الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم والتوفيق والوساطة / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 27 / دور التحكيم في إنفاذ اتفاقات التسوية الناتجة من الوساطة باعتبارها وسيلة بديلة لحل المنازعات التجارية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 27
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    105

التفاصيل طباعة نسخ

ملخص البحث:

   يعتبر موضوع إنفاذ اتفاقات التسوية الناتجة من الوسـاطة enforcement of settlement agreements resulting from mediation or enforcement of mediated settlement agreements من أهم الموضوعات التي تثار عادة في وسط المشتغلين والمهتمين بالوسـاطة. وذلك لتزايد حالات عدم إنفاذ اتفاقات التسوية بصورة واضحة مع استخدام هذه الآلية حالياً بشكل ملحوظ في فض المنازعات التجارية.

   ويمكن إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة بعدة طرق منها طريق العقد (باعتبـار أن هذا الاتفاق هو في النهاية عقد) أو عن طريق تدخل المحاكم. ويمكن انفاذه أيضاً عن طريـق التحكيم. والموضوع الأخير هو جوهر بحثنا الحالي. بعبارة أخرى، نتساءل عن مدى إمكانيـة إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة عن طريق التحكيم، وذلك بوصفه حكماً صادراً من قبل محكم أو هيئة تحكيمية، تم تعيينها بعد التوصل إلى هذا الاتفاق؟ وفـي هـذا الـصدد، يثـور التساؤل عن إمكانية اعتبار هذا الحكم قابلاً للتنفيذ فـي إطـار اتفاقيـة نيويورك المتعلقـة بالاعتراف وإنفاذ أحكام التحكيم الأجنبية (اتفاقيـة نيويورك 1958) وترجـع أهميـة هـذا الموضوع الأخير نظراً لما لهذه الاتفاقية من أهمية كبيرة في إنفاذ أحكام المحكمين الأجنبيـة في دول كثيرة.

   وسنتناول هذا الموضوع، ولكن علينا أن نمهد له بتبيان ماهية الوساطة والتحكيم وغيرهمـا من الآليات البديلة التي تستخدم لفض المنازعات التجارية، وذلك للأهمية العظمى لهـذه التفرقـة وتأثيرها في فهم بعض الموضوعات التي يتم بحثها في هذا البحث.

    وبناء على ذلك سنقسم هذا البحث إلى المبحثين التاليين:

   المبحث الأول: ماهية الوساطة والتحكيم والتفرقة بينهما وبين غيرهما من الآليات المشابهة.

   المبحث الثاني: إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة عن طريق التحكيم.

المبحث الأول

ماهية الوساطة والتحكيم والتفرقة بينهما وبين غيرهما من الآليات المشابهة

تمهيد وتقسيم:

   هناك العديد من الآليات البديلة التي يمكن استخدامها في تسوية المنازعات التجارية. فمـن هذه الآليات الوساطة والتوفيق والتحكيم، وغير ذلك من الآليات.

   ففي هذا المبحث، سنعرض بداية لتعريف الوساطة وما تتميز به من خصائص، ثم نتعرض للتوفيق ونحاول أن نبين الفرق بينه وبين الوساطة. ونظراً لما يتميز به موضوع التحكـيـم مـن مكانة متميزة، فسنعرض له وغيره من الوسائل التي تجمعه مع الوساطة، ونميّـز بينـه وبـين التحكيم بالصلح.

بناء على ذلك سنقسم هذا المبحث الى المطالب التالية:

    المطلب الأول: الوساطة

    المطلب الثاني: التحكيم

    المطلب الثالث: آليات مجتمعة

    المطلب الرابع: التحكيم بالصلح

المطلب الأول: الوساطة

   تعرف الوساطة بأنها "محاولـة مـن جـانـب الأطـراف فـي نـزاع حـول موضـوع تجاري للوصول إلى تسوية لهذا النزاع، وذلك من خـلال مـساعدة شـخص محايـد يـسمى "الوسيط." ولذلك فإن الـدور الأساسـي للوسيط Mediator هو محاولـة التقريـب بـين وجهات نظر أطراف المنازعة والعمل على تقييد هـوة الخـلاف بيـنهم. مـن ذلـك يتـضـح أن الوسيط يعمل على تسهيل إجـراء الحـوار بـين أطـراف النـزاع مـن أجـل الوصـول إلى تسوية له. وقد يطـرح الوســط علـى كـل طـرف أوجـه القـوة وأوجـه الـضعف المتعلقة بالنزاع المعروض. وقد يقوم الوسيط بترتيـب مقـابلات مـشتركة أو منفـردة مـع أطراف الخصومة. وفي جميع الأحوال، يجب التذكير بأن الأطراف هم- وليس الوسيط- مـن يقررون ما إذا كان هذا النزاع سيجد طريقه إلى تسوية مرضية وماهية تلك التسوية." وفي حال الوصول إلى حل للنزاع يرتضي به أطرافه، يفترض أن يوقعوا الوثيقـة التـي تتـضمن هـذه التسوية.

    وتتم تسوية عدد لا بأس به من المنازعات التجارية عن طريق التوفيق. والتوفيق عبارة عن قيام شخص مستقل محايد (يسمى الموفق conciliator) يتفق عليه الأطراف مساعدتهم في حـل الخلاف الناشئ بينهم. وقد يلجأ – وهو في سبيله إلى تحقيق هذا النتيجة- إلـى طـرح بعـض الحلول في صورة توصيات محددة لتسوية النزاع.

