الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / الرقابة القضائية على أحكام التحكيم بين الازدواجية والوحدة

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 5
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    47

التفاصيل طباعة نسخ


مقدمة

  1- التحكيم هو نظام قضائي خاص ينشأ من اتفاق الأطراف على العهدة إلى شخص من الغير أو أشخاص من الغير بمهمة محددة، هي الفصل في منازعة قائمة بين الأطراف بحكم يتمتع بالحجية يمنع الأطراف من إعادة طرح المنازعة التي فصل فيها حكم التحكيم على قضاء الدولة أو على قضاء تحكيمي أخر..

  2- ويتسم نظام التحكيم بطبيعة غير متجانسة: فهو نظام اتفاقي من حيث مصدره إذ يستمد المحكم سلطاته وسلطانه من إرادة الأطراف. وهو قضائي في طبيعته؛ فالمحكم على الرغم من أنه ليس بقاض، إلا أنه يقوم بالوظيفة المنوط بالقاضي القيام بها وهي الفصل في المنازعة المعروضة عليه بإصدار حكم فيها.

  3- ويتمتع حكم التحكيم بخصائص الحكم الصادر عن القضاء: إذ يحوز حجية الأمر المقضي، ويكون واجب النفاذ بمراعاة الأحكام المنصوص عليها في القانون، ولا يجوز الطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن العادية، كالطعن بالإستئناف ولا الطرق غير العادية، كالطعن بالتماس إعادة النظر أو الطعن بالنقض .

  4- إلا أن تمتع حكم التحكيم بتلك المزايا لا يعني مطلقاً أن يظل هذا الحكم بمعزل عن رقابة قضاء الدولة: فحكم التحكيم الصادر عن المحكم والمستند إلى مجرد الاتفاق الخاص بين الأطراف على تخويل شخص عادي ليس بقاض سلطة الفصل في المنازعة بحكم له طبيعة الحكم القضائي و أوصافه، لا يمكن أن يظل بمعزل عن رقابة قضاء الدولة.

  5- وتختلف صور الرقابة التي يباشرها قضاء الدولة على حكم التحكيم استناداً إلى الغاية من هذا الرقابة : فقد يكون الهدف من هذه الرقابة هو التيقن من مراعاة حكم التحكيم للشروط التي يتطلبها القانون الوطني من أجل الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه وذلك بمناسبة الطلب المقدم من المحكوم لصالحه بإصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم .

   وقد يكون الهدف من هذه الرقابة هو التثبت من وظيفة المحكم والمهمة المناط به القيام بها ومدى احترامه للقواعد القانونية والمتصلة باتفاق التحكيم ذاته أو بإجراءات التحكيم، وذلك في حالة الطعن على حكم التحكيم بالبطلان نظراً الى تعلق حالة من حالات البطلان بهذا الحكم، وهي حالات تكون محددة على سبيل الحصر.

  6- ولا تثير الرقابة القضائية على حكم التحكيم أية مشاكل وذلك في حالة وحدة القضاء الذي طعن أمامه على حكم التحكيم بالبطلان من قبل المحكوم ضده والقضاء الذي قد يطلب منه إصدار الأمر بالتنفيذ من قبل المحكوم لصالحه. إذ أنه من غير المتصور أن يصدر القاضي حكما ببطلان حكم التحكيم، ويصدر بعد ذلك أمرأ بتنفيذه، بعد هذا القضاء بالبطلان.

   ولكن الصعوبة تثور في حالة اختلاف القضاء المختص بالفصل في مسألة صحة الحكم التحكيمي بمناسبة الطعن عليه بالبطلان عن القضاء الذي يقدر هذه الصحة من أجل إصدار الأمر بالتنفيذ كما هو الواقع قانونا وعملاً في الأنظمة القانونية المعاصرة المنظمة التحكيم.

   إذ أن هناك إزدواجية في الرقابة على حكم التحكيم فهناك شبه إجماع على عقد الاختصاص بنظر دعوى الطعن بالبطلان على حكم التحكيم لقانون دولة المقر الذي تم عقد جلسات التحكيم بأرضها أو التي صدر التحكيم وفقاً لقانونها؛ في حين أنه لا يوجد تلازم بين أختصاص قاضی دولة المقر واختصاص القاضي المطلوب منه إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم، فقد يكون قاض آخر غير قاضي دولة المقر. فإذا أصدر القاضي الذي عقدت جلسات التحكيم في دولته أو وفق لقانونه حكم ببطلان حكم التحكيم، فهل يرتب هذا الحكم أثارة دولية في مواجهة جميع الأنظمة القانونية الأخرى التي قد يطلب منها إصدار الأمر بالتنفيذ، على نحو يتعين معه أن ترفض هذه الأنظمة إصدار الأمر بتنفيذ الحكم المقضي ببطلانه، أم أن هذه الأنظمة يمكنها الالتفات عن هذا الحكم القاضي ببطلان حكم التحكيم وتصدر الأمر بتنفيذه؟

  7- يعد التساؤل المطروح من أكثر الأسئلة التي شغلت وما زالت تشغل بال الفقه المتخصص في إطار التحكيم الدولي، بل أن أحكام القضاء الصادرة عن المحاكم الوطنية للعديد من الدول تختلف بشأن الحل الواجب الاتباع بشأنه، فضلا عن اهتمام المعاهدات الدولية بالتصدي له.

  8- ويمكن على صعيد التحليل النظري الإجابة عن هذا التساؤل من خلال ترجيح وحدة الرقابة على حكم التحكيم سواء تم تركيز هذه الرقابة في دولة مقر التحكيم وحدها أو سواء تم تركيز هذه الرقابة في الدولة المطلوب من قضائها إصدار الأمر بالتنفيذ أو الاعتراف بالحكم التحكيمي.

   كذلك يمكن تبني موقفاً آخر يدافع عن ازدواجية الرقابة على حكم التحكيم. فتختص محاكم دولة المقر بالرقابة على حكم التحكيم بشأن الطعن عليه بالبطلان وأيضاً في حالة طلب إصدار الأمر بالتنفيذ؛ وكذلك تختص الدولة المطلوب منها الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه بالرقابة عليه عند طلب إصدار أمرها بالتنفيذ. 

  9- ولقد أدى تعدد صور الرقابة، التي يمكن لقضاء الدولة أن يمارسها على حكم التحكيم، إلى ظهور مشكلة إمكانية تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه. فحكم التحكيم - كما سبق أن أشرنا - يخضع لرقابة دولة المقر وذلك في حالة الطعن عليه بالبطلان بسبب تحقق سبب من الأسباب التي تجيز الطعن عليه بهذا الطريق.

   كما أن حكم التحكيم يخضع لرقابة دولة التنفيذ للتحقق من مدى توافر الشروط التي يتطلبها قانون هذه الدولة الإصدار الأمر بتنفيذه. فالرقابة التي يخضع حكم التحكيم لها هي أولا وأخيرا رقابة من قبل القضاء الوطني للدولة المعنية.

   وقد يختلف بطبيعة الحال التقدير القانوني لدولة المقر عن دولة التنفيذ فتقضي دولة المقر ببطلان الحكم في حين تقرر دولة التنفيذ تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية.

  10 - ولقد سعت المعاهدات الدولية المختلفة المبرمة في إطار التحكيم الدولي إلى تدارك هذه التناقضات منذ البداية، فوضعت معاهدة جنيف الموقعة سنة 1927 حلاً جذرياً للقضاء على هذا التناقض في المواقف الوطنية من حكم التحكيم والناجم عن إزدواجية الرقابة، فاشترطت لكي يصدر الأمر بالتنفيذ أن يكون حكم التحكيم حكماً نهائياً وفقاً لقانون دولة المقر، وهي القاعدة المعروفة بالأمر بالتنفيذ المزدوج Double exequatur. إذ لا بد من أن يحصل حكم التحكيم أولاً على أمر بالتنفيذ من محاكم دولة المقر وذلك قبل أن يصدر الأمر بتنفيذه من المحاكم المطلوب منها إصدار الأمر بتنفيذه.

   وعلى الرغم من صرامة هذه القاعدة المتقدمة فإنها لم تؤد إلى القضاء على خطر التعارض بين القوانين الوطنية في شأن مصير حكم التحكيم. إذ يظل للقاضي المطلوب منه إصدار الأمر بالتنفيذ الحق في رفض إصدار هذا الأمر وذلك على الرغم من أن حكم التحكيم يتمتع بكامل الفعالية وفقا لقانون دولة المقر.

  11- ولقد حاولت معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يونيه 1958 أن تضع حلاً لهذا التناقض فألغت بإلغاء Double exeqatur، الرقابة المزدوجة، ونصت في المادة الخامسة منها على أنه: "لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليه الاعتراف والتنفيذ الدليل على: 

   (هـ) أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم".

   ويترتب على الحكم بالبطلان في الدولة التي صدر حكم التحكيم على إقليمها إلى فقدان هذا الحكم لإمكانية الخضوع لمعاهدة نيويورك.

   ولقد انطلقت معاهدة نيويورك من فكرة اساسية وهي تركيز حكم التحكيم في قانون الدولة التي صدر حكم التحكيم على إقليمها. ويظهر ذلك بما تفرضه المعاهدة من أنعقاد الاختصاص بنظر دعاوي البطلان ضد أحكام التحكيم إلى محاكم الدولة التي عقدت جلسات التحكيم علی إقليمها أو لمحاكم الدولة التي يسرى قانونها على إجراءات التحكيم دون سواهما.

   ونظراً إلى أن معاهدة نيويورك أعطت محاكم دولة المقر اختصاصاً قاصراً بنظر دعاوی بطلان حكم التحكيم الصادر على إقليمها، فإنها ألزمت جميع الأنظمة القانونية الأخرى بأن ترفض الاعتراف بأي أثر للحكم التحكيمي الذي تم إبطاله.

   إلا أن معاهدة نيويورك نفسها نصت في المادة السابعة منها على أنه: "لا تخل أحكام هذه الاتفاقية بصحة الاتفاقات الجماعية أو الثنائية التي أبرمتها الدول المتعاقدة بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين وتنفيذها، ولا تحرم أي طرف من حقه في الاستفادة بحكم من أحكام المحكمين بالكيفية وبالقدر المقرر في تشريع أو معاهدات البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ".

  12- والواقع أن إعمال نص المادة الخامسة مع نص المادة السابعة يفيد أن حكم التحكيم الذي قضى ببطلانه من محاكم الدولة التي صدر على إقليمها يمكنه مع ذلك أن يرتب أثاره ويعترف به في النظام القانوني لدولة أخرى حتى وإن كانت هذه الدولة طرفا في المعاهدة وذلك وفقاً للقواعد العامة السارية في هذه الدولة. فمعاهدة نيويورك تضع حداً للشروط المتطلبة من أجل الاعتراف به وتنفيذه ولا تتعارض مطلقاً مع أن يكون قانون أي دولة متعاقدة يتمتع بشروط أكثر يسراً من تلك التي تضعها المعاهدة وينزل بذلك عن هذا الحد الأدنى الذي تضعه المعاهدة .

  13- وإذا كانت كل من معاهدة جنيف الموقعة 1927 ومعاهدة نيويورك قد سعتا إلى حل التناقض الناشئ عن الرقابة المزدوجة، فإن معاهدة جنيف الموقعة 1961 والمعروفة بالمعاهدة الأوروبية للتحكيم حاولت أيضاً حل هذا التناقض ولكن بشكل مختلف.

   إذ تنص المادة التاسعة من المعاهدة الأوروبية في شأن التحكيم التجاري الدولي في فقرتها الأولى على ما يلي:

   "لا يعد القضاء ببطلان حكم تحكيم يخضع لأحكام هذه المعاهدة في دولة متعاقدة سبباً من أسباب رفض الاعتراف أو التنفيذ لهذا الحكم في دولة متعاقدة أخرى، إلا إذا كان هذا البطلان قد قضي به في الدولة التي صدر حكم التحكيم على أرضها أو وفقاً لقانونها وذلك لأحد الأسباب الآتية:

  (أ) إذا كانت الأطراف في اتفاق التحكيم، وفقاً للقانون الذي يطبق عليهم، عديمي الأهلية، أو إذا كان اتفاق التحكيم المذكور غير صحيح وفقاً للقانون الذي يحكمه بناء على إرادة الأطراف، وفي حالة غياب هذه الإرادة وفقاً لقانون الدولة التي في ظلها صدر الحكم، أو

 (ب) إذا كان الخصم الذي يلتمس القضاء بالبطلان لم يعلن إعلان صحيحاً بتعيين المحكمين أو بإجراءات التحكيم أو كان من المستحيل عليه، لسبب آخر أن يعلن أوجه دفاعه أو

 (ج) إذا صدر الحكم بشأن منازعة لم تتضمن مشارطة التحكيم أو لا تدخل في إطار شرط التحكيم، أو تجاوز حدودهما فيما قضى به، ومع ذلك إذا أمكن إجراء فصل الحكم الخاص بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن الأجزاء الخاصة بالمسائل غير الخاضعة للتحكيم، فإن هذه الأجزاء الأولى لا تخضع للبطلان، أو

 (د) إذا كان تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم تمت بالمخالفة لاتفاق الأطراف، وفي حالة تخلف هذا الاتفاق لنصوص المادة الرابعة من المعاهدة الحالية".

