الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 4 / المفهوم المختلف الحيدة المحكم عن الحيدة الواجبة في القاضي"

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 4
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    41

التفاصيل طباعة نسخ

نقطة بدء ضرورية

    1 - التحكيم أداة اتفاقية متميزة لحسم نزاع محدد خارج نطاق محاكم الدولة، بحيث يـصير اتفاق الأطراف في التحكيم (بمعنى احترام ما اتفق عليه الأطراف قبل بدء التحكيم و وأيضاً أمـام المحكم) عنصراً ملازماً للعملية التحكيمية يوفر لهؤلاء نوعاً أو درجة من الأمان والطمأنينة يدفعهم إلى ولوج بابه. وفوق هذا فالتحكيم هو نظام هضمه المشرع وأجازه، وتبناه الفكر القانوني علـى المستوى العالمي.

  2 - رغم التقارب بين التحكيم، والقضاء، إلا أن كلا منهما اصطلاح قـانوني مختلـف فالتحكيم نظام قائم بذاته لا يندرج تحت فكرة أكثر عمومية، كما أن التحكيم ليس قضاء أو نوعاً من القضاء، بل هو نمط أو نظام مختلف عن القضاء في مصدره ووظيفته وطبيعته، وكذلك فـي غايته وبنائه الداخلي، فالقضاء قضاء، والتحكيم تحكيم. بمعني أن العقد نظامه القانوني وللقضاء نظامه القانوني وللتحكيم أيضاً نظامه القانوني، فلكل من نظام التحكيم ونظـام القـضاء أصالته واستقلاله، والعلاقة بينهما ليست علاقة تبعية، بل علاقة تواز واشتراك في وظيفة أو مهمة تحقيق العدل في النزاع المطروح سواء على المحكم أو على المحكمة، كل بطريقته وقواعده و مفاهيمه. تلك هي نقطة بدء ضرورية وبديهية، فحسم المنازعات وإقامة العدالة ليس حكراً على القضاء كما أنه ليس حكراً على التحكيم، وأيضاً ليس حكراً على كلاهما.

ضمير المحكم والحيدة

   3 – يلزم المحكم بممارسة مهمته التحكيمية بعلم وضمير مهني، فعلى الرغم من أن المحكـم ليس قاضياً ولا تكون له صفته؛ فأنه يؤدي عملاً شبيهاً بالعمل القضائي، ومن ثم يتطلب في المحكم، شأنه في ذلك شأن القاضي، وكأصل عام، الحيـدة.

   وشرط الحيدة بحسبانه مسألة شخصية أو حالة ذهنية تعني عدم التحيز لأي من الخصوم أو التعاطف المسبق مع وجهة نظر أحدهم، ويفهم هذا الشرط ضمناً من المبادئ القانونيـة العامـة، ويفرضه المنطق السديد حتى بغير نص في القانون، بحسبانه أمراً يقتضيه المركز القانوني لكـل من القاضي أو المحكم، بل ولكل من يعهد إليه مهمة الفصل في خصومة. وبتأسس مبدأ الحيـاد هذا على قاعدة أصولية دينية حضارية – وإن أوردتها التشريعات – قوامها وجـوب اطمئنان الخصوم إلى من يفصل فيما شجر بينهم سواء كان قاضياً أم محكمـاً، وأن حكمـه (القاضـي أو المحكم) لا يصدر إلا عن الحق دون تحيز أو هوى.

    4 - نريد أن تلفت النظر منذ البداية إلى أن معنى الحيدة يختلف فـي التـحـكـيـم عنـه فـي القضاء، فكثيراً ما يكون أساس التحكيم والغرض الرئيسي منه هو رغبة الطرفين فـي وضـع النزاع في يد شخص أمين حريص على العلاقات القائمة بينهما كرب الأسرة أو صديق حمـيم للطرفين أو محام لأحدهما يحترمه الآخر. وعلى ذلك فأن الصلة بين المحكم والخصوم أو بينـه وبين أحدهم لا تؤثر في صحة تعيينه طالما كانت معلومة للخصوم عند الاختيار، هـذا الأمـر المسموح به في التحكيم لا يمكن قبوله بالنسبة الى قاضي المحاكم. المفهوم المختلف لحيدة المحكم عن الحيدة الواجبة في القاضي هو ما سنسعى إلى إيضاحه في هذا المبحث.

 

الاستقلال عن الخصوم يدعم الحيدة ويعد مظهراً لها

    5 - في القضاء، يسود مبدأ الحيدة كل نواحي الخصومة القضائية، وحتى يتاح لهذا المبدأ أن ينتج كل آثاره، تحرص التشريعات على مبدأ ثان يكمله، وهو ضروري مثله، إذ أن الإخلال بـه قد يؤدي إلى إفراغ مبدأ الحيدة من مضمونه، هذا المبدأ (المكمل لمبدأ الحيدة) يتعلـق باستقلال القاضي. ويعني استقلال القاضي، في إحدى صوره، استقلال القاضي عن الخصوم وعن الغيـر أصحاب المصلحة في النزاع. فالاستقلال والحيدة، إذاً، أمران مختلفان وليسا شيئاً واحداً، فهما فكرتان متشابهتان في غايتهما ولكنهما لا يختلطان في مضمونها. 

   والاستقلال بشكل عام يدفع مظنة التأثير على القاضي، وهو أمـر يدعم ويوفر الحيـدة المطلوبة. وينظر إلى استقلال القاضي عن الخصوم بحسبانه صفة لصيقة بقضاء الدولة، تمتزج بطبيعته ورسالته، بل أن القانون يتجرد من كل قيمة إذا لم يقم على حمايته قضاء محايد ومستقل. فيجب على القاضي أن يتحرر من أي قيود او نفوذ أو إغراءات أو ضغوط أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة. في مجال التحكيم قد يختلف الحال ولو قليلاً.

    6 - ما نريد التأكيد عليه بشكل خاص هو أن أمر استقلال المحكم عن أطراف التحكيم غير ضروري وليس لازماً دائماً، كما قد يكون للاستقلال في التحكيم معنى مختلف عنه في فمن المتصور في التحكيم أن يتفق الأطراف على أن تقتصر هذه الحيدة والموضوعية فقط علـى المحكم للفرد، إذا كانت هيئة التحكيم تتشكل من هذا الفرد، أو على المحكم الثالث، عند تعدد هيئة التحكيم وبعرض أنها تتكون من ثلاثة محكمين، فالأمر الجوهري هو أن يكون هذا المحكم الفـرد أو المحكم الثالث موضوعياً وغير منحاز أو هكذا ينبغي أن يكون وإذا كان استقلال المحكم يقوم في الغالب على مظاهر خارجية، مثل عدم ارتباطه بالخصوم بأي طريقة تؤثر في استقلاله، ومن ثم كان من السهل إثبات وتقرير وجود الاستقلال لدى المحكم أو عدم وجوده بالرجوع إلى هذه المظاهر، ومع ذلك فأن عدم استقلال المحكم، ورغم الكشف عنه أو إثباته، قد يتم للأطـراف التغاضي عنه أو إقراره ولو ضمناً، أما خروج المحكم عن الحياد أو النزاهة، وعلى الرغم مـن جوهريته في العملية التحكيمية؛ فليس له في الغالب مظاهر خارجية، لأنه في الأساس أمر نفسي ذهني له طابع ذاتي. لذلك لا يظهر، إلا في حالات استثنائية صارخة، خروج المحكم عن الحيـاد أي خلو ذهنه من أي ميل أو تعاطف مسبق مع وجهة نظر أحد الخصوم، فتحيز المحكم قـد يـاخـذ شكلاً مستترأ على نحو يصعب إثباته . 