المطلب الثاني: التحكيم

   التحكيم هو إجراء يتفق أطراف المنازعة على المثول للحكم الذي يصدره شخص (يسمى "محكماً" arbitrator) مستقل محايد ذو خبرة في موضوع النزاع. ويتم تعيين هذا الشخص من قبل الأطراف. بناء على ذلك لا يجوز لأحد الأطراف اللجوء إلى القضاء بخصوص موضـوع المنازعة، إلا من أجل الحصول على قرار لتنفيذ حكم التحكيم. وتتميـز إجـراءات التحكيم بالسرية، وبأنها أقل شكلية ومرونة مقارنة بالإجراءات التي تتبع أمام المحاكم. ويقال أيـضا- عن مميزات التحكيم أنه أقل كلفة.

    والتحكيم في مجمله يعتمد على ما يقدمه ويتفق عليه الأطراف. فقد يتفقون على أن يتولى الفصل في موضوع النزاع محكم واحد معروف بخبراته الواسعة المرتبطة بموضوع المنازعة أو أن يتولى الفصل في هذا الخلاف هيئة تحكيمية من ثلاثة أو خمسة محكمـين. ومـن الجـدير بالذكر أنه كلما زاد عدد المحكمين ارتفعت تكلفة التحكيم. وعادة ما يلجأ الأطـراف إلـى تحكيمية مكونة من خمسة محكمين إذا كانت قيمة المنازعة التجارية مرتفعة. وبعـد تق دیم طرف ما لديه من أدلة إلى المحكم أو الهيئة التحكيمية، يصدر حكم نهائي وملـزم للأطـراف. وكأصل عام يجب أن يتضمن حكم التحكيم أسبابه. هيئـة کل

المطلب الثالث: آليات مجتمعة

تمهيد وتقسيم:

   قد يلجأ الأطراف المتخاصمون الى الاتفاق على استخدام أكثر من آلية لتسوية المنازعـات المثارة بينهم. وبناء على ذلك نقسم هذا المطلب الى الفروع التالية:

   الفرع الأول: الوساطة- التحكيم (Med-Arb)

   الفرع الثاني: التحكيم- الوساطة (Arb-Med)

   الفرع الثالث: التحكيم-الوساطة-التحكيم (Arb-Med-Arb)

  الفرع الرابع: آلية الوساطة-التحكيم المشتركة (Co-Med-Arb)

الفرع الأول

الوساطة – التحكيم

    هذه الآلية – كما هو واضح من تسميتها- هي مـزيج مـن آليتـي الوسـاطة والتحكـيم Med-Arb. ومع ذلك تبقى كل عملية من هاتين العمليتين مستقلة بذاتها. حيث يلجأ إلى الوساطة بداية، فإذا لم يتم التوصل إلى تسوية مرضية للجانبين يتم الاحتكام إلى التحكيم، حيث يكون الحكم الصادر ملزماً للجانبين. وفي بعض القضايا يتم الاتفاق على أن يكون الوسيط هو نفسه المحكم. ولكن في الأغلب الأعم من المنازعات التجارية، يفضل الأطراف التحكيم عن طريـق شـخص مختلف.

    وتتميز عملية الوساطة التحكيم بأنها تجمع مزايا الوساطة والتحكيم في الوقت نفسه. حيث يتفق الأطراف على تسوية الخلاف بينهم عن طريق الوساطة، فإذا لم يتحقق لهم ذلك يتم اللجوء إلى الخطوة التالية المتفق عليها، ألا وهي التحكيم حيث يقـوم المحكـم المعـين أو المحكمـون المعينون من قبلهم بإصدار حكم ملزم لهم.

   ويتعين على الأطراف دراسة الأمر جيداً قبل الاتفاق على أن يقوم شخص واحـد بـدوري الوسيط والمحكم في النزاع نفسه. ومن ناحية أخرى، هناك ميزة مهمة، وهي أن قيـام شـخص واحد بهذين العملين يعني أنه سيصدر حكمه بناء على معرفة تأمـة بتفاصــل الخـلاف محـل المنازعة. ولكن توجد مشكلة غير هيئة، وهي أن الوساطة تفترض أن يقوم كل طرف بمناقشة وجهة نظره بحرية كاملة وبإظهار مستنداته وبطرح بعض الأفكار التي تكون مقبولة بالنسبة لـه. وكل طرف يقوم بذلك وهو على يقين بأن كل هذه الأفكار ووجهات النظـر والمعلومـات التـي تتضمنها هذه المستندات سوف تبقى سرية. حيث يلتزم كل المشاركين في عملية الوساطة بسرية المعلومات التي تطرح خلالها. وأيضاً لا يجوز لأي طرف أن يستخدم أياً من هذه المعلومات في أي قضية أو نزاع يمكن أن يعرض مستقبلاً أمام القضاء، إلا إذا كان ذلك بأمر القاضي، وبنـاء على أسباب مبررة. وحيث إنه في عملية "الوساطة- التحكيم" يقوم الوسيط بعد ذلك بدور المحكم، وبما أنه قد وصلت إليه معلومات تفصيلية في مرحلة الوساطة، فيتولـد الخـوف لـدى بعـض المتعاملين في مجال التجارة من أن قرار هذا الشخص – بصفته محكماً- لـن يكـون محايـداً بالكامل.

الفرع الثاني

التحكيم- الوساطة

   في التحكيم – الوساطة Arb-Med يبدأ الأطراف في التحكيم، وعندما يتم التوصل إلى حكم تحكيمي، يحرص على عدم إصداره أو إعلانه. ثم تجرى الوساطة، فإذا لم يستطع الأطراف من خلال الوساطة التوصل إلى تسوية مرضية لهم، يتم الكشف والإعلان عن حكم التحكيم الذي تـم وضعه في مظروف مغلق. وهذا الحكم هو حكم ملزم لأطرافه. على النقيض من الوساطة- التحكيم Med-Arb. حيث يسعى الأطراف إلى التوصل إلى تسوية النزاع من خلال الوساطة، ولذلك فهم يتجنبون تكاليف التحكيم، فإن الأطراف في التحكيم - الوساطة Arb-Med يتحملـون تكاليف ونفقات التحكيم حتى لو تمت تسوية النزاع من خلال عملية الوساطة. وتجدر الإشـارة إلى أن التكاليف التي من الممكن أن يتحملها الأطراف في التحكيم الوساطة، تجعـل الأطـراف يفضلون عملية الوساطة التحكيم Med-Arb عن هذه الآلية Arb-Med.