  14 - ويتضح من نص المادة التاسعة فقرة 1 من معاهدة جنيف الموقعة 1961 أن القضاء ببطلان حكم التحكيم وفقا لقانون دولة المقر لا يعد سبباً لرفض الاعتراف أو تنفيذ حكم التحكيم، إلا إذا كان هذا البطلان راجع إلى أحد الأسباب الأربعة الواردة فيها.

   ولقد اختارت المعاهدة، بدلاً من أن تفرض على الدول المتعاقدة قائمة محددة لأسباب الطعن بالبطلان على الحكم، طريقة أخر، يتمثل في تقييد الفعالية الدولية لكل سبب آخر من أسباب البطلان غير تلك المنصوص عليها في المعاهدة. 

   15- والموقف الذي تبنته معاهدة جنيف الموقعة في عام 1961 في سعيها إلى حل التناقض الناشئ عن الرقابة المزدوجة يجد له صدى الآن في مشروع المعاهدة الدولية الخاصة بالاعتراف الدولي لاتفاقات التحكيم وأحكام التحكيم".

"Convention on the International Enforcement of Arbitration  Agreements and Awards".

  16- إذ تبنت المادة الخامسة من مشروع المعاهدة الدولية لتنفيذ اتفاقيات التحكيم أحكام التحكيم، والتي كرستها المعاهدة لمعالجة أسباب رفض التنفيذ، في الفقرة (2) منها الحل الذي تبنته المادة التاسعة فقرة 2 من المعاهدة الأوروبية بشأن التحكيم التجاري الدولي الموقعة عام 1961.

  17- ووفقاً للفقرة (g) من مشروع المعاهدة الدولية لتنفيذ اتفاقات التحكيم وأحكام التحكيم، فإن رفض التنفيذ يتقيد بالحالات التي يكون فيها حكم التحكيم قد قضى ببطلانه بناء على أسباب مماثلة للأسباب الواردة في الفقرات من (A) إلى (e) من المادة الخامسة فقرة 3 من مشروع المعاهدة.

   والأسباب الواردة في الفقرات من (a) إلى (e) من المادة الخامسة فقرة 3 تتفق مع الأسباب المعترف بها بشكل عام كأسباب لبطلان حكم التحكيم في التحكيم الدولي

  18 - وهذا الحل المقترح في البند (g) من المادة 5-3 لمشروع المعاهدة يعني بشكل خاص أن حكم التحكيم الذي يقضي ببطلانه استناداً إلى اعتبارات متعلقة بالنظام العام الداخلي لدولة المقر أو لأسباب أخرى يعرفها قانون دولة المقر دون غيره، لا يبرر رفض تنفيذ حكم التحكيم في ظل المعاهدة.

  19- وأياً يكن حظ هذا المشروع من النجاح ليحل محل معاهدة نيويورك الموقعة عام 1958 والتي ما زالت نصوصها محلاً لتقدير الجماعة الدولية متمثلة في لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولية. فإن هذا المشروع يحاول أن يقدم في نظر البعض حلاً توفيقياً بين اتجاهين متعارضين تماما: الاتجاه الأول ويتمثل في الحل الوارد في المادة الخامسة فقرة 1 بند (e) من معاهدة نيويورك والتي تعد من بين أسباب رفض الاعتراف بالحكم التحكيمي أن يكون هذا الحكم قد قضي ببطلانه في دولة المقر، أما الاتجاه الآخر فهو ذلك السائد في فرنسا والذي تسير عليه أحكام القضاء الفرنسي والذي يقضي بأن القضاء ببطلان حكم التحكيم في دولة المقر لا يعد سبباً من أسباب رفض الاعتراف بالحكم التحكيمي في فرنسا.

  20- وإذا كانت المعاهدات الدولية قد تباينت في موقفها إزاء حلها للصراع الدائر بين دولة المقر، والدولة المطلوب منها الاعتراف والتنفيذ، فرحت معاهدة نيويورك تركيز الحكم التحكيمي في دولة المقر، فإن معاهدة جنيف 1961، ومشروع المعاهدة الدولية لتنفيذ اتفاقات التحكيم وأحكام التحكيم اتخذا موقفاً مغايراً من توزيع الاختصاص بشأن الرقابة على حكم التحكيم بين دولتي المقر والدولة المطلوب منها الاعتراف والتنفيذ، بتبنيها موقفا يؤدي إلى رجحان كفة هذه الدولة الأخيرة والسماح لها بالاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الذي قضى ببطلانه في دولة المقر طالما كان هذا البطلان راجعا إلى أحد الأسباب غير المحددة كأسباب للبطلان في دولة التنفيذ.

  21- فإذا اتضح لنا موقف المعاهدات الدولية من مسألة توزيع الاختصاص بين دولة المقر ودولة التنفيذ في شأن الرقابة على حكم التحكيم فإنه يبدو لنا من الضروري التطرق إلى بحث موقف كل من النظام القانوني الفرنسي والنظام الأمريكي من مسألة الرقابة على حكم التحكيم الذي قضى ببطلانه في الخارج وهما النظامان القانونيان اللذان تطرقا إلى مواجهة هذه المشكلة في العديد من القضايا.

 

الفصل الأول: موقف القانون الفرنسي من مسألة إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم التي قضي ببطلانها في الخارج

 أولاً : عرض موقف الفقه الفرنسي المدافع عن إمكانية تنفيذ حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه في الخارج

  22- يذهب جانب من الفقه الفرنسي إلى الدفاع عن إمكانية تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه في الخارج.

   فالحكم الذي يقضي ببطلانه وفقاً لقانون دولة المقر والذي يفقد إمكانية تنفيذه وفقاً لأحكام معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يونيه 1958 استجابة لنص المادة الخامسة (1) (هـ)، يمكن مع ذلك تنفيذه، ليس وفقاً لأحكام المعاهدة، وإنما وفقاً لقواعد العامة المنصوص عليها في القانون الفرنسي.

   وسوف نقوم بعرض هذا الاتجاه ثم ننتقل بعد ذلك إلى تقديره. 

  23- ويؤسس هذا الاتجاه رأيه على مجموعة من الحجج المتباينة، أو عرض الاتجاه المدافع عن إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم التي قضى ببطلانه في الخارج.

وتدور هذه الحجج حول الأمور الآتية: 

   الأمر الأول يتعلق بنظرة القانون الفرنسي للتحكيم ودور قانون دولة المقر. 

   أما الأمر الثاني فيتصل بالحلول القضائية المستقرة في النظام القانوني الفرنسي.

  أما الأمر الأخير فيتعلق بأن الحل الذي يسير عليه القانون الفرنسي ليس حلاً منفرداً وإنما يشاركه فيه ايضاً النظام القانوني الأمريكي. وسوف نعرض لهذه الحجج تباعاً .

 

- نظرة القانون الفرنسي للتحكيم ودور دولة المقر.

  24- تستند الحجة الأولى إلى نظرة القانون الفرنسي للتحكيم وخاصة الدور الذي يلعبه قانون مقر التحكيم، وتفسر تلك النظرة حلول أخرى في القانون الفرنسي غير موقفة من تنفيذ أحكام التحكيم التي يقضي ببطلانها وفقا لقانون دولة المقر.

   إذ ينطلق القانون الفرنسي وفقاً لهذا الجانب من الفقه من مبدأ عام قوامه أن دولة مقر التحكيم لا تعد مركز الثقل الأساسي للتحكيم، إذ أن اختيار مقر التحكيم لا يعدو أن يكون، في حقيقة الأمر، تعبيراً عن أمور تتعلق براحة الأطراف المتنازعة ولا يتضمن هذا الاختيار في ذاته أي تشبيه بين دور المحكم ودور القضاء المحلي. علاوة على أن المحكم لا يعدو أن يكون شخصاً مختار من قبل الأشخاص وليس بقاض.

   وترتيباً على ذلك، فإن هيئة التحكيم التي تعقد جلساتها في فرنسا، غير ملزمة باتباع القواعد الإجرائية المنصوص عليها في القانون الفرنسي باستثناء تلك المتعلقة بالنظام العام الاجرائي. 

   كذلك فإن هيئة التحكيم التي تعقد جلساتها في فرنسا ليست ملزمة بإعمال قواعد الإسناد الفرنسية من أجل التوصل إلى تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع المنازعة.

   وأيضا فإن صحة اتفاق التحكيم ذاته والتي تعد أساس حكم التحكيم الصادر في الخارج والذي يطلب تنفيذه في فرنسا، لا يتم تقديرها وفقاً لمفاهيم دولة مقر التحكيم، ولا وفقاً لأي نظام قانون محدد بالأعمال لنهج التنازع ولكن وفقاً للمفهوم الذي تعطيه والذي يتطلب مقتضيات النظام العام الدولي من أجل استقبال هذا الحكم وتنفيذها.

  25- وعدم تغليب المفاهيم السائدة في قانون دولة المقر حل يؤيده ايضاً، وفقاً لرأي هذا الجانب من الفقه، فكرة الروابط الوثيقة التي تربط حكم التحكيم بدولة التنفيذ.

   فوفقاً للاعتبارات التقليدية في القانون الدولي الخاص، والمتعلقة بمدى قوة اتصال الموضوع محل المنازعة بالدول المعنية، وبناء على قوة هذا الاتصال بالعلاقة بدولة دون دولة أخرى يتم الاسناد وإعمال الأولوية لقانون دولة التنفيذ على قانون دولة المقر، وذلك لأنه في الفرض الذي تكون فيه دولة المقر تختلف عن دولة التنفيذ، فإن دولة المقر التي تجرى عليها الاجراءات المادية الخاصة بالتحكيم تستفيد ماديا واقتصادية من جراء إقامة التحكيم على إقليمها.

   ولكن طالما أن حكم التحكيم لم ينفذ على إقليمها فإن مصلحتها في إخضاع هذا الحكم لرقابتها تبدو مصلحة نظرية محضة، تتعلق بعدم الاعتراف بنشاط لم يتم وفقاً لمفاهيمها بشأن السير المعتاد للعدالة.

   ولعل هذا الاعتبار هو الذي دفع بالمشرع البلجيكي سنة 1985 والمشرع السويسري بدوره إلى رفض الطعن بالبطلان على حكم التحكيم إذا لم يكن أي من أطراف التحكيم يتمتع بالصفة الوطنية أو له إقامة معتادة في بلجيكا أو سویسرا حسب الأحوال، ولم يطلب تنفيذ الحكم في هذه الدول المعنية. 

  26- وإذا كان حكم التحكيم على هذا النحو المتقدم لا يتصل بطريقة وثيقة بالدولة التي صدر على اقليمها، والتي لا مصلحة لها في إخضاعه لرقابتها طالما لم يطلب منها الأمر بتنفيذه، فإن للدولة المطلوب منها إصدار الأمر بتنفيذه مصلحة فعلية في التأكد من أن أحكام التحكيم تتحقق فيها الشروط اللازمة من أجل تذييلها بالصيغة التنفيذية والإجبار على تحقق هذا التنفيذ بتدخل رجال السلطة العامة.

  وبعبارة أخرى فإنه بين الدولة التي ينحصر دورها في أن تستقبل في فنادقها أو في مراكز المؤتمرات جلسات التحكيم، والدول التي تسمح بتوقيع الحجز وبيع الأصول الموجودة على أرضها، فإنه لا يوجد أدنى شك في ضرورة الاعتراف بأن لهذه الأخيرة المصلحة الأكيدة في إخضاع حكم التحكيم لرقابتها.

  27- ويذهب هذا الجانب من الفقه إلى التأكيد على أن معاهدة نيويورك لا تنكر هذا الحل حيث أنها تقر بتغليب مفاهيم قانون دولة التنفيذ المتصلة بالنظام العام الدولي وقابلية المنازعة للتحكيمة.

   وعلى افتراض أن دولة المقر يمكن أن تكون المكان أو أحد الأمكنة التي يطلب فيها تنفيذ حكم التحكيم فإن هذا ليس من شأنه تغيير هذا التحليل إذ يتعين في هذه الحال الرجوع إلى أمر آخر غير مفهومها القانوني حيث يحترم التحكيم ويعترف به ويتمتع بفعاليته الكاملة. خلاصة القول وفقاً لهذا الفقه فإنه يتعين تغليب مفاهيم النظام القانوني للدولة التي يطلب منها إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم على المفاهيم السائدة في قانون دولة المقر التي تم إجراء التحكيم على إقليمها.

  28- ويتعين وفقاً للرأي الذي تعرض له، أن تلحق بهذه النتائج المتجانسة نتيجة أخرى وذلك الحسن إكمال السياسة القضائية: ويقصد بذلك أن تكون الأحكام الصادرة عن القضاء الفرنسي تذهب إلى أن حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه وفقا لقانون دولة المقر يمكن الاعتراف به وتنفيذه 

 

في فرنسا طالما تحققت فيه الشروط المنصوص عليها في المواد 1498 وما بعدها من قانون المرافعات المدنية الفرنسية الجديد، وهو الأمر الذي سارت عليه أحكام القضاء في فرنسا وهو ما يشكل الحجة الثانية من الحجج التي لجأ إليها الفقه المدافع عن تنفيذ أحكام التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه وهي الحجة التي سنعرض لها الآن.