 

رد المحكم وعدم صلاحيته يختلف عن رد القاضي وعدم صلاحيته

   7 - تقع على المحكم واجبات يفرضها أطراف النزاع، إذ تنبـع سـلطته مـن اتفـاقهم، وواجبات أخرى يفرضها القانون. وطبيعة المهمة الملقاة على عاتق المحكم، بنـاء عـلـى اتفـاق التحكيم وبإقرار القانون، هي فحص ادعاءات الخصوم وتقديرها ووزنها، والحكم في خصوص هذه الادعاءات بقرار ملزم، فعمل المحكم يشبه في جوهره الوظيفة المنوط بها قاضـي الدولـة، ولكن لا يمكن اعتبار المحكم، من الناحية الفنية والواقعية قاضياً، حتـى بالنسبة الـى النـزاع التحكيمي المعروض عليه، ومن ثم لا تنطبق على المحكم قواعد قضاء الدولة.

    فالمحكم لا يخضع لشروط تعيين القضـاة، والخبرة القانونية أو غيرها ليست شرطاً في المحكم، فالأمر متروك لتقدير طرفي التحكيـم. وليسـت للمحكــم كـل صـلاحيات القاضي، وهو لا يحلف يميناً، ولا يخضع لحالات رد القضاة، ولا لنظام المخاصمة، ولا بعد مرتكباً لجريمة إنكار العدالة إذا امتنع عن العمل الموكول إليه، ولا تسأل الحكومـة عـن خطئه. 

  8 – ولأن المحكم غير القاضي ولأن التحكيم غير القضاء؛ فقد غابر المشرع المصري بين القضاة والمحكمين فيما أورده من أسباب رد أو عدم صلاحية كل منهما. وبالنسبة الى القاضـي الذي يباشر وظيفة القضاء في محاكم الدولة، الذي يعد مفروضاً على الخصوم، مسلك المشرع طريق التفصيل في إيراد أسباب عدم صلاحيته لنظر الدعوى علـى سـبـيل الـحـصر (المـادة 146 مرافعات)، وكذلك عندما فعل بالنسبة إلى أسباب رده (المادة 148 مرافعات). في حين أنـه بالنسبة إلى المحكمين، فقد سلك المشرع طريق الإجمال والعمومية، قنص فـي المـادة 18 مـن قانون التحكيم على أنه: «لا يجوز رد المحكم إلا إذا قامت ظروف تثيـر الـشـك حـول حيدتـه و استقلاله، ولا يجوز لأي من طرفي التحكيم رد المحكم الذي عينه أو اشترك في تعيينه إلا لسبب تبينه بعد أن تم هذا التعيين». 

   9- من الواضح، إذاً، أن رد المحكمين وعدم صلاحيتهم في قانون التحكيم يختلف عن رد وعدم صلاحية القضاة الوارد في قانون المرافعات، فالمحكم غير القاضي، والمؤكـد أنـه لـيس كذلك، ومن ثم لابد أن تختلف الظروف والأسباب، ولذلك لا نساير ما ذهب إليه البعض مـن أن أسباب رد المحكمين تتسع لتشمل كل أسباب رد القضاة الواردة في نص المادة 148 وأكثر منهـا ما دام ينال من حيدة المحكم . ذلك إن ما يفقد المحكم صلاحيته لنظر الدعوى التحكيمية يختلـف بالضرورة عن أسباب عدم الصلاحية الواردة في شأن القضاة، وعلى سبيل المثال فإن قـانون المرافعات يجعل القاضي غير صالح لنظر الدعوى ممنوعاً من سماعها إذا كان قريباً أو صهراً لأحد الخصوم إلى الدرجة الرابعة، بحسبانه يكون في هذا الفرض غير مستقل عن الخصم. هـذا الحظر لا يعرفه قانون التحكيم (المصري) وليس محتماً ولا تستلزمه طبيعة العملية التحكيمية.

    وقد جاء في حكم تحكيم صادر تحت مظلة مركـز القاهرة للتحكيــم الإقليمـي: «أن رد المحكمين وعدم صلاحيتهم يختلف عن رد وعدم صلاحية القضاة، في أن طلـب رد المحكـم أو عدم صلاحيته يجوز أن يتم التنازل عنه في مرحلة لاحقة، ويترتب على ذلك زوال آثر الطلـب ومن ثم صلاحية المحكم المطلوب رده أو المطلوب عدم صلاحيته للفصل في النزاع ولو صحت أسباب الرد أو عدم الصلاحية. وهو ما لا يتحقق في شـان عدم صلاحية القضاة، فإن التنـازل عن الطلب لا يحول دون اعتبار حكم القاضي غير الصـائح لنظر الدعوى (القضائية) معدوماً ولو قبله الخصوم، بالإضافة إلى ذلك فلم يضع القانون أي شروط أو قيـود تـحـول دون تعيين الأقارب والأصهار كمحكمين في دعاوى تحكيمية طالما قبل ذلك الأطراف الآخرون في الدعوى التحكيمية، بينما يضع القانون قيوداً صارمة تتعلق بعـدم صلاحية القضاة إذا عرضت عليهم أي منازعات تتعلق بأقارب لهم من درجات معينة».

 

وتختلف مسؤولية المحكم عن مسؤولية القاضي

   10 – الأصل أن المحكم، كالقاضي، يلتزم بأن يقوم بعمله بحيدة. ومن قبيل الأمانة والشرف يتوجب عليه كما سنوضح لاحقاً أن يوقف الأطراف قبل قبوله التحكيم على كل أمر يعتقد أنه قد يثير الظنون حول حيدته واستقلاله، فعدم استقلال المحكم عن الطرف الذي عينه، مثلاً، عندما يكون هذا الاستقلال متطلباً من الطرفين، قد لا يكون معلوماً للطرف الآخر، وإذا استشعر المحكم الحرج في نظر النزاع، فمن الأمانة أن يتنحى مسبقاً عن نظره أو عن عدم المضي في نظـره. وإذا لم يسلك المحكم هذا الطريق الشريف كان عرضة للرد وللمسؤولية، إلا أن مسؤوليته تختلف عن مسؤولية القاضي، فهناك واجبات على المحكم يفرضها أطراف النزاع وأخـرى يفرضها القانون، وثالثة معنوية وأخلاقية تفرضها الطبيعة القانونية لمهمته التحكيميـة، كاحترام سرية المحاكمة التحكيمية والسير بالتحكيم بالعدل والمساواة .