الفرع الثالث

التحكيم - الوساطة التحكيم (Arb-Med-Arb)

     يتفق الأطراف على إعطاء المحكم المعين بواسطتهم سلطة القيام بالوساطة بيـنهم بغـرض الوصول إلى تسوية تنال رضاهم جميعا، فإذا ما فشل هذا المحكم بصفته وسيطا في التوصل إلى هذه التسوية، يباشر سلطته كمحكم. وتفترض هذه الحالة أن هناك شخصاً واحداً سيقوم بـدوره أولاً كمحكم، ولكن قبل أن يبدأ دوره هذا يباشر دوره كوسيط- وفقاً لاتفاق الأطـراف- محـاولاً التوصل إلى تسوية مقبولة من جانب هؤلاء الأطراف. فإذا لم ينجح فـي دوره كوسيط – أي لم يتم التوصل إلى اتفاق تسوية من جانب الأطراف بمساعدة الوسيط- يباشر دوره مـن جـديـد كمحكم.

الفرع الرابع

آلية الوساطة-التحكيم المشتركة (Co-Med-Arb)

   هنا يقوم كل من الوسـيط والمحكـم بــسماع مـا لـدى الأطـراف مـن حـجـج وأدلـة بخصوص النزاع المعروض عليهما. ثـم يقـوم الوسيط بمحاولـة لتسوية هـذا النـزاع بمفرده ودون تـدخل مـن جـانـب المحكـم الـذي يـستدعى فقـط إحـدى الحـالتين الآتيتين:

   - إصدار حكم بشروط متفق عليها- أي حكم تحكيم يسجل أحكام تـسوية توصـل إليهـا أطراف النزاع بإرادتهم.

   - فشل الوسيط في مهمته، ويتدخل هذا المحكم لمباشرة مهمته المعينة له كمحكم.

    وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المحكم قد عينه الأطراف قبل التوصل إلى تسوية للنـزاع المثار بينهم. وهذه الحالة تختلف عن الحالة التي يعين فيها المحكم بعد التوصل إلى تسوية للنزاع، والتي غالباً ما تكون نتيجة عملية الوساطة. ففي هذه الحالة ولسهولة إنفاذ اتفاق النسوية الناتج من الوساطة، يتفق الأطراف، إما على تعيين الوسيط كمحكم أو تعيين شخص آخر كمحكم من أجـل تأكيد اتفاق التسوية في صورة حكم تحكيمي. وهذا ما تبنته صراحة المادة 14 من قواعد معهـد الوساطة التابع لغرفة تجارة ستوكهولم.

    ولهذا الأمر أهمية بالغة – كما سنرى لاحقاً في هذا البحث- من حيث مــدى اعتبـار هـذا الحكم حكماً تحكيمياً – حكم التحكيم الصادر بناء على شروط متفق عليهـا بـالمعنى الفنـي الدقيق، حيث تشترط قوانين بعض الدول (منها قـانون التحكـيم الإنجليـزي وقـانون التحكـيم المصري) أن يكون التحكيم بصدد نزاع نشأ أو سينشأ في المستقبل، وليس بصدد نزاع قد تمـت تسويته وكتابة بنوده في اتفاق. وتظهر أهمية هذا الموضوع -أيضاً- في إمكانية إخضاع مثل هذه الأحكام لاتفاقية نيويورك 1958.

المطلب الرابع: التحكيم بالصلح Ex aequo et bono

   على عكس التحكيم بالقانون حيث يصدر المحكم الذي ينظر في النزاع المعـروض عليـه حكمه وفقا للقواعد الموضوعية المنصوص عليها في القانون الواجب التطبيق على هذا النـزاع، فإن التحكيم بالصلح لا يتقيد المحكم فيه بأحكام القانون الموضوعية، حيث إنه يصدر حكمه وفقـاً لقواعد العدالة والإنصاف، بشرط أن يكون الحكم منطقياً ومعقولاً بعد الأخذ في الاعتبـار كافـة الظروف المحيطة بالقضية. وتجدر الإشارة إلى أن المحكم في التحكيم بالصلح يستطيع رغـم ذلك أن يحكم وفقاً لقواعد القانون. فصلاحيات المحكم هنا تعطيه الحق في عدم التقيد بالقواعـد الموضوعية للقانون، ولكن يحق له أن يحكم وفقاً لهذه القواعد، إذا وجد ذلك عادلاً ومنصفاً.

   ويشترط أن يكون الاتفاق على التحكيم بالصلح صريحاً على أساس أن هذا النوع من التحكيم يمثل استثناء من القاعدة العامة التي تقضي بأن يصدر المحكم حكمه، وفقاً للقواعد الموضـوعية التي يحددها القانون الواجب التطبيق على النزاع. وتشترط بعض القوانين كقـانون المرافعـات المدنية والتجارية القطري في المادة 191 وجوب ذكر أسماء المحكمين. حيث تنص علـى: "لا يجوز تفويض المحكمين بالصلح، ولا الحكم منهم بـصفة محكمـين مـصالحين، إلا إذا كـانوا مذكورين بأسمائهم في الاتفاق على التحكيم أو في اتفاق مستقل."