  2- النظام القضائي الفرنسي يؤيد الاعتراف بالحكم التحكيمي الذي قضي ببطلانه خارج فرنسا وإمكانية تنفيذه فيها

  29- تواترت أحكام القضاء الفرنسي في العديد من القضايا المعروفة ابتداء من قضية Norsolor ومروراً بقضية Hilmarton و Chromalloy وانتهاء بقضيتي Bechtel و PT Putrabali، على تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلان هذا الحكم في الخارج. وسوف نعرض لهذا القضاء.

 

قضية Norsolor'

  30- تتعلق وقائع قضية Norsolor بفسخ عقد الوكالة التجارية المبرم بين الشركة الفرنسية Ugilor والتي تحول إسمها فيما بعد إلى الشركة Norsolor والشركة التركية Pabalk.

   ولقد ألزمت هيئة التحكيم المشكلة وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية بباريس والتي عقدت جلساتها في النمسا الشركة الفرنسية Ugilor بأن تدفع مبالغ محددة إلى الشركة التركية وذلك وفقاً لأحكام القواعد عبر الدولية وليس نزولاً على أحكام قانون وطني محدد لدولة ما.

   ولقد تم الاعتراف بهذا الحكم في بداية الأمر في كل من النمسا وفرنسا. ولكن تم إبطال هذا الحكم جزئياً فيما بعد في النمسا بمقتضى حكم صادر عن محكمة استئناف فيينا وذلك نظراً إلى أن حكم التحكيم قد اتخذ من القواعد عبر الدولية أساساً لقضائه.

   كذلك فإن الحكم بالاعتراف بحكم التحكيم المعني الصادر عن القضاء الفرنسي واجه بدوره المصير نفسه، إذ قامت محكمة استئناف باريس بتعديل هذا الحكم، واستندت من أجل حجب الأمر بالتنفيذ عن هذا الحكم الذي قضي ببطلانه في النمسا، على نص المادة الخامسة (1) (هــ) من معاهدة نيويورك ومن المعروف أن هذه المادة تنص على ما يلي:

   "لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب الاعتراف والتنفيذ الدليل على: 

  (هـ) أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد الذي تم فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم".

   31- إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد. إذ أن محكمة النقض الفرنسية في الطعن المقام أمامها ضد الحكم الصادر عن محكمة استئناف باريس والذي رفض تنفيذ حكم التحكيم الباطل الصادر عن القضاء النمساوي، قامت بنقض هذا الحكم وإلغائه وذلك إعمالا لنص المادة السابعة من معاهدة واشنطن ذاتها والتي تنص على أن:

   "لا تخل أحكام هذه الاتفاقية بصحة الاتفاقات الجماعية أو الثنائية التي أبرمتها الدول المتعاهدة بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين وتنفيذها ولا تحرم أي طرف من حقه في الاستفادة بحكم من أحكام المحكمين بالكيفية وبالقدر المقرر في تشريع أو معاهدات البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ". 

   وأيضا استندت المحكمة إلى نص المادة 12 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد والذي يلزم القاضي الفرنسي بالبحث عن الشروط التي لا يسمح بها القانون الفرنسي بالاعتراف بحكم التحكيم في واقعة الحال.

  32- ولعله مما يتعين الاشارة إليه في هذا الصدد وهو ما أكد عليه الأستاذ Goldman عند تعليقه على حكم محكمة النقض الفرنسية في قضية Norsolor أن محكمة النقض لم تتح له الفرصة للتعرض لمشكلة الشروط العامة التي يتطلبها القانون الفرنسي من أجل الاعتراف بحكم التحكيم الذي قضى ببطلانه في الخارج ولعل إثارة هذا الموضوع وحتمية مناقشته لم تجد لها مجالاً أمام المحكمة التي أحيل إليها الموضوع بعد القضاء بنقض الحكم، إذ أنه من المعروف أن المحكمة العليا النمساوية كانت قد ألغت الحكم ببطلان حكم التحكيم الصادر عن محكمة استئناف

   33- ويذهب الأستاذ Gaillard إلى التأكيد على أن حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في قضية Norsolor بتغليبه نص المادة السابعة من معاهدة نيويورك على المادة الخامسة، فتح الطريق أمام إمكانية الاعتراف بالأحكام التحكيمية على الرغم من القضاء ببطلانها وفقاً لقانون دولة المقر، مستهدياً في ذلك بتطبيق القاعدة القانونية الأكثر فائدة.

   34 - وإذا كان حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في قضية Norsolor قد سمح بتنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه في دولة مقر التحكيم (النمسا)، فإنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي قضى فيها القضاء الفرنسي على هذا النحو بل إن هناك أحكاما عديدة صدرت عن القضاء الفرنسي وسارت على النهج ذاته سوف نعرض لها تباعاً.

 

قضية Hilmarton

   35- أبرمت الشركة الفرنسية OTV، والتي كانت ترغب في المشاركة في ظل أفضل الشروط في مناقصة دعت إليها السلطات الجزائرية في تطوير مدينة الجزائر وتحديثها عام 1980، اتفاقاً مع شركة Hilmarton التي تتعهد بمهمة تقديم الاستشارات الاقتصادية والضرائبية وتقوم بالتنسيق في النطاق الاداري بين المشاركين على تنفيذ المشروع وذلك مقابل مبلغ حدد ب 4 % من القيمة الكلية للصفقة.

   ولقد نص في العقد على إعمال أحكام القانون السويسري، ونص ايضاً على أن جميع المنازعات الناشئة عن العقد سيتم الفصل فيها في ظل قواعد غرفة التجارة الدولية بباريس، والذي تعقد جلساته في جنيف ووفقا لأحكام مقاطعة جنيف.

   ولقد نص في العقد على شرط واقف إذ لا تبدأ سريان أحكامه إلا من لحظة توقيع شركة OTV عقد توريد الأجهزة الذي تتنافس هذه الشركة في المناقصة للفوز به. ولما كان هذا الشرط المذكور قد تحقق في 1983 فإن شركة Hilmarton حصلت عام 1984 على مبلغ يعادل تقريبا نصف الأتعاب المستحقة لها من شركة OTV. ورفضت شركة OTV أن تدفع النصف الآخر المتبقي الذي طالبتها به شركة Hilmarton في العام التالي:

   ويعود سبب هذا الرفض إلى الأخطاء التي ارتكبتها شركة Hilmarton بالمخالفة للعقد الذي يربط بينها وبين OTV، والذي أدى إلى اثارة مصاعب متعددة للشركة مع عملائها، ولقد أدت التدخلات المتنوعة من قبل شركة OTV إلى تحاشي بعض هذه المصاعب عن طريق دفع المقابل الضروري الذي يتعين أخذه في الحسبان من أجل تعديل العقد بين Hilmarton و OTV.

   وعلى الرغم من قبول شركة Hilmarton كمبدأ عام، أن تؤخذ في الاعتبار المبالغ التي قامت شركة OTV بدفعها إلى الممثلين المحليين فإن الأطراف لم تتوصل إلى حل للخلاف الناشىء بينها، ولذلك قامت شركة Hilmarton بإعمال شروط التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية وعينت محامياً محكماً في جنيف. وتمسكت الشركة المدعى عليها ببطلان العقد لمخالفته القانون الجزائري الصادر في 11 فبراير 1978 والخاص باحتكار الدولة الجزائرية لقطاع التجارة الخارجية، والذي يحظر اللجوء إلى الوسطاء والسماسرة.

   36 - وأصدر المحكم حكمه في 19 أغسطس 1988، ولاحظ أولا أنه لا يوجد أدنى أثر لتنفيذ فعلي للعقد محل المنازعة بواسطة Hilmarton، والمهمة الملقاة على عاتقها كمستشار ومنسق تلك المهمة المستخلصة من العقد الموقع عام 1980.

   واستخلص المحكم، من التصريحات والأقوال التي أدليت أمامه والمتعارضة أحياناً، أن شركة Hilmarton مارست نشاطاً قريباً من نشاط الاستخبارات التجارية التي تتسم بطابع سري والشبيهة بالتجسس الاقتصادي، وبهذه المثابة فإن المهمة الملقاة على عاتق شركة Hilmarton تتلخص في ممارسة نفوذ لدى السلطات الجزائرية، من أجل تفضيل العرض المقدم من شركة OTV على العروض الأخرى المنافسة، وذلك مقابل مبالغ يتم دفعها لهذه السلطات، ولقد حرص المحكم على أن يشير إلى أنه على الرغم من وجود بعض القرائن المقلقة، فإنه من غير الثابت قيام شركة Hilmarton فعلا بتقديم الرشاوي للسلطات الجزائرية.

   ولقد ذهب المحكم إلى أن العقد المبرم بين كل من شركتي OTV وHilmarton يخالف القانون الجزائري الصادر في 11 فبراير 1978 والذي يحارب استغلال النفوذ، وهو هدف يتفق فيه القانون الجزائري مع غالبية القوانين الأوروبية، وبهذه المثابة فإن العقد محل المنازعة يخالف النظام العام العابر للدول L'ordre public transnational، ويخالف الاداب العامة وفقاً للقانون السويسري الذي يحكم العقد Lex contractus.

   37- والواقع أن حكم التحكيم المذكور لقي مصيرين مختلفين: فمن ناحية قامت الشركة Hilmarton بالطعن بالبطلان على هذا الحكم أمام المحاكم السويسرية زاعمة أنه حكم يتسم بالتحكم arbitraire وفقا لمفهوم المادة 36 - ف من concordat inter cantonal، والتي كانت واجبة التطبيق إذ أن القانون الدولي الخاص السويسري الجديد لم يكن قد دخل بعد في مرحلة النفاذ، إذ بدأ العمل به ابتداء من أول يناير 1989.

   وحاز هذا الطعن قبولاً لدى محكمة جنيف، وأصدرت قضاءها بإلغاء حكم التحكيم، ولقد أيدت المحكمة الفيدرالية السويسرية هذا القضاء عندما طعنت فيه أمام شركة oTV.

   وإذا كان هذا هو المصير الأول الذي واجهه حكم التحكيم المذكور في سويسرا، ففي فرنسا أصدر رئيس المحكمة الجزائية في 27 فبراير الأمر بتنفيذه، وفي 19 ديسمبر 1991، أيدت محكمة استئناف باريس هذا الأمر.

   وما يعنينا في هذا الشأن هو التعرض للمصير الأول الذي لاقاه حكم التحكيم المذكور، والمتمثل في البطلان الذي قضى به القضاء السويسري. فما هو الأساس الذي بني عليه هذا القضاء ببطلان حكم التحكيم؟

   38- أسست محكمة جنيف قضاءها ببطلان حكم التحكيم المذكور أعلاه بناء على نص المادة 36 - من قانون التحكيم السويسري والتي تنص على أنه " يمكن الطعن على حكم التحكيم بالبطلان إذا كان متسمة بالتحكيمية وذلك إذا قام على تقرير يخالف الواقع على نحو ما هو ثابت في الأوراق أو إذا كان يشكل مخالفة واضحة للقانون أو العدالة".

   إذ ذهب القضاء السويسري إلى أن المحكم خالف مخالفة واضحة القانون السويسري المختار من قبل الأطراف بتقريره أن الاتفاق القائم بينهم غير أخلاقي إعمالا لنص المادة 20 فقرة 1 من قانون الالتزامات السويسري.

   وللوصول إلى هذه النتيجة فإن القضاء السويسري، ذهب إلى إعادة تكييف الوقائع التي سبق للمحكم تكييفها. فلقد سبق أن أشرنا إلى أن المحكم لاحظ أنه لم يثبت رسميا وبشكل قاطع أن شركة Hilmarton قدمت الرشوة إلى السلطات الجزائرية وذلك على الرغم من عدم نقص القرائن الدالة على ذلك في واقعة الحال: فعلاوة على إخفاء العملية الحقيقة المتفق عليها بين الأطراف خلف اتفاق المساعدة القانونية والضرائبية، فإن المقابل المرتفع جدا بالأضافة إلى طرق حساب هذا المقابل المستحق لشركة Hilmarton، والتي تعد بصفة عامة قرائن على وجود الفساد، فإن حكم التحكيم ايضا تضمن أيضا شهادة أحد الشهود التي تقطع بأن الخدمات المقدمة من قبل شركة Hilmarton للأشخاص المعنيين الجزائريين لم تكن فوق الشبهات.

   ولقد ضرب القضاء السويسري بكل هذه القرائن عرض الحائط و استند إلى ما ذكره المحكم من أن أية رشوة لم يتم تقديمها، لينتهي إلى تبرئة شركة Hilmarton من كل شك.

   39- ومن المعروف أنه بعد إلغاء حكم التحكيم الأول الصادر في قضية Hilmarton تم عقد تحكيم آخر بين الأطراف أنفسهم، وانتهى التحكيم هذه المرة بإصدار حكم بإدانة الشركة الفرنسية بدفع باقي الأتعاب إلى الشركة الإنجليزية Hilmarton. ولقد صدر هذا الحكم في 10 ابريل 1992.

