البادي من الإطلاع على ما صدر مؤخراً من أحكام تتعلق بالتحكيم في منازعات العقود الإدارية، سواء من جهات القضاء أو من هيئات التحكيم، أن ما أدخل على قانون التحكيم الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، من تعديل صدر بالقانون رقم 9 لسنة 1997 بإضافة فقرة ثانية الى نص المادة (1) من قانون التحكيم تجري عبارتها بأنه "بالنسبة الى منازعات العقود الإدارية يكون الإتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص او من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الإعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك"، لم يحسم أموراً ما زالت محل اختلاف في التطبيق. وإذ ليس يخفى أن ترك هذه الأمور دون حسم تترتب عليه آثار تمس مصالح اقتصادية تخل باستقرار علاقات تجارية ومالية، مما يزعزع الأمن القانوني وينعكس من ثم اضطراباً في العلاقات المجتمعية. وعلاج ذلك قد يستدعي تدخلاً تشريعياً يوفق بين مختلف الإعتبارات في مواجهة صريحـة واعية تهدف الى تحقيق استقرار قانوني يلزم توافره كأساس لاستقرار مجتمعي.
تمهيد:
يمكن القول استخلاصاً من استعراض أسباب ما صدر من أحكام حديثة، بأن ما كانت تتبناه الأحكام الصادرة من محاكم القضاء الإداري من أن اشتراط موافقة الوزير على التحكيم في العقود الإدارية هو شرط لازم لصحة الإتفاق يسري بهذه المثابة في مواجهة أطراف العلاقة العقدية جميعاً، أصبح أمراً قانونياً ثابتاً، بعد أن كان مذهب في الفقه والكثير من هيئات التحكيم تذهب غير هذا المذهب بمقولة أن استيفاء هذه الموافقة هو أمر يرجع الى الجهة الإدارية المتعاقدة، فلا يضار المتعاقد معها من عدم استيفاء هذه الموافقة. يضاف الى ذلك، على ما ذهب اليه حكم التحكيم الصادر من هيئة مشكلة في إطار مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بجلسة 2 من يوليو سنة 2006، أنه لا يمكن ترتيب البطلان على عدم استيفاء موافقة الوزير على التحكيم، إذ أن قانون التحكيم، الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، لم يرتب في المادة (1) منه جزاء البطلان على عدم الحصول على موافقة الوزير، وعلى ذلك فلا وجه للحكم ببطلان شرط التحكيم، اذ الأصل في البطلان ألا يكون إلا بنص. (الدعوى التحكيمية رقم 464 لسنة 2006). وعلى عكس ذلك، فقد حكمت محكمة استئناف القاهرة بجلسة 30 من مارس سنة 2010 بأن موافقة الوزير المختص لازمة لصحة شرط التحكيم تأسيساً على أن الخطاب التشريعي بمضمون هذه القاعدة موجه الى طرفي العقد. وأضاف الحكم ان التنفيذ الإختياري لهيئة تابعة للوزير – لشرط التحكيم- لا يقوم مقام قبول الوزير ذلك أن تنفيذ الإتفاق تم من جانب الهيئة وليس الوزير المختص (الحكم الصادر في الإستئناف رقم 111 لسنة 126ق. - الدائرة 50 تجاري- ويرجع اختصاص محكمة استئناف القاهرة الى أن التحكيم كان تحكيماً تجارياً دولياً)، وهذا القضاء يتفق مع ما استقرت عليه أحكام محكمة القضاء الإداري من أن عدم موافقة الوزير على شرط التحكيم يرتب بطلان الشرط.
وليس مفاد ما تقدم أنه قد تم حسم الإشكاليات المتعلقة بالتحكيم في منازعات العقود الإدارية، وذلك من وجهين؛ أولهما الإشتراطات التي تتصل بموافقة الوزير وأوضاعها، وثانيهما ما يتصل بتحديد مفهوم العقد الإداري، وهو ما نتناوله تباعا في مبحثين.
المبحث الأول: إشتراط موافقة الوزير على التحكيم:
1- معروض حالياً على المحكمة الإدارية العليا دعوى بطلان حكم تحكيم تقدمت بها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بتاريخ 2010/1/28. ويقوم الطعن على أساس أنه ولئن كان وزير الإسكان قد سبق، وأن أصدر قراراً بتفويض نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في التوقيع على مشارطة التحكيم بين الهيئة وشركة الدالي للإنشاء والتعمير بشأن حسم النزاع الخاص بمشروع أعمال محجر غرب الجولف بمدينة القاهرة الجديدة، الا أن ذلك ليس من شأنه إقالة مشارطة التحكيم مما اعتراها من بطلان. أساس ذلك، على ما تقوله الهيئة، أن موافقة الوزير على طلب التحكيم لا يتحقق بها مقصود المشرع على النحو الذي يتطلبه الحكم الوارد في الفقرة الثانية من المادة (1) المشار اليها صراحة من حظر التفويض، إنما ينصب على أحكام المشارطة وما عساها تتضمنه من شروط وهو أمر، على ما تقول هيئة المجتمعات العمرانية، لا يملك إبرامه الا الوزير دون جواز التفويض في ذلك.
ولعل مما له مجال ذكر في هذا المقام أن أحكام محكمة القضاء الإداري، على استقرار، بأن المقصود بالأشخاص الإعتبارية العامة المشار اليها بنص المادة (2/1) من قانون تلك التي لا تتبع وزيراً بعينه، ومن ذلك مثلاً الجهاز المركزي للمحاسبات، وبالتالي يكون الإتفاق على التحكيم في شأن ما تبرمه هذه الهيئات العامة من عقود ادارية، منوطا بمن يتولى فيها اختصاصات الوزير.
