستار الخويلدي) يمثل احدى حلقات مشاكل تأويل العقد التي تهدد سلامة الشرط التحكيمي ونفاذه.

   ذلك أن الشركة التجارية المضاربة طعنت في الشرط التحكيمي بصبغته التعسفية اعتماداً على أن الشركة المضاربة تنتمي إلى نفس بلد المؤسسة المصرفية (رب المال) وان العقد هو عقد إذعان لم تكن للشركة المضاربة (الطالبة) إمكانية مناقشته بدليل الصبغة الداخلية للتحكيم في الواقع، لكن الشرط التحكيمي يوحي بأنه ذو صبغة دولية.

   اذن كان بإمكان المحكمة التي نشر النزاع أمامها بهدف إبطال العقـد أن تقبـل دون عنـاء الصبغة التعسفية للشرط التحكيمي (القاضي بأحالة النزاع علـى المركـز الإسـلامي الـدولي للمصالحة ذي الصبغة الدولية) بسبب انتماء الطرفين إلى نفس الدولة غير دولة مقـر المركـز الإسلامي.

بينما لو كان العقد واضحاً وأكثر دقة خصوصاً بالتنصيص صراحة على الصبغة الدولية للعلاقة والتحكيم واشتراط تطبيق الضوابط الشرعية على العقد، والتأكيد على أن ذلك هو السبب في اختيار المركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم أو حتى بالتنصيص صراحة على وجوب أن يقوم المركز الإسلامي بتسمية محكمين مسلمين لكان احتمال الإبطال غير وارد اطلاقاً.

   اذن فالقضاء الوطني رفض واستبعد اختصاصه في إبطال العقد اعتماداً على الشرط التحكيمي الذي يمنع عنه النظر في أي نزاع. ولكن كان يمكن للقضاء تقرير عكس ذلك اعتماداً على تأويل مقتضيات العلاقة وتحليلها انطلاقاً من الواقع والعناصر الأكثر التصاقاً بتلك العلاقة.

   ان التأويل والتوسع في الفهم أو التضييق هما فرصة ثمينة لرافضي تطبيق الشريعة ولا حل لهما ولا نهاية الا بأحكام تحرير الشرط التحكيمي بكل تأن ودقة وتفصيل يمنع التأويل، وخصوصاً التنصيص على المذهب المنطبق أو ترتيب المذاهب في أولوية تطبيقها منعاً للغموض وحتى التعارض أحياناً.

   وبانعدام تلك الدقة يلتجئ المحكمون الأجانب (غير المسلمين) إلى خبراء ينتمون إلى بلدان إسلامية، ولكن ليسوا بالضرورة ذوي ثقافة إسلامية أو قناعات إسلامية، فيزيد هؤلاء الأمر سوءاً من خلال آراء عفا عليها الزمن وتجاوزها الاجتهاد الفقهي كمنع الشرط الجزائي (التغريمي) باعتباره رباً مقنعاً والحال أن الفقهاء والمجامع الفقهية الإسلامية أصدرت عديد الآراء الحديثة والفتاوى للمعاملات المستحدثة (المتاجرة في العملات مثلاً والتي لم تكن مباحة سابقاً) والمعايير الشرعية وهكذا يقع الطعن في الشرط التحكيمي المتضمن تطبيق الشريعة بإبطاله أو استبعاده بسبب الجهل أو التأويل السيء لموضوع العقد أو للشرط أو مشارطة التحكيم.

 1) بطلان العقد المتضمن للشرط التحكيمي أو مشارطة التحكيم:

ان هذا البطلان يمكن أن ينتج، إما من انعدام الأهلية أو انعدام الرضا أو فساد الموضوع (معاملة أو تحكيماً).

أ- انعدام الأهلية: من المنطقي جداً ان العقد الرابط بين الطرفين أو مشارطة التحكيم يخضع للشروط العامة للعقود، وأهم تلك الشروط أهلية التعاقد. وهذه الأهلية تتعلق اما ببلوغ سن الرشد القانوني أو بتوافر الأهلية المقيدة.