   وأصدر رئيس المحكمة الجزئية في Nanterre، وذلك بناء على طلب شركة Hilmarton أمراً بتنفيذ هذا الحكم في 25 فبراير 1993. كما تحصلت الشركة الإنجليزية أيضاً من المحكمة ذاتها بتاريخ 22 سبتمبر 1993 على اعتراف بحكم المحكمة الفيدرالية السويسرية الصادر في 17 ابريل 1990 والذي قضى بإيطال حكم التحكيم الأول.

   وبصدور هذين الأمرين من محكمة Nanterre أصبح يتعايش في النظام القانوني الفرنسي حكم تحكيم يفصل بين الأطراف أنفسهم على نحو معين، و أيضاً حكم تحكيم بين نفس الأطراف، ولكن يقضي على نحو مخالف للحكم الأول، وأيضاً حكم قضائي يبطل الحكم التحكيمي الأول، وهو وضع لا يحسد عليه النظام القضائي الفرنسي ومن غير المتصور استمراره على ماهو عليه.

   وعلى الرغم من ذلك، قامت محكمة استئناف Versailles في 29 يونية 1995 بتأييد هذين الأمرين الصادرين عن محكمة Nanterre.

   وبتاريخ 10 يونيه 1997 ألغت محكمة النقض الفرنسية الحكمين الصادرين عن محكمة استئناف Versailles دون إحالة، مستندة في ذلك إلى نص المادة 1351 من القانون المدني والخاصة بحجية الشيء المقضي واضعة بهذا القضاء نهاية هذا المسلسل القضائي لقضية Hilmarton في فرنسا.

   40- وإذا كان حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في 10 يونية 1997 قد أعاد الأمور إلى نصابها، وفقاً لرأي جانب من الفقه الفرنسي، وذلك بعدما بدأ نوع من عدم التجانس يعتري النظام القانوني الذي يحكم موضوع تنفيذ أحكام التحكيم الباطلة في فرنسا، فلقد أتيحت الفرصة مرة أخرى للقضاء الفرنسي للتأكيد على موقفه في شأن إمكانية الاعتراف بأحكام التحكيم التي تم القضاء ببطلانها في الخارج في قضية تتعلق بمصر وهي القضية المعروفة بقضية Chromalloy، وهي القضية التي سنعرض لها الآن.

 

قضية Chromalloy 

   41- بموجب عقد تم توقيعه في 1988/6/16 بين كل من شركة كرومانوي وهي شركة أمريكية، وهيئة تسليح القوات الجوية المرفوعة التابعة لوزارة الدفاع المصرية، تعهدت الشركة الأمريكية بتقديم معدات وخدمات ومعونة فنية متعلقة بطائرات الهليكوبتر. ونظراً إلى عدم وفاء الشركة الأمريكية بالالتزامات المنصوص عليها في العقد الموقع بينها وبين الطرف المصري، أنهى الطرف المصري العقد وقام بتسييل خطابات الضمان المقدمة من الشركة الأمريكية.

   ولما كان هذا الإجراء المتخذ من قبل الطرف المصري لم يحز رضا الشركة الأمريكية فإنها لجأت إلى إعمال شرط التحكيم الوارد في العقد وتم عقد التحكيم في القاهرة . 

   ولقد انتهت محكمة التحكيم – المشكلة من السيد R. Briner رئيساً، والأستاذ الدكتور سمير الشرقاوي محكمة عن الجانب المصري والأستاذ E. Gaillard محكمة عن الشركة الأمريكية إلى إصدار حكم قضت فيه بأن إنهاء العقد غير قانوني و ألزمت الطرف المصري بأن يدفع تعويضاً عن هذا الإنهاء للشركة الأمريكية يتجاوز 17 مليون دولار.

  42- ولقد طعن الطرف المصري في هذا الحكم بالبطلان أمام محكمة استئناف القاهرة للعديد من الأسباب: منها استبعاد حكم التحكيم للقانون الواجب التطبيق، وبطلان حكم التحكيم المخالفته لضوابط التسبيب المعتبرة قانونا طبقا للمادة 53/د من القانون رقم 1974/27 .

وبجلسة 1995/12/5 أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكماً ببطلان حكم التحكيم مستندة في ذلك إلى أن المشرع أجاز لأطراف التحكيم الطعن على حكم التحكيم في حالات عددتها المادة 53 من القانون رقم 27 لسنة 1994 على سبيل الحصر، حيث تنص على أنه: لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:

  (د) إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه في موضوع النزاع.

وذهبت المحكمة إلى أنه:

   "لما كان ذلك، وكان من غير المتنازع فيه من الطرفين أن القانون المصري هو المتفق بينهما على تطبيقه على النزاع الماثل وكذلك من غير المتنازع فيه أن العقد محل التداعي مبرم بين هيئة تسليح القوات الجوية المرفوعة التابعة لوزارة الدفاع المصرية وهي من المرافق العامة والشركة المدعى عليها وهي إحدى شركات القطاع الخاص الأمريكية وأن العقد ينصب علی قيامها بتوريد قطع غيار لأسطول طائرات الهليكوبتر المبينة بالعقد القيام بالصيانة وتنظيم مخازن قطع الغيار.

   ولما كان القانون المصري لم يعرف العقود الإدارية ولم يبين خصائصها التي تميزها عن غيرها من العقود التي يهتدي بها في القول بتوافر الشروط اللازمة لها ولحصانتها وصيانتها من تعرض المحاكم لها بالتعطيل أو بالتأويل، إلا أن إعطاء العقود التي تبرمها جهة الإدارة وصفها القانوني الصحيح باعتبارها عقوداً إدارية أو مدنية إنما يتم على هدى ما يجري تحصيله منها ويكون مطابقة للحكمة من إبرامها.

   ولما كان من المقرر أن العقود التي تبرمها الإدارة مع الأفراد لا تعتبر عقوداً إدارية إلا إذا تعلقت بتسيير مرفق عام أو بتنظيمه وأظهرت الادارة نيتها في الأخذ بشأنها بأسلوب القانون العام وأحكامه واقتضاء حقوقها بطريق التنفيذ المباشر بتضمين العقد شروطا استثنائية غير مألوفة بمنأى عن أسلوب القانون الخاص.

    وعلى هدى ما تقدم، وكان الثابت لهذه المحكمة أن العقد محل المنازعة هو عقد اداري مبرم مع مرفق عام لتوريد مهمات وخدمات متعلق بتسييره وتنظيمه وتضمن العقد - حسبما هو وارد بدفاع الطرفين بأوراق التداعي المائل- أن الإدارة أظهرت نيتها في الأخذ بأسلوب القانون العام وأحكامه واقتضاء حقوقها بطريق التنفيذ المباشر بما تضمنه العقد من حق جهة الادارة في توقيع جزاءات مالية في بعض الحالات وسلطتها في إنهاء التعاقد في حالات معينة بإرادتها المنفردة بمجرد إخطار بخطاب مسجل وهي شروط استثنائية غير مألوفة بمنأى عن أسلوب القانون الخاص، فإذا تضمن ذلك العقد النص على أن القانون الواجب التطبيق - بمعرفة هيئة التحكيم - هو القانون المصري فإن مفاد ذلك أن المقصود هو القانون الإداري المصري فإذا أعمل حكم التحكيم القانون المدني المصري دون القانون الإداري المصري فإنه يكون قد استبعد القانون المتفق في العقد على إعمال أحكامه بما تتوافر معه حالة من حالات طلب بطلان حكم التحكيم المنصوص عليها في المادة 53 في فقرتها الأولى بند (د) من القانون رقم 1994/27 آنفة البيان". 

  43- وعلى الرغم من أن القضاء المصري قد قضى ببطلان حكم التحكيم الصادر في قضية Chromalloy فإن الشركة الأمريكية تقدمت إلى رئيس محكمة باريس الجزئية بوصفه قاضیاً للأمور الوقتية من أجل أن يصدر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الصادر بأستحقاقها للتعويض. ولقد صدر فعلاً الأمر بتنفيذ حكم التحكيم في 4 مايو 1995. ولقد طعنت الحكومة المصرية على هذا الأمر بالاستئناف أمام محكمة استئناف باريس.

   وفي 14 يناير 1997 أصدرت محكمة استئناف باريس حكماً يسير في الاتجاه الذي رسمته محكمة النقض الفرنسية، إذ قررت الاعتراف بتنفيذ هذا الحكم في فرنسا على الرغم من القضاء بإبطاله في مصر.

   ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس في معرض تسبيبها للحكم الصادر عنها إلى القول بأنه:

   وحيث إن القاضي الفرنسي لا يمكنه أن يرفض إصدار الأمر بالتنفيذ إلا بشأن حالة من الحالات المنصوص عليها والمحددة على سبيل الحصر في المادة 1502 من قانون المرافعات المدنية الجديد والتي تشكل قانونه الوطني في هذا الصدد، فإنه وترتيباً على ذلك تكون شركة Chromalloy محقة في التمسك بتطبيقها.

   وحيث إن المادة 1502 من قانون المرافعات المدنية الجديد لم تدرج من بين حالات رفض الاعتراف والتنفيذ بحكم التحكيم الحالة المنصوص عليها في المادة الخامسة من معاهدة نيويورك الموقعة في عام 1958، فإنه يتعين، ترتيباً على ذلك، عدم إعمالها.

   ولما كان حكم التحكيم الصادر في مصر حكم تحكيم دولي لا يندمج بهذا الوصف في النظام القانوني لهذه الدولة على نحو يظل معه هذا الحكم قائماً مستقراً، وذلك على الرغم من القضاء بإبطاله، لما كان ذلك، فإن الاعتراف بهذا الحكم في فرنسا لا يخالف النظام العام الدولي .

   44- وبصدور حكم محكمة استئناف باريس في قضية Chromalloy تأكد على نحو لا يدع مجالاً لأي شك موقف النظام القانوني الفرنسي بشأن تنفيذ أحكام التحكيم التي قضي ببطلانها خارج فرنسا. 

   فحكم التحكيم الذي قضى ببطلانه في الدولة التي صدر فيها لا يشكل في فرنسا سبباً من أسباب رفض تنفيذ هذا الحكم في فرنسا.

   وإذا كانت هذه القاعدة التي وضعها القضاء الفرنسي ابتداء من حكم Norsolor ومروراً بحكمي Hilmarton و Chromalloy، فإن القضاء الفرنسي في الآونة الأخيرة أكد هذا الحل في قضيتين سنعرض لهما تباعاً

قضية الادارة العامة للطيران المدني في إمارة دبي ضد الشركة الأمريكية Bechtel:

   45- في 30 مارس 1992 أبرمت الشركة الدولية Bechtel عقد خدمات مع الادارة العامة للطيران المدني لإمارة دبي. 

   ويتعلق هذا العقد بإدارة مشروع يتضمن تصميم وبناء حديقة ومجمع سكني وتجاري في دبي. ونص في العقد على اللجوء إلى التحكيم.

   وفي عام 2000 نشأ نزاع بين الأطراف وشرع في اتخاذ إجراءات التحكيم اعمالاً لشرط التحكيم الوارد في العقد وتم تعيين محكم مفرد السيد George van Segesser، واتخذت دبي مقراً للتحكيم وفي 20 فبراير 2002 أصدر المحكم حكماً تحكيمياً بإلزام الادارة العامة للطيران المدني في إمارة دبي بدفع العديد من المبالغ بالدولار الأمريكي إلى شركة Bechtel.

   وفي 22 أبريل 2002 قامت الإدارة العامة للطيران المدني في إمارة دبي بالطعن بالبطلان على حكم التحكيم الصادر ضدها.

   وفي 16 نوفمبر 2002، أصدرت محكمة أول درجة حكماً بإبطال الحكم التحكيمي استناداً إلى أن حلف اليمين الذي قام الشهود بأدائه لم يتم وفقا للشكل المنصوص عليه في قانون الإجراءات المدنية لإمارة دبي والذي يعد واجب التطبيق على إجراءات التحكيم. وفي 14 ديسمبر 2002 قامت الشركة الأمريكية Bechtel بالطعن بالاستئناف

   على هذا الحكم. ودون انتظار القرار الذي سوف يصدر عن قضاء دبي في الاستئناف المقام أمامها في الحكم الصادر ببطلان حكم التحكيم، طلبت شركة Bechtel من القضاء الأمريكي، المحكمة الفيدرالية في مقاطعة Colombia، الاعتراف بالحكم التحكيمي الذي قضي ببطلانه في دبي.

   ولقد تمسكت الشركة الأمريكية أمام القضاء الأمريكي بأن هذا القضاء لا يمكنه أن يعترف ببطلان الحكم التحكيمي، هذا البطلان المقرر من قبل قضاء إمارة دبي، استناداً إلى الشكل الذي تمت فيه شهادة الشهود، فمثل هذا التبرير للبطلان يعد مخالفاً لمبادئ العدالة.

كذلك فإن شركة Bechtel تقدمت أمام القضاء الفرنسي بطلب تذييل حكم التحكيم الصادر الصالحها بالصيغة التنفيذية وذلك على الرغم من بطلانه الذي تم القضاء به في دبي.

   وفي 8 يونيه 2003 أصدرت محكمة استئناف دبي حكماً بتأييد الحكم الصادر عن محكمة أول درجة بإبطال حكم التحكيم، ولقد قامت شركة Bechtel بالطعن بالنقض

على الحكم الصادر من محكمة استئناف دبي أمام محكمة التمييز بإمارة دبي.

