إن التحكيم في العصر الحديث ليس بظاهرة مستقلة وجديدة بجذورها عن الماضي إنما هي التطبيق لفكرة التحكيم في المجتمعات القديمة وامتداد للتحكيم التجاري الدولي في العصور الوسطى، فهذا التحكيم يمثل شكلا بدائيا لإقامة العدالة، ولقد اعتبر التحكيم مرحلة راقية وصلت إليها الجماعات البشرية بعد أن كانت تسود شريعة الغاب حيث البقاء للأقوى.
ولقد ظهر التحكيم كأحد وسائل فض المنازعات التي تنشأ بين الأفراد على أساس الأعراف والتقاليد في المجتمعات القديمة، ولكن مع مطلع القرن العشرين ونمو العلاقات العقدية والتجارية بين الأفراد وبين الدول التي أصبح لها الدور الكبير في ذلك، عرف التحكيم اتساعا في نطاقه، بحيث أصبح للتحكيم قانون يلتزم به الكافة وله سلطة قضائية تتولى إزالة كل ما قد يقابل تطبيق هذا القانون من عوارض سواء فيما يتعلق بمن يناط الفصل في إدعاءات الأطراف أو فيما يتعلق بمعايير الفصل فيها. وهذا ما يستدعي البحث عن المعطيات التي يستند إليها اتفاق التحكيم، والذي يجعل منه أمرا مشروعا يسمح به النظام القانوني، ونظرا لتطور العلاقات التجارية الدولية في الآونة الأخيرة، وتزايد الإقبال بين المتعاملين في التجارة الدولية أو الداخلية فقد عمت ثقافة التحكيم، وأصبح هو الوسيلة الأكثر انتشارا في حل المنازعات التجارية، كما أصبح أحد الوسائل البديلة للقضاء.
ولكل هذه الاعتبارات فإن أغلب الدول قد وضعت قواعد وضوابط منظمة للعمليات التحكيمية، بحيث لا نكاد نجد دولة لم تقم بتنظيم التحكيم وفق قواعد خاصة به، كذلك فقد عني المجتمع الدولي بتنظيم التحكيم في العلاقات الدولية، وقد ظهرت بواكير هذا الاهتمام في اتفاقية نيويورك يونيو ۱۹۵۸ الخاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية - والتي انضمت إليها مصر في 7 مارس ۱۹۵۹، وبروتوكول جنيف، والقانون النموذجي الأونيسترال... الخ.
يعتبر التحكيم بمثابة القضاء الخاص الذي يتمتع بخصوصية معينة، تميزه عن قواعد وأصول المحاكمات العادية في كل بلد، كما يعتبر المحكم بمثابة قاض خاص يعهد إليه الخصوم بتنفيذ مهمة التحكيم، خلال فترة زمنية معينة، لقاء أتعاب تحدد بموجب اتفاق التحكيم.
ولم تستأثر الدولة بمباشرة الوظيفة القضائية، وإنما أجازت للأفراد إخراج بعض المنازعات من ولاية اختصاصها وإسناد النظر فيها لهيئة تحكيم أو محكم واحد يتم اختياره لهذا الغرض.
فالتحكيم هو نظام أقره القانون للأفراد؛ ليجيز لهم بمقتضاه الاتفاق على إحالة المنازعات الحالية والمستقبلية التي يمكن أن تنشأ بينهما إلى أشخاص يطلق عليهم تسمية المحكمين، دون السلطة القضائية المختصة بذلك.
ولعل من الأمور الضرورية لتطوير سبل التعاون الاقتصادي الدولي إرساء الضمانات القانونية لحماية الروابط القانونية المتضمنة لعنصر أجنبي وتحديد الطرق والوسائل لتسوية المنازعات التي قد تنشأ بينهم، ولما كان القضاء من أهم الأدوات التي تحث على تنفيذ الالتزامات التي تعهد الأطراف بها، إلا أن بطء الإجراءات في المحاكم، وعدم إعداد القضاة في المسائل التجارية أو الصناعية، والمالية، وكذا المسائل التقنية، جعله غير قادر على تلبية حاجيات المتعاملين المعنيين بهذه التغيرات، ومع قلة المعرفة القانونية المحترفة للقضاة في بعض النواحي الفنية لبعض التخصصات، جعلهم يلجؤن إلى مساعدة الخبراء والمختصين لإبراز العناصر المادية لوقائع النزاع، ومن ثم عرف التحكيم التجاري الدولي .
- مفهوم اتفاق التحكيم:
يكمن نظام التحكيم في الاتفاق على مبدأ التحكيم، واختياره سبيلا لحل المنازعات التي تثيرها بعض المعاملات، خاصة في مجال التجارة الدولية، وباعتبار التحكيم أحد الأساليب الاستثنائية المتبعة لفض المنازعات بین الأفراد فيجب قصره على ما تنصرف إليه إرادة التحكيم)، ونظرا للأهمية التي يكتسبها اتفاق التحكيم سنتطرق من خلال هذا المبحث إلى كل من تعريف اتفاق التحكيم في الفقه، والقانون، وأمام القضاء. حيث أصبح من الواضح أن التحكيم لكي يدخل حيز التنفيذ ويأخذ دوره في فض النزاعات بين الأطراف المتنازعة، لابد له من إرادة تتحرك وتعطيه القوة القانونية لذلك.
