في مؤتمر عن العدالة، أعاد البروفسور جان س. بريدان التذكير بـ "أن العدالة المثلى تفترض وجود القاضي الحر والمستقل والمحايد" لأن الاستقلالية تعدنا بعدالة عادلة.
إن قضاء الدولة ينظر بشيء من الريبة إلى مؤسسة التحكيم التي قد تفتقر إلى الضمانات التي توفرها المحاكم، ولاسيما ضمانات الإستقلالية. فمنذ 1843 كانت محكمة التمييز الفرنسية تجنح إلى "تحذير المواطنين من انعطافهم الذي قد يؤدي بهم إلى القبول لفرط الخفة وعدم التبصر بمحكمين مقبلين دون أن يكونوا متيقنين من أنه سيكون لديهم قضاة منتقون من بين الأشخاص الأكفاء والجديرين بثقتهم.
في تلك الحقبة كان بعضهم لا يزال يصف مؤسسة التحكيم "بالحق المقيت" ويشبه الإتفاق التحكيمي بأنه تجديف على الإدارة القضائية وسبيل للتفلت من قضاء الدولة.
أخذت هذه الريبة في مؤسسة التحكيم تتضاءل تدريجياً، ولم يعد ثمة شك الآن في أن التحكيم يساهم في العدالة بقسطه الوافر. فالنصوص والاجتهاد والفقه تعتبره إحدى صور العدالة، فتماما كالقضاة حماة الأنظمة القضائية الوطنية، على المحكمين أن يكونوا- وفقاً لعبارات البروفسور جان.س. بريدان- أحراراً ومستقلين وحياديين، إذا كانوا يطمحون إلى النهوض تماماً برسالتهم في العدالة.
بید أنه لا بد من التوقف حيال الطابع النسبي لنظرة عالم التحكيم إلى مسألة استقلالية المحكم الذي يساهم في معاناة عامة تدور حول مفهوم الإستقلالية بالذات. فاستقلالية قضاء الدولة قلما تكون موضع درس بحد ذاتها، بل "يشار إليها ببساطة" كما يقول البروفسور ج.ب. تيرو.
وكان لا بد من انتظار عام 1975 لكي نرى أن فكرة الاستقلالية قد أُدخلت صراحة في نص نظام غرفة التجارة الدولية غ.ت.د.، حيث اشترطت في مرحلة أولى في المحكمين المساعدين وحدهم، لكي تمتد أخيراً إلى المحكمين جميعاً عام 1980.
ولم يكن المؤلفون، وكذلك العاملون في مضمار التحكيم، مهتمين كذلك على نحو جاد وعميق بمسألة استقلالية المحكمين إلا أخيرا، إذ كان المؤتمر الأول، الذي تناول على نحو خاص موضوع استقلالية المحكمين، قد نظم عام 1988 في إطار غرفة التجارة الدولية غ.ت.د.، وأعقبه بعد فترة وجيزة مؤتمر ثان عن الموضوع عينه في لندن، وظهرت كذلك أبحاث عدة وتعليقات فقهية حوله.
ولا بدّ من الملاحظة رغم ذلك أن مفهوم الإستقلالية يكتنفه الغموض، وان إبهاماً أكيداً يسوده لدى التطبيق، فالصورة التي أعطاها البروفسور، كما سبقت الإشارة، هي من هذه الوجهة ذات دلالة خاصة، إذ يزاوج البروفسور المميز بين صفات "الحر" و"المستقل" و"المحايد"، وهذا التزاوج نشهده أينما كان: في الفقه والاجتهاد وفي النصوص. ويضاف كذلك إلى هذه المفاهيم المتعددة مفاهيم التجرد والموضوعية وعدم الارتهان. إن تصور مفهوم الإستقلالية يختلف اختلافاً كبيراً تبعاً للمؤلفين والنصوص، إذ يشير البعض إلى مفهوم الإستقلالية وحده، في حين يضيف إليه البعض الآخر مفهوماً أو أكثر وفقاً لترتيب يختلف هو ذاته غالباً.