    وفي 21 أكتوبر 2003 أصدر رئيس محكمة باريس الجزئية قرارا بتذييل حكم التحكيم الصادر لصالح شركة Bechtel بالصيغة التنفيذية وهو القرار الذي قامت الادارة العامة للطيران المدني بالطعن فيه بالاستئناف في 17 مارس 2004.

وبتاريخ 5 فبراير 2004، أصدر القاضي الأمريكي أمر بوقف الإجراءات أمام القضاء الأمريكي انتظارا لمصير الطعن بالنقض أمام قضاء إمارة دبي.

وبتاريخ 29 سبتمبر 2005 أصدرت محكمة استئناف باريس، حكما بتأييد القرار الصادر بتذييل حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية رافضة الاعتراف بالحكم الصادر عن محكمة التمييز في دبي في 15 مايو 2004 والذي كرس بشكل قطعي ونهائي بطلان حكم التحكيم الصادر في إمارة دبي.

   ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس إلى القول بأن:

   "اقتضاء استنفاد طرق الرجوع في دولة المقر قبل تذييل حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية في دبي لا يتماشى مع المبادئ الأساسية للتحكيم الفرنسي التي عبرت عنها المواد 1498 وما بعدها من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد طالما أن هذه المبادئ لم يتم المساس بها من جهة المعاهدة الفرنسية الإماراتية الموقعة في 9 سبتمبر 1991، وعلاوة على ذلك فإن دولة الامارات العربية المتحدة لم تنضم إلى معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يونيه 1958 والخاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وترتيباً على ذلك فإن الأمر بتذييل حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية يجب تأكيده وذلك على الرغم من وجود قرار صادر بإبطال حكم التحكيم في دولة مقر التحكيم، إذ أن هذا القرار شأنه في ذلك شأن القرارات الصادرة بتذييل الحكم بالصيغة التنفيذية، لا يرتب آثاراً دولية، إذ انه لا يخص إلا سيادة بعينها".

 

قضية شركة PT Putrabali Adyamulia ضد الشركة Rena Holding |

   46- أبرمت الشركة الفرنسية Rena Holding عقداً مع الشركة الاندونيسية PT Putrabali بموجبه قامت الشركة الأخيرة ببيع 30 طناً من الفلفل الأبيض. ونظراً الى عدم وصول الشحنة المتفق عليها بسبب غرق السفينة التي كانت تحملها فإن الشركة الفرنسية المشترية رفضت دفع ثمن البضاعة المشتراة والتي أصبحت مفقودة وهو الأمر الذي دفع الشركة الاندونيسية إلى تفعيل شرط التحكيم الوارد في العقد المبرم بينهما والذي بموجبه يتم حسم النزاع وفقا لقواعد International General Produce Association.

   وفي 30 أكتوبر 2000 أصدر المحكم المفرد حكماً تحكيمياً في لندن بإلزام شركة Rena Holding بدفع قيمة البضاعة التي لم تتسلمها.

   ووفقاً للقواعد المتبعة في نظام التحكيم الخاص ب International General Produce Association فإن حكم التحكيم الصادر في 30 اکتوبر 2000 تم استئنافه، وصدر حكم تحكيمي ثان في 10 ابريل 2001 ألغى القرار التحكيمي الأول و أعفي الشركة الفرنسية Rena Holding من الوفاء بقيمة البضاعة المشتراة والمفقودة.

   ولقد تم إبطال هذا الحكم التحكيمي بشكل جزئي في 19 مايو 2003 من قبل المحكمة العليا بلندن تأسيساً على أن عدم الوفاء بالثمن يشكل مخالفة للعقد.

   وترتيباً على ذلك صدر حكم تحكيمي ثالث في 21 أغسطس 2003، ألزم الشركة الفرنسية بدفع الثمن الذي تطالب به الشركة الاندونيسية.

   ومما يتعين ذكره انه بعد صدور الحكم التحكيمي الأخير، وبعد صدور الحكم القاضي ببطلان الحكم التحكيمي الثاني من قبل القضاء الإنجليزي، فإن الحكم التحكيمي الصادر في 10 ابريل 2001 تم تذييله بالصيغة التنفيذية في فرنسا في 30 سبتمبر 2003.

   والطريف أيضاً في هذا الصدد أن الحكم التحكيمي الصادر في 21 أغسطس 2003 قد تم تذييله هو أيضاً بالصيغة التنفيذية في فرنسا في 10 فبراير 2004.

   47- ويذكرنا هذا الوضع بالحالة المماثلة التي تعرضنا لها في قضية Hilmarton والتي يواجه فيها النظام القانوني الفرنسي حكمين تحكيميين متعارضين، كل منهما ذيل بالصيغة التنفيذية. وهو الأمر الذي دفع كل من الطرفين المعنيين بالطعن بالاستئناف أمام محكمة استئناف باريس.

   - ولقد قامت الشركة الاندونيسية بالطعن بالاستئناف على القرار الصادر عن رئيس المحكمة الابتدائية في باريس بتذييل حكم التحكيم الصادر في 10 ابريل 2001 بالصيغة التنفيذية.

   وفي 31 مارس 2005 أصدرت محكمة استئناف باريس الغرفة المدنية الأولى حكماً برفض الطعن بالاستئناف قاضية بأن "حالات الطعن بالاستئناف على القرار الذي يمنح الاعتراف بالصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي هي حالات محددة على سبيل الحصر في المادة 1502 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد وان بطلان الحكم التحكيمي في دولة المقر لا يعد من بين هذه الحالات.

  كذلك فإن الشركة الفرنسية Rena Holding طعنت بالاستئناف على القرار الصادر عن رئيس محكمة باريس الابتدائية في 10 فبراير 2004 بوضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم الصادر في 21 أغسطس 2003. 

   وبتاريخ 17 نوفمبر 2005 أصدرت محكمة استئناف باريس حكمها بإلغاء القرار الصادر بمنح الأمر بالتنفيذ وذلك استناداً إلى أن هذا الأمر يتعارض مع الأمر السابق بمنح الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الصادر في 10 ابريل 2001 .

   ولقد قامت الشركة الاندونسية بالطعن على هذين الحكمين الصادرين عن محكمة استئناف باريس أمام محكمة النقض".

   واستكمالاً لموقفها الذي بدأته في قضية Norslor تابعته في الأحكام التالية عليه والتي اشرنا إليها تفصيلاً، قضت محكمة النقض الفرنسية بأن "حكم التحكيم الدولي الذي لا يتصل بأي نظام قانوني وطني، يعد حكمة صادرة عن القضاء الدولي، وتتحدد شروط صحته وفقاً للقواعد القانونية الواجبة التطبيق في الدولة المطلوب منها الاعتراف به وتنفيذه.

   وبالإعمال لنص المادة السابعة من معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يناير 1958 فإن الشركة Rena Holding يحق لها أن تتمسك في فرنسا بالحكم التحكيمي الصادر في لندن في 10 أبريل 2001 بالإعمال لاتفاق التحكيم ووفقا للائحة:

International General Produce Association

   والاستناد إلى نصوص القانون الفرنسي بشأن التحكيم الدولي التي لا تعتبر بطلان حكم التحكيم في دولة المقر سبباً لرفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الصادر في الخارج.

   وبهذه الأحكام الأخيرة ولاسيما الحكم الصادر في قضية Putrabali يكون القضاء الفرنسي المتأثر بأقلام أساتذة التحكيم الفرنسيين كالأستاذ Gaillard, Fouchard قد وصل إلى تحقيق الغاية التي يهدف إليها من عدم تركيز حكم التحكيم الدولي في دولة المقر على نحو يؤدي إلى استقلالية حكم التحكيم عن أي نظام قانوني وطني، وهو الاتجاه الذي سنعرض لتقييمه الآن.

 

ثانياً: تقييم الاتجاه المدافع عن إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم التي قضي ببطلانها في الخارج

   48- ومن المعروف أن الحل الذي انتهى إليه القضاء الفرنسي الآن من وجوب تذييل الحكم التحكيمي الذي ابطل خارج فرنسا بالصيغة التنفيذية لا يستند فقط إلى نص المادة السابعة من معاهدة نيويورك، بل يستند إلى العديد من الاعتبارات التي أشار إليها الفقه الفرنسي الداعم لهذا الاتجاه والدافع له.

   49- ويتركز الهدف الأساسي غير المباشر، وراء الاتجاه الذي يسير عليه القضاء الفرنسي الآن إلى الرغبة في تحرير حكم التحكيم من الخضوع لسيطرة قانون دولة المقر باعتبار أن هذا الحل إحدى الحلقات المتصلة من أجل إفلات التحكيم بأسره من الخضوع لرقابة القوانين الوطنية. تلك الخطوة التي بدأها القضاء الفرنسي بأحكامه العديدة في مجال صحة اتفاق التحكيم نفسه والذي أخرج موضوع البحث في صحته من دائرة تنازع القوانين زج به في إطار المنهج المادي. حيث انتهت محكمة النقض الفرنسية في قضية Dalico إلی أنه "وفقاً لقاعدة مادية من قواعد القانون الدولي للتحكيم، يعد شرط التحكيم مستقلاً من الناحية القانونية عن العقد الأصلي الذي يتضمنه سواء بطريق مباشر أو عن طريق الإشارة، فيتحدد وجود اتفاق التحكيم وصحته، وفقاًً للإرادة المشتركة للأطراف، دون حاجة إلى الإشارة إلی قانون وضعي وطني، باستثناء التقيد بالقواعد الآمرة في القانون الفرنسي والنظام العام الدولي".

   وللتأكيد على ما نقول به، فإن الأحكام الصادرة عن محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في 23 مارس 1994 في قضية Hilmarton 2، وعن محكمة استئناف باريس في قضية Chromalloy في حكمها الصادر في 14 يناير 1997 وأيضا حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في 29 يونيه 2007 في قضية Putrabali اشاروا جميعا إلى سبب محدد من أجل تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه من محاكم دولة المقر: وهو أن حكم التحكيم حكم دولي بطبيعته وغير مندمج بهذه الصفة في النظام القانوني لدولة المقر. وهذا التعبير، الذي استعارته محكمة النقض الفرنسية من الأستاذ الفرنسي Goldman'، يثير نوعاً من اللبس والتساؤل عن المقصود بتلك الفكرة، فكرة عدم الاندماج في نظام قانوني؟ فهل يقصد بذلك أن حكم التحكيم الدولي، كأصل عام وبالنظر إلى طبيعته، لا يمكن أن يندمج في النظام القانوني للدولة التي يركز فيها جغرافية أو على العكس فإن هذا الاندماج من المتصور حدوثه في ظل ظروف معينة؟

   فإذا كان من الحقيقي فعلاً أن محكمة التحكيم تفصل في الدعوى في إقليم محدد، ولكن ليس باسم الدولة التي تمارس سيادتها على هذا الإقليم، وإذا كان من المناسب الحديث عن عدم التركيز القانوني لأحكام التحكيم الدولية، فإنه يبدو من غير المفهوم تبعاً لتلك المقدمات، السماح بالطعن في دولة المقر على أحكام التحكيم الصادرة على إقليمها، وأيضأ، بل من باب أولى وجود رقابة على أحكام التحكيم في الدولة المراد من محاكمها إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم.

   فعدم تركيز الحكم التحكيمي المدعى به سوف يؤدي في نهاية الأمر إلى تعدد في إمكان تركيز حكم التحكيم multilocalisation، وهو ما يعني خضوع حكم التحكيم للعديد من القوانين التي يتمسك بتنفيذه فيها، وبهذه المثابة تتضح مشروعية التساؤل التالي: كيف يمكن للمرء أن يؤكد عدم إندماج الحكم التحكيمي في نظام قانوني؟

   50- ولعله من الضروري الإشارة في هذا الصدد إلى أن فكرة عدم إندماج حكم التحكيم الدولي في النظام القانوني لدولة ما تهدف إلى الإلقاء بحكم التحكيم الدولي في أحضان نظام قانوني آخر هو النظام القانوني العابر للدول، وبذلك تكتمل حلقات تحرير التحكيم، التي بدأت باتفاق التحكيم نفسه والقضاء باستقلاليته، وصحته استناداً إلى وجود قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي للتحكيم، لتنتهي بحكم التحكيم الدولي نفسه.

   ولعل خطورة هذا الاتجاه تكمن أيضاً في أنه سوف يدفع باتفاق التحكيم وحكم التحكيم إلى حدود نظرية العقد غير الخاضع للقانون Contrat sans loi، بما يتضمن هذا الخضوع من مخاطر هذه النظرية.

   51- ولعله من الجدير بالملاحظة في هذا الشأن، أن الأحكام القضائية الفرنسية التي شابها التناقض في قضية Hilmarton وقضية Putrabali تعد إنذار، ينبه الأنظمة القانونية الوطنية إلى أنها في طريقها لفقدان سيطرتها على التحكيم الدولي بما ينجم عن ذلك من مخاطر العودة إلى البحث في مدى مشروعية التحكيم نفسه، وذلك بعدما أصبح هذا النظام هو الطريق العادي لفض المنازعات الناشئة في إطار العلاقات الدولية.