   فاذا ما أمضى العقد قأصر أو صاحب أهلية منقوصة (مقيدة) فما العمل؟

   الأهلية تتبع دوماً الحالة الشخصية للفرد، وبالتالي فان كل القوانين تتعامل معها وفق القانون الوطني لذلك الشخص الطبيعي (فصل 5 من مجلة الالتزامات والعقود التونسية ومجلة القانون الدولي الخاص).

   وهذا القانون الشخصي مرتبط أحياناً بالجنسية وأحياناً أخرى بمكان الاقامة، لكن في الولايات المتحدة الامريكية تخضع قواعد الأهلية لقانون العقد (عدا ولاية لوزيانا) فهل يمكن لهذه الأهلية ان تخضع هي نفسها لشرط تطبيق الشريعة الإسلامية المضمن بالعقد؟

  طبعاً لا. لأن الأهلية تتعلق بسلطان الإرادة وارادة الصغير او المحجور عليه هي إرادة منقوصة، وبالتالي كأنها منعدمة تماماً ساعة إمضائه العقد، لذلك تتوقف صحة عقود اصحاب الأهلية المقيدة على مشاركة مقدميهم.

   كما أن إبرام العقود التي تنقص ذمة القاصر من طرف وليه رهينة بترخيص (أي اذن) كتابي من رئيس المحكمة التي بها مقره حسب أغلب القوانين الوضعية.

   لذلك فان اختلال شرط الأهلية عند إبرام العقد لا يصححه شرط تطبيق الشريعة الإسلامية بل تصححه مصادقة الولي أو إجازة عديم الأهلية لذلك التصرف بعد ترشده.

   ومن الطبيعي جداً تبعاً لذلك أن يتأكد محرر العقد من اهلية اصحابه وفق قوانينهم الوطنية خصوصاً وان تلك الأهلية تذهب مذاهب شتى من سن 15 سنة الى سن 21 مع التفريق بين المتزوج وغير المتزوج حتى لا يواجه العقد بالابطال بعد أن تكون حقوق معاقد القاصر قد ضاعت وتلاشت.

   لكن كثيراً ما تتعلق تلك الأهلية بالجنسية اعتباراً لموضوع العقد وتكون الجنسية أحياناً مرتبطة بالدين أو بجنسية الأم أو بمحل الاقامة.

   اما انعدام اهلية الشخص المعنوي فهو أكثر تعقيداً أحياناً.

   فقد صدر قرار من محكمة التمييز الاردنية مجلة الحقوق رقم 217/85 سنة 1986 ص 142: "لا تعتبر سلطة المياه ملزمة بالشرط الوارد في العقد الذي ينص بالالتزام بالتحكيم في حالة  النزاع على تنفيذ العقد طالما ان مجلس السلطة قد قرر احالة العطاء المبين في العقد دون ان يفوضها رئيس مجلس الادارة أو المدير العام الالتزام بالتحكيم، وعليه فان تعيين المحكم لا يستند الى أساس قانوني" ؟

   وهذا يجرنا الى التفريق بين الشخص المعنوي كجهة عامة والشخص المعنوي الخاضع للقانون الخاص وخصوصاً الشركات والجمعيات. واذا كانت الجهات العامة ممنوعة عموما من اللجوء الى التحكيم في علاقاتها مع مواطنيها ولا سيما في العقود الداخلية، الا ان التشريعات المعاصرة بدأت تقبل اخضاع الاجهزة العامة للتحكيم خصوصاً في العقود الدولية أو حتى العقود الداخلية، اذا كان معاقد الجهة الرسمية طرفاً أجنبياً ما لم يكن موضوعها خاصاً بالسيادة المتعلقة بمجالات القانون العام.

   كما صدر قرار تحكيمي عـ292ـدد بتاريخ 29-05-2003 عن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي يقضي: "بأن نص الفقرة الثانية من المادة الاولى من قانون التحكيم المصري عـ27ـدد لسنة 1994 يوجب أن تكون الموافقة على التحكيم في العقود الادارية بإمضاء الوزير شخصياً، وهي تمنع التفويض في هذا الشأن، الأمر الذي يكون معه اتفاق التحكيم في النزاع الماثل صادراً عن جهة غير مختصة ومن غير ذي صفة في ابرام هذا الاتفاق، ومن ثم يبطل اتفاق التحكيم وتنحصر ولاية هيئة التحكيم عن نظر هذا النزاع، ولا تكون مختصة بالفصل فيه، الأمر الذي يستنبع من هيئة التحكيم أن تقضي بعدم اختصاصها بنظر هذه الدعوى" (عدد خاص باليوبيل الفضي للمركز يناير 2004 صفحة 8).