إنطلاقاً مما تقدم، يستحق موضوع استقلالية المحكم دراسة معمقة يتعذر زجها في مقال، بيد أننا سنحاول في هذا البحث تحديد معالمه وعلى الأخص طبيعة موجب استقلالية المحكم من خلال الاعتراف العالمي بموجب استقلالية المحكم، وذلك بتأكيد المبدأ في صلب الأنظمة القانونية لمختلف البلدان الأوروبية، في البلاد العربية، وفي القانون الأميركي، الولايات المتحدة الأميركية.
إن مكان الصدارة الذي يحتله مبدأ استقلالية المحكم يرتكز على طابعه الأساسي.
أن سمو دور مبدأ استقلالية المحكم يفرض التأكيد على تقدير الموقع الذي يتخذه هذا المبدأ في القانون الوضعي، إذ يبدو أن موجب استقلالية المحكمين كان قد جرى التأكيد عليه بكل وضوح في جميع التشريعات الوطنية تقريباً أو في تلك العائدة الى المؤسسات والجمعيات المهنية، إلا أن وضع موجب الإستقلالية موضع التطبيق العملي يشهد تباينات حقيقية ومهمة تبعاً للتشريعات، ذلك أن موضوع استقلالية المحكمين يعاني غموضاً فائقاً عائداً إلى عوامل عدة نذكر منها:
• الغموض في التعابير.
• عدم الإستقرار في الدلالة.
• عدم الثبات في المرتكز.
إن هذا الغموض يعزى، إلى حد كبير، الى الإبهام الذي يحيط بالمفاهيم المستعملة، كلما طرح موضوع الإستقلالية، سواء كان المطروح هو مفهوم التجرد، أو الحياد، أو الموضوعية، أو السيادة أو كذلك عدم الارتهان.
في هذا البحث في القانون المقارن- دون أن يكون جامعاً مانعاً سنحاول تحليل مختلف الصور التي يمكن أن يتخذها تأكيد موجب استقلالية المحكم، ولهذا السبب سنتفحص تباعاً الوضع البلدان الأوروبية ذات التقليد الرومانو - جرماني، والقانون الإنكليزي، والأميركي، والكندي وقوانين البلدان العربية.
I-البلدان الأوروبية ذات التقليد الرومانو-جرماني:
كان موضوع استقلالية المحكم في مرحلة أولى غائباً عن النصوص الخاصة بالتحكيم، وكانت مهمة وضع التصور لهذا الموجب تعود أولا إلى الاجتهاد في مختلف هذه البلدان، ثم ما لبثت أن تكرست في التشريعات الحديثة حول التحكيم، وسنتفحص تباعاً الأوضاع في فرنسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا وألمانيا.
1- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الفرنسي:
إن السابقة الأولى ذات الدلالة كانت للغرفة التجارية لمحكمة التمييز بتاريخ 16 تموز
1964 حيث قررت أنه إذا كان المحكم الوحيد المتمثل بالشخصية المستقلة شريكاً مهنياً في مكتب المحاماة العائد الى الفريق الآخر، فإن جهل الخصم هذه الواقعة من شأنه أن يؤدي إلى بطلان العقد التحكيمي للغلط الجوهري الواقع على الشخص.
وكان القرار المبدئي قرار محكمة استئناف باريس في 8 أيار 1970 كونسور يوري/ غاليري لافاييت، حيث أثارت المحكمة على نحو واضح "أن المحكمين ليسوا وكلاء كل من المتعاقدين، بل هم في جميع الأحوال قضاة النزاع الذي أحيل عليهم وان الاستقلالية الذهنية لا بدّ منها لممارستهم سلطتهم القضائية أياً كان مصدرها فهي إذن إحدى الصفات الأساسية للمحكمين".
أبرمت محكمة التمييز في قرارها بتاريخ 13 نيسان 1972 قرار محكمة الاستئناف وتبنت تعليل قضاة الاستئناف ملاحظة "ان الاستقلالية الذهنية ضرورية لممارسة السلطة القضائية أياً كان مصدرها... إنها إحدى الصفات الأساسية للمحكمين".
ونشير إلى أن محكمة التمييز أثارت أيضاً في قراريها بتاريخ 20 شباط 1974 و31 آذار 1978 ضرورية استقلالية المحكم وحياده.