    ويتضح من ذلك أن التحكيم مع تخويل المحكم بالصلح ما هو إلا تحكيم حقيقي. وهو في هذا يختلف عن الوساطة، حيث إنه في الوساطة يكون القرار النهائي للأطـراف وليس للوسـيط. فالوسيط يسهل عملية الاتصال والتواصل بين الأطراف من أجل تقريب وجهة نظرهم، ولكـن لا يأتي بقرار من عنده. وفي حال التحكيم بالصلح يجوز الطعن على حكم المحكم بطرق تنص عليها القوانين الوطنية. أما في حال الاتفاق الناتج من الوساطة فهو في النهاية عقد لا يطعن عليـه، إلا إذا أراد أحد الأطراف تعطيل إنفاذه، ويطعن عليه بصفة عامة- بصفته عقداً لا حكماً.

المبحث الثاني

إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة عن طريق التحكيم

تقسیم:

نقسم هذا المبحث إلى المطلبين التاليين:

المطلب الأول: إنفاذ اتفاق التسوية عن طريق التحكيم في التشريعات المقارنة.

المطلب الثاني: إمكانية إنفاذ حكم التحكيم الصادر بعد حل النزاع خلال عمليـة الوسـاطة بموجب اتفاقية نيويورك.

المطلب الأول: إنفاذ اتفاق التسوية عن طريق التحكيم في التشريعات المقارنة

   تنص قوانين بعض الدول صراحة على إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة عن طريـق التحكيم، باعتباره حكماً تحكيمياً. والهدف الرئيس من وراء ذلك- كما سنبين لاحقاً في المطلـب القادم- هو جعل هذا الحكم التحكيمي قابلاً للإنفاذ على المستوى الـدولي مـن خـلال اتفاقيـة نيويورك المتعلقة بالاعتراف بأحكام المحكمين الأجانب وإنفاذها (1958). فعلى سبيل المثـال، تنص الفقرة الثالثة من المادة 18 من قواعد مجلس التحكيم التجاري الكوري على ما يلي :

   "إذا نجح التوفيق في تسوية النزاع، يعتبر الموفق كالمحكم المعـين بموجـب اتفـاق بـين الطرفين، ويجب أن تعامل التسوية الناتجة عن التوفيق بنفس طريقة حكم التحكيم...".

   وبالمثل، فإن المادة 14 ( المعنونة بـ "التأكيد على معاملة اتفاق التسوية علـى أنـه حـكـم تحكيمي) من قواعد معهد الوساطة التابع لغرفة تجارة ستوكهولم، تؤكد ذلك بنصها:

   "عند التوصل إلى اتفاق تسوية، يجوز للأطراف، رهناً بموافقـة مـن الوسـيط، الاتفـاق على تعيين هذا الوسيط كمحكـم ويطلـب منـه تأكيـد اتفـاق التسوية فـي صـورة حكـم تحكيمي. ويلاحظ على هذا النص أن الوسيط لا يمكن أن يكون محكماً إلا فـي حـال نجـاح الوساطة فقط.

   وأتاحت بعض الولايات الأمريكية وسائل قانونية مماثلة لمنازعات التجارة الدولية. فمـثلاً، ينص قانون الإجراءات المدنية الخاص بولاية كاليفورنيا على أنه:

   "إذا نجحت عملية التوفيق في تسوية النزاع، وتمت كتابة نتيجة التوفيق، وتم التوقيع عليه من قبل الموفق أو الموفقين والأطراف أو ممثليهم، يعامل هذا الاتفاق المكتوب كحكم تحكيم صـادر عن هيئة تحكيم شكلت حسب القواعد المنصوص عليها في قوانين هذه الولاية، ويكون له نفـس القوة والتأثير باعتباره حكماً نهائياً صادراً في عملية تحكيمية."

 

إشكالية: تعيين المحكم يستلزم وجود منازعة مثارة لم تتم تسويتها في وقت تعيينه:

    في حين أن إصدار مثل هذه النصوص والقوانين يبدو وسيلة مفيدة لإنفاذ اتفاقـات التـسوية الناتجة من الوساطة، ولكن تبقى مشكلة مهمة يجب إثارتها وهي أن تعيين المحكم بعـد تـسوية النزاع لا يمكن أن يحدث في بعض الدول الأخرى، لأن قوانين هذه الدول تشترط أن يكون هناك نزاع ما لم تتم تسويته عند تعيين المحكم. فعلى سبيل المثال، تتطلب الفقرة الأولى مـن المـادة السادسة من قانون التحكيم الإنجليزي الصادر عام 1996، وجود مثل هذا الشرط فـي تعريفهـا اتفاق التحكيم. وتجري هذه المادة على النحو التالي:

   "في هذا الجزء من هذا القانون،" يعني اتفاق التحكيم اتفاقاً على تسوية نزاعـات قائمـة أو مستقبلية (سواء كانت عقدية أم لا) بواسطة التحكيم."

   وأيضاً تنص الفقرة الأولى من المادة العاشرة من قانون التحكيم المصري رقـم 27 لسنة 1994 المعدل بالقانون رقم 9 لسنة 1997، على الآتي:

   "1- اتفاق التحكيم هو اتفاق الطرفين على اللجوء إلـى التحكـيـم لـتـسـويـة كـل أو بعـض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غيـر عقدية.

    وتنص الفقرة الأولى من المادة 173 من قانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي (قانون رقم 38 لسنة 1980) على الآتي:

    "يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين، كما يجوز الاتفاق على التحكـيم المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ عقد معيّن."