    كما صدر قرار عن المحكمة التونسية بإبطال قرار تحكيمي يتعلق بشخص ليبي اشترك مع شخص تونسي في شركة ووقع تعيين التونسي وكيلاً عنها. ولما قام نزاع استصدر الطرف الليبي المساهم بالمال قراراً تحكيمياً ضد الشركة التونسية فطعنت هذه الاخيرة بكونها لم تكن طرفاً في اتفاقية التحكيم وان الطرف الليبي قبل التحكيم بصفته الشخصية وليس نيابة عن الشركة التي يمثلها وكيلها مما تنعدم معه الأهلية (مجلة القضاء والتشريع ماي 1999).

   اما الذوات المعنوية الخاصة فتخضع لقوانينها الأساسية ولارداة المنخرطين فيها من خلال السلطات الممنوحة لهم سواء وفق مجلة الشركات التجارية أو القوانين الخاصة بالجمعيات. فاذا تعاقد الممثل القانوني مع الطرف الثاني في العلاقة فيلزم التثبت حتما من صفته وعدم فوات مدة الوكالة وعدم اضمحلال السلطات الممنوحة له ومن النفوذ المسند اليه من خلال القانون الاساسي أو الجلسات العامة في ابرام تلك العقود.

   واذا كان العلماء المسلمون قد اشترطوا لصحة أهلية التعاقد اجتماع الطرفين او الاطراف في مجلس واحد يسمى "مجلس العقد" فان تقدم وسائل الاتصال الحديثة ودقتها مكن رجال الاعمال من ابرام العقود عن بعد من خلال وسائل الاتصال الحديثة مع اعتماد الامضاء الالكتروني لنجد انفسنا امام اشكالية اثبات الأهلية من موقع آخر.

   لذلك حرص المشرعون على اعتماد طريقة الامضاء الالكتروني مع التأكيد على وجوب تثبت المؤسسة المتعهدة بذلك الامضاء من مسألة الأهلية وفق قانونها الوطني، لأنها لا تسلم شهادة في الامضاء الالكتروني، الا للاشخاص المؤهلين لذلك، كما هو الحال مع الوكالة الوطنية للمصادقة الالكترونية بتونس التي تشرف على الاعتراف المتبادل بالمصادقة الالكترونية في الاتفاقيات مع الاطراف الاجنبية، وكذلك عمليات اصدار وتسليم وحفظ شهادة المصادقة. وعند وجود أي خطأ في الأهلية يصبح ذلك المزود مسؤولاً عن الخطأ وضامناً في التعويض للمتضرر من ذلك الخطأ، خصوصاً اذا تعمد مواصلة العمل بها مع علمه بعدم صحة المعلومات او تغييرها قبل تسليم الشهادة . ولذلك يصبح التعاقد الالكتروني وتضمين شرط تحكيمي به أكثر ضماناً بخصوص الأهلية بالنسبة للمتعاقدين، لأن هناك طرفاً آخر يتحمل مسؤولية التثبت من الأهلية مما يخفف المخاطر الناتجة من انعدام الأهلية المؤدية الى ابطال العقد أو حتى الشرط التحكيمي بسبب ذلك الضمان الخارجي.

    كما أن لجنة الامم المتحدة لقانون التجارة الدولية CNUDCI أصدر قانوناً نموذجياً للتجارة الالكترونية مع توصية للبلدان المنضوية في تلك اللجنة بالعمل على منواله وتطوير تشريعاتها بمقتضاه (الدورة 21 من 28 ماي الى 14 جوان 1996) وهو نفس ما قام به مجلس الاتحاد الاوروبي في 13-12-1999 الذي أوجد إطاراً أوروبياً للإمضاء الالكتروني.