ومما له مجال ذكر ايضاً ان دعوى بطلان حكم التحكيم المعروضة امام المحكمة الإدارية العليا كانت قد أودعت صحيفتها بتاريخ 2010/1/28 ولم يفصل فيها بعد، كما أن حكم التحكيم المطلوب الحكم ببطلانه كان قد قضى بإلزام الهيئة بأن تدفع للشركة مبلغاً يزيد على اربعين مليون جنيه مصري. ومن المقرر قانوناً، ان حكم التحكيم واجب النفاذ بمقتضى حكم المادة (55) من قانون التحكيم، ما لم تأمر المحكمة المرفوعة امامها الدعوى ببطلانه، بوقف تنفيذه على نحو ما تنظمه أحكام المادة (57) من قانون التحكيم".
التحكيم هي
2- وثمة اجتهاد قضائي ، صدر عن هيئة تحكيم، غير مؤسسي، في إطار مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، تعرض بشيء من التفصيل أمر موافقة الوزير على التحكيم في منازعات العقود الإدارية انتهى الى ما يأتي:
أ- انه اذ أقر الجهاز الإداري المختصم صراحة بالحصول على موافقة الوزير المختص على شرط التحكيم بما يفيد حصوله بالفعل على تلك الموافقة إعمالاً لحكم المادة (2/1) من قانون التحكيم وكان الحاضر عن الجهاز قد أثبت حضوره امام هيئة التحكيم بالجلسة المحددة لنظر التحكيم بموجب توكيل خاص موثق بالتحكيم، فإن شرط موافقة الوزير المختص يكون قد تحقق ومما يؤكد ذلك عدم إبداء الجهاز أي دفع في هذا الشأن.
ب- انه اذا كانت العلاقة القانونية التي ربطت بين طرفي المنازعة التحكيمية قد نظمت اوضاعها في عدة محررات بدأت بالعقد الذي ورد فيه شرط التحكيم، فإن وحدة العلاقة التعاقدية لا يخل منها تعدد الوثائق التي نظمتها متى تبين ان هذه الوثائق تفصح عن ارادة طرفي العلاقة التعاقدية من اعتبارها علاقة قانونية واحدة تتكامل الشروط التي تنظمها، وإن تعددت الوثائق العقدية المبرمة بشأنها. وعلى ذلك، كما ورد في حكم التحكيم "فإن شرط التحكيم الذي تضمنه الإتفاق بالترخيص في إنشاء وتسويق المنطقة التجارية، المشار اليها فيما سبق، يتداعى حكمه قانوناً على العلاقة التعاقدية بكامل أشطارها، تأسيساً على أن طرفي هذه العلاقة كشفاً ارادة لا لبس فيها بارتضاء التحكيم وسيلة لفض المنازعات التي قد تنشأ عن عن العلاقة التعاقدية".
ج- انه ولئن كان مقطع المنازعة والطلب الأصلي فيها هو فسخ التعاقد بين الشركة المحتكمة والجهاز الإداري، وكان عقد الإنتفاع المحرر بينهما ينص على أن يطبق على الفسخ أحكام القانون المدني، فإن العبرة في تكييف العلاقة التعاقدية تكون بالنظر الى حقيقة تكييفها دون الوقوف عند حكم أو آخر من أحكام القانون الخاص إرتأى الطرفان استدعاء تطبيقه. وعلى ذلك فما لم يتضح أن استعارة هذا الحكم او ذاك من أحكام القانون الخاص يكشف في جلاء عن نية الجهاز الإداري الإلتجاء الى وسيلة القانون الخاص فيما يجريه من تعاقد، فلا يكون لذلك من أثر قانوني في تكييف العقد التكييف الصحيح الذي يستمده مما استقرت عليه أحكام مجلس الدولة بهيئة قضاء اداري من شروط يلزم توافرها لصبغ العقد الذي تبرمه الجهة الإدارية بالصيغة الإدارية باتصاله بتسيير مرفق عام وتضمنه شروطاً استثنائية غير مألوف إيرادها في تعاقدات القانون الخاص.
د- انه ولئن كان قانون التحكيم ينص في المادة (12) على أنه "يجب ان يكون اتفاق التحكيم مكتوباً والا كان باطلاً"، فإن هذا الحكم لا يستتبع بحكم اللزوم القانوني أن تكون موافقة الوزير على التحكيم في عقد يبرمه الشخص الإعتباري الذي يتبعه كتابة، فالوزير لا يعتبر طرفاً في التعاقد ولا يلتزم بصفته هذه بالتزام، وإنما هذه الموافقة هي إجازة لشخص عام يتبعه في أن يدرج في تعاقد اداري يجريه شرط التحكيم. وقد استطرد حكم التحكيم ببيان أنه ولئن كان الأمر السائد والإجراء الأكثر اتباعاً في المجال الإداري أن يكون التعبير عن الإرادة كتابة، الا أنه لا تثريب في شأن الإستيثاق من صدور موافقة الوزير على الإلتجاء الى التحكيم اتخاذ موقف مؤكد الدلالة على تمام هذه الموافقة وبما لا محل معه للشك في تمامها.
ثانياً - الصعوبات الناشئة عن تكييف العقد:
بيان ذلك، انه ليس كل ما تبرمه الجهة الإدارية من عقود تعتبر عقوداً ادارية في المفهوم الفني الدقيق لهذا المصطلح. فالإدارة لها أن تبرم عقوداً، شأنها شأن غيرها من الأفراد، تخضع لأحكام القوانين التي تنظم العقود المدنية. الا أن للإدارة ايضاً أن تلجأ الى ابرام عقود، توصف بأنها عقود ادارية، متى تحققت في هذه العقود شروط ثلاثة، أن تكون الإدارة طرفاً فيها وأن يتعلق العقد بنشاط مرفق عام، وأخيراً أن يتضمن العقد شروطاً استثنائية غير مألوفة في نطاق القانون الخاص. وعلى ذلك جرى قضاء محكمة القضاء الإداري وهو ما أخذت به ايضاً المحكمة الدستورية العليا، بحسبان ان العقد الإداري هو، الى جانب القرار الإداري، وسيلة من وسائل ممارسة الإدارة لأنشطتها.