في المحصلة وبصرف النظر عما يمكن أن يتجسد فيه حسب الأحوال تصور مبدأ استقلالية المحكمين، فإنه كان وسيبقى مؤكداً ومنتجاً لمفاعيله لدى المحاكم الفرنسية.
ولم يبق المشترع، وإن لم يكرس صراحة مبدأ استقلالية المحكم، غير مبال باقتحـام هـذا المبدأ الجديد لميدان الاجتهاد، ولم يتوان في المادة 1452 من قانون أصول المحاكمـات المدنيـة الجديد عن إحداث موجب على عاتق المحكم يفرض عليه قبل أن يعلن قبول مهمتـه أن يحـيط الفرقاء علماً بكل سبب لتنحيه عنها يفترض وجوده في شخصه، فمثل هذا الموجب يجد أساسه في وجود موجـب أعم هو استقلالية المحكم يبـدو على هذا النحو مكرسـاً ضـمناً فـي التشريع الفرنسي.
وفضلاً عن ذلك، نشير إلى أن المادة 1463 من قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد لا تنطوي على أي تبيان دقيق للحالات التي من شأنها أن تشكل سبباً لرد المحكم، وهو ما جعل المعلقين يستنتجون من ذلك أن الطريقة المستخلصة من المادة 1014 من قانون أصول المحاكمات المدنية القديم لا تزال قائمة. وينتج مما تقدم أن أسباب رد المحكمين تستمر ذاتها ملحوظة في المادة 341 من قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد.
2- مبدأ استقلالية المحكم في القانون السويسري:
إن المادة 58 من الدستور الاتحادي السويسري تولي كل شخص الحق في أن يحاكم من قبل قاض مستقل ومحايد. وقد اعتبرت المحكمة الاتحادية السويسرية في قرارها بتاريخ 16 أيلول 1988 إن على المحاكم التحكيمية أن توفر في هذا النطاق الضمانات عينها التي توفرها المحاكم العادية.
إن موجب استقلالية المحكم يجد إذن تكريساً دستورياً له في القانون السويسري، وهذا المبدأ المطبق في نطاق التحكيم يشمل التحكيم الداخلي كما التحكيم الدولي.
ومنذ أن دخل القانون الإتحادي حول القانون الدولي الخاص تاريخ 18 كانون الأول 1987 حيز التنفيذ في أول كانون الثاني 1989، خصص الفصل الثاني عشر من هذا القانون للتحكيم، وشكل هذا الفصل تطبيقاً مباشراً للمبدأ الدستوري للإستقلالية وفقاً للمادة 176 فقرتها الأولى، أما المادة 180 فقد لحظت في فقرتها الأولى في شأن أسباب رد المحكمين فرضية "أن تكون الظروف تسمح بالشك في استقلاليته بصورة مشروعة" مكرسة بذلك صراحة مبدأ استقلالية المحكم.
3- مبدأ استقلالية المحكم في القانون البلجيكي :
إن تصور القانون البلجيكي لموجب استقلالية المحكم كان مماثلاً لذلك الوارد في القانون الفرنسي.
وكان لا بد من انتظار تاريخ 4 تموز 1972 لكي يقر المشترع الاتفاقية الأوروبية المتضمنة قانوناً موحداً حول التحكيم والتي تبناها المجلس الأوروبي في 20 كانون الثاني 1966، ولكي يدخل قسماً سادساً وأخيراً في القانون القضائي مخصصاً للتحكيم.
ثم أكمل التشريع البلجيكي بعد ذلك بقانون 27 آذار 1985. وأخيراً عاد المشترع البلجيكي ثم في قانون 19 أيار 1998 فعدل أحكام القانون القضائي المتعلقة بالتحكيم.
ونشير إلى أن المادة 1690 من قانون 1998 تلحظ في فقرتها الأولى أنه يمكن أن يرد المحكمون "إذا توافرت ظروف من شأنها أن تثير الشكوك المشروعة حول حيادهم واستقلاليتهم".
4- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الهولندي:
اعتمدت هولندا في 2 تموز 1986 قانوناً جديداً حول التحكيم يستحق هذا القانون التنويه بأنه يكرس على النحو الأكثر وضوحاً مبدأ استقلالية المحكم. وهو بالفعل لا يلحظ إلا سبباً وحيداً وعاماً للرد يستهـدف "الظـروف التـي من شأنها أن تثيـر الشكوك الجدية حول حياد المحكم واستقلاليته، وأكثر من ذلك فإن مبدأ الإستقلالية هذا يتخذ شكـل الموجب على عاتق المحكم بحيث يخضعه القانون للإلتزام الإيجابي بأن يكشف للفريق الذي يمثله الأسباب المحتملة لرده.
5- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الألماني:
أدخل المشترع الألماني بواسطة قانون 22 كانون الأول 1997 في القانون الألماني للتحكيم وفي حدود الممكن بالنظر الى خصوصيات القانون الألماني، أحكام القانون - النموذج للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي C.N.U.D.C.I. .
وقد ارتكزت المحكمة الاتحادية الألمانية على كون مهمة المحكم تساهم في وظيفة القضاء لتستنتج أنه على غرار قضاة الدولة أن يحترم القواعد الأساسية لأصول المحاكمة ومن بينها قاعدة الحياد.
6- محاولة التوفيق بين البلدان ذات التقليد/ الرومانو- جرماني:
كرست اجتهادات بعض البلدان كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا بوضوح مبدأ استقلالية المحكم الذي يمكن تبريره بصورة عامة بالنظر الى الوظيفة القضائية للمحكم. ولتصور هذا المبدأ يصار إلى الإحالة على مفاهيم الإستقلالية والحياد والتجدد وكذلك على الموضوعية.
وفي ما خص المشترع فإنه يحيل على مبدأ استقلالية المحكم، أما بصورة ضمنية تتجلّى من واقعة تكريسه مادة أو اثنتين للموضوع الخاص برد المحكمين، واما صراحة بلحظه سبباً عاماً للرد يستهدف مباشرة مبدأ استقلالية المحكمين.
أدخلت البلدان المشار إليها أعلاه جميعها في التشريع الوطني، لكل منها حول التحكيم أحكاماً تتعلق برد المحكمين، بحيث تكون بذلك قد اعتمدت ولو ضمناً على الأقل موجب التزام المحكم درجة معينة من الاستقلالية تجاه الفرقاء.
وأخيراً نشير إلى أن مبدأ استقلالية المحكم قد كرس في عدة تشريعات ولاسيما التشريع الفرنسي في موجب إيجابي ملقى على المحكم بأن يكشف للفرقاء قبل إعلان قبوله المهمة كل سبب للرد يفترضه متوافرا في شخصه، المادة 1452 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي الجديد.
II- بلدان "الكومون لو" Common Law:
سنستعـرض القانـون الانكليزي، القانون الأميركي U.S.A والقانون الكندي الذي ينتسب جزئياً إلى "الكومون لو" Common Law، وهي القوانين التي أكدت مبدأ استقلالية المحكم.
1- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الانكليزي:
وجد التحكيم مكانه بصورة طبيعية في التنظيم القضائي الانكليزي كما يلاحظه روبلن- دوفيتشي .
"نجد التحكيم في القانون الانكليزي مندمجاً على نحو ما في التنظيم القضائي كواحدة من بين مجموع المحاكم الدنيا التي لا يعرف ما إذا كانت إدارية أو عدلية، غير أنها خاضعة كلها لرقابة المحاكم العليا".
وبالفعل، كما يشير ر. دايفيد" لا يكون التنظيم القضائي التقليدي في هذه البلدان مختلا إذا ما رأينا إلى جانب هذه المحاكم المتعددة والمتنوعة والتي لا تعمل غالباً إلا بصورة عرضية، محكمين معينين باتفاق الفرقاء".
وباندماج التحكيم في التنظيم القضائي، ظلت المحاكم العليا في نهاية المطاف هي الممسكة بتطور القانون ولم يكن ثمة أي مبرر لعدم الاعتراف بالقرارات التحكيمية ولعدم اتخاذها رافعة للعدالة.
إن الطابع الاجتهادي للقانون الانكليزي هو الذي يفسر عدم تخصيص التحكيم لفترة طويلة بقانون حقيقي مماثل لتلك القوانين التي صدرت في شأن مختلف الحقول ضمن العائلة الرومانو جرمانية. وكان لا بد من انتظار قانون 1996 الموضوع موضع التنفيذ في 31 كانون الثاني 1997 والذي غير في المعطيات عاملاً على صهر القوانين السابقة، ولاسيما قوانين 1975 و1979 في مجموعة منظمة ومتماسكة تغطي تقريباً كل موضوع التحكيم، غير أن أحكامها هذه لا تتناول إلا التحكيم المنطلق من اتفاقية خطية.