   وبدلاً من محاولة إعادة هذا النظام إلى أطره الصحيحة وترشيده فإن الفرنسي يريد أن يطلق العنان لهذا النظام عن طريق تحرير اتفاق التحكيم من الخضوع لأي قانون وتحرير أيضاً حكم التحكيم من رقابة دولة المقر وذلك من خلال عدم تركيز التحكيم الدولي في دولة مقر التحكيم

  52- ومن ناحية ثانية، وإذا كان القضاء الفرنسي استند في الحل الذي تسير عليه الآن المحاكم الفرنسية إلى نص المادة السابعة من معاهدة نيويورك و إلى فكرة عدم اندماج حكم التحكيم الدولي في النظام القانوني لدولة المقر، حتى يحكم بإمكانية تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه في الخارج، فإن هذه الأسباب المعلنة ليست هي الأسباب الحقيقة وراء ذلك الحل .

   والسبب الحقيقي الخفي غير المعلن لهذا القضاء هو تحجيم الأنظمة القانونية التي تبنت قوانين حديثة للتحكيم، وإشعارها بأنه على الرغم من هذا التحديث فإنها مع ذلك غير قادرة على مجاراة التطور السريع الذي يلحق بنظام التحكيم، فضلاً عن أن هذا الحل يحقق مصلحة عملية للدول الرأسمالية إذ يمكن محاكمها من أن تضرب عرض الحائط بالأحكام القضائية الصادرة عن محاكم الدول الآخذة في النمو ببطلان حكم التحكيم، وخاصة إذا كان حكم التحكيم قد صدر ضد الدولة ذاتها على نحو ما كان عليه الحال في قضية Chromalloy'.

   53- ولعله من الجدير بالملاحظة أيضاً في هذا الصدد أن الفقه الفرنسي المؤيد للاتجاه الذي عليه القضاء الفرنسي الآن يكيل الشيء الواحد بكيلين مختلفين: فإذا تعلق الأمر بتحديد القضاء المختص بنظر دعوى الطعن بالبطلان انبرى هذا الفقه للدفاع عن قضاء دولة المقر مغلباً اختصاص هذا القضاء في مواجهة قضاء الدول الأخرى، ولا سيما قضاء الدولة التي تكون إجراءات التحكيم تمت وفقاً لقانونها مستنداً في ذلك إلى الحجج التي لم يمل من ترديدها.

   أما إذا تعلق الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه في الخارج، فإن هذا الفقه من أجل إهدار اختصاص قضاء دولة المقر، يتمسك بعكس الحجج التي ساقها من أجل تثبيت هذا الاختصاص لقضاء دولة المقر في الحالة الأولى، وذلك من أجل سحب الاختصاص من هذا القضاء، وتغليب مفاهيم قانون دولة مقر التنفيذ وصولاً إلى تحرير القوانين الوطنية.

   وإذا كنا قد عرضنا لموقف القانون الفرنسي من مسألة إمكانية تنفيذ حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه في دولة المقر فإننا سنعرض الآن لموقف القضاء الأمريكي من هذه المسألة.

 

الفصل الثاني: موقف القضاء الأمريكي من إمكانية تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه في الخارج

   54- ذهب الفقه الفرنسي المدافع عن إمكانية تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه وفقاً لقانون دولة المقر إلى القول بأن هذا الحل ليس حلاً منفرداً معزولاً ابتدعه القضاء الفرنسي، بل انه حل تتبعه أنظمة قانونية أخرى. ويشير إلى القضاء الأمريكي الذي أعمل هذا الحل في قضية Chromalloy.

   وسوف نعرض للقضاء الأمريكي وتقديره.

 

أولا: موقف القضاء الأمريكي

   55- وإذا كان صحيحاً أن القضاء الأمريكي في قضية كرومالوي قد أصدر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم على الرغم من القضاء ببطلانه في مصر، فإن القضاء الأمريكي اللاحق على قضية کرومالوي سار في عكس هذا الاتجاه ورفض تذييل أحكام التحكيم التي قضي ببطلانها في الخارج بالصيغة التنفيذية وذلك في العديد من الدعاوی.

   وسوف نعرض للقضاء الأمريكي الصادر في قضية كرومالوي ثم نعالج القضاء الأمريكي اللاحق.

 

1- القضاء الأمريكي الصادر في شأن قضية كرومالوي

   56- سبق أن عرضنا لوقائع المنازعة الناشئة بين الشركة الأمريكية Chromalloy والحكومة المصرية وكيف انتهت هذه المنازعة بحكم تحكيم صدر ضد الحكومة المصرية بإلزامها بتعويض الشركة الأمريكية بدفع مبلغ يجاوز 17 مليون دولار.

   وعلى الرغم من أن هذا الحكم قد ألغته محكمة استئناف القاهرة على نحو ما أشرنا سابقاً فإن محكمة استئناف باريس أصدرت حكماً بتنفيذه في 14 يناير 1997م.

   ولقد قامت الشركة الأمريكية أيضاً بطلب لإصدار الأمر بتنفيذه أمام محكمة مقاطعة كولومبيا، وأصدرت هذه الأخيرة حكماً بتذييله بالصيغة التنفيذية في 31 يوليه 1996 وذلك على الرغم من سبق صدور الحكم ببطلان حكم التحكيم من القضاء المصري في

1995/12/5.

   - ولقد استندت محكمة كولومبيا من أجل إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم إلى أن نص المادة الخامسة فقرة (1) (هــ) من معاهدة نيويورك والتي ذهبت إلى أنها تخول القاضي وفقاً لتقديره، الحق في رفض منح الأمر بالتنفيذ الحكم التحكيم الذي أبطل في دولة المقر. إلا أنه وفقاً لنصوص المادة السابعة من المعاهدة، فإن الطرف المستفيد من هذا الحكم الذي قضى ببطلانه يحتفظ بكل الحقوق في شأن تنفيذ هذا الحكم كما لو كانت هذه الاتفاقية غير موجودة.

   ولقد أشارت محكمة كولومبيا أيضاً إلى أن القضاء الأمريكي لا يبطل إلا أحكام التحكيم الصادرة بالمخالفة الصارخة لأحكام القانون، أما حكم التحكيم الذي يقر بأنه يتساوى في واقعة الحال، إعمال القانون المدني المصري أو تطبيق القانون الاداري المصري، فإنه حكم يتضمن على أسوأ الفروض خطأ في تطبيق القانون لا يخضع بهذه المثابة لرقابة القاضي الأمريكي المعني بإصدار الأمر بالتنفيذ.

   ولقد حرصت محكمة كولومبيا إلى التأكيد على أن اتفاق التحكيم، بجانب اشارته إلى تطبيق القانون المصري، نص صراحة على أن حكم التحكيم لا يمكن الرجوع عنه بالاستئناف أو بأي وجه من أوجه الرجوع الأخرى. 

   وترتيباً على ما تقدم، فإنه لا يمكن الاعتراف بحجية الشيء المقضي للحكم الأجنبي الصادر في الطعن على حكم التحكيم، لمخالفة ذلك للنظام العام الأمريكي والذي يفرض احترام القوة الملزمة لاتفاقات التحكيم ولاسيما تلك المبرمة في اطار المعاملات التجارية الدولية.

   ولقد ذهبت محكمة كولومبيا إلى أن القاضي الأمريكي غير ملزم بتحديد ما إذا كان القضاء الأجنبي قد فصل في المنازعة المعروضة أمامه على نحو صحيح وفقاً لقانونه، ويخلو بقضائه على النحو المتقدم، من المساس بمبدأ المجاملة الدولية.

   57- وعلى الرغم من أن جانباً من الفقه الذي علق على قضية كرومالوي أفصح عن أن هذا القضاء يعد السابقة الوحيدة التي أجازت تنفيذ حكم تحكيمي على الرغم من القضاء ببطلانه في الخارج وانه لا يوجد في التاريخ القضائي للولايات المتحدة الأمريكية أية محاولة لتنفيذ حكم تحكيمي أبطل في الخارج وان هناك وقتاً طويلاً سوف يمر حتى تعرض ذات المسألة من جديد على القضاء الأمريكي، فإنه يبدو ومن حسن الطالع أن تلك النبوءة لم تتحقق وعرضت ذات المسألة على القضاء الأمريكي في عدة حالات مماثلة لقضية كرومالوي وانتهى فيها القضاء الأمريكي إلى أحكام مخالفة لما انتهى إليه في قضية Chromalloy إذ رفض تنفيذ حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه خارج أمريكا.

   وسوف نعرض لهذه الأحكام الصادرة عن القضاء الأمريكي اللاحق على حكم Chromalloy.

 

ب- الأحكام القضائية الأمريكية اللاحقة على قضاء كرومالوي 

   58- اتيحت الفرصة أمام القضاء الأمريكي للتعرض لمسألة مدى جواز تنفيذ حكم التحكيم على الرغم من أبطاله في دولة المقر. وسوف نعرض للقضايا التي عرضت أمام القضاء الأمريكي والموقف الذي اتخذه في شأنها وهو موقف يتعارض كلياً مع الحل الذي ابتدعه القضاء الأمريكي في قضية Chromalloy بحيث يظل هذا حكم Charomalloy سابقة وحيدة في القضاء الأمريكي لم يتم اتباعها.

قضية Baker Marine ضد Chevron 

   59- ابرمت شركة Baker Marine و Danos عقداً ينصب محله على تسليم سفن إلى نيجيريا . وينطوي العقد على شرط تحكيم. وتتمتع جميع أطراف العقد بأستثناء Chevron بالجنسية النيجيرية وأتفق على تطبيق القانون النيجيري. ولقد تمسكت شركة Baker Marine بأن كل من Danos و Chevron قد خالفا العقود المبرمة معها.

   وتم تشكيل هيئتي تحكيم في مدينة لاجوس بنيجيريا. وأصدرت المحكمة الأولى حكماً تحكيميا بإلزام Danos بدفع مبلغ 2.223 مليون دولار إلى شركة Baker Marine   

   كما أصدرت هيئة التحكيم الثانية حكما بإلزام شركة Chevron بدفع مبلغ 750.000 دولار امريكي إلى شركة Baker Marine.

   ولقد سعت شركة Baker إلى تذييل الحكمين الصادرين لصالحها بالصيغة التنفيذية في نيجيريا دولة المقر. وفي أثناء ذلك تقدمت كل من شركة Chevron و Danos برفع دعويين امام المحكمة الفيدرالية بنيجيريا للمطالبة ببطلان حكمي التحكيم الصادرين ضدهما وهو الأمر الذي استجابت له المحكمة الفيدرالية بنيجيريا والتي أصدرت حكمها ببطلان حكمي التحكيم.

   ولقد قامت شركة Baker Marine في أغسطس 1997 برفع دعويين أمام Northern District de New York وطلبت تنفيذ حكمي التحكيم الصادرين لصالحها وذلك بالأعمال المعاهدة نيويورك.

   ولقد رفضت المحكمة طلبها استناداً إلى أنه لن يكون صحيحاً تنفيذ حكم تحكيمي بالإعمال المعاهدة نيويورك بينما ذات الحكم تم ابطاله من قبل القضاء وفي الاستئناف تمسكت شركة Baker Marine بأن الأسباب التي بناء عليها قام القضاء النيجيري بإبطال حكمي التحكيم لا تشكل اسباباً صحيحة لإبطال احكام التحكيم وفقاً للقانون الأمريكي ولقد التفتت محكمة الاستئناف عن هذه الحجة وقررت أن الأوراق قد خلت مما يفيد أن القضاء النيجيري قام بمخالفة القانون النيجيري.

   وعلاوة على ذلك ارتأت بشكل عام أن "التطبيق الآلي للقانون الداخلي للتحكيم بأحكام التحكيم الأجنبية بالأعمال للمعاهدة من شأنه أن يؤدي إلى التقليل بشكل خطير من الطابع الملزم للاتفاقية، وإصدار العديد من الأحكام المتعارضة.

   فالطرف، الذي تم إبطال الحكم التحكيمي الصادر لصالحه في دولة المقر، إذا كان في مقدوره أن يطلب بشكل تلقائي تنفيذ هذا الحكم تحت مظلة القانون الداخلي لدول أخرى، فإن هذا الطرف الخاسر له كل الأسباب لكي يتعقب خصمه من بلد إلى بلد مقدما طلبات لتنفيذ هذا الحكم التحكيمي الذي أبطل في دولة المقر، وذلك دون أن يتوقف على تقديم هذه الطلبات حتى يجد قضاء يقبل طلبه ويصدر الأمر بالتنفيذ، وذلك على فرض وجود مثل ذلك القضاء".

   ولم يفت القضاء الأمريكي في قضية Baker Marine أن يلفت الانظار انه في واقعة الحال لا يجوز اعمال سابقة كرومالوي. إذ أن شركة Baker Marine الطالبة لا تتمتع بالجنسية الأمريكية وذلك على عكس الحال في قضية Chromalloy، هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى، فإن الشركتين المدعى عليهما امام القضاء الأمريكي وهما شركتا Chevron و Danos لم تخالفا تعهداتهما التعاقدية. إذ لم يتضمن العقد المبرم بين كل منهما وشركة Baker Marine نصاً يفيد نهائية حكم التحكيم و عدم جواز الطعن عليه أمام جهات القضاء كما هو الحال في العقد المبرم بين الحكومة المصرية وشركة Chromalloy الأمريكية.