    وقد رسم المشرع المصري منهجاً محدداً لمساءلة القضاة عن طريـق دعـوى المخاصمة (المادة 494 مرافعات) لأنهم لا يسألون بحسب الأصل عما يقع منهم من أخطـاء فـي مباشـرة وظائفهم، وأحاط دعوى المخاصمة هذه بإجراءات دقيقة قاسية. بيد أنه لم يفعل ذلك بالنسبة الـي المحكمين، لأنهم أشخاص عاديون يقومون بالفصل في بعض المنازعات بطريقة عارضة بناء على طلب الخصوم. ولذلك ترك المشرع أمر مساءلتهم للقواعد العامة في المسؤولية، فكل مـن ارتكب خطأ سبب ضرراً للغير يلزم بتعويضه. ولا شك أن إبطال حكم التحكيم ومساءلة المحكـم عن تصرفاته الخاطئة في مراعاة الحيدة المطلوبة أو في إعمال العدالة الإجرائية، مثلاً يحد من فوضي التحكيم، وقد أقرت المحاكم مسؤولية المحكم عن التصرفات التي يرتكبها خاصـة تـك المرتبطة بسوء نية وبقصد الإضرار بالأطراف. 

 

واجب المحكم في الكشف أو الإفصاح عن أية اعتبارات قد تثير الشكوك في نزاهته

    11- تعمل مراكز التحكيم الدائمة (النظامية) على أن تتضمن لوائحها إطاراً للعدالة يفرض حياء و استقلال المحكمين، وتتبنى هذه اللوائح، في ذلك الأمر، مواثيق سلوكية تحتوي على معايير خلقية وقواعد إرشادية للمحكمين عن السلوك المقبول منهم في مباشرة مهمتهم التحكيمية. ولمركز القاهرة الإقليمي التجاري الدولي ميثاق السلوكيات المحكم وهو يتضمن معظم القواعد المتعـارف عليها دوليا في هذا الشأن. والجامع بين هذه القواعد جميعاً أنها تؤدي – عند الالتزام بها – إلـى تحقيق أكبر قدر مستطاع من النزاهة والحياد والاستقلال للمحكمين. وهو أمر يوفر للخصوم الثقة في كفاءة المحكمين والاطمئنان إلى أن الحكم الذي يصدرونه لن يصدر عن هوى يجمح بهم كلهم أو بعضهم.

    وتنص المادة الثانية من قواعد مركز القاهرة لسلوكيات المحكم على أنه: «لا يجوز للمحكـم قبول التعيين أو الاختيار كمحكم إلا بعد التأكد من القدرة والصلاحية الأداء هذه المهمة دون تحيز، ومن إمكان تخصيص الوقت والاهتمام اللازمين لذلك». وتلزم المادة الثالثة من القواعد نفسها «على من يرشح ليكون محكماً أن يصرح لمن يتصل به في أمر هذا الترشيح بكل الظروف التي من شأنها احتمال إثارة شكوك لها ما يبررها حول حياده أو استقلاله. وعلى المحكم بمجرد تعيينه أو اختبـاره التصريح بهذه الظروف الأطراف النزاع إلا إذا كان قد سبق إحاطتهم علماً بذلك. وعليه بالأخص التصريح بما يلي: (أ) علاقات الأعمال والعلاقات الاجتماعية المباشرة السابقة والحالية مع أي مـن أطراف التحكيم أو الشهود أو المحكمين الآخرين. (ب) علاقات القرابة والمصاهرة مع أي مـن أطراف التحكيم أو الشهود أو المحكمين الآخرين. (ج) الارتباطات السابقة على موضوع التحكيم.

ويسري هذا الالتزام بالتصريح بالنسبة إلى تلك الظروف التي تجد بعد بدء إجراءات التحكيم».

   12-ومن ناحية أخرى، وكغيره من النظم القانونية واللوائح المؤسسية، يتطلـب المـشرع المصري (المادة 3/16) من المحكم عند قبوله التحكيم ضرورة الكشف عن أية اعتبارات تتصل بالعلاقة بينه وكل من أطراف النزاع لي أي علاقة له بموضوع النزاع قد تثير الشكوك حـول نزاهته واستقلاله. ويلاحظ أن الهدف من هذا الكشف أو الإفصاح هو إتاحة الفرصة للأطـراف للوقوف على أسباب قد تثير مظهر التحيز دون أن ترتب بالضرورة تحيزاً حقيقياً مـن جالبـه. ومخالفة هذه القواعد السلوكية قد تجعل حكم التحكيم عرضة للبطلان، كما قد تجعل المحكم نفسه عرضة لمطالبته بالتعويض.

 

ومع ذلك فإن الأمر مرهون بإرادة الأطراف

   13-بيد أنه إذا حصل التصريح من المحكم على النحو السابق، سواء المنصوص عليه في القانون المصري أو التشريعات المقارنة أو حتى تلك الواردة في لوائح مراكز التحكيم الدائمة، فقد لا يمنعه ذلك من أن يكون محكماً في النزاع ذاته موضوع الإفصاح، وذلك إذا مـا ارتضى الأطراف مباشرته مهمته بعد علمهم بما صرح به، فالخصوم قد يثقوا في عدالة المحكم وحيـاده رغم الإفضاء لهم عن أمور أو اعتبارات قد تثير الشكوك في هذه الحيدة، ألا أنه فـي التحكيم المؤسسي فإن هذا الرضا غالباً ما يكون صعب المنال، ففي نطاق غرفة التجارة الدولية، مثلاً، تختص هيئة التحكيم بالغرفة، التي تدير التحكيمات التي تجري في ظلها، بالتصديق على اختيار المحكم بمعرفة الخصوم، ولها الحق في الاعتراض على المحكم وطلب ترشيح محكم آخر، فضلاً عن أنها هي التي تختار المحكم الثالث.

    وقد جرت العادة في التحكيم الحر (غير المؤسسي) أن يختار الخصم المحكم الذي يرى أن هناك ارتياحاً إليه أو الذي يكون على دراية بموقفه أو مصالحه. وأياً يكن الأمر فإنـه إذا قـام المحكم، عند ترشيحه أو عند قبوله التحكيم، بالإفصاح عن الاعتبارات التي تربطه بأحد الأطراف أو الكشف عن الظروف التي من شأنها أن تثير ظنوناً مبررة حول عدم حيدته أو استقلاله. ولـم يعترض الطرف الآخر، لم يعد من الجائز مستقبلاً إعادة إثارة الأمر بالنسبة إلى صلاحية المحكم. وعند إثارة الإدعاء بالتحيز أو عدم النزاهة بعد ذلك (بعد عدم الاعتراض) فإنـه يتعين علـى القضاء، حرصاً على استقرار العملية التحكيمية، التثبت من أن لهذا الإدعاء صدى حقيقي ويستند إلى مبررات صحيحة ولم يكن معلوماً من قبل الخصم عند تعيين المحكم، وليس مجرد محاولـة من الخصم لإحباط إجراءات التحكيم وعرقلتها.