بيد أنه قبل القوانين المشار اليها أعلاه كان المصدر الأكثر أهمية للقانون الإنكليزي للتحكيم برأي أكثر المؤلفين دراية كالأساتذة دايفيد ودوبكلن ويكستي، هو "الكومن لو" Common Law أي صلب القواعد الموضوعية من قبل المحاكم العليا والتي زجت في مجموعات الاجتهاد.
فالمحاكم الانكليزية العليا هي التي قامت بصورة رئيسية بتجديد المبادئ الموجهة للقانون الانكليزي للتحكيم "الكومن لو" Common Law.
فقد كرس "الكومن لو" Common Law منذ زمن بعيد على النحو الأكثر وضوحاً مبدأ استقلالية المحكم. والمشترع الانكليزي من جهته انتظر حتى 1979 لكي يشير صراحة إلى هذا المبدأ.
ولا بد من الإشارة إلى أن "الكومن لو" Common Law، كما المشترع الإنكليزي لم يستهدفا الاستقلالية، بل الحياد لدى المحكم.
فمجمل الفقه الإنكليزي يجمع على أن يجعل من الحياد لدى المحكم أحد المبادئ الأساسية للتحكيم. ويستند هذا الرأي في الفقه إلى الاجتهاد المستقر للمحاكم العليا الانكليزية التي أكدت باكراً جداً وبقوة موجب الاستقلالية لدى المحاكم، وقد أشارت هذه المحاكم دوماً إلى الصفات التي من الطبيعي توخيها لدى المحكم ومنها "حكم محايد وذهن خال من كل ما ينبغي الوقاية منه" .
ولم يكن "الكومن لو" Common Law أقل تأكيداً لموجب حياد المحكم الذي يعتبر حسب الأحوال أحد المبادئ الأساسية " للعدالة الطبيعية".
والمشترع الانكليزي لم يبق غير مبال بالمبدأ المعترف به من "الكومن لو" Common Law هو مبدأ خضوع المحكم لعدد من الموجبات ومن بينها موجب الحياد.
وقد كرس قانون 1996 قانون التحكيم بالطريقة الأكثر وضوحاً اشتراط الحياد في المحكم. فحددت المادة الأولى من القانون المبادئ العامة التي ترعى التحكيم. والتجرد لدى المحكم الرئيسي مشترط كمبدأ أساسي للتحكيم، وبنيت المادة 24 من القانون مفاعيل احترام هذا الشرط عندما لحظت من بين أسباب رد Removal المحكمين الفرضيات التي تفسح فيها الظروف في المجال لوضع حياد المحكم موضع الشك.
ان المادة 24 هذه هي من بين أحكام أخرى من القانون تمنع التفلت منها، فحياد المحكم يرقى إلى مصاف المبدأ الأساسي غير القابل للرجوع عنه في التحكيم الانكليزي.
2- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الأميركي :
كانت الولايات المتحدة حتى بداية القرن العشرين تبدي حيال مؤسسة التحكيم شيئاً من اللامبالاة ان لم نقل من المقت، ولم تقم ولاية نيويورك بسن أول قانون حول التحكيم إلا عام 1920، ولم تتأخر سائر الولايات في اللحاق بها آخذة قانون عام 1920 كنموذج أو مستوحية القوانين الموحدة التي اقترحت عامي 1924 و1955. وعام 1925 تبنى الكونغرس قانون التحكيم الاتحادي F.A.A الذي استوحيت أحكامه مباشرة من قانون ولاية نيويورك عام 1920.
كان تطور ممارسة التحكيم في الولايات المتحدة بصورة رئيسية بفعل إرادة المشترع في بداية القرن للإنطلاق في هذا النوع من حل النزاعات، ففي أساس قانون التحكيم تقوم أذن القوانين التي سنها الكونغرس ومختلف ولايات الإتحاد.