وإنه ولئن كان ذلك يحسم، نظرياً، امر حقيقة تكييف العقد الذي تبرمه جهة الإدارة الأمر
الذي تترتب عليه نتائج قانونية هامة تتحصل في تطبيق أحكام القانون الإداري، وهي في الأساس، من صنع القاضي الإداري وتصدر عن مفهوم محدد ويجمع بينها رابط هام هو مواكبة نشاط المرفق مع المتطلبات الأساسية للمنتفعين به. الا ان الكشف عن حقيقة هذه الشروط الإستثنائية وماهيتها ليس بالأمر الواضح دائماً، فضلاً عن نشأة صور مختلفة من العقود د الحديثة التي قد يدق الفصل في حقيقة تكييفها، ومن ذلك العقود التي يرمز اليها بأحرف .B.O.T وايضاح ما تقدم يمكن إيجازه فيما يلي:
1- ان محكمة القضاء الإداري قضت بجلسة 19 من فبراير سنة 2006 بما مفاده أنه اذ كان العقد محل النزاع هو مما يوصف بأنه من عقود .B.O.T يتعهد بمقتضاه المتعاقد مع الإدارة بالقيام على نفقته وتحت مسؤوليته بتكليف من جهة ادارية، وطبقاً للشروط التي توضع له- بأداء خدمة عامة للجمهور مقابل التصريح له باستغلال المشروع لمدة محددة من الزمن وحصوله على الأرباح، فإذا كان قد تم التعاقد بهذا الأسلوب لإنشاء وادارة مكان طبقاً لأحكام القانون رقم 2 لسنة 1997 في شأن منح التزام المرافق العامة لإنشاء وادارة واستغلال المطارات واراضي النزول، فإن العقد يكون من عقود التزام المرافق العامة – وهو احد العقود المسماة التي تضمنها نص المادة (11/10) من قانون مجلس الدولة. واستطرد الحكم ببيان أن العقد في هذه الحالة "لا يمكن اعتباره من عقود التجارة الدولية بالمعنى الإصطلاحي المتعارف عليه "بمعنى ان تنشأ عن العقد عملية تبادل حركي بين البضائع وقيمتها عبر الحدود الدولية وفقاً للمعيار الإقتصادي، أو "كانت الأعمال المتعلقة بإنعقاده او تنفيذه أو حالة أطرافه أو موضوعه تتصل بصلات أو روابط مع أكثر من نظام قانوني" فيعتبر دولياً في هذه الحالة وفقاً للمعيار القانوني. وقد رتبت المحكمة على ذلك اختصاصها بالفصل في الطلب المعروض عليها ببطلان شرط التحكيم الوارد في عقد الإمتياز باعتبارها المحكمة صاحبة الإختصاص على النحو المقرر بالمادة (9) من قانون التحكيم باعتبار أن التحكيم موضوع المنازعة ليس "تحكيماً تجارياً دولياً" تختص بنظر المسائل المتعلقة به محكمة استئناف القاهرة أو أي محكمة استئناف أخرى يتفق على اختصاصها الطرفان، ذلك ان "المنازعة الماثلة لا تتعلق بعقد من عقود التجارة الدولية، وإنما تتعلق بعقد إداري نبت في حقل القانون العام وتحت مظلته". وانتهى الحكم الى أنه "يتعين قصر هذا الحكم المتعلق باختصاص محكمة استئناف القاهرة على مسائل التحكيم التجاري الدولي التي لا تتعلق بعقد اداري ولاسيما أن هذا النص (أي نص المادة 9 من قانون التحكيم) تقرر في وقت لم يكن من الجائز قانوناً الإلتجاء الى التحكيم في العقود الإدارية"، ومقصود الحكم بذلك ان حكم المادة (9) من قانون التحكيم كانت واردة فيه اعتباراً من تاريخ صدور قانون التحكيم سنة 1994، وقبل أن يضيف المشرع حكماً خاصاً بالتحكيم في منازعات العقود الإدارية بمقتضى التعديل الذي ادخل سنة 1997 بالقانون رقم 9، بإضافة فقرة ثانية، تفيد ذلك، الى نص المادة (1) من قانون التحكيم.
2- الا ان المحكمة الدستورية العليا، اذ عرض عليها أمر التنازع الإيجابي بالإختصاص المتمثل في نظر الطعن المقام امام المحكمة الإدارية العليا في الحكم سابق الإشارة اليه، ونظر محكمة الإستئناف لطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ حكم التحكيم وفي الموضوع ببطلانه، فقد انتهت المحكمة الدستورية العليا الى الحكم بجلسة 15 من يناير سنة 2012 باختصاص محكمة استئناف القاهرة بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم الصادر بتاريخ 7 من مارس سنة 2006 من مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي تأسيساً على انه ولئن كان العقد محل المنازعة "من عقود التزام المرافق العامة بما يندرج في عداد العقود الإدارية، الا أنه في ذات الوقت يصطبغ بصبغة اقتصادية محضة، وتم إبرامه لتنظيم علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي، وهو ما أفصح عنه الطرفان المتعاقدان في إطار بيان حقوقهما والتزاماتهما المتبادلة بالنص صراحة في المادة 1/21 على أن هذا العقد يعتبر عقداً قانونياً مدنياً وهو ما يتعذر معه النأي بالتحكيم الذي تضمنه هذا العقد عن الخضوع لأحكام المادة الثانية من القانون رقم 27 لسنة 1994 السالفة الذكر". وقد رتب الحكم على ذلك أنه وإن "كان من المقرر ان الأصل العام هو اختصاص القضاء الإداري بالفصل في المنازعات الناشئة عن عقود الإلتزام او الأشغال العامة أو التوريد او أي عقد اداري آخر، وفقاً لنص المادة (11/10) من قانون مجلس الدولة، الا ان المشرع استثنى من هذا الأصل العام دعوى بطلان حكم التحكيم الذي يصدر نفاذا لمشارطة تحكيم، وإن تضمنها عقد اداري، متى كانت ذات طبيعة تجارية دولية وفق التعريف المحدد لذلك في المادتين 2 و 3 من القانون رقم 27 لسنة 1994".