  وإذا كان القضاء الأمريكي لم يطبق في قضية Baker Marine سابقة Chromalloy فإنه أيضاً امتنع عن أعمالها في قضية Spier التي سنعرض لها الآن.

قضية spier

   60- ابرم السيد Spier وهو مواطن يتمتع بالجنسية الأمريكية عقداً مع الشركة الايطالية Calzaturificio Tecnica ينص على قيامه بإمداد هذه الأخيرة بالخبرة في مجال تصنيع الأحذية الخاصة بالتزحلق على الجليد. وانطوى العقد على شرط تحكيم تم تفعليه بسبب نشوء النزاع بين أطراف العقد المشار إليه وقضت محكمة التحكيم التي اتخذت من ايطاليا مقراً لها حكم تحكيمية ضد شركة Tecnica وألزمتها بأن تدفع إلى Spier مليار ليرة ايطالية بالإضافة إلى الفائدة 15% سنوياً.

 

    وقامت شركة Technica بالطعن بالبطلان على حكم التحكيم. وتقدم السيد Spier إلى القضاء الأمريكي Southern District بطلب من أجل تنفيذ حكم التحكيم الصادر لصالحه. وأصدر القضاء الأمريكي قرار بوقف النظر في الدعوى انتظاراً للحكم الذي سوف يصدره القضاء الايطالي في شأن الدعوى بالبطلان المقامة من شركة Tecnica. وأصدر القضاء الايطالي حكماً بإبطال حكم التحكيم. واثبت القضاء الايطالي (قضاء أول درجة استئناف - محكمة النقض الايطالية) أن المحكمين قد تجاوزوا حدود المهمة والسلطات الممنوحة لهم وذلك بإصدارهم حكم تحكيمية استناداً إلى توافق لم يكن محلاً للاتفاق عليه بين الأطراف.

   وعلى الرغم من القضاء ببطلان حكم التحكيم فإن السيد Spier تقدم بطلبه إلى القضاء الأمريكي لتنفيذ حكم التحكيم بالأعمال لمعاهدة نيويورك.

   ولقد بدأت المحكمة الأمريكية نظرها في دعوى اصدار الامر بتنفيذ حكم التحكيم الذي ابطل في ايطاليا بفحص، أو بالاعتراف بالأحكام الايطالية الصادرة بإلغائه بمنافسه سابقه Chromalloy  وسابقة   Baker Marine.

   وأشارت المحكمة الى أن المدعي في الدعوى الماثلة أمامها شأنه شأن المدعي في Chromalloy يتمتع بالجنسية الأمريكية ويطلب الاعتراف بحكم تحكيمي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد رفضت المحكمة الاعتراف بحكم التحكيم الذي ابطل في ايطاليا استناداً إلى أن المدعي لم يقدم أي سبب مقبول لرفض الاعتراف بالأحكام الصادرة عن القضاء الايطالى.

 

قضية Termo Rio C/Electrificadoria Dela Atlantico

  61- في عام 1997 تم توقيع عقد شراء كهرباء بين كل من شركة Termo Rio شركة تتمتع بالجنسية الكولومبية وElectranta (شخص عام يتمتع ايضاً بالجنسية الكولومبية انشئ عام 1957 من أجل تزويد مدينة Barranquilla بكولومبيا بالكهرباء).

   وبموجب العقد المشار إليه اتفق الطرفان على أن تقوم شركة Termo Rio بتصنيع الطاقة الكهربائية وتعهدت شركة Electranta بشراء هذه الطاقة.

   ومن أجل تنفيذ الالتزام الواقع على عاتقها قامت شركة Termo Rio بعمل استثمارات تجاوزت 7 مليون دولار. ولقد تضمن العقد المحرر بین Termo Rio وشركة Electranta شرطاً تحكيمية ينص على أن أية منازعة تنشأ بين الأطراف تحسم من خلال التحكيم الذي يجري في كولومبيا.

   ونظراً إلى سياسة الخصخصة التي اتبعتها كولومبيا، فإنها طرحت في مارس 1998 مشروعاً لبيع أصول كل المشروعات العامة بما في ذلك شركة Electranta، إلى اشخاص خاصة أو الى هيئات كولومبيا اخرى.

   وفي ابريل 1998 انشئت شركة جديدة تسمى Eletrocaribe تحل محل شركة Electranta وتستحوذ على أصولها وتتحمل التزاماتها. ومع ذلك وبناء على أمر صادر من دولة كولومبيا، فإن Electranta لم تنقل الالتزامات الواقعة عليها والناجمة عن عقد الشراء المبرم بينها وبين شركة Termo Rio والذي بموجبه تلتزم بشراء الكهرباء من Termo Rio.

   وبهذه المثابة ظلت Electranta مسؤولة تعاقدياً عن تنفيذ التزامها تجاه Termo Rio مع عجزها عن تنفيذه بسبب عدم وجود موارد مالية تمكنها من هذا التنفيذ.

   وأصدرت هيئة التحكيم التي عقدت جلساتها في كولومبيا حكم تحكيميا يلزم شركة Electranta بأن تدفع إلى شركة Termo Rio مبلغ 60.3 مليون دولار. 

   وأصدر مجلس الدولة في كولومبيا حكماً بإبطال حكم التحكيم المشار إليه وذلك استجابة للطعن عليه بالبطلان الذي رفعته شركة Electranta. وذهب مجلس الدولة في كولومبيا إلى أن التحكيم يجب أن يخضع للقانون الكولومبي، وان هذا القانون الساري لحظة ابرام العقد بين Termo Rio و Electranta، لا يجيز اللجوء إلى القواعد الإجرائية الخاصة بغرفة التجارة الدولية لكي تطبق على التحكيم.

   ولقد تقدمت شركة Termo Rio وشركة Lease Co وهي مستثمر أمريكي رئيسي في شركة Termo Rio بطلب تنفيذ الحكم التحكيمي الذي قضي ببطلانه أمام القضاء الكولومبي والذي رفض القضاء الأمريكي تنفيذ الحكم التحكيمي وذلك استناداً إلى أن "طالبي التنفيذ لا يمكنهم طلب تنفيذ أحكام التحكيم في الفروض التي تكون منها الأحكام القضائية الصادرة عن الأجهزة القضائية في كولومبيا متعارض مع النظام العام الأمريكي".

   وقامت شركة Termo Rio بالطعن على القرار المتقدم أمام محكمة استئناف بمقاطعة كولومبيا والتي انتهت إلى تأييد القرار الصادر عن القاضي الجزئي الأمريكي برفض تنفيذ حكم التحكيم الذي أبطل في كولومبيا.

 

ثانياً: تقدير موقف القضاء الأمريكي

   أ- تقدير موقف القضاء الأمريكي في شأن قضية كرومالوي

   62- لا يخلو القضاء الأمريكي الصادر في قضية كرومالوي من الانتقاد، فمن ناحية أخطأ هذا الحكم في تفسير شرط التحكيم، ومن جهة أخرى فإن هذا الحكم أخطأ أيضاً في تفسيره القانون الأمريكي للتحكيم على اعتبار أنه القانون الأفضل وفقا لنص المادة السابعة من معاهدة نيويورك على الرغم من أنه لا يعد كذلك.

  - إذ ذهبت محكمة كولومبيا إلى أن شرط التحكيم الوارد في الملحق المدرج في الاتفاق بين الحكومة المصرية والشركة الأمريكية، ملحق (د) نص على أن: قرار التحكيم سيكون قراراً نهائياً وملزماً لا يمكن الطعن عليه بالاستئناف ولا بأي طريق آخر من طرق الرجوع وأن مفاد هذا الشرط استبعاد كل احتمال للطعن بالاستئناف على حكم التحكيم أمام المحاكم المصرية.

  62- والواقع أن هذا التفسير الذي أعطته محكمة كولومبيا لشرط التحكيم يخالف التفسير الذي يجري عليه العمل الدولي والذي يعطي النصوص المماثلة لهذا الشرط والموجودة في لائحة غرفة التجارة الدولية في باريس ومحكمة غرفة التجارة الدولية بلندن ومؤسسة التحكيم الأمريكية وقواعد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي.

   فهذه القواعد لا تمنع من اللجوء إلى القضاء الوطني بالبطلان على حكم التحكيم، وهو طريق الرجوع الوحيد المتصور في الأنظمة القانونية المعاصرة، وذلك إذا ما لحق بهذا الحكم سبب من أسباب البطلان.

   ولعل اكبر دليل يؤيد ما ندافع عنه من رأى أنه على الرغم من نص لائحة غرفة التجارة الدولية في باريس على إلزامية حكم التحكيم، إذ تنص في المادة 24 فقرة 2 والتي أصبحت المادة 28 فقرة 2 تنص على التنازل عن طريق الرجوع التي يمكن التنازل عنها بشكل صحيح". إلا أن محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 10 سبتمبر 1993 ذهبت إلى أن المادة 24 من لائحة التحكيم الخاصة بغرفة التجارة بباريس والتي تجيز للأطراف التنازل عن كل طريق من طرق الرجوع التي يمكن التنازل عنها، لا يتعلق بطريق الطعن بالبطلان والتي لا تملك الأطراف سلطة استبعاده" وذلك نتعلق هذا الطريق بالنظام العام الإجرائي في دولة المقر.

   وبهذه المثابة يكون اتفاق الأطراف على التنازل عن كل طريق للرجوع بما فيها طريق الطعن بالبطلان ضد حكم التحكيم تنازل غیر منتج لأي أثر لأنه يخالف النظام العام في الدولة.

   63- ومن المعروف أن طريق الطعن بالبطلان في مصر شأنه في ذلك شأن فرنسا يتعلق بالنظام العام.

   والقول بغير ذلك يترتب عليه أن يتنازل الأفراد مقدمة عن أي حق في الطعن عن أخطاء غير متوقعة بالحكم كما في حالة الرشوة والغش أو انعدام المساواة في المعاملة بين الأطراف وهو ما يتنافى مع أبسط قواعد القانون والعدالة.

  64- وإذا كانت محكمة كولومبيا قد أخطأت في تفسير شرط التحكيم على النحو المتقدم فإنها أيضا أخطأت في تقديرها أن القانون الأمريكي يعتبر القانون الأفضل في مفهوم المادة السابعة من معاهدة نيويورك في حين أنه لا يعد كذلك. 

  - إذ حاولت محكمة كولومبيا أن تطبق على قضية Chromalloy نفس الحل الذي سار عليه القضاء الفرنسي ابتداء من قضية Norsolor وحتى قضية Chromalloy. إذ لجأت المحكمة إلى المقارنة بين نص المادة الخامسة (1) (هــ) والمادة السابعة من معاهدة نيويورك.

   ومن المعروف أن الفقرة الأولى من المادة الخامسة من معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يونيه 1958 تنص على أن:

   "ولا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب الاعتراف التنفيذ الدليل على:

   "(هــ) أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي تم فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم".

  كما تنص المادة السابعة من معاهدة نيويورك الموقعة في 10 يونية 1958 على أن:   

    "لا تخل أحكام هذه الاتفاقية بصحة الاتفاقات الجماعية أو الثنائية التي أبرمتها الدول المتعاقدة بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين وتنفيذها ولا تحرم أي طرف من حقه في الاستفادة بحكم من أحكام المحكمين بالكيفية وبالقدر المقرر في تشريع أو معاهدات البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ".

   ومن مقتضى إعمال هاتين المادتين جنباً إلى جنب إمكانية اعتراف القاضي المطلوب منه إصدار الأمر بالتنفيذ بحكم التحكيم الباطل إذا كانت شروط الأمر بتنفيذ هذا الحكم أكثر تحرراً من الشروط التي وضعتها معاهدة نيويورك للاعتراف بأحكام التحكيم بمعنى أن يكون قانون القاضي افضل من المعاهدة.

   65- والسؤال الذي يتعين الاجابة عنه الآن هل القانون الأمريكي كما يزعم القاضي Green الذي فصل في قضية Chromalloy قانون افضل more favorable من معاهدة نيويورك الواجبة الإعمال في واقعة الحال؟ 

   للإجابة عن هذا السؤال يتعين الرجوع إلى قانون التحكيم الأمريكي نفسه. وفي هذا الشأن فإن الفصل التاسع من قانون التحكيم يتطلب كشرط أساسي من أجل الاعتراف بحكم التحكيم من قبل المحكمة الفيدرالية الأمريكية أن يتفق الأفراد في العقد المبرم بينهم على أن الحكم الصادر عن المحكمة المعينة من قبل الأفراد في العقد سوف يعترف بحكم التحكيم الصادر عنها بناء على اتفاق التحكيم.

   ومن الثابت أن العقد المبرم بين الشركة الأمريكية كرومالوي والحكومة المصرية لم يتضمن أي شرط بهذا المعنى، وهذا يعني عدم اختصاص أي محكمة فيدرالية للاعتراف بحكم التحكيم الصادر في هذه القضية.