    ورغم ذلك يبقى احتراز قائم يتعلق بالاعتراف بذلك الامضاء كوسيلة من وسائل الاثبات المعتمدة قانوناً في ضوء بعض القوانين التي قد تكون بقيت لم تتطور بخصوص وسائل الاثبات التقليدية (الكتب والاقرار واليمين والشهود والقرينة القانونية) وهو أمر تداركته بعض التشريعات ومنها مجلة التحكيم التونسية (في فصلها السادس) الصادرة بقانون 26-04-1993، بل اصبح بالإمكان تأسيس الشركات عن بعد (قانون 31-12-2004) وتقديم الدعاوى امام قاضي الضمان الاجتماعي بمقتضى وثيقة الكترونية موثوق بها (الفصل 9 من قانون 15-02-2003).

   وينص الفصل الرابع من قرار وزير تكنولوجيا الاتصال المؤرخ في 19-07-2001 المتعلق بشهادات المصادقة الالكترونية: "ويتم حفظ الوثيقة الالكترونية على حامل الكتروني يمكن من:

-الاطلاع على محتواها طيلة مدة صلاحيتها.

- حفظها في شكلها النهائي بصفة تضمن سلامة محتواها.

- حفظ المعلومات الخاصة بمصدرها ووجهتها وكذلك تاريخ ومكان ارسالها او استلامها".

   وقد سار عديد التشريعات على هذا المنوال ومنها خاصة المشرع الفرنسي بموجب قانون 13-3-2000 الذي سوى في الفصل 1316-1 من المجلة المدنية بين الكتب الخطي والكتب الالكتروني وكذلك الصيغة الجديدة للفصل 1108- 1 من نفس المجلة.

ب- عيوب الرضا:

   يصح القول ان عيوب الرضا كما هي خطر على العقد فهي ايضاً خطر على الشرط التحكيمي أو مشارطة التحكيم.

   فاذا ما وقع التغرير بأحد الاطراف بطرق احتيالية للامضاء على وثيقة توكيل مفوض مثلاً، واتضح في ما بعد انه أمضى على التنازل عن حقه في التقاضي لمصلحة التحكيم او هو تنازل عن حقه في الاحتماء بقانونه الوطني الى الموافقة على الاحتكام الى الشريعة الإسلامية، وكان الأمر كذلك فان الطعن في العقد أو في مشارطة التحكيم بسبب انعدام الرضا يصبح خطراً على العلاقة، بل يمكن أن يصل الأمر حتى الى الطعن بالزور (التدليس). وسواء رجعنا الى احكام الشريعة الإسلامية أو القوانين الوطنية الوضعية فان الرضا ركن جوهري يبطل العقد أو المشارطة بدونه.

      وتوفر الرضا وان كان أيسر اثباتاً تجاه العارفين بفنون اختصاصهم والعالمين بالقانون وأصحاب المؤسسات، ويصعب أن يجد طعن هؤلاء بانعدام رضاهم آذاناً صاغية، فان انعدام الرضا يسير الاثبات تجاه العامة وخصوصاً الاميين منهم الذين ينقلب عبء اثبات الرضا على معاقدهم بعدما كان مع الاكثر علماً واختصاصاً محمولاً على هؤلاء الاخيرين.

   فالشخص الطبيعي يكفيه ان يثبت أنه امي وانه امضى على كتب لا يعرف محتواه لجهله باللغة المحرر بها أو باختلاف نواياه مع نوايا معاقده حتى يفوز ببطلان العقد أو مشارطة التحكيم وفق اغلب القوانين. ولا يكفي مطلقاً الاكتفاء برضا طرف واحد لفرض سلطان ارادته على الطرف الآخر باختيار التحكيم وسيلة لحسم النزاع والشريعة الإسلامية قانوناً منطبقاً لأن الاتفاق على التحكيم هو عقد رضائي كسائر العقود وما دام الاتفاق على التحكيم يعتبر خروجاً عن المبدأ العام الاصلي وهو اللجوء الى قضاء الدولة والذي يمثل مهمة سيادية بالنسبة اليها، لذلك فهو أمر غير مفترض ولا يمكن فهمه من خلال سياق الكلام، بل لا بد أن يكون عنصر الرضا فيه صريحاً واضحاً وجلياً وغير قابل للجدل سواء عند إبرام العقد أو بالانضمام اليه بصورة لاحقة وواضحة. واذا لم يكن الأمر بذلك الوضوح فالامر موكول إلى هيئة التحكيم لعقد جلسة مع الاطراف يحددون فيها اجراءات التحكيم وطرقه وازالة اللبس الذي ربما يكون موجوداً عند أحد الاطراف بين التحكيم والصور الأخرى لفض النزاع كالوساطة والخبرة والتوفيق والمصالحة.