3- انه ولئن كانت عناصر العقد الإداري متعارفاً عليها قضاء وفقها، الا أن الأمر قد يدق في الواقع بحيث تختلف وجهة النظر في شأن التكييف القانوني الصحيح للعقد. وقد يكفي في هذا المجال الإشارة الى:
أ- أن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد يشي باتجاه خاص للمحكمة في شأن تكييف العقد يعتد بوصف المتعاقدين لطبيعة العقد تغليباً على أحكامه الموضوعية. بيان ذلك أن المحكمة الدستورية العليا في قضائها في منازعة تنازع الاختصاص بجلسة 15 من يناير سنة 2012، المشار اليه فيما سبق، أوردت، تأكيداً منها لمدنية العلاقة التعاقدية المعروضة على المحكمة، ان الطابع الإقتصادي للعقد "هو ما أفصح عنه الطرفان المتعاقدان في إطار بيان حقوقهما والتزاماتهما المتبادلة، بالنص صراحة في المادة (1/21) على أن هذا العقد يعتبر عقداً قانونياً مدنياً، وهو ما يتعذر معه النأي بالتحكيم الذي تضمنه هذا العقد عن الخضوع لأحكام المادة الثانية من قانون التحكيم". ووجه اللبس الذي تثيره عبارات الحكم المشار اليها يتحصل فيما اذا كانت عبارة المتعاقدين عن مدنية العقد قد رجحت، في يقين المحكمة، ما انتهت اليه من تكييف قانوني للعقد. وقد يكفي في هذا الشأن التأكيد على أن معيار العقد الإداري هو معيار موضوعي مرده الى أحكام العقد، بحيث اذا تبنت هذه الأحكام ما ينبئ عن أن الإدارة قد لجأت الى اسلوب القانون العام في التعاقد بأن ضمنت العقد شروطاً استثنائية غير مألوف ايرادها في العقود المدنية، فإن انزال التكييف القانوني الحق على العقد يكون من عمل القاضي فلا يقف عند عبارات العقد، بل يتحرى حقيق الواقع القانوني استكناها للنية الحقيقية للمتعاقدين. والثابت من وقائع المنازعة التي كان معروضاً امرها على المحكمة الدستورية العليا أنها تتعلق بعقد التزام مرفق عام، هو انشاء وادارة احد المطارات، وبالتالي فهو يدخل بهذه المثابة في زمرة، العقود الإدارية المسماة في نص المادة (11/10) من قانون مجلس الدولة، وهذه الصفة تهيمن، بحكم القانون، على التعاقد، مما يلزم معه وزن الإشتراطات التي يتضمنها العقد بالميزان الذي يوفق بين احترام ارادة المتعاقدين وبين مراعاة اعتبارات المرفق العام الذي يرتبط به العقد ويدور في فلكه ويضمن حسن سيره بانتظام واطراد.
ب- ان المحكمة الدستورية العليا انتهت الى مدنية عقد، كانت محافظة جنوب سيناء قد أبرمته مع احدى الشركات الخاصة، محله قطعة ارض بمدينة شرم الشيخ باعتها المحافظة للشركة لإقامة قرية سياحية، بحيث تلتزم الشركة ببناء وتشغيل القرية خلال ثلاث سنوات، والا اعتبر العقد مفسوخاً. واذ لم تنفذ الشركة التزاماتها خلال هذه المدة فقد منحت مهلة أخرى لمدة ستة اشهر، الا ان هذه المدة الأخيرة انتهت دون ان تفي الشركة بكامل التزامها. واذ ثار تنازع في أحكام صدرت في هذا الشأن بين حكم محكمة الإستئناف بفسخ العقد تطبيقا للشرط الفاسخ الوارد في العقد، وحكم المحكمة الإدارية العليا الصادر بإلغاء قرار فسخ العقد تأسيساً على ما تبين لها من جدية الشركة في تنفيذ العقد، فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بجلسة 31 من يوليه سنة 2011 (في القضية رقم 23 لسنة 32 قضائية تنازع)، بالإعتداد بالحكم الصادر من محكمة الإستئناف، على أساس ان العقود التي تكون الإدارة طرفا فيها لا تعتبر جميعها من العقود الإدارية "وإنما مرد الأمر في تكييفها القانوني الى مقوماتها وبوجه خاص الى ما اذا كانت شروطها تدل على انتهاجها لوسائل القانون العام". واذ استظهر الحكم ان عقد البيع "خلا من شروط استثنائية كما أنه لا يتصل بتسيير مرفق عام"، فقد انتهى الى ما سبق بيانه.