     14 - أمر استقلال المحكم وحيدته يخضع في الكثير من الأحوال لإرادة أطراف النزاع، فقد يتغاضون، حتى في التحكيم النظامي، عن بعض المظاهر الخارجية لعـدم الاستقلال أو لعـدم النزاهة. هذا التغاضي ينفرد به نظام التحكيم، لا يسمح به قانون المرافعـات بحسبانه قانون القضاة، وهو غير مستساغ، ولا يمكن هضمه أو القبول به، في العمل القضائي. وسوف نتناول المسألة بصورة اشمل في الفقرات التالية.

 

استقلال المحكم والإفصاح (واجب الشفافية)

    15- معني استقلال المحكم، بوجه عام، هو الا تكون له مصلحة في النزاع، بحيـث لا تربطه علاقة بأحد الأطراف تؤثر بشكل أو آخر على قراره، فيتنافى مع استقلال المحكـم أن تربطه علاقة تبعية بطرف من أطراف التحكيم، أو أن تكون له مصالح مادية معهم، أو حتـى ارتباطات مالية بأحد أطراف التحكيم، أو أن يكون خاضعاً لتأثير أو توجيه أي منهم، أو واقعـاً تحت ضغط أو وعد أو وعيد من قبلهم.

    استقلال المحكم مطلوب – كأصل عام أو كأساس منطقي - سواء اختير من قبل الأطـراف مباشرة أم من قبل مراكز التحكيم، أو كان قد عين بواسطة المحكمة، ورغم أن المحكـم يتلقـى أتعاباً من أطراف التحكيم، فالأصل أنه لا يمثلهم ولا يعد وكيلاً عنهم. ولوائح المراكز التحكيميـة الدائمة تتطلب عادة الحيدة في المحكمين جميعاً في التحكيم الذي يجري في نطاقهـا وحسب قواعدها، كما أنها تتطلب في كثير من الأحيان استقلال المحكم عن الطرف الذي اختاره. 

   ومع ذلك فإنه، وبحسبان أن حرية الطرفين في اختيار تشكيل هيئة التحكيم من الحقـوق الأساسية لهما، فالشائع وخاصة في التحكيم الحر، أن يسعى كل طرف مـن أطراف التحكيم لاختيار المحكم الذي يعرفه شخصياً، أو الذي يعلم بخبرته، أو كفاءته، أو بتوافر صفات معينة في شخصه تكون هي التي تبعث في نفس الخصم الطمأنينة والثقة فيه، ولذلك يقع اختياره عليه. هذا الاختيار ومن بعده التعيين، أيا يكن، قد لا يجعل محكم الخصم ومن الناحية الواقعية، بصورة أو أخرى، مستقلاً تماماً عن الخصم الذي اختاره. 

  16-عدم الاستقلال هذا ليس أمراً محظوراً دائماً في التحكيم، لأن مبدأ الاستقلال، بمعنـاه القضائي والمطلوب دائماً في القاضي، ليس لصيقاً أو أمراً حتمياً في الخصومة التحكيميـة، أو على الأقل فإن مفهوم المبدأ ذاته يختلف في التحكيم عنه في القضاء. وينبغي في كل الأحوال أن يكون عدم استقلال المحكم، أو وجود مثل لهذه الشبهة، خاضعاً لما يعرف بمبدأ الشفافية أو العلانية بحيث يكون معلوماً منذ البداية، لكل الأطراف ولباقي المحكمين عند تعددهم، أن هنـاك صلة أو اعتباراً ما بين المحكم والخصم أو الخصوم، وألا يكون محل اعتراض من أحدهم. 

    ولأن قبول المحكم المهمة التحكيمية بعد إجراء أساسياً لتشكيل هيئة التحكيم، فمن المفروض أن يفصح المحكم عند قبوله مهمة حسم النزاع عن كل علاقات قد تؤثر على حياده أو استقلاله. فواجب الإفصاح أو الإفضاء بعد في النظم التحكيمية المختلفة التزاماً جوهرياً يقع علـى عـائق المحكم المختار أو المعين في كل تحكيم بمجرد ترشيحه للمهمة التحكيمية المعنية .

    هذه الشفافية - العلانية أو الشهر - تسمح للأطراف بقبول أو عدم قبول الاختبار أو التعيين الحاصل للمحكم، بمعنى أنه يجب النظر إلى استقلال وحياد المحكم من منظور التحكيم يوصـف المحكم شخصاً عادياً مختاراً من طرفي التحكيم أو من أحدهما وليس بحسبانه قاضياً، فالأسباب التي يمكن من أجلها رد المحكم تعد غير مؤثرة في صحة اختيار المحكم ما دامت معلومة عنـد اختياره.

    ويلاحظ أن الالتزام بالإفصاح لا يقوم إذا كانت الواقعة التي قد تثيـر شـكـاً فـي حيـدة أو استقلال المحكم هي واقعة تدخل في العلم العام، إذ لا ضرورة للكشف عن واقعة معلومـة بالضرورة للفرقاء، وقضت محكمة استئناف باريس أنه إذا قدم طرف تساؤلات أو إيضاحات عن محكم من المحكمين في رسالة أرسلها إلى هيئة التحكيم ثم لم يحرك ساكناً بعد ذلك وطوال سنة بكاملها، ولما صدر الحكم التحكيمي النهائي قدم طلباً بعزل المحكم الـذي سبق وطـرح عنـه تساؤلات، فمثل هذا الطلب يكون مردوداً.

  17-ومن المتصور أن يحدد اتفاق التحكيم وخاصة بعد الشروع في إجراءات التحكيم الأمور الموجبة لعدم الحياد المطلوب في الحالة المعروضة. وعلى كل حال يجب على المحكـم المختار (أو المعين) الإفصاح أو الإفضاء بكافة المصالح المالية أو غيرها التي تربطه بالأطراف في أقرب وقت لاحق على ترشيحه محكماً قبل أن ينفق جهداً أو مـالاً فـي إجـراءات مهـدة بالزوال. 

   وإذا ما ثبت أن الطرف، رغم علمه بمعرفته بصلة لطرف الآخر بالمحكم، قبل بدء التحكيم واشترك في إجراءاته دون اعتراض على ذلك، فأنه يكون قد أسقط حقه في الاعتراض ورضـي بالمحكم، فلا يستطيع أن يثير ذلك الأمر مرة أخرى . فالأصل أن العلاقات السابقة مع المحكم لا تعد في ذاتها عيباً، ولكن العيب هو في محاولة إخفائها عن الطرف الآخر أو باقي المحكمين فـي حال تعددهم. فمثل هذا الإخفاء يثير الشبهات حتى حول العلاقات البريئـة ويعطـي فرصة للاعتراض على تعيين المحكم ويثير الشك في ذمته ومن ثم عدالته كمـا يتيح إبطـال الـحـكـم تحكيمي.