   ففي عقد النقل البري مثلاً لا يمكن أن يتضمن سند الشحن عادة شرطاً تحكيمياً بينما يتضمن عقد ايجار السفينة ذلك الشرط عادة في شكل مشارطة ايجار تقع الاشارة اليها في سند الشحن. فالمتعامل مع الناقل البحري مثلا من حقه أن يقع ابلاغه بمشارطة الايجار المحال اليها، بل ويقع ابلاغه بنص المشارطة كاملاً بطريقة كتابية وثابتة ومؤكدة، لأنه لم يكن طرفاً في مشارطة الايجار حتى يقع الاحتجاج بها عليه.

   وقضية مترو انفاق القاهرة الذي اشترك في تنفيذه 12 مقاولاً فرنسياً وكذلك قضية التصنيع العربية مع احدى شركات تصنيع الهيلوكبتر مازالتا ماثلتين في الاذهان.

    وقد صدر قرار من الدائرة التجارية بمحكمة التعقيب (النقض) الفرنسية بتاريخ 04-6- 1985 (دالوز 1986 ص 106 تعليق R.Achard).

   والرضا يجب ان يكون محققاً وثابتاً من كل أطراف العلاقة التعاقدية على اختلاف مراكزهم القانونية والاقتصادية، لأن الفقهاء يعرفونه بكونه "توافق ارادتين او اكثر......" سواء كانوا اصحاب العقد الاصلي او العقود اللاحقة أو الثانوية (المقاول من الباطن مثلاً) ويمكن اثباته بكل الوسائل بما فيها الرسائل الالكترونية اللاحقة عبر الانترنت الى الطرف الذي صدر منه الايجاب أو أطراف العقد الاصلي بالانضمام الى شروط ذلك العقد أو مشارطة التحكيم بعبارات صريحة وواضحة وليس للسكوت معنى لاثبات الرضا.

   وقد تناولت أغلب التشريعات عيوب الرضا المتمثلة اساساً في الغلط أوالتغرير أو الاكراه التي ينجر عنها الابطال مثلما فعل القانون المدني التونسي في الفصول من 43 الى 47، وكذلك الفصل 354 من مجلة الالتزامات والعقود التونسية حول امضاء الأمي، وكما فعل أيضاً مع عقود التامين المتضمنة استثناءات خاصة أو حالات بطلان، حيث أكد أن لا قيمة لتلك التنصيصات اذا لم تكتب بشكل واضح وبارز (مغاير لخط العقد) للفت انتباه معاقد شركة التأمين الى خطورة ذلك الاستثناء (الفصل 12 – 3 من مجلة التأمين التونسية) كل ذلك للتأكد من الرضا بصورة يقينية.

   وهكذا يمكن أن يشكل عنصر الرضا ملجأ لكل من اراد ان يطعن في شرط تطبيق الشريعة أو في العقد بكامله متى كان الرضا معيبا. وهو خلل لا بد للمتعاملين مع تحرير العقود الانتباه إليه وتوفير ضمانات عدم الوقوع في فخه حتى لا يجد الطرف الذي يحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية نفسه تحت سيف القضاء والقانون الوضعي وبعيداً عن تطبيق الشريعة. ذلك أن مجرد الشك في الرضا يعطي لهيئة التحكيم الحق في البحث عن دلائله ومستنداته واستخلاص ما تراه متفقا مع الوقائع والحقيقة ودون رقابة عليها في ذلك الاجتهاد من أحد (حتى في صورة الطعن في قرارها بالابطال) وهذا ما ذهبت فيه مثلاً محكمة الاستئناف الكويتية – هيئة التحكيم القضائي الاولى بتاريخ 24-01-2007 الموافق لـ 5 محرم 1428 (مجلة التحكيم – العدد الرابع - 2009 ص: 344).