ومع ذلك فإن ما ورد في أسباب الحكم تأييداً لقضائه مما يستأهل بعض النظر. فقد أورد الحكم ان العقد "انما هو لقطعة ارض أملاك الدولة، مما تدخل في نطاق دومينها الخاص وتظل نائية عن مفهوم المرفق العام بالنظر الى ان هذه الأموال تشبه في خصائصها ونظامها القانوني بالملكية الخاصة وتدار بأساليب القانون الخاص التي تلائم اغراض استخدامها واستثمارها ومن ثم يعتبر من عقود عقد بيع و القانون الخاص التي تختص بنظر المنازعات التي تثور بشأنها جهة القضاء العادي ولا يعدو استعمال الجهة الإدارية لحقها في الفسخ أن يكون إعمالا من جانبها لنص المادتين 157 158 من القانون المدني". ومرد دواعي التدبر في أسباب هذا القضاء، تجاوز الحكم لما ورد في عقد البيع من شروط تتعلق بالتزام المشتري بإقامة وتشغيل قرية سياحية خلال مدة معينة، والا حق لجهة الإدارة البائعة فسخ العقد، وقد يكون واضحاً، في ضوء هذا الشرط، ان بناء القرية السياحية وتشغيلها، بحسبانها مشروعاً سياحياً من شأنه ان يساهم في تنمية النشاط السياحي الذي يعتبر من مقومات الإقتصاد المصري، ومن ثم يعتبر مرفقاً عاماً يبلغ، في واقع الموارد المالية للدولة، أعلاها كما أنه بما يضم من عاملين مورداً هاماً للعمالة، فكل ذلك اعتبارات تتجاوز محض عقد بيع لقطعة ارض من املاك الدولة الخاصة. يضاف الى ذلك أنه ليس يلزم ان يقوم المرفق العام على ما يعتبر من املاك الدولة العامة، بل ان وجه استغلال املاك الدولة الخاصة هو الذي يحدد مدى اتصال العقود التي ترد على هذه الأملاك بطائفة العقود الإدارية. ويستخلص مما سبق ان مفهوم العقد الإداري مما اختلفت بشأنه الآراء، الأمر الذي يزيد الإشكاليات المترتبة على إخضاع هذا النوع من العقود لتنظيم خاص بشأن اشتراطات جواز الإلتجاء الى التحكيم في شأن ما تثيره من منازعات.
كلمة ختامية:
تتحصل في استعراض لما يثيره احدث الأحكام الصادرة عن محكمة القضاء الإداري من أمور تتصل بالتحكيم:
فقد أصدرت محكمة القضاء الإداري بجلسة 30 من اكتوبر سنة 2012 حكماً بشأن المنازعة المتعلقة بتعاقد وزارة البترول والهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية مع الشركة الفرعونية لمناجم الذهب (المعروفة إعلامياً بشركة السكري).
واذ كان الحكم قد تعرض لمسائل قانونية كثيرة يخرج استعراضها او مناقشتها عن نطاق هذه المداخلة، الا انه قد يكون من الملائم التعرض لمسألتين تعرض لهما الحكم في معرض قضائه؛ اولهما استعراضه الشروط الإستثنائية التي تضمنها العقد والتي تفيد صبغته بالصبغة الإدارية، وثانيهما موقف الحكم من الأثر الذي رتبه او يمكن ان يرتبه ما سبق ان انتهت اليه هيئة تحكيم سبق ان عرض عليها شق من المنازعة المطروحة على المحكمة. وبيان ذلك فيما يلي:
1- فعن الشروط الإستثنائية الواردة في العقد والتي بناء عليها اعتبره الحكم عقداً أدارياً فيه تتحصل حسبما ورد بأسباب الحكم في الآتي "ان الثابت من استقراء بنود حق الإستغلال المشار اليه، ان جهة الإدارة لجأت فيه الى اسلوب القانون العام بأن ضمنته شروطاً استثنائية غير مألوفة في روابط القانون الخاص، ومن ذلك على سبيل المثال، ما نصت عليه المادة الثانية أن تقدم الشركة الفرعونية خطاب ضمان يصدره البنك الأهلي المصري بالقاهرة او اي بنك آخر توافق عليه الهيئة في موعد اقصاه يوم واحد قبل توقيع وزير الصناعة والثروة المعدنية على هذه الإتفاقية بمبلغ خمسمائة الف دولار ضمانا لقيام الفرعونية بتنفيذ الحد الأدنى من التزاماتها في عمليات البحث خلال فترة الإثني عشر شهراً الأولى، وفي حالة ما اذا رغبت الفرعونية مد فترة البحث، فإن عليها تقديم خطاب ضمان مماثل للهيئة يغطي الحد الأدنى من التزاماتها السنوية في تكاليف عمليات البحث خلال هذا الإمتداد، وما نصت عليه الفقرة (أ) من المادة الثالثة من أنه بدءاً من الإنتاج التجاري للذهب والمعادن المصاحبة تمتلك الحكومة وتستحق اتاوة تدفع نقداً خلال فترة الإستغلال، وهذه الإتاوة غير قابلة للإسترداد، وكذلك نص المادة السابعة عشرة، والخاص بامتياز ممثلي الحكومة وحقهم في الدخول الى المناطق محل الإستغلال وفحص دفاتر وسجلات وبيانات الهيئة والشركة الفرعونية واجراء عدد مناسب من عمليات الإستطلاع والمسح والرسومات والإختبارات بغرض تنفيذ هذه الإتفاقية، وايضاً ما نصت عليه المادة العشرون من أنه في حالة الطوارئ الوطنية يجوز للحكومة ان تستولي على الإنتاج المحقق من المنطقة وأن تطلب زيادة الإنتاج لأعلى حد ممكن او تستولي على المنجم والمرافق المتعلقة به".
وانه ولئن كان البعض من الشروط المشار اليها مما يمكن اعتباره من الشروط الإستثنائية، الا ان مما اشار اليه الحكم ما قد يكون اعتباره من قبيل الشروط الإستثنائية محل النظر، وعلى الأخص خطاب الضمان الذي يقدمه المتعاقد ضماناً للوفاء بالتزامه، فهذا الشرط مما هو دارج أن تتضمنه العقود التي يمتد سريانها في الزمن. وصحيح النظر في الشروط الإستثنائية التي تميز العقد الإداري، هي بأن هذه الشروط انما تكشف عن أن الجهة الإدارية، انما ارادت الأخذ بأسلوب القانون العام في شأن ما تجريه من تعاقد بمراعاة ما يقتضيه الصالح العام متمثلا في صالح المرفق العام الذي تقوم عليه وتتعهد بسيره في انتظام وإطراد.