    18- فإذا لم يقم المحكم بواجب الإفصاح عند لزومه، ثم تبين توافر سبب لعدم حيدته أو عدم استقلاله، فإن عدم الإفصاح عن هذا السبب يعطي للطرف الحق في رفع دعوى البطلان بسبب صدور حكم التحكيم من محكم لم يتوافر فيه شرط الحيدة أو الاستقلال وعدم قيامه بواجـب الإفصاح، إذ يعتبر تعيين المحكم في هذه الحالة على وجه مخالف للقانون ويعتبر الحكم الصادر في الدعوى التحكيمية باطلاً لعيب الغلط الذي شاب رضا الطرف بالمحكم، والأصل في المحكـم أنه محايد ومستقل ما دام قبل بمهمته التحكيمية وعلى من يدعي خلاف هـذا الظـاهر أن يثبـت عكسه. 

 

خصوصية الحيدة والاستقلال عند تعدد المحكمين

    19 – لا خلاف علي أن حياد المحكم وعدم مبله أو تحيزه لأحد الخصوم يكون أكثر إلحاحاً منه في القاضي، ذلك أن تعيين القضاة يتم في ظل نظام منضبط يضمن لأطـراف الخصومة القضائية حياده قبلهم، كما إن مفهوم الحياد استقر في وجدان القاضي منذ زمن طويلة، والأصل هو أن يكون المحكم موضوعياً وغير منحاز لأي من أطراف خصومة التحكيم، بحيث أن يكـون رأيه نابعاً من ضميره وذهنه هو، غير خاضع في ذلك لإرادة غيره. 

    موضوع الحيدة وإن كان واضحاً ومطلوباً في حالة المحكم الفرد أو حالة المحكم الثالث الذي يتولى رئاسة هيئة التحكيم؛ فإنه محل قلق عند تعدد المحكمين، أي عندما يستقل كل طرف بتعيين محكم من قبله، مما يستلزم مرونة كبيرة فيما يتعلق بضوابط الحيدة المتطلبة، وذلك بسبب النشأة الاتفاقية التحكيم، فالطبيعة المميزة للتحكيم عن القضاء تنعكس إلى حد كبير على العلاقـة التـي تربط المحكم بالأطراف، فمن المثالية أن تعتقد في كل الأحوال إمكان وجود حياد ونزاهة كاملين للمحكم بالنسبة الى الطرف الذي اختاره، فعلى الأقل وفي أغلب الأحيان سوف يقوم هذا المحكـم بفحص حجج وأدلة الطرف الذي عينه بعناية أكثر أثناء المداولة، بحيث يصبح الحياد هنا حيـاداً شكلياً أكثر منه واقعي، فرغم التشابه بين مهمة القاضي ومهمة المحكم، فالمحكم ليس قاضياً على الإطلاق. وإليك شيء من الإيضاح.

   20 - عند تعدد المحكمين، وبفرض أن هيئة التحكيم تتكون من ثلاثة محكمين، فالمألوف هـو انفراد كل طرف بتسميه أو بتعيين محكمه، ثم يتولى المحكمان المعينان بتعيين المحكم الثالث كرئيس لهيئة التحكيم أو كرئيس للمحكمة التحكيمية. ينطوي هذا الأسلوب في الواقع الملموس علـى عيـب جوهري، هو أن المحكم الذي يسميه الخصم يشعر بتبعيته له وانتمائه إليه، وقد يصير بمثابـة محـام عنه، يعرض وجهة نظره ويدافع عنها، وبذلك يصبح المحكم الثالث بمثابة القاضي الوحيد في النزاع . ويضحى على هذا الأخير أن يحقق التوازن المطلوب بين الأطراف في إدارة الخصومة التحكيميـة وعند إصدار الحكم التحكيمي المنهي للخصومة. 

   في الفقه تباينت الآراء، فيذهب رأي إلى أن مهمة المحكم المحامي هي الدفاع عن مصلحة الخصم الذي عينه، بحيث يختار كل خصم محكمه ويتحول هذا المحكم إلى محام يتولى بمجرد تعيينه عرض النزاع والدفاع عن الطرف الذي اختاره أمام المحكم المرجح، ولذلك فلا غضاضة من وجود علاقة بين الخصم والمحكم الذي عينه، بحسبان أن مهمة المحكم المحامي ، الدفاع عن وجهة نظر الطرف الذي عينه.

   وهناك من يرى أنه لا مانع من تبني المحكم وجهة نظر الخصم الذي عينه، علـى الأقـل فـي مرحلة بداية المداولات، للتأكد من استيعاب وجهة نظر هذا الخصم على نحو عادل، وأنـه يتبناهـا للإقتناع بها، وليس لتحيزه له. وقد يكون تعدد وجهات النظر أمراً مطلوباً بحيث يكون لرئيس الهيئـة تفهم هذه الوجهات المتعددة على نحو يؤدي إلى إدارة الخصومة التحكيمية بطريقة مرضية للأطراف. 

    وتذهب أغلبية الفقه في مصر إلى رفض هذا المنطق، وترى أن سيطرة فكـرة المحكـم المحامي، يؤدي إلى الإخلال بتوقعات الأطراف عن حياد المحكم، ويشكل، أيضاً، إخلالاً بالتوازن الأساسي في إجراءات التحكيم، مما يعرض الحكم التحكيمي لعدم الاعتراف به أو لعـدم تنفيذه، فضلاًعن إمكانية إبطاله.

    21 – في السياق نفسه يقرر الأستاذ الدكتور محسن شفيق، أنه من العسير أن يطلب مـن المحكم الذي عينه الخصم أن يكون محايداً، بالمعنى النظري لهذا المفهوم، لأنه يشعر وهو يجلس في هيئة التحكيم أنه مأجور للدفاع عن مصلحة الخصم الذي اختاره والذي سيدفع له أتعابه. كمـا يذكر أن قانون التحكيم بولاية نيويورك، على سبيل المثال، واجه هذه الصعوبة فلم يجز بطـلان القرار (حكم التحكيم) إلا لميل عن الحيدة من المحكم الثالث. أما المحكمان الآخران فلا حرج أن أظهر كل منهما بعض الميل نحو ترجيح مصلحة الخصم الذي اختاره، ويشير أيضاً إلى رأي في الفقه يقول بأن هذا الأمر لا يعني السماح لأي منهما (المحكمـان الآخـران) بالعبـث وعرقلـة إجراءات التحكيم، بالتخلف عن حضور الجلسات أو الامتناع عن توقيع القرار الذي يصدر فـي غير مصلحة الخصم الذي يمثله، فهناك قدر من الأمانة وحسن السلوك مطلوب منهما (حد أدنـي مقبول). ويضيف، سيادته، أنه وفي حالة عدم وجود نص، وجب البحث في ظروف الحال، فـإذا اتجه قصد الخصم الذي اختار المحكم أن يكون راعياً لمصلحته أمام هيئة التحكيم - وغالباً ما يكون القصد كذلك في تحكيم الحالات الخاصة Ad- hoc – فالحيـدة غير مشروطة. أما إذا كان المقصود من الاختيار أن يكون المحكم قاضياً فحسب، وهو الوضع الغائب عندما تتولى منظمـة دائمة إجراء التحكيم ويقع اختيار المحكمين من قوائمها، هنا تكون الحيدة مطلوبة كما هو مطلوب الاستقلال. وحتى في التحكيم الدولي قد يكون المحكم مستقلاً . عن الطرف الذي عينه،ومع ذلك لا يكون محايداً تمام الحياد بالمعنى المفهوم في القضاء، فالخصم إنما يختار في الغالب محكماً متمتعاً بجنسيته أو من بيئة ثقافية وقانونية تشابه البيئة الموجودة في بلده بما يجعل المحكـم متعاطفـاً بالضرورة مع من عينه. 