إن القانون التشريعي الأميركي حول التحكيم لا ينطوي من جانبه على أية أحكام تتعلق بتنحي المحكم أو رده، بيد أن مبدأ استقلالية المحكم لم يكن غائباً عنه.
وبالفعل فإن القسم العاشر من قانون التحكيم الإتحادي F.A.A الذي يحدد الشروط التي يمكن تبعاً لها إيطال القرارات، يلحظ الحالة التي يكون فيها "تحيز واضح في تأليف هيئة المحكمين أو أحدهم"، فمثل هذا الأمر يعزى إلى تأكيد موجب الحياد على عاتق المحكم.
إن التشريع الإتحادي الأميركي ينطوي إذن على جذور مبدأ استقلالية المحكم. وقد استخلصت المحاكم نتائجه.
إن القرار الأكثر تعبيراً عن التمسك بمبدأ استقلالية المحكم والذي كان بالنسبة للمؤلفين المشار إليهم أعلاه قراراً مبدئياً هو قرار 18 تشرين الثاني 1968 الصادر عن المحكمة العليا في قضية الكومنولث كوتنكس كور/ شركة كونتننتال كازيوالتي .
إن المحكمة العليا تعلن بوضوح في هذا القرار "ان أحكام القسم العاشر من قانون التحكيم الفدرالي تعبر عن إرادة الكونغرس في عدم اعتماد أي محكم كان، بل المحكم المحايد" فمبدأ الحياد المعادل في التعبير الانكلوساكسوني لمبدأ الاستقلالية يكون مؤكداً على نحو واضح جلي. فالكونغرس في نظر المحكمة العليا يتوخى في المحكمين "خلقاً صارماً وأدباً رفيعاً".
ولم يكن تأكيد حياد المحكم من صنع المحكمة العليا وحسب، إذ كانت للمحاكم الاتحادية أيضاً الفرصة لأعمال هذا المبدأ، مع الإشارة إلى أن هذه المحاكم قد اعتبرت إلى حد كبير ان موجب حياد المحكم ينبغي أن يتجسد، فضلاً عن ذلك، في التزام إيجابي على عاتق المحكم مفروض تحت طائلة بطلان القرار التحكيمي بأن يكشف عن كل ظرف من شأنه أن يبرر الادعاء المبني على عدم حياد المحكم.
وقد بلغ موجب الحياد هذا أقصى مداه حين اعتبرت المحكمة العليا في قرار تومي/ أوهيس الصادر عام 1927 في شأن أحد القضاة، "أن القرار ينبغي أن يبطل بمجرد أن يكون ثمة أدنى منفعة مادية من جانب القاضي".
3- مبدأ استقلالية المحكم في القانون الكندي:
يمتاز القانون الكندي بخصوصية انتمائه في آن معاً إلى "الكومن لو" Common Law وإلى القانون الرومانو- جرماني في مقاطعة كيبك.
وينتج من ذلك نموذجان من التشريع في هذا الحقل:
الفئة الأولى مكونة من مختلف قوانين التحكيم المعتمدة في مقاطعات "الكومن لو" Common Law والمستوحاة مباشرة من النموذج الانكليزي.
والفئة الثانية تختص بحالة كيبك وحدها حيث استوحيت مواد قانون أصول المحاكمات المدنية والقانون المدني مباشرة من أحكام القانون الفرنسي.
وينبغي أن نضيف إلى هاتين الفئتين من التشريع منذ 1986 القانونين الإتحاديين للتحكيم اللذين أقرهما مجلس النواب الكندي واللذين جعلا كندا تنضم إلى اتفاقية نيويورك المتعلقة بالاعتراف بتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية والتي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة في 15 حزيران 1958، كما جعلا كندا تعتمد القانون النموذجي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي C.N.U.D.C.I تاریخ 21 حزيران 1985 حول التحكيم الدولي.
إن القانون الاتحادي للتحكيم التجاري هو نسخة مطابقة تقريباً لعبارات القانون النموذجي للجنة C.N.U.D.C.I والأحكام المتعلقة باستقلالية المحكم هي اذن تلك الواردة في القانون النموذجي.
وقد أدخل مجموع المقاطعات في تشريع كل منها حول التحكيم أحكام القانون النموذجي للجنة C.N.U.D.C.I ، وجاءت أحكام رد المحكمين هي ذاتها الواردة في القانون النموذجي.