    ويجري نص الفقرة الأولى من المادة العاشرة من المرسوم السلطاني العماني رقم 47 لسنة 1997 بإصدار قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية على الآتي:

    1- اتفاق التحكيم هو الاتفاق الذي يقرر فيه طرفاه اللجوء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غيـر عقدية."

   وتنص المادة 190 من قانون المرافعات المدنية والتجارية القطري على الآتي:

    "يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين بوثيقة تحكيم خاصة، كما يجوز الاتفـاق علـى التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ من تنفيذ عقد معين... ويجب أن يحدد موضوع النزاع في وثيقة التحكيم أو أثناء المرافعة...."

    أما مشروع قانون التحكيم القطري، فتتضمن المادة السابعة منه تعريفاً لاتفاق التحكيم:

   "اتفاق التحكيم هو اتفاق الأطـراف علـى أن يحيلـوا إلـى التحكـيم، جميـع أو بعـض النزاعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بشأن علاقة قانونية محددة، تعاقديـة كانـت أو غيـر تعاقدية... .".

    وتعرف المادة السابعة من قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجـاري الـدولـي الـذي اعتمدته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي عام 1985، حسب التعديلات التي اعتمـدت عام 2006، اتفاق التحكيم بأنه:

    "اتفاق بين الطرفين على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض النـزاعات التي نشأت أو قد تنشأ بينهما بشأن علاقة قانونية محددة، سواء أكانت تعاقدية أم غير تعاقدية....".

    وبناء على هذه النصوص، فإنه لا يوجد "نزاع قائم أو مستقبلي"، على أساس أن هذا النزاع قد تمت تسويته خلال عملية الوساطة، ولذلك لا يمكن تعيين محكم لتأكيد هذه التسوية من خـلال حكم تحكيمي. وبالتالي يعد باطلاً وغير قابل للتنفيذ أي حكم صادر من محكم معين بعد تسوية النزاع خلال عملية الوساطة. وهنا يثار التساؤل عما إذا كان ممكناً الوصول إلى حـل لـهـذه المشكلة، وذلك حتى تفادي هذه المشكلة بتعديل تشريعي يجيز تعيين محكم بعد تسوية النزاع فـي التشريعات السابقة وغيرها. ويمثل هذا النص – في حال تبنيه فـي الـدول المعنيـة- محاولـة مشروعة لعدم مهاجمة حكم التحكيم، بناء على أن المحكم قد عين بعد إقـرار تـسوية النـزاع. وينبغي أن يحكم هذا القانون الذي يجيز تعيين محكم بعد تسوية النزاع اتفاق التسوية مع إعطـاء المحكم سلطة التصرف بناء على ذلك.

   ويقترح في هذا الشأن أن يتم تعيين المحكم قبل بدء الوساطة وتسوية المنازعة المطروحـة من خلال ما يعرف بطريقة " التحكيم الوساطة التحكيم .Arb-Med-Arb" إمـا عـن طـريـق المحكم نفسه مع صياغة وثيقة تسوية المنازعة بعناية كبيرة حتى يتم تنفيذها من قبـل الأطـراف الموافقة على هذه العملية أم عن طريق وسيط يعين مستقلاً وعلى حدة لتسوية المنازعة. حين أن هذا قد يكون مرضياً للبعض، ولكن هناك العديد من الحالات التي يكون فيها طرف مـا على استعداد للذهاب إلى الوساطة، ولكن يفضل تسوية النزاع عن طريق المحكمة بدلا من اللجوء إلى التحكيم، وذلك في الحالة التي لم ينجح الأطراف في عملية الوساطة فـي التوصـل إلـى تسوية.

المطلب الثاني:

إمكانية تنفيذ حكم التحكيم الصادر بعد حل النزاع من خلال عملية الوساطة بموجب اتفاقية نيويورك

   اعترافاً بازدياد أهمية التحكيم الدولي كوسيلة لتسوية المنازعات التجارية الدوليـة، تـسعى اتفاقية نيويورك المتعلقة بالاعتراف بأحكام المحكمين الأجانب وإنفاذها (1958) إلـى تـوفير معايير تشريعية مشتركة بشأن الاعتراف باتفاقات التحكيم، وكذلك اعتـراف المحـاكم بأحكـام التحكيم الأجنبية وغير المحلية وإنفاذها. والهدف الرئيس الذي ترمي إليه الاتفاقية هو السعي إلى عدم التمييز تجاه أحكام التحكيم الأجنبية وغير المحلية؛ ومن ثم فإن الاتفاقية تلزم الدول الأطراف بضمان الاعتراف بتلك الأحكام واعتبارها عموماً قابلة للإنفاذ في ولاياتها القضائية على غـرار أحكام التحكيم المحلية. كما أن من الأهداف الأخرى التي ترمي إليها الاتفاقية أنها تطلب مـن محاكم الدول الأطراف أن تجعل اتفاقات التحكيم ذات مفعول تام، وذلك باقتضائها مـن المد حرمان الأطراف من سبل اللجوء إلى المحكمة إخلالا باتفاقهما على إحالة نزاع ما إلـى هيئـة تحكيم.

   ويثار التساؤل عما إذا صدر حكم تحكيم يتعلق بإنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة، فهل يمكن أن ينفذ هذا الحكم وفقاً لاتفاقية نيويورك؟ بعبارة أخرى، هل يمكن تنفيـذ حكـم التحكـيم بموجب اتفاقية نيويورك حتى إذا تم تعيين المحكم بعد حل النزاع خلال عملية الوساطة؟ وتجدر الإشارة إلى حقيقة مهمة يجب أخذها في الاعتبار، وهي أن عدم وجود مثل هذه الآليـة (اتفاقيـة نيويورك) سيؤدي إلى جعل إنفاذ حكم التحكيم في كثير من الأحيان ذي فائدة أقل.