   وهنا – وبالنظر إلى أن اختيار المحكم يفترض مفاوضات ومناقشات مسبقة بين الطـرف المعني والمحكم المحتمل- يمكن أن نطرح السؤال الأتي: هل من الممكن حقاً أن يكون المحكـم المعين من قبل أحد الأطراف نزيهاً تماماً وليس له مصلحة من الطرف الذي عينه؟

 

المسألة تختلف بحسب الأحوال

22 - مسألة الحيدة، كما رأينا، فيها شيء من القلق وهي في نظرنا تختلف باختلاف وجود ونضج الوعي التحكيمي من بلد إلى آخر، وأيضاً من طرف إلى آخر. وعلـى الأطراف إدراك مهمة المحكم حتى وإن كان مختاراً من قبلهم، وعليهم الحرص علـى أن يمكنـوه مـن حيدتـه واستقلاله ولا يحاولون التأثير عليه. والملاحظ أنه كلما توافرت درجة عاليـة مـن التأهيـل والتخصص في جانب المحكمين كلما ساعد ذلك على حيادهم وعدم الوقوع تحت مؤثرات تدفعهم للتحيز ، وكما يقال فأنه من المستحسن عدم الإفتاء في "النظرية دون الأخذ في الحسبان الممارسة الحاصلة في التطبيق". 

   واقع الحال أنه إذا كانت هيئة التحكيم تتكون من ثلاثة محكمين، فإن دور المحكـم الثالث يكون، حسب ظروف الحال، على أكثر من مستوى: 

    (أ) فقد يبين أن المقصود هو جعل المحكمين جميعاً كالقضاة، وبالتالي يجب أن تتوافر فيهم الحيدة والاستقلال التام عن طرفي التحكيم، مع الأخذ في الحسبان أن هيئة التحكيم أو المحكمـة التحكيمية قد تميل إلى التوفيق بين مصالح الأطراف المتنازعة دون إعمال القانون علـى نـحـو صارم. ومن المنطقي أن يكون لرئيس الهيئة صلاحيات أكثر في شأن إدارة الجلسة التحكيمية. 

   (ب) وقد يكون المقصود هو أن يقوم المحكم الثالث بدور المحكم الحاسم أو الفاصل، بحيث يصبح هو وحده صاحب القول الفصل في النزاع، بأن يصير دورة الأساسي في المداولـة هـو الفصل بين محكمي الطرفين، بمعنى أن يشترك معهما في تبادل الرأي والمداولة حول الوقائع وما أبدى فيها من طلبات أو دفوع أو أوجه دفاع وما قدم في النزاع تدليلاً على ذلك من أدلة وحـول قواعد القانون أو قواعد العدالة، وعند الاختلاف يتوصل هو إلى تكوين ما يراه سليماً ويحسم النزاع ويصدر الحكم على ضوء ذلك، وكأن هيئة التحكيم غير مشكلة إلا منه، هنا يبدو المحكمان الآخران وكأنهما يعملان كمحاميين للطرفين، كل لمن اختاره، ويحق لكل منهما إثبـات رأيـه المخالف في الحكم ذاته إذا ما أراد ذلك. وقد يطلق على المحكم لثلاث هنـا مـصطلح المحكـم المرجح، ونظام تحكيم غرفة التجارة الدولية (ICC) بأخذ بفكرة المحكم الحاسم في حالة معينـة وهي حالة تعارض آراء المحكمين الثلاثة (ثلاثة آراء مختلفة)، فيتقلب المحكم الثالث إلى محكـم حاسم بحيث يستبعد أراء المحكمين الآخرين وينتصر لأرائه الخاصـة التعـذر توافر الأغلبيـة المطلوبة.

   (ج) وقد يقوم المحكم الثالث بدور المحكم المرجح، والمقصود هنا أن يكون دور المحكـم الثالث مجرد الترجيح عند انقسام الرأي بين المحكمين الآخرين وعجزهما عن الاتفاق على الحكم المطلوب، بحيث يغلب رأياً على الآخر دون أن يكون من حقه إبداء رأي جديد

    23- الى أية حال، فأنه عند عدم وجود نص أو اتفاق مكتوب في شأن الحيدة المطلوبة فـي المحكم أو في استقلاله، يجب البحث في ظروف وملابسات الحال بحيث يكون التعيين سليماً، ذلك أن المستوى المطلوب في استقلال المحكمين يمكن استظهاره من اتفـاق الأطـراف صـراحة أو ضمناً، أما الأصل، فيبقى دائماً وبقدر المستطاع، للحيدة التامة بين الخصوم والبعد الكامـل عـن تأثيرهم على المحكمين، مع صدور الحكم باغلبية الآراء. وعلى سبيل المثال، إذا عين كل طرف محامية الخاص أو أحد العاملين لديه محكماً وعلم الطرفان علماً كاملاً بذلك وارتضياه. يكـون التعيين سليماً، وتكون إرادة الطرفين قد اتجهت ضمناً إلى أن محكم كل طرف سيصبح إلى حـد كبير بمثابة محام أو مستشار قانوني أو فني عن الطرف الذي عينه، وبحيث يصير المحكم الثلاث هو المحكم المرجح أو الحاسم والذي سوف يوكل إليه أمر إصدار الحكم وصياغته. هذا الفـرض يحصل غالباً في التحكيمات التي تتم خارج نطاق مراكز التحكيم المعتبرة. نـوع المحاكمـة التحكيمية وفقاً لإرادة الأطراف - هو الذي يحدد الدور الذي سيقوم به المحكم في المهمة التـي يتولاها، ويحدد في الوقت نفسه مدى الحيدة والاستقلال المطلوبين في التحكيم المعني.

 

حيدة المحكم في مجال الإثبات

   24 - الأصل أن المحكم – كالقاضي يفصل في النزاع من واقـع الأوراق والمرافعـات، دون أن يكون لمعلوماته الشخصية دور في القرار الذي يصدره، فالمبدأ الأساسي الذي يحكـم النظرية العامة في الإثبات هو مبدأ حياد القاضي فلا يجوز له أن يقضي معتمداً على معلوماتـه الشخصية كعنصر من عناصر الإثبات أو النفي في الدعوى إلا ما كان منها من قبيل المعـارف العامة. 