وأدخلت مقاطعة كيبك القانون النموذجي في تشريعها لتعمد عام 1986 إلى إعادة نظر تامة في قانونها حول التحكيم، مع الإشارة رغم ذلك إلى أن أحكام القانون النموذجي حول أسباب رد المحكم لم تستعد في التشريع الجديد الذي تبنى التدبير القديم الوارد في المادة 946 من القانون القديم لسنة 1966 الذي يحيل على أسباب رد القاضي، فلم يرد أي سبب للرد مبني بصورة عامة على عدم حياد المحكم أو على ميل واضح لديه.
إن قانون كيبك متخلف إذن عن القوانين الأوروبية ذات التقليد الرومانو - جرماني التي تميل إلى النص صراحة على مفاهيم استقلالية المحكم وحياده وهذا هو أصلاً الحل السائد في القانون النموذجي.
III- في البلدان العربية:
نعود بالنسبة إلى البلدان العربية إلى المؤلف البالغ الأهمية للدكتور عبد الحميد الأحدب "التحكيم في البلدان العربية" وإلى مجموع الأجزاء الأربعة من "موسوعته – التحكيم في البلدان العربية.
نشير باختصار إلى أن تدخل القانون الغربي كان من آثاره فرض الرؤية الأوروبية للتحكيم في بعض البلدان العربية، فكان بين مختلف البلدان العربية نوعان من التشريع حول التحكيم، حسبما كان تأثر هذه البلدان أو عدمه بالتيار الغربي، فللبنان وسوريا وليبيا قواعد في موضوع التحكيم قريبة من النموذج الأوروبي، ومصر تبنت عام 1994 قانوناً "حول التحكيم في المواد المدنية والتجارية- عدل عام 1997- مستوحى على نحو واسع من القانون النموذجي لـ C.N.U.D.C.I بعد أن كان لها تشريع حول التحكيم مستمد مباشرة من النموذج الفرنسي وعلى العكس من ذلك فإن المملكة العربية السعودية مع سائر دول الخليج العربي طبقت طويلاً وبدقة المبادئ السمحاء للشريعة على التحكيم.
بید أنه إذا كان التحكيم يعرف على هذا النحو نظامين إثنين بين مختلف البلدان العربية، فإنها في مطلق الأحوال مجمعة على الاعتراف بمبدأ استقلالية المحكم. وهكذا فقد أوردت المملكة العربية السعودية في قانونها حول التحكيم من بين الصفات التي تفرضها في المحكمين وجوب اختيار هؤلاء من بين ذوي الخبرة والأخلاق الحسنة وهو ما لا يقل دلالة على الحياد والاستقلالية باستبعاد من له "مصلحة في القضية موضوع النزاع" من مهمة التحكيم، وبإخضاعه المحكم فضلاً عن ذلك إلى أسباب رد القضاة ذاتها.
خلاصة عامة سريعة حول تأكيد مبدأ استقلالية المحكم:
تحصيل مما صار تفصيله أعلاه أن مختلف الأنظمة القانونية مجمعة على الإشارة إلى مبدأ استقلالية المحكم وحياده.
يتم إخضاع المحكم قانوناً لمبدأ الإستقلالية والحياد في أغلب الأحيان بطريقة ضمنية وغير مباشرة من خلال وجود الأحكام القانونية ذاتها التي ترعى رد المحكمين. ومن بين التشريعات الأحدث عهداً حول التحكيم ما انطوى على إشارة صريحة جداً إلى موجب الإستقلالية لدى المحكم بلحظه سبباً عاماً للرد مستمداً صراحة من فرضية الشك في استقلالية المحكم أو حياده.
وتتجلى هذه الإرادة كذلك من خلال إملاء موجب إيجابي على عاتق المحكم بالتصريح أو الكشف عن كل ظرف من شأنه إقامة دعوى الرد.
غير أن التكريس الإيجابي والصريح لموجب الإستقلالية في شخص المحكم يعزى في النهاية، في معظم الأنظمة القانونية، إلى الاجتهاد وبنوع خاص إلى القرارات الصادرة عن المحاكم العليا في مختلف الأنظمة القانونية الوطنية.