وهذه الإرادة تعمل في إطار عقد التحكيم الذي تتلاقى فيه إرادة أطراف النزاع القائم أو المحتمل قيامه، وتتجه للاتفاق على عرض نزاع على التحكيم، وعلى هذا الأساس سوف نتطرق إلى تعريف اتفاق التحكيم لدى كل من الفقه والقانون.
بالنسبة للتحكيم لغة واصطلاحا:
اختلفت التعاريف الفقهية للتحكيم عن التعريفات القانونية، رغم تأثير الأولى على الثانية، وتطورها، فقد عرفه الفقه بأنه "اتفاق بين الطرفين على إحالة كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو التي قد تنشأ بينهم بشأن علاقة قانونية عقدية أو غير عقدية، إلى شخص معين للفصل فيه بعيدا عن القضاء.
أما اصطلاحا فهو "تولية خصمين حاكما يحكم بينهما"، ومن هذا التعريف نستنتج عدة شروط، إذا توافرت تحقق هذا العقد، وهي إيجاب من العاقدين، وقبول من الحكم، وهذه الشروط كالتالي:
- يقتضي أن يكون النزاع قد نشأ بصورة واضحة محددة.
- يقتضي أن يكون المتنازعون قد اعترفوا بحدوثه بصورة متبادلة
ويتوجهوا إلى المحكم طالبين تحكيمه.
- يقتضي أن يكون المحكم معينة بالاسم. - يقتضي أن تتوافر في الحكم أهليته للإدلاء بالشهادة.
وبالنسبة للفقه المقارن فقد ذهب الفقيه القانوني "جان روبيرت" إلى أن التحكيم نظام القضاء الخاص تقض فيه خصومة معينة عن اختصاص القضاء العادي، يعهد بها إلى أشخاص يختارون للفصل فيها.
كما عرفه الأستاذ "فيليب فوشار" بأنه اتفاق الأطراف على أن يخضع نزاعهم إلى قضاء خاص يختارونه"، وعرفه الفقه المصري بأنه و الأطراف على طرح النزاع على شخص معين أو أشخاص معينين لة منه دون المحكمة المختصة به"، بينما يعرفه البعض الآخر على أن "الاتفاق الذي يلتزم بموجبه الأطراف على أن يخضعوا لن النزاعات التي يمكن أن تنشأ بينهم أو المتعلقة بالعقد أو النن اے والمتعلقة في كلتا الحالتين بالتجارة الدولية".
ويتولى الأطراف تحديد أشخاص المحكمين أو على الأقل يضمنون اتفاقهم على التحكيم بيانا بكيفية اختيار المحكمين، أو أن يعهدوا لهيئة أو مركز من الهيئات أو مراكز التحكيم الدائمة لتتولى تنظيم عملية التحكيم سر وفقا للقواعد أو اللوائح الخاصة بهذه الهيئات أو المراكز.
وفي التحكيم التجاري الدولي عرف بأنه "اتفاق بين طرفين من . المتعاملين في التجارة الدولية على أن تتم تسوية المنازعة التي ثارت بينهم أو ما قد ينشأ بينهم من منازعات مستقبلا عن طريق شخص أو أكثر محكم أو أكثر يستمدون سلطاتهم وصلاحيتهم من اتفاق التحكيم".
وبعد تسليط الضوء على تعريف التحكيم يمكن لنا أن نعرف التحكيم بأنه "ضمانة إجرائية لحسم منازعات الاستثمار، وطريق استثنائي يلجأ إليه أطراف عقد الاستثمار بناء على اتفاقهما المتخذ إما شرطا برد ضمن بنود عقد الاستثمار قبل نشوء النزاع أو مشارطة تحكيم تبرم قبل أو بعد نشوء النزاع، وذلك بهدف حل نزاعاتهم بعيدا عن المماطلة بحكم ملزم.
ويتبين من هذه التعريفات المتقدمة أهمية التحكيم باعتباره وسيلة لحسم المنازعات، فهو إجراء استثنائي يؤدي إلى إخراج المنازعات من اختصاص محاكم الدولة بناء على اتفاق الأطراف، وقد ركزت التعاريف السابقة على الهدف من التحكيم كأساس للتعريف دون بيان فيما إذا كان اتفاق التحكيم قد يأتي بصورة شرط ضمن بنود العقد أو مشارطة باتفاق مستقل بين الطرفين، فضلا عن ذلك نجد أن التعاريف لم تركز على دور مؤسسات التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار، وخصوصا أن أغلب المنازعات الاستثمارية في الوقت الحاضر تحسم عن طريق تلك المؤسسات.
يخلص القول أن قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1985م وتعديلاته في سنة ۲۰۰6م، قد أشار إلى تعريف التحكبد ولكنه لم يكن تعريفا جامعا أو مانعا في نص المادة رقم ۲/أ منه على أن التحكيم المقصود به أي تحكيم، سواء عن طريق مؤسسة تحكيم دائمة لا، وهو بذلك تعريف سطحي لم يشر سوى إلى الجهة الإدارية الت .. الممكن أن تدير عملية التحكيم سواء بواسطة مؤسسة خاصة بالتحكی لم يكن عن طريق المؤسسات، وهذا ما يسمى بالتحكيم الحر.