   ومع ذلك ينبغي أن لا تكون لهذه القاعدة في مجال التحكيم نفس القدر من الأهمية المطلوبـة في مجال القضاء، ذلك لأن المحكم ليس قاضياً محترفاً بل ليس قاضياً أصلاً، وإنما فـي غـالـب الفروض من التجار أو من رجال الأعمال الذين يختلطون بحكم عملهـم بمختلـف الأوساط التجارية، وقد يعرفون الخصوم ويعلمون الكثير عن أسباب الخلاف الذي شجر بينهم، ولعـل علمهم بذلك هو ما دفع الخصوم إلى اختيارهم للتحكيم، ثم أنه قد يراعي في اختيار المحكـم مـا لديه من خبرة في الأمر الذي يدور حوله النزاع وينتظر منه الخصوم استعمال هذه الخبرة فـي الفصل فيه، فلا غرابة والحال كذلك أن استند لتبرير قراره إلى الحقائق التي تكشف عنها خبرته الشخصية، ومع ذلك يجب أن يقتصر المحكم على خبرته هو ومعلوماته الشخصية، فلا يسعى للحصول على معلومات بأساليب لا يعلمها الخصوم، كالاستفسار في السوق عن أسباب الخـلاف  بينهم، أو عن رأي زملائهم في سلوكهم التجاري .56

   25- في مجال التحكيم - وبالنظر إلى طبيعته الاتفاقية والأساس الذي يتم بمقتضاء اختيـار المحكمين - تضحي لقاعدة عدم قضاء القاضي بعلمه الشخصي مفهوماً مغايراً، فالمحكم وإن كان يشترك مع القاضي في الاستناد إلى ما يحصله من خبرته بالشؤون العامة المفروض إلمام الكافة بها للفصل في النزاع، إلا أنه له علاوة على ذلك الاستناد إلى معلوماته الفنية وخبراته الخاصـة المتعلقة بالنزاع المعروض عليه، لأن هذه الخبرات الخاصة قد تكون هي السبب فـي اختيـاره للقيام بمهمته التحكيمية، فخبرات المحكم التي اكتسبها من تكرار اختياره محكماً في أنواع معينـة من المنازعات، كالتحكيم البحري، تعد غالباً من الأمور الحاسمة لهذا الاختيار. ويتعين علـى المحكم طرح معلوماته المستقاة من خبرته والتي قد يبني عليها رأيه المبدئي في النزاع علـى الأطراف حتى يتمكنوا من مناقشتها احتراما لحقهم في الدفاع.

   26 – ولا يصح أن ينسب عدم حيدة محكم ما إلى مجرد موقف اتخذه المحكم فـي تحـكـيم سابق إذا كان يجري التحكيم بين أطراف مختلفين. كما لا ينسب عدم حيـاد المحكـم إلـى رأي قانوني أبداه المحكم سابقاً في بحث قانوني وتقاضي المحكم إتعابه من الطرف الذي اختـاره لا يتنافى مع استقلاله أو حيدته". كل ذلك يكون مقبولاً إذا ما كان الحياد أو الاستقلال أمراً لازمـا ومطلوباً- يقول الأستاذ محيي الدين علم الدين: أن مخاوف عدم حيدة المحكم تقل عنـدما تكـون هيئة التحكيم مكونة من ثلاثة أعضاء، لأن كل طرف يعين محكماً ويشترك في تعيين الثالث، وفي اختياره للمحكم الذي يعينه يحاول أن يختار شخصاً يمكن أن يتعاطف مع قضيته. ويرى أن هـذا التعاطف لا يجعل المحكم لزوماً منحازاً، ويفرق بين الانحياز وبين مجـرد الاستعداد لبحـث وجهات نظر الطرف الذي عينه وتقديرها، فالأول، أي الانحياز يمثل انضماماً إلى طرف معين والقيام بالدفاع عنه مثل محامية، هنا يفقد المحكم صفته. بينما الاستعداد للتجاوب مع وجهات نظر الطرف الذي عينه فهو موقف لا يتنافى مع حياد المحكم. وفي وقت البحث في اختيار المحكمـين يكون من حق كل طرف أن يقابل المرشحين الذين سيختار من بينهم وأن يناقش كلا مـنـهم فـي آرائه وتخصصه، وقد يقوم الاختيار على أساس أبحاث المرشح للتحكيم ومؤلفاته. هذه اللقـاءات مع المحكم المنتظر لا تقدح في استقلاله وعدم انحيازه طالما اتسمت بالموضوعية .

 

عدد من التطبيقات

   27- طبقاً لقواعد جمعية المحكمين البحرية "لندن" يقوم كل طرف بتعيين محكم عنه ويزوده ملفاً كاملاً للقضية ومستنداتها، ثم يجتمع المحكمان وينظران موضوع النزاع ويحاولان التوصـل إلى حل يرضيهما وعندئذ يصدر الحكم بالإجماع (إجماعهما)، فإن اختلفا قاما باختيار محكـم مرجح أي عضو ثالث ينضم إليهما، في هذه الحالة ينقلب كل منهما إلى مدافع عن الطرف الـذي يمثله ولا يعتبر محكماً، ويقوم المرجح بإصدار حكمه كمحكم وحيد. وفكرة المحكم المرجح على نحو ما سبق هي في الأساس فكرة قانونية إنجليزية وتعد من خصوصيات النظام التحكيمـي الإنجليزي.   

   - في قضية تحكيم طابا المصرية وهو تحكيم سياسي - توصل وقد الجانب المصري مـع إسرائيل إلى مشارطة تحكيم تتضمن تشكيل هيئة التحكيم من خمسة محكمين كهيئة واحدة للفصل في النزاع حول علامات الحدود بين البلدين، واختارت مصر محكمها وكان الفقيه حامد سلطان، واختارت إسرائيل محكمة عنها وهي أستاذة قانون بالجامعة العبرية، على أن يتم اختيـار ثلاثة محكمين محايدين. وإذ حاول الطرف الآخر المراوغة، فقد حدد الدكتور نبيل العربي رئيس وفد المفاوضات المصري ورئيس لجنة مشارطة التحكيم ووكيل الحكومة المصرية ومحاميها أمام هيئة التحكيم - لمفاوض الإسرائيلي معايير اختيار كل من المحكمين الثلاثة: بأن يكون شخصية قانونية لها وزن وفكر ومؤلفات في فقه القانون الدولي، شخص يحترم نفسه واسـمـه منـزن الشخصية، مكتمل النزاهة والحياد لا يقبل أن يقترن اسمه يوماً بحكم معيب، وبعد جهد شاق وافق الجانب الإسرائيلي على تسمية اثنين من المحكمين المحايدين، أولهما رئيس سابق لمحكمة النقض بباريس وثانيهما أستاذ للقانون الدولي بجامعة زيورخ، على أن ينفق المحكمان فيما بعـد علـي اختيار المحكم الثالث، وقد اختارا بالفعل قاضياً سويدياً. 

   - قضت المحكمة الفيدرالية السويسرية أن الرأي الذي يبديه محكم محتمـل حـول مـسالة قانونية، أو تعبيره عن رأي منشور، لا يشكل بحد ذاته عدم حيادية ظاهرة، بمعنى أن هذا الأخير لا يحكم مسبقاً على نزاع حاصل. أما التعبير عن الرأي الفاصل في النزاع فهو الذي يبرر طلب رده سواه حصل ذلك التعبير في وقت لم يكن فيه المحكم عالماً أو بإمكانه أن يعلم أنه سوف تـتم تسميته محكماً في الإجراء التحكيمي .