ج- الموضوع:

   ان موضوع التعاقد مهم جداً من وجهة النظر الشرعية ، وكذلك موضوع التحكيم حيث " لا يجوز التحكيم إلا في المواضيع التي يجوز فيها الصلح".

   فسلطان الإرادة له حدوده "إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً".

   اذن فموضوع العقد يمكن أن يكون مبرراً لإبطاله، إذا كان محرماً شرعاً أو حتى محل شبهة. وهذا الأمر لا يهم مصلحة الأطراف وحدها إذ يمكن لهيئة التحكيم ان تثيره من تلقاء نفسها لأن مهمتها في التحكيم تطبيق الشريعة أولاً وآخراً. فلا يعقل مطلقاً أن تحكم في طلبات الأطراف قبل أن تفحص مدى قابلية الموضوع للتعاقد من أساسه من وجهة نظر الشريعة الإسلامية.

   وهنا تبرز مدى قيمة تحصيل المعيار الشرعي في العقود، إذ أننا لن نجد بطبيعة الحال أطرافاً تتاجر في المخدارت أو الخمر وتشترط تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية، بل ان الفحص سيتسلط على شبهات أو معاملات فيها دخن من وجهة نظر احد الاطراف وسليمة من الوجهة المقابلة.

   وهذه السلامة لا بد أن تتعلق بموضوع التعاقد وكذلك بموضوع التحكيم.

د- موضوع التعاقد :

   تجمع كل التشريعات الوضعية على ان العبرة بالمقاصد وبحقيقة موضوع التعاقد وليس بظاهر الالفاظ والعناوين المستعملة في العقد.

   ولذلك نصت المادة العاشرة من القانون المدني المصري على: "ان القانون المصري هو المرجع في تكييف العلاقات".

   الشيء نفسه طبعاً نجده في قواعد فقه المعاملات. فعقد المرابحة له شروطه وقواعده وإذا ما وجد المحكم نفسه امام علاقة بعنوان عقد مرابحة فعليه أن يتفحص جميع جوانب تلك العلاقة ومدى انفصال العقدين، والتأكد من وصول البضاعة موضوع المرابحة الى مخازن البنك الممول مثلاً أو انتقالها إلى حوزة الفعلي.

  وحيث اتفق العلماء أن الحيل المحرمة هي كل حيلة يقصد بها أكل أموال الناس بالباطل من خلال تحليل ما حرم الله أوتحريم ما أحله.

   فعقد المرابحة الذي في ظاهره بيع وشراء وباطنه عينة (بكسر العين) من خلال اكتشاف أن البائع في عقدي الشراء والبيع كلاهما واحد فيفهم منه عندئذ ان المالك الاصلي قد باع متاعه الى معاقده مع تأجيل دفع الثمن ثم اشتراه منه بثمن معجل أقل بكثير من ثمن البيع وقد حرمه الفقهاء لأن العملية في حقيقتها بيع بالربا، عدا الشافعي الذي اجازها اذا لم يكن بين الطرفين شرط على ان يشتريها البائع من المشتري بثمن معلوم لوقوع العقد سالماً من المفسدات بمرحلتيه.

   وقال ابن القيم: "أن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وأن رجعت بعد مرورها إلى ثالث يدخل بينهما فهو المحلل وكلها طرق يعتمدها المرابون. وأخفها التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال "اخت الربا".

   ونفس الشيئ يقال أيضاً في العمليات التي في حقيقتها نسيئة، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ربا إلا في النسيئة" وفي رواية "إنما الربا في النسيئة".

    لكن عموم الفقهاء يعتبرون كل زيادة من قبيل الربا وهي لذلك محرمة اعتماداً على الحديث الصحيح "فمن زاد فقد أربي"رغم ان ابن عباس وبعض المكيين لهم رأي يجيز التفاضل في الصرف رغم أن مثل هذه العمليات الصرفية التفاضلية ممنوعة هي أيضاً بالنص الصحيح "لا بحل سلف وبيع".

   وقد أجمع علماء الامة على العمل بما رواه الامام علي كرم الله وجهه حيث قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك" .