   كما أن النصوص الأخرى الواردة في الفصل التاسع من قانون التحكيم الأمريكي تشير إلى أن المحكمة التي يطلب منها الاعتراف بحكم التحكيم إما أن تكون محددة في العقد أو في حالة تخلف هذا التعيين فإن الاختصاص ينعقد لمحاكم الولايات المتحدة ولمحكمة المقاطعة التي في نطاقها صدر الحكم.

  - وحيث إنه من الثابت أن حكم Chromalloy صدر خارج الولايات المتحدة الأمريكية فإن الشرط الأخير الذي يتطلبه القانون الأمريكي لانعقاد الاختصاص للمحاكم الأمريكية غير متحقق، وبهذه المثابة فإنه لا توجد محكمة في أمريكا لها الحق في ظل قانون التحكيم الأمريكي أن تعترف بحكم التحكيم الصادر في قضية Chromalloy.

   وللخروج من هذا المأزق فإن القاضي Green عند فصله في مسألة انعقاد الاختصاص المحكمة كولومبيا لم يقم بأعمال القواعد الواردة في قانون التحكيم الأمريكي وإنما قام بإعمال القانون الأمريكي في شأن الحصة القضائية للدول ذات السيادة Foreign Soreign Immunity Act الصادر سنة 1976 والذي ينص

على انعقاد الاختصاص للمحاكم الفيدرالية بالنظر في الدعاوى المدنية دون محلفين ضد الدولة الأجنبية أية تكن نتيجة الدعوى.

   وينص هذا القانون على أن الدولة لا تتمتع بالحصانة أمام القضاء الأمريكي في الحالات

   1- إذا كانت الدعوى أقيمت من أجل تطبيق شرط التحكيم المبرم بين الدولة ولصالح شخص خاص، أو من أجل الاعتراف بحكم التحكيم الصادر بناء على هذا الشرط.

  2- إذا كان اتفاق التحكيم أو حكم التحكيم يحكمهما معاهدة أو اتفاق دولي ساري المفعول في الولايات المتحدة الأمريكية وتقتضي الاعتراف وإصدار الأمر بالتنفيذ الأحكام التحكيم.

   - وإذا كان قانون التحكيم الأمريكي نفسه لا يعطي اختصاصاً للقضاء الأمريكي بالنظر في الدعوى في الحالة المعروضة أمامه فإنه لا يمكن وصفه بأنه قانون أفضل للشركة الأمريكية على الأقل على صعيد الاختصاص، وهذه الحقيقة تتأكد أيضاً على صعيد الموضوع.

    فقانون التحكيم الأمريكي لا ينطبق أصلاً على أحكام التحكيم الأجنبية ولكن تخضع هذه الأحكام إذا توافرت شروط إعمال معاهدة نيويورك، كما هو الوضع في شأن تحكيم Chromalloy إلى احكام هذه المعاهدة، وبهذه المثابة فإنه لا يمكن القول بأن قانون التحكيم الأمريكي يعرف أسباباً أكثر تحرراً من تلك التي تنص عليها المعاهدة من أجل الاعتراف بحكم التحكيم.

   إذ أن قانون التحكيم الأمريكي في الفصل الخاص بالاتفاقية ينص على رفض تنفيذ حكم التحكيم إذا كان هناك سبب من أسباب رفض التنفيذ المنصوص عليها في الاتفاقية والتي من بينها المادة 5 (1) (هــ) والتي تجيز رفض التنفيذ إذا كان الحكم قد قضى ببطلانه في دولة المقر، وإعمال ذلك النظر كان من شأنه أن ترفض محكمة كولومبيا تذييل حكم التحكيم الصادر في قضية Chromalloy بالصيغة التنفيذية.

   فإذا كان القانون الأمريكي للتحكيم لا يمنح المحاكم الأمريكية اختصاصا بالنظر في دعوى إصدار الأمر بتنفيذ الحكم في قضية Chromalloy للأسباب المشار إليها ومع ذلك لجأ القاضي Green إلى جلب الاختصاص إلى محكمة كولومبيا بالأعمال للنصوص الواردة في القوانين الخاصة بحصانات الدول ذات السيادة وما تؤدي إليه من جلب الاختصاص لهذا القضاء إذا تعلق الأمر بتنفيذ حكم تحكيم إعمالاً لنصوص المعاهدات الدولية وإذا كان القانون الأمريكي للتحكيم لا يعرف نظاما لتنفيذ حكم التحكيم أكثر تحرراً من ذلك الذي وضعته معاهدة نيويورك، بل إن هذا القانون نفسه يتبنى جميع أوجه رفض التنفيذ الواردة في المعاهدة بما فيها رفض تنفيذ الحكم في حالة إبطاله في قانون دولة المقر.

  وأيضأ، إذا كان قانون التحكيم الأمريكي، في شأن ما ينص عليه من رفض التنفيذ إذا كان الحكم يشوبه إخلال صارخ في إعمال حكم القانون، يضع شرطا أكثر تشدداً لرفض التنفيذ من ذلك الذي تضعه معاهدة نيويورك والتي لا تعرف مثل هذا الشرط اللهم إلا إذا أدمج في إطار شرط آخر كشرط مخالفة النظام العام الدولي في قانون الدولة التي يطلب منها إصدار الأمر بالتنفيذ، فإنه يحق لنا التساؤل عن الأسباب الحقيقة التي دفعت بالقاضي Green إلى إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الصادر في قضية Chromalloy على الرغم من إبطاله في مصر دولة المقر، وعلى الرغم من أن إعمال نصوص معاهدة نيويورك والتي تعد جزءاً لا يتجزأ من القانون الأمريكي للتحكيم تقضي برفض الاعتراف بالحكم في واقعة الحال، ولا سيما أن القانون الأمريكي ليس بقانون أفضل على نحو ما أشرنا.

  66- كما أن ما ذهبت إليه محكمة كولومبيا من أن القضاء الأمريكي لا يبطل إلآ أحكام التحكيم الصادرة بالمخالفة الصارخة لأحكام القانون، أما حكم التحكيم الذي يقرر بأنه يتساوى في واقعة الحال إعمال القانون المدني المصري أو تطبيق القانون الإداري المصري فإنه حكم يتضمن على أسوأ الفروض خطأ في القانون، لا يخضع بهذه المثابة لرقابة القاضي الأمريكي المعني بإصدار أمر التنفيذ، فإن هذا القول محل نظر.

   إذ لم يحدد لنا القاضي Green ما هو معيار التفرقة بين الإخلال الصارخ بالقانون والخطأ في القانون إلى الحد الذي دفع بجانب من الفقه الغربي نفسه إلى القول بأن الإخلال الصارخ بالقانون هو على أية حال خطأ في القانون خطأ جسيم، لاشك في ذلك، ولكن خطأ في القانون لا أكثر ولا أقل. بل إن هذا الجانب من الفقه ذهب إلى القول بأنه إذا كان قانون التحكيم الأمريكي لا يجيز الرجوع على حكم التحكيم بسبب الخطأ في القانون من قبل المحكم، فماذا تراجع المحاكم الأمريكية في حكم التحكيم إذا لم تكن تراجع الخطأ في القانون؟ وهل إذا قامت محكمة الاستئناف المصرية بإلغاء الحكم لأنه لم يطبق القانون المختار تكون قد تصرفت على نحو مخالف للتصرف الذي تتبعه المحاكم الأمريكية؟!

   67- وحتى مع الإبقاء على التفرقة بين الخطأ الصارخ في القانون والخطأ في القانون فإن عدم إعمال قواعد القانون الاداري المصري على العقد الإداري المبرم بين الشركة الأمريكية والحكومة المصرية لا ينطوي على مجرد خطأ في القانون ولا على خطأ صارخ في القانون، بل إنه يشكل أكثر من ذلك أنه جهل متعمد بالقانون المصري ومسخ له إذ أنه من المعروف أن هناك أنظمة قانونية عديدة، من بينها القانون الفرنسي والقانون المصري، تعرف نظاما خاصا بالعقود الإدارية يختلف عن النظام القانوني الذي يسري على العقد الإداري مزايا للسلطة العامة تخولها حق فسخ هذا العقد بإرادتها المنفردة ودون مسؤولية تعاقدية. 

   68- ومسألة تكييف العقد المبرم أمام المحكمة وهل هي عقد من عقود القانون الخاص يخضع بهذه المثابة الأحكام القانون المدني أم أنه عقد من العقود الادارية يخضع للقانون الاداري؟ هي مسألة تكييف ثانوي ثارت أمام المحكمة بعد اختيار الأشخاص القانون المصري ليحكم العقد. ولما كان القانون المصري الحاكم للعقد يعرف طائفتين من العقود: العقود الادارية والعقود المنتمية إلى القانون الخاص، فإنه كان يجب على هيئة التحكيم أن تحترم هذا التقسيم التقليدي الذي يسير عليه القانون المصري وتنتهي إلى وصف العقد محل المنازعة بالوصف القانوني الحق وتعمل عليه القواعد القانونية الخاصة به، إذا لم تقم محكمة التحكيم باتباع ذلك النظر تكون قد خلطت بين مسألتين مسألة تحديد القانون الواجب التطبيق والتكييف اللاحق للعقد.

   - وعلى رغم أن العقد المبرم بين الشركة الأمريكية والحكومة المصرية تحققت فيه المعايير المتفق عليها سواء في مصر وفرنسا من اجل إضفاء هذا الوصف على العقد لكي يكون عقداً إدارياً، وهو المعيار العضوي (سلطة عامة تتصرف بوصفها كذلك المعيار المادي (انطواء العقد على شروط استثنائية المعيار الغائي (تشييد أو إدارة مرفق)، فإن محكمة التحكيم بدلاً من أن تخضع هذا العقد الإداري للنظام القانوني المصري الخاص به، أخضعته القانون المدني وذلك على الرغم من عدم ملاءمة القواعد الخاصة بالقانون المدني للانطباق على هذه النوعية من العقود التي أفرد لها القانون المصري نظام قانونية خاصة بها.

   - وتطبيق أحكام القانون المدني المصري على العقد الاداري المبرم بين الحكومة المصرية والشركة الأمريكية لا يعد مجرد خطأ في القانون، بل هو عدم تطبيق القانون المختار من أصله وهو ما تتحقق به مخالفة نص المادة 53 من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994. على أنه إذا اختار الأفراد قانون دولة محدد ليحكم هذا العقد، فإن هيئة التحكيم لا يمكنها أن تختار داخل هذا القانون المختار النظام القانوني الواجب التطبيق دون أن يتضمن هذا الاختيار انتهاكاً واعتداء على الاختيار الصادر عن الأطراف والوارد في العقد نفسه، طالما كان هذا القانون المختار يحدد بنفسه المعايير اللازمة لإعمال الأنظمة القانونية المختلفة التي يتضمنها، وبهذه المثابة تكون هيئة التحكيم لم تخطئ في تطبيق القانون فقط، بل تجاوزت أيضاً حدود المهمة المنوطة بها، وهو سبب مستقل تعرفه الكثير من الأنظمة القانونية المنظمة للتحكيم ومن بينها القانون الفرنسي وتجيز بناء على تحققه إمكانية الرجوع عن حكم التحكيم للبطلان لمخالفة هيئة التحكيم لحدود الالتزام الواقع على عاتقها.

 

تقدير موقف القضاء الأمريكي اللاحق على كرومالوي

   69- أظهرت الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الأمريكي في شأن مدى جواز تنفيذ حكم التحكيم الذي قضى ببطلانه خارج أمريكا أن القضاء الأمريكي قد تراجع عن القضاء الذي سنه في قضية Chromalloy وهو ما يؤكد صحة الانتقادات التي كانت وجهت الى هذا القضاء بسبب ما انتهى إليه من حكم فيها.

   ويتضح من الأحكام التي حرصنا على عرضها أن القضاء الأمريكي يجعل تنفيذ حكم التحكيم الذي قضى ببطلانه خارج أمريكا خاضعاً لتحقق مجموعة من الشروط يؤدي تخلفها إلى عدم اصدار الأمر بالتنفيذ.

  1- أن يكون طالب تنفيذ الحكم التحكيمي الذي قضى ببطلانه خارج أمريكا يتمتع بالجنسية الأمريكية.

  2- أن يتم تقديم الأمر بالتنفيذ قبل الطعن بالبطلان على حكم التحكيم الصادر في الخارج والمراد الاعتراف به في أمريكا.

  3- أن يوجد التزام بعدم اللجوء إلى قضاء دولة المقر للنيل من حكم التحكيم، ويشكل انتهاكه مساساً بالنظام العام في امريكا على نحو يبرر رفض الاعتراف بالحكم الأجنبي الذي قضى بالبطلان، والاعتراف بالحكم التحكيمي الذي قضى ببطلانه.

ويتضح أن القضاء الأمريكي ينتهج سياسة غير واضحة وانتقائية دون اعطاء أسباب معقولة أو منطقية لهذه السياسة إلى الحد الذي دفع بالأستاذ J. Paulsson إلى التهكم على هذا القضاء بطرحه السؤال التالي:

    هل يمكن للقضاء الأمريكي أن يصدر أمراً بتنفيذ حكم تحكيم قضى ببطلانه في الخارج وتوافرت فيه الشروط المحددة أعلاه إذا كان هذا التحكيم قد حدث فيه تجاوز صارخ من قبل هيئة التحكيم لحدود اختصاصها أو قامت بإهدار كامل لحقوق الدفاع؟.