 

الحيدة مطلوبة دائماً في المحكم الثالث

   28- من المتصور أن يكون الطرفان في التحكيم على استعداد للتخلي في بعض الأحيان عن بعض مظاهر المحكمين المختارين (محكم كل طرف) والتجاوز عن ميل كل منهما للعطف على الخصم الذي اختاره. بل قد يتفق الأطراف على التنازل عن بعض مظاهر حياد المحكم الوحيد أو المحكم المرجح، بحيث لا يمتد هذا التنازل بطبيعة الحال عن الحياد في مسألة العطـف والميـل هذه. إذ يصح التنازل عن بعض المظاهر الشكلية للحياد وهي تكون في أمور أخـرى، غيـر الانحياز، يكون قاصراً عليها، فقد لا يمانع الأطراف مثلاً في أن يكون المحكم المرجح من جنسية أو من ثقافة أحد الطرفين . 

   في كل الأحوال لا يصح، فيما نعتقد، أن يتخلى المحكم المنفرد وكذلك المحكم الثالث عنـد تعدد المحكمين سواء أكان هو المحكم الفاصل أم المحكم المرجح أو عندما يصدر الحكم بإجمـاع آراء المحكمين أو بأغلبيتها أيا كان الأمر عن حيدته التي تعني عدم تحيزه أو علم تعاطفـه المسبق لأحد الأطراف، ومن المقبول أن يكون المحكم محايداً بهذا المعني، رغم أنه غير مستقل عن الطرفين. إذ قد يحكم وهو مرتبط بأحدهما أو بكليهما، ومع ذلك فإن استقلال المحكـم عـن الأطراف يعد قرينة قوية على الحياد وعدم التحيز. وعلى كل حال يجوز للمحكم أن يتنحى أثناء سير الدعوى التحكيمية ويتخلى مبكراً وطواعية عن استكمال نظر النزاع، إذا وجـد نفـسـه فـ موقف يمكن أن يعتبر معه أنه غير محايد أو أنه قد ينحاز.

   29- ولا تفوتنا الإشارة إلى أنه يمكن للمحكم المرشح لرئاسة هيئة التحكيم أن تكون لـه لقاءات أو مراسلات مع الأطراف أو محكميهم دون أن يعد ذلك تحيزاً، إلا أنه يجب على المحكم أو الرئيس المرتقب أن لا يدلي برأي معين في النزاع المعروض على هيئة التحكيم، وقـضت محكمة استئناف باريس أن ممارسة المحكم مهماته تتميز بوجود رابطة ثقة مع الأطراف يقتضي المحافظة عليها طوال فترة التحكيم، لذلك فعلي المحكم أن يعلم الأطراف بكل علاقة لا تتصف بالعلنية والتي يمكن أن يعتبرها الأطراف ذات تأثير على النتيجة التي يتوصل إليها في حكمه. ومع ذلك فأن مشاركة رئيس هيئة التحكيم مع محامي أحد الأطراف في حلقة مناقشة دون إبـلاغ ذلك للطرف الآخر بذلك، لا يمكن اعتباره من الأفعال التي تؤدي إلى تحيز رئيس الهيئـة فـي إصدار حكمه، وأن الأخير لم يكن ملزماً إطلاقاً بالإفصاح عن واقعة بهذه البساطة وعدم الأهمية".

 

   كلمة أخيرة في حيدة المحكمين

    30 – مجمل ما نريد إيضاحه في هذا المبحث، أن حيدة المحكم وإن كانـت هـي عـصـب المهمة التحكيمية، وصفة أساسية في من يتولى مهمة الحكم، فأن مفهوم الحيدة نفسه يختلف فـي التحكيم عنه في القضاء. إذ تتخذ الحيدة في التحكيم طابعاً خاصاً بحيث يجب تطويع معنى الحيدة، عن معناها في القضاء، ليكون ملائماً أكثر للطبيعة الخاصة للتحكيم، وهو ما يستتبع النظر إلى ما انصرفت إليه إرادة طرفي التحكيم، الصريحة أو الضمنية، ومدى توافـق إرادتهمـا فـي شـان متطلبات وشروط الحيدة المطلوبة في أشخاص المحكمين المعهود إليهم نظـر النـزاع وخاصـة المحكم الثالث الذي قد يختلف دوره حسب ظروف وملابسات اختياره. 

   فإرادة الأطراف تلعب دوراً حيوياً في بيان مسوغات الحيدة المتطلبة في النـزاع الجـاري بشأنه التحكيم، ومن ثم وجب إعطاء الأولوية لهذه الإرادة. وتبرز هذه الأولويـة، وبحسبان أن التحكيم هو نتاج مبدأ سلطان الإرادة، فيما جاء بالمادة (18) تحكيم التي لا تجيـز للمحـتكم رد المحكم الذي عينه، بغض النظر عن وجود مظاهر لعدم الاستقلال أو الميل إلى التحيز، إلا لسبب تبينه هذا المحتكم بعد موافقته على تعيين ذلك المحكم.

    31 - بيد أنه وفي كل الأحول يبقى التحكيم المؤسس على الالتزام بالحيدة بتقاليدها الدقيقة، والقائم تعيين المحكمين فيه على اعتبارات موضوعية قوامها الكفاءة والنزاهـة، والبعيـد عـن الاعتبارات الشخصية البحتة، هو المطلوب لتصبح المحاكمة التحكيمية عادلة غير متحيزة، بل هو أمر ضروري لنجاح نظام التحكيم ذاته في تحقيق الأهداف المرجوة منه. 

   وإذا كانت حيدة قاضي الدولة، هي مناط الثقة لدى المتقاضين، فإن حيدة المحكم بدورها هي التي يمكن أن تبعث الثقة في نفوس المحتكمين وتكون ضمانة لهم. كما إنها تعطي حكم التحكــم مصداقية تفرض نفسها خاصة عندما يعرض أمره أمام المحاكم. ومع ينبغي لنا الاعتـراف بأن النزاهة والحيدة والموضوعية، هي في نهاية المطاف، ميزات شخصية تنتج مـن الـضمير الشخصي للقاضي أو للمحكم، وهي وإن كانت ثقافة شخصية فإنها أيضا ثقافة مجتمع. 

    ذلك لجوء الفرقاء إلى التحكيم يفرض عليهم توخي الحرص على اختيار المحكم الذي تتوافر فيه مقتضيات الاستقلال والحيدة والنزاهة واليقظة، وبأن يكون من يختارونه أهلاً للثقة من ناحيـة الكفاءة المطلوبة في النزاع المطروح. كما تفرض على المحكم ألا يقبل اختياره أو تعيينه . محكماً إلا بعد أن يكون واعياً بطبيعة مهمته التحكيمية ومؤهلا للقيام بها. مع التأكد من قدرته وصلاحيته وتفرغه لأداء هذه المهمة وحسم النزاع التحكيمي دون هوي.