   وقد اعتبر العلماء أن بيع المضطر هو العينة ذاتها ولو لم يكن المشتري مضطراً لما أثقل ذمته بألف آجلة مقابل خمسمائة معجلة. وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله: "انه من قبلك عن العينة فأنها أخت الربا".

   رغم اما عقود المضاربة وما اكثرها في المعاملات المالية المصرفية فهي أيضاً عرضة للحيل، العلماء أجمعوا على مشروعيتها عند عدم اقترانها بشروط غرر، واضح لما فيها من مصلحة ظاهرة للطرفين وللمجتمع عامة.

   وأهم الحيل التي تطال عقود المضاربة أن يعمد صاحب المال إلى إقراض المضارب كامل رأس المال الا ديناراً واحداً مثلاً بعقد قرض منفصل، ثم يشاركه بذلك الدينار على أن يعملا بالمال جميعاً ويقتسمان الربح مناصفة بينهما. فتكون هذه الحيلة أخرجت كلاً من القراض والمضاربة إلى باب الشركة والهدف من هذه الحيلة هو ضمان رأس المال لصاحبه. وقد رأى أغلب العلماء بجواز هذه الحيلة خصوصاً في ظروف الأزمات الأخلاقية كأزمة فقدان الثقة وكثرة التعدي والحيل والكذب قصد الاستيلاء على رأس المال دون ضمان ولا تعويض.

    لذلك لا تشكل عقود المضاربة عموماً اشكالات تؤدي إلى إبطال العقود أو مشارطات التحكيم، وكذا الشأن في عقود الشراكة بكل أنواعها مع بعض الاستثناءات البسيطة التي تزيح الشبهات وتنفض عنها الشكوك واختلاف الآراء. وعقود المساقاة والمغارسة التي يجيزها مالك والشافعي وأحمد وبعض الاحناف.

   وبخلاف ذلك يكاد يتوافر إجماع على بطلان عقود المزارعة عند الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وابن تيمية لأن الأجر مجهول وقد يكون معدوماً أصلاً. بل ويذهب ابن تيمية إلى أبعد من ذلك فيقول بعدم جواز التحايل عليها بأن تعقد بلفظ الإجارة قائلاً: "ان أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات... فإن الاعتبار في جميع التصرفات بالمعاني لا بالألفاظ".

   ذكرت بعض هذه الأمثلة من العقود وصولاً إلى وجوب الاحتياط في تحرير هذه العقود لئلا يكون مآل تلك العقود البطلان لمخالفتها قواعد الشريعة أو على الأقل التأكيد على المذهب الذي حررت بموجبه تلك العقود، والذي يقع اعتماده في التحكيم أيضاً، وهو ما كنا نراه مثلاً في شمال افريقيا (حيث المذهب المالكي) في عقود الوقف أو عقود تنزيل الحفيد (ابن الابن) منزلة أبيه المتوفى قبله فنجد فيها التأكيد على أن تحريرها كان على مذهب أبي حنيفة بصريح العبارة حتى لا يحتج اتباع المذهب المالكي وهم الغالبية بعدم جوازها وبطلانها رغم ان كل الاطراف تكون في الغالب من اتباع المذهب المالكي (الجد والحفيد والوارث الذي ينازع في مشروعية تلك الحجة) فكان توضيح المذهب أساس التعاقد ضماناً إضافياً ضد أبطال تلك العقود.

    اذن نعود إلى ما كنا بصدده في أول هذه الدراسة من أن التنصيص على المذهب الذي انبنت عليه المعاملة وهو نفسه المطلوب الالتزام به في التحكيم يجنبنا مخاطر الإبطال (العقد أو المشارطة) ومنزلقات الرخص والحيل أو النقاش الفقهي حول أيسر المذاهب الذي قد يؤدي إلى متاهات مجهولة العواقب للطرفين كلما لاذ بها أحدهما ضده. كل ذلك مع مراعاة البلد الذي سيتم فيه التحكيم وكذلك البلد الذي يحتمل أن يقع تنفيذ القرار التحكيمي فيه عند حصول نزاع والالتجاء إلى طلب الإكساء بالصيغة التنفيذية.

   ونلمس مثل هذا الضمان في قرار تحكيمي صادر وفق المذهب الشيعي بشرط عقدي صريح.