التحكيم / التحكيم والصلح / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / رقابة محكمة التمييز في لبنان على القرار الاستئنافي الصادر في التحكيم المطلق
نصّت الفقرة الرابعة من المادة 804 من قانون أصول المحاكمات المدنية المعدّلة على أنّ القرار التحكيمي في التحكيم المطلق لا يقبل التمييز "إلاّ في حال أبطلت محكمة الإستئناف القرار المذكور".
لن نتطرّق في هذا البحث إلى اللّغط الذي تثيره هذه المادة في ما خصّ الطعن بالقرار التحكيمي تمييزاً. فمن البديهي أنّ الطعن بالتمييز لا يمكن أن يتناول إلاّ القرار الإستئنافي الذي فصل في دعوى الإبطال الموجهة ضد القرار التحكيمي الصادر في تحكيم مطلق. إنَّ موضوع هذه الدراسة ينحصر في الشقّ الثاني من الفقرة المذكورة الذي يشترط لقبول التمييز الموجّه ضد القرار الإستئنافي أن تكون محكمة الإستئناف قد أبطلت القرار التحكيمي.
من المعروف أنَّ رقابة محكمة الاستئناف الناظرة في البطلان هي رقابة محدَّدة بأسباب الإبطال الحصريَّة المحدَّدة في المادة 800 أصول مدنيَّة بالنسبة للتحكيم الداخلي، وبالمادة 817 أصول مدنيَّة في ما يتعلَّق بالتحكيم الدولي. وهي رقابة تعدّ، في الوقت نفسه، أوسع وأضيق من الرقابة التمييزيَّة على القرارات القضائيَّة. ففي ما خصّ السببيّن الأول والثاني، وهما: (1) صدور القرار بدون إتفاق تحكيمي