   وفي تحليل هذا الموضوع، تجدر الإشارة بداية إلى أنه من المقبول أن يؤيد المحكـم اتفـاق الأطراف على تسوية نزاع نشب بينهم خلال عملية التحكيم، وذلك عن طريـق " حكـم تـحـكـيـم اتفاقي يسجل أحكام تسوية توصل إليها الأطراف بإرادتهم الحرة - agreed award ويمثل هذا الحكم بصفة عامة انعكاساً لاتفاق الطرفين وليس تحليلاً للمحكم لأسباب وظروف النـزاع.

   ويقر قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي اعتمدته لجنـة الأمـم المتحـدة للقانون التجاري الدولي عام 1985 حسب التعديلات التي أقرت عام ،2006 صراحة، مثل هذه الأحكام والاعتراف بها، وذلك في الفقرة الأولى من المادة 30:

   "إذا حدث أثناء إجراءات التحكيم، أن تم التوصل إلى تسوية للنزاع بين الأطـراف، وجـب على هيئة التحكيم إنهاء الإجراءات، وإذا طلب الأطراف، ولم يكن هناك اعتراض من جانب هيئة التحكيم، يجوز تسجيل هذه التسوية في شكل حكم تحكيم، وفقاً لما تم الاتفاق عليـه." وتـنـص الفقرة الثانية من المادة نفسها (المادة 30) على أنه "... يكون لهذا الحكم الصفة نفسها والأثر نفسه الذي يكون لأي حكم تحكيم آخر يصدر في موضوع الدعوى.".

    علاوة على ذلك، فإن هناك العديد من قوانين التحكيم في بعض الدول تجيز للمحكم، وفـي بعض آخر تشجع وتطلب من المحكم، أن يحاول التوسط بين الأطراف أولاً لحل النزاع القـائم. ومن هذه قواعد التحكيم في البرازيل والصين وهونغ كونغ، حيث يجـوز للمحكـم أن يحـاول إجراء الوساطة أو التوفيق في أثناء إجراءات التحكيم.

    وتنص الفقرة الرابعة من المادة 21 من قانون التحكيم البرازيلي على أنـه: "يتعـيـن علـى المحكم أو هيئة التحكيم، عند بدء الإجراءات، محاولة التوفيق بين الأطراف، وتطبيق، إلى أقصى حد ممكن، المادة 28 من هذا القانون. ويجري نص المادة 28 على مـا يلـي: "إذا توصـل الأطراف إلى تسوية النزاع عن طريق الاتفاق بينهم، وذلـك فـي سـياق إجـراءات التحك فإنه يجوز للمحكم أو لهيئة التحكيم، بناء على طلب الأطراف، جعل حكم التحكيم متضمناً ومعلناً هذه الحقيقة، ويجب أن يحتوي على المتطلبات المنصوص عليهـا فـي المـادة 26 مـن هـذا القانون.

    وتنص المادة 51 من قانون التحكيم لجمهورية الصين الشعبية رقـم 31 لـسنة 1994، على الآتي: "قبل أن يتم إصدار حكم التحكيم، يجوز لهيئة التحكيم أن تحاول أولا التوفيـق. وإذا طلب الأطراف بداية التوفيق بإرادتهم، وجب أن تتولى هيئة التحكيم التوفيـق. وإذا لـم يـنجح التوفيق، فيجب أن يصدر حكم التحكيم على وجه السرعة. وعندما يتم التوصل إلى اتفاق تـسوية عن طريق التوفيق، تتولى هيئة التحكيم إعداد مذكرة توفيق أو حكم تحكيم على أساس نتائج اتفاق التسوية. ويكون لمذكرة التوفيق القوة القانونية نفس التي تكون لحكم التحكيم."

    وتقضي المادة 33 من القسم الثاني من الجزء الرابع من مرسوم التحكيم الخـاص بهونـغ كونغ،على جواز أن يقوم المحكم بدور الوسيط، إذا وافق جميع الأطراف كتابة على ذلك، وأن تكون إجراءات التحكيم قد بدأت بالفعل. ويجوز له أن يجتمع مع الأطراف سواء فـي جـلـسـات مشتركة أو كل على حدة. ولكن إذا لم يتم التوصل إلى تسوية، وجب عليه أن يعلن- قبل استئناف إجراءات التحكيم- عن رأيه للأطراف في الموضوعات المهمة للتحكيم. وينص المرسوم كـذلك على أنه لا يجوز إبداء أي اعتراض على سير إجراءات التحكيم الذي تم على أساس أن المحكـم قد قام بدور الوسيط في السابق.

    ونرى أن "أحكام التحكيم الاتفاقية agreed awards" التي تصدر من جانب محكم معين قبل تسوية النزاع ستكون خاضعة لأحكام اتفاقية نيويورك وستكون قابلة للإنفاذ بموجب هذه الاتفاقية. ونعتقد في صحة نفس النتيجة إذا تم تعيين المحكم بعد تسوية النزاع من خلال عملية الوسـاطة. ويؤيد رأينا في هذا الصدد الكلمات والعبارات المستخدمة في هـذه الاتفاقيـة. والنـصوص ذات الصلة بهذا الموضوع في هذه الاتفاقية هي كما يلي:

  • المادة 1 (1): "تنطبق هذه الاتفاقية على اعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الناشئة عـن منازعات بين الأشخاص ....".

  • المادة 2 (1): "تعترف كل دولة متعاقدة بالاتفاق المكتوب الذي يلتزم بمقتضاه الأطراف أن يخضعوا للتحكيم في كل أو بعض المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم بشأن موضوع من روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية المتعلقة بمسألة يجوز تسويتها عـن طـريـق التحكيم."