وعلى ذلك فإن النظر الى تكييف العقد يكون بالقدر اللازم للكشف عن ان الإدارة القائمة على شأن المرفق العام قد أبرمت العقد المتعلق بالمرفق متبعة وسيلة القانون العام. وعلى ذلك، وكلما كان اتصال العقد المبرم بصميم سير المرفق، كلما كان تفسير ما يتضمنه العقد من أحكام في ضوء صالح المرفق وصوالح المنتفعين به، ويكون تفسير ما يتضمنه العقد من أحكام في ضوء ذلك كله تغليباً لوجه الصالح العام. ولعله مما يرتبط عموماً بالطبيعة الإدارية للعقد ما تضمنه الحكم المشار اليه، من اتباع لمسلك جرى به قضاء محكمة القضاء الإداري ولما تفصل فيه المحكمة الإدارية العليا بعد، ويتحصل في قبول الدعوى التي يقيمها المواطن دفاعاً عما يقدر أنه تعد على الملكية العامة باعتبار أن "الملكية العامة هي ملكية الشعب وتتمثل في ملكية الدولة والأشخاص الإعتبارية العامة وأن للملكية العامة حرمة، وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن، وفقا للقانون، وهو ما مفاده ان الملكية العامة تتمثل في الأموال المملوكة للدولة او الأشخاص الاعتبارية العامة ومنها الهيئات العامة، وأن هذه الأموال ملك للشعب بكل أفراده ملكية شيوع، الأمر الذي يجعل لكل مواطن من أفراد هذا الشعب حقاً في الأموال وله بل عليه ان يهب للدفاع عنه وفق ما يقرره القانون أي باتباع الإجراءات والرخص والوسائل التي قررها القانون لكفالة هذه الحماية ومنها اللجوء الى القضاء لاستصدار حكم قضائي يكون بمثابة السند التنفيذي الذي تتحقق به الحماية المنشودة". فإذا كان الحكم قد أورد ما سبق أساساً لقضائه بقبول الدعوى التي أقامها احد المواطنين رغم حرص الحكم على تأكيد أن الدعوى الإدارية ليست دعوى حسبة، وإنما يتعين أن تتوافر بشأنها الصفة والمصلحة في رافعها، فإنه أقام قضاءه على أن الأموال العامة، وتتمثل في الأموال المملوكة للدولة او للأشخاص الإعتبارية العامة ومنها الهيئات العامة، وأن هذه الأموال ملك للشعب بكل أفراده ملكية شيوع"، ولعل ما قضى به الحكم في هذا الشأن مما يستدعي التأمل القانوني بيان ذلك ان دستور سنة 1971 كان ينظم أمر الملكية العامة، اساساً، في مادتين هما المادة 30 والمادة 33 ومفاد احكامهما ان الملكية العامة هي ملكية الشعب وتتمثل في ملكية الدولة والأشخاص هذه
الاعتبارية، ولها بهذه المثابة حرمة وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقاً للقانون، وبذات المعنى جرت عبارة المادة (6) من الإعلان الدستوري الصادر في 30 من مارس سنة 2011. وانه ولئن وردت هذه الأحكام في المواثيق الدستورية تأكيداً على مفهوم السيادة المقررة للشعب؛ فجماهير شعب مصر هي، على ما ورد في وثيقة اعلان دستور سنة 1971، التي تحمل الى جانب أمانة التاريخ مسؤولية تحقيق أهداف عظيمة للحاضر والمستقبل، كما أن الشعب وحده هو مصدر السلطات يمارسها ويحميها على الوجه المبين بالدستور، وباسم الشعب تصدر الأحكام، ونيابة عنه تعمل مختلف السلطات، وكل ذلك يعتبر مفترضاً اوليا وأصل المقومات التي يقوم عليها مفهوم الدولة المصرية الأمر الذي لا يقبل مساساً او انتقاصاً. وكل ذلك ما التزم به ايضاً الإعلان الدستوري الصادر في 3 مارس سنة 2011 حيث أورد في المادة (3) ان السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات. فإذا كان كل ذلك صحيحاً في مجال العلوم السياسية والاجتماعية، الا أنه يتطلب تدقيقاً من منظور قانوني. بيان ذلك ان تعبير الأمة او الشعب ان هو الا تعبير عن حقائق اجتماعية وسياسية ولكنه ليس بتعبير قانوني. ويكفي، في هذا المجال، الإشارة الى أن الدولة هي التي تمثل الشعب، في التنظيم السياسي والقانوني، فالدولة هي التي يتمثل فيها الشعب من الناحية القانونية، فتكون لها الشخصية الإعتبارية المستقلة على نحو ما تنظمه المادة (52) من القانون المدني وتمارس من ثم، باعتبارها كذلك، حقوق الملكية على الأموال في الحدود والقيود المقررة، فتكون ملكيتها على الأموال العامة مقيدة بتخصيص المال للمنفعة العامة، فإذا زال التخصيص عاد المال الى ملكيتها الخاصة. ولعل ما كانت تجري به عبارة المادة (30) من دستور سنة 1971 مما يوضح المفهوم المشار اليه، اذ بعد ان قررت تلك المادة ان الملكية العامة هي ملكية الشعب، أوضحت بأن هذه الملكية "تتمثل في ملكية الدولة والأشخاص الإعتبارية العامة"، بل ان ما كان وارداً في المادة (33) من دستور سنة 1971 وما رددته المادة (6) من الإعلان الدستوري الصادر في 30 من مارس سنة 2011 من حرمة الملكية العامة، نراه ينصرف الى عموم ملكية الدولة والأشخاص الإعتبارية، سواء كانت ملكية عامة، بتوافر تخصيص المال للمنفعة العامة، أو ملكية خاصة فهذه الملكية في الحالين تتمتع بالحماية من التعدي، وهذا ما هو منصوص عليه صراحة بالمادة (970) من القانون المدني التي تحظر تملك الأموال الخاصة للدولة اوالأشخـاص الإعتبارية العامـة بالتقادم، كما تحظر ذات المادة التعدي على هذه الأموال.