   • المادة 5 (2): "يجوز لدولة ما أن ترفض الاعتراف والإنفاذ إذا تبين لهـا: (أ) أن قـانون ذلك البلد لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم أو (ب) أن فـي الاعتـراف المحكمين أو إنفاذه ما يخالف النظام العام في هذا البلد.

    إن لغة المصطلحات المستخدمة في اتفاقية نيويورك لا تشير إلى العنصر الزمني الـدقيق، مثل قواعد التحكيم الوطنية كقانوني التحكيم الإنجليزي، وكقانون التحكيم المصري. حيـث إن هذه القوانين تتطلب نزاعاً قائماً بالفعل أو سوف ينشأ في المستقبل. ويصعب علينا تحديد مـا إذا كان النزاع يجب أن يكون موجوداً ومثاراً في وقت تعيين المحكم أم لا.

    وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلـى توصيات الأونسيترال المتعلقة بتفسير اتفاقيـة نيويورك، والتي تعتبر آلية متاحة لتوضيح المعنـى الحقيقـي الـذي يمكـن أن يعطـى للغـة المستخدمة في هذه الاتفاقية. وهذه التوصيات يمكن أن توضح مدى تطبيق الاتفاقية على أحكام التحكيم التجارية الدولية التي تعتبر فـي الأسـاس اتفاقـات للأطـر الأسـاس اتفاقـات للأطـراف تمـت نتيجـة عمليـة وساطة.

   وتجدر الاشارة الى أنه في شهر يوليو 2014، بدأت «مجموعة عمل اليونسيترال الثانيـة» (التحكيم والتوفيق) عملها لمناقشة مقترح اتفاقية دولية جديدة متعـددة الاطـراف بـشأن «انفـاذ الاتفاقيات الناتجة عن الوساطة». ويؤمل أن يكون لهذه الاتفاقية التأثير الكبيـر الـذي لاتفاقيـة نيويورك بشأن التحكيم.

الخاتمة

   خلال العقدين الماضيين ارتفعت حالات اللجوء إلى الوساطة كآلية بديلة لتسوية المنازعـات التجارية سواء على المستوى المحلي في بعض البلدان أو على المستوى الـدولي. ومـن بـين الأسباب التي أدت إلى هذا التزايد في نسبة لجوء الأطراف إلى هذه الآلية أنها تمتاز بالعديد مـن المميزات منها السرعة وقلة التكلفة، وأنها آلية منظمة تحتوي على خطة وجدول زمني يوضـع بواسطة الوسيط بالاشتراك مع الأطراف. وتمتاز - أيضاً- بأنها تعتمد أساسـاً علـى الأطـراف وقدرتهم على التوصل إلى تسوية لنزاعهم بمساعدة الوسيط. ويقتصر دور الوسيط على تسهيل إجراء الحوار بين الأطراف ومساعدتهم على التوصل إلى هذه التسوية. وهو في سبيل ذلك يقوم بعرض ومناقشة أوجه القوة وأوجه الضعف المتعلقة بموقف كل طرف من الأطراف، وغالباً مـا يتم ذلك في مقابلات منفردة مع كل طرف من هؤلاء الأطراف.

     وكما سبق أن ذكرنا، تنفذ اتفاقات التسوية الناتجة من الوساطة بقـدر أعلـى مـن أحكـام المحاكم، ويرجع ذلك إلى أن الأطراف أنفسهم هم من توصلوا إلى هـذه الاتفاقـات، ومـن ثـم يشعرون بعدالة هذه الاتفاقات وبقدرتهم على تنفيذها. ولذلك فإن احتمالية عـدم تنفيـذ أي مـن الالتزامات المتفق عليها في هذه الاتفاقات نقل بشكل ملحوظ.

   ومع الزيادة المستمرة في اللجوء إلى الوساطة كآلية فعالة لفض المنازعـات التجاريـة، زادت- أيضاً- نسبة المنازعات حول اتفاقات التسوية الناتجة منها، ومن المتوقـع أن تتزايـد - أيضاً- في المستقبل. وغالباً ما تكون هذه المنازعات متعلقة بموضوع إنفاذ هذه الاتفاقات.

    وتجدر الإشارة إلى أن اتخاذ إجراءات معينة لتفعيل أو إنفاذ الاتفاقات الناتجة من الوسـاطة يؤثر تأثيراً مباشراً على المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الوساطة، وهي السرعة في الوصول إلى تسوية ما، والاقتصاد في النفقات، والحفاظ على العلاقات الودية بين الأطراف المعنية. ومدى تأثر هذه المبادئ يتوقف على الآلية المتاحة لتفعيل وإنفاذ مثل هذه الاتفاقات.

   وكما بينا توجد ثلاث آليات رئيسة يمكن من خلالها إنفاذ اتفاق التسوية الناتج من الوساطة، وهي:

  - عن طريق العقد : يمكن للأطراف محاولة إنفاذ اتفاق التسوية وفقاً للمبادئ العامة لقـانون العقود باعتبار هذا الاتفاق في النهاية عقداً، ولكن في هذه الحالة سيخضع الاتفاق للدفوع المعتادة التي من الممكن أن تشوب أي عقد (مثل عيوب الرضا أو الأهلية). ومـع نلاحظ ذلـك أننا أمام عقد تسوية ناتج من عملية الوساطة، والأطراف لم تلجأ إلى الوساطة، إلا بسبب أن العقد الأصلي لم يتم تنفيذه من جانب أحد الأطـراف. وهـذه  هي المشكلة الأساسية التي تواجه الجميع بخصوص هذه الآلية.

- عن طريق المحكمة: يمكن إنفاذ هذا الاتفاق عن طريق المحكمة، وقد أخذ بهذه الطريقـة بصورة واضحة- ضمن غيرها- التوجيه الأوروبي المتعلق بالوساطة ومشروع قـانون الوساطة المصري.

 - عن طريق هيئة تحكيمية: يمكن إنفاذ هذا الاتفاق بصفته حكماً تحكيمياً، سواء كان ذلـك باعتبار اتفاق التسوية في حد ذاته حكماً تحكيمياً، كما هو الوضع في الهند، أو استلزام اعتماده من هيئة تحكيمية عينت قبل التوصل إلى تسوية أو بعدها، كما هو الحال – كمـا سبق أن ذكرنا- في الصين.

    وبالإضافة إلى هذه الآليات، توجد طرق أخرى يمكن من خلالها إنفاذ اتفاقات التسوية الناتجة من الوساطة. من هذه الطرق ضرورة توثيق هذه الاتفاقات، كما هو متبع في سلوفاكيا. وفـي بلجيكا تعتبر الأوامر الصادرة من المحاكم والمصدقة لاتفاقات التسوية أحكاماً. أما في هولندا، فيجب أن يصادق قاض على هذه التسويات.

  وبعد هذا العرض الموجز لأهم ما تناولناه في هذا البحث نخلص إلى النتائج التالية:

   - على الرغم من الأهمية الكبيرة لدور المحاكم في إنفاذ اتفاقـات التسوية الناتجـة مـن الوساطة، فإنه تجدر الإشارة إلى أنه حتى مع الحـصول علـى حـكـم قـضائي، فـإن الصعوبات التي تواجه تنفيذ هذا الحكم المتعلق بالشأن التجاري الدولي في دولة أخـرى أجنبية، تعد في كثير من الأحيان عقبات غير هينة. ومن هـذه الـصعوبات أن هـذه الأحكام تنفذ داخل الدولة التي تنتمي إليها المحكمة التي أصدرتها، ولا تنفذ خارج إقلـيم هذه الدولة، إلا إذا كانت هناك اتفاقية ثنائية أو إقليمية تسمح بهذا. ومن ثم فـإن عـدم وجود مثل هذه الاتفاقية سيقلص إلى حد كبير الفوائد التي يأمل في الحصول عليها مـن تنفيذ الحكم الأجنبي. ويمكن تفادي هذه الصعوبات إذا كان ممكناً إنفـاذ اتفـاق الـتـسوية الناتج من الوساطة باعتباره حكماً تحكيمياً، وبالتالي الاستفادة من آليات التنفيذ المعمـول بها في اتفاقية نيويورك.

  - من أجل الاستفادة من نظام اتفاقية نيويورك تنص قوانين بعض الدول على إنفاذ اتفاقـات التسوية الناتجة من الوساطة عن طريق التحكيم، مثل كوريا وقواعد معهد الوساطة التابع لغرفة تجارة ستوكهولم وقانون ولاية كاليفورنيا. وتسمح هذه القوانين بأن يعين المحكـم بعد التوصل إلى اتفاق للتسوية. وتعد هذه مشكلة لبعض الدول التي تنص قوانين التحكيم فيها على أنه يجب أن يعين المحكم للفصل في نزاع ما موجود وقت تعيينه (مثل قـانون التحكيم الإنجليزي وقانون التحكيم المصري وغيرهما من قوانين التحكـيم فـي الـبلاد العربية). وللتغلب على هذه المشكلة – وإلى أن يتدخل المشرع بتعديل تشريعي يجيـز - صراحة إمكانية تعيين المحكم بعد التوصل إلى اتفاق للتسوية- اقترحنا أن تجرى عمليـة فض النزاع من خلال ما يسمى طريقة "التحكيم- الوساطة التحكيم".

- هناك العديد من قوانين التحكيم في بعض الدول تجيز للمحكم، وفي بعض آخـر تـشجع وتطلب من المحكم، أن يحاول أن يتوسط بين الأطراف أولا لحل النزاع القائم. من هـذه قواعد التحكيم في البرازيل والصين وهونغ كونغ، حيث يجوز للمحكم أن يحاول إجـراء الوساطة أو التوفيق في أثناء إجراءات التحكيم.

  - في ما يتعلق بما يسمى "أحكام التحكيم الاتفاقيـة agreed awards - أحكـام تحكيميـة تسجل أحكام تسويات توصل إليها الأطراف بإرادتهم الحرة- والتي تصدر مـن جـانـب محكم معين قبل تسوية النزاع، نرى خضوعها لأحكام اتفاقية نيويورك وتكـون قابلـة للإنفاذ بموجب هذه الاتفاقية. ونعتقد في صحة النتيجة نفسها- للأسباب التـي ذكـرت سابقاً- إذا تم تعيين المحكم بعد تسوية النزاع من خلال عملية الوساطة. ولكن نرى فـى الوقت نفسه ضرورة إصدار توصية لتفسير مدى انطباق نصوص اتفاقية نيويورك علـى حكم التحكيم الصادر عن محكم معين بعد حل النزاع من خلال عملية الوساطة.

   وختاماً نود أن يصدر المشرع في كل من مصر وقطر القوانين المتعلقة بالوساطة في أسرع وقت ممكن حتى يجد المتعاملون في المجال التجاري أسساً قانونية واضحة لتسوية منازعاتهم من خلال الوساطة، ويجد هؤلاء – أيضاً طرقاً واضحة متعلقة بإنفاذ اتفاقات التسوية التي يتوصلون إليها خلال هذه العملية، حيث إنه بدون قواعد بينة لإنفاذ اتفاقات التسوية الناتجة من الوساطة، فإن هذه العملية لن تحقق النجاح المنشود من وراء تبنيها.