ومن ناحية أخرى، فإن الواجب الذي تلقيه الأحكام الدستورية على كل مواطن باحترام حرمة الملكية العامة وحمايتها ودعمها يكون "وفقاً للقانون". ولئن جاز في الفرض الجدلي ان هذه العبارة تشمل، فيما تشمل، التقاضي امام جهات القضاء المختصة، فإن عبارة "وفقا للقانون" تفيد، بالقطع، ان يكون الإلتجاء الى القضاء فيما يراه المواطن حقاً له، مقيداً بحكم القانون بالضوابط المقررة لقبول الدعوى وبالأخص من ناحية توافر الصفة والمصلحة في رافعها. والقول بغير ذلك، يؤدي الى أن يكون من حق كل مواطن من الملايين التي يتكون منها الشعب المصري إقامة الدعوى في شأن ما يراه مساسا بالملكية العامة. أما القول بأن القاضي يعمل في شأن ما يقام امامه، رؤيته في شأن ما يستأهل من الدعاوى، القبول والفصل فيها، يؤدي الى نتيجة قد تكون غير منطقية؛ اذ يكون المناط في القبول مدى جدية المضمون وهو أمر يجانب مفاهيم اساسية يقوم عليها القضاء من الحسم في أمر قبول الدعوى بالنظر الى الشروط القانونية المتطلبة، دون أن يكون ذلك رهيناً بالجدية التي قد يقدرها القاضي للطلبات في الدعوى، والقول بغير ذلك يهدر تماماً أمر شروط قبول الدعوى وهي أمور جرى قضاء المشروعية على اعتبارها، شأنها شأن مسألة الإختصاص، معروضة دائماً على المحكمة فيتعين أن تفصل فيها، وإن لم يدفع الخصوم بأي دفع بشأنها، باعتبار أن مسائل الإختصاص والقبول من الأمور المتعلقة بالنظام العام فتكون مطروحة دائما على المحكمة.
ومما له مجال ذكر ايضاً ان دعاوى العقد، إنما يكون قبولها من أطراف العقد، أما الطعون التي قد تقام على القرارات السابقة على العقد، وإن ساهمت في الإجراءات التي انتهت الى إبرامه، فقد جرى قضاء مجلس الدولة الفرنسي، كما جرت محكمة القضاء الإداري المصري الى قبول دعوى الإلغاء الموجهة اليها متى كانت من القرارات المنفصلة "actes détachables. ويلزم في الطعن على هذه القرارات دائماً أن يكون الطاعن ممن تتوافر فيه الشروط المتطلبة لقبول دعوى الغاء القرار".
2- وعن مسلك الحكم تجاه ما سبق ان صدر عن هيئة تحكيم مشكلة في إطار مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي؛ فقد ذهب الحكم الى أنه، بمناسبة الفصل فيما يطالب به المدعي من بطلان عقد الإستغلال المقرر للشركة المتعاقدة "فيما تضمنه عقد الصلح المؤرخ 2005/4/4 والموقع بين الشركة الفرعونية لمناجم الذهب الأوسترالية والهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية من اتفاق الطرفين على أن تكون مساحة 16 كم مربع بمنطقة السكري هي المساحة المثلى التي يمكن تغطيتها بعقد الإستغلال". واذ كانت المحكمة قد استظهرت من حكم المادة الثانية من الإتفاقية المبرمة مع الشركة والصادرة بالقانون رقم 222 لسنة 1994 أن تعيين مساحة الإستغلال عقب تحقق الإكتشاف التجاري يستلزم موافقة وزير الصناعة والثروة المعدنية، واذ خلت الأوراق مما يشير الى موافقة الوزير على اتفاق الهيئة مع الشركة على تحديد محل الإستغلال بمساحة 160 كم مربع، فيكون من المتعين عدم الاعتداد بما اتفقت عليه الهيئة مع الشركة بالعقد المؤرخ 2005/4/4، والإرتداد في تحديد المساحة الى تلك التي وافق عليها الوزير، وهي مساحة 3 كم مربع، عقب تحقق الإكتشاف التجاري.
والثابت مما يستفاد من أسباب الحكم، ومما صدر من هيئة التحكيم المشكلة في إطار مرکز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في القضية رقم 338 لسنة 2003 (المودع صورة منه بملف الدعوى امام محكمة القضاء الإداري)، ان الشركة الفرعونية لمناجم الذهب كانت قد أقامت الدعوى التحكيمية المشار اليها بتاريخ 2003/6/9 مختصمة الهيئة المصرية العامة للمساحة الجيولوجية (المتعاقدة معها) وضمت طلباتها في تلك الدعوى، ضمن ما طلبت، تحديد مناطق امتياز الشركة مع التعويض عما لحق بها من أضرار مادية ومعنوية بمبلغ ثلاثين مليون دولار امريكي. وقد مثلت الهيئة المحتكم ضدها امام هيئة التحكيم حيث تدوول نظر الدعوى امام هيئة التحكيم، وكان أن عدلت الشركة في طلباتها بحيث اصبحت، أساساً، بتحديد فترات البحث والإستغلال باستبعاد فترات التوقف عن العمل الى تاريخ انهاء الأثر المسبب لهذا التوقف، وذلكبصدور كافة التصاريح والموافقات والتسهيلات من الهيئة. في حين طلبت هذه الأخيرة بإلزام الشركة المحتكمة بالتخلي عن كافة مناطق الإمتياز حيث كان عليها اعتباراً من 2002/7/29 وهو تاريخ إنتهاء فترة البحث التخلي عن كافة مناطق الإمتياز لعدم تحول أي جزء منها الى عقد استغلال حتى انتهاء فترة البحث المشار اليه. والثابت ايضاً ان الطرفين قدما بجلسة 2005/4/12 صورة من عقد صلح مؤرخ 2005/4/4 يتضمن اتفاق الطرفين على انهاء المنازعات القضائية بشأن مطالبات الشركة الفرعونية سواء امام محاكم القضاء الإداري المختصم فيها الوزير المختص والهيئة (وهي الدعوى رقم 5632 لسنة 57 القضائية والطعنان رقم 9848 و 9694 لسنة 50 القضائية امام المحكمة الإدارية العليا). او امام هيئة التحكيم في الدعوى رقم 338 لسنة 2003 المشار اليها. كما تضمن عقد الصلح في البند الثالث الإلتزام ببدء الشركة في العمل في كامل منطقة الإستغلال البالغة مساحتها 160 كم مربع المحددة على الخرائط. بينما تضمن البند التاسع اقرار الشركة بتخليها عن كافة المناطق التي شملتها اتفاقية الإلتزام الصادر بالقانون رقم 222 لسنة 1994، وذلك باستثناء منطقة عقد الإستغلال المحددة بالإتفاق ومساحتها 160 كم مربع المبينة بالخرائط المرفقة بالإتفاق والموقع عليه من الطرفين. وقد طلب الحاضران من هيئة التحكيم اثبات اتفاق الصلح بمحضر الجلسة وإصدار الحكم به. الأمر الذي قامت به الهيئة فأصدرت الحكم "بإلحاق عقد الصلح المشار اليه بمدونات هذا الحكم ومرفقاته المنصوص عليها فيه بمحضر الجلسة، وباعتبار ما تضمنه ومرفقاته حكماً صادراً من الهيئة مع ما يترتب على ذلك من آثار". وقد تعرض الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري لما صدر عن هيئة التحكيم، فقرر الحكم أن ما صدر عن هيئة التحكيم ليس حكماً في مفهوم أحكام قانون التحكيم الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، انما هو قرار صدر إعمالا لحكم المادة (41) من قانون التحكيم المشار اليه التي تجري عبارتها بأنه "اذا اتفق الطرفان خلال اجراءات التحكيم على تسوية النزاع كان لهما ان يطلبا اثبات شروط التسوية امام هيئة التحكيم التي يجب عليها هذه الحالة أن تصدر قراراً يتضمن شروط التسوية وينهي الإجراءات". ورتب الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري على ذلك انه اذ لا يعد ما صدر عن هيئة التحكيم في النزاع المعروض عليها حكماً فإنه لا يحوز الحجية المقررة للأحكام الصادرة من هيئات التحكيم على نحو ما تقضي به المادة (55) من قانون التحكيم. ورتب الحكم على تنهي ذلك انه اذ لم يثبت فيما قدم الى المحكمة من اوراق ومستندات ان الوزير المختص وافق على تقرير مساحة الإستغلال بـ 16 كم مربع، فلا يكون من حجية لما ورد في عقد الصلح عن ذلك، ولا حجية لما صدر عن هيئة التحكيم في هذا الشأن، على نحو ما سبق بيانه.
وقد يكون من الملائم بيان ما يأتي:
• أن طرفي التحكيم امام مركز القاهرة كانا قد اتفقا على اختصاص المركز بنظر ما قد ينشأ بينهما من انزعة على أن يطبق على النزاع القواعد السارية امام المركز، وذلك بمقتضى البند (ب) من المادة (24) من الإتفاقية المعقودة بتاريخ 1995/1/29. والثابت أن المادة (1/34) من قواعد المركز السارية وقت عرض النزاع على المركز كان نصها يجري بالآتي: "اذا اتفق الطرفان قبل صدور حكم التحكيم على تسوية تنهي النزاع، كان لهيئة التحكيم اما أن تصدر أمراً بإنهاء الإجراءات، وإما أن تثبت التسوية، بناء على طلب الطرفين وموافقتهما على هذا الطلب في صورة حكم تحكيم بشروط متفق عليها، ولا إلزام على هيئة التحكيم بتسبيب مثل هذا الحكم". ومن الجدير الإشارة الى أن هيئة التحكيم في إطار المركز في القضية رقم 558 لسنة 2007 أوضحت التفرقة بين الحالتين اللتين كانتا تنظمهما المادة (1/34) من قواعد المركز ببيان أنه اذا طلب اطراف الدعوى التحكيمية اثبات التسوية في صورة حكم، فتكون لهذا الحكم ذات القوة التنفيذية لسائر الأحكام الصادرة عن هيئة التحكيم، مما يستلزم من هيئة التحكيم أن تتحقق من اختصاصها بنظر الطلب وبتوافر شروط قبول الدعوى أمامها. (الحكم الصادر بجلسة 30 من ابريل سنة 2008).
• ومن ناحية أخرى، فإن المادة (41) من قانون التحكيم الصادر به القانون رقم 27 لسنة 1994 تنص على أنه "في حالة اتفاق الطرفين خلال اجراءات التحكيم على تسوية تنهي النزاع كان لهما ان يطلبا اثبات شروط التسوية امام هيئة التحكيم التي يجب عليها ان تصدر قراراً يتضمن شروط التسوية، وينهي الإجراءات" "ويكون لهذا القرار ما لأحكام المحكمين من قوة بالنسبة للتنفيذ"،
وأياً ما يكون الأمر فإن التعقيب على ما يصدر من هيئة التحكيم يكون في إطار الأحكام التي ينظمها قانون التحكيم وامام المحكمة التي يقرر هذا القانون اختصاصها بذلك.
الخلاصة:
ويمكن القول بأن قانون التحكيم الصادر به القانون رقم 27 لسنة 1994، وامتداد سريان أحكامه على منازعات العقود الإدارية بمقتضى التعديل الذي جاء به القانون رقم 9 لسنة 1997 لم يحقق ما كان منتظراً ان يحققه من استقرار في المعاملات القانونية الخاضعة لنظام التحكيم. وقد يحسن ان ينهض المشرع بتدارك الصعوبات التي كشفت عنها أحكام القضاء والأحكام الصادرة من هيئات التحكيم بحسبان ان الإستقرار المجتمعي يتطلب استقراراً في المعاملات الإقتصادية والإجتماعية، وترك الأمور على ما هي الحال، في الواقع المعاصر. مما قد يثير اضطراباً بأكثر مما يحقق استقراراً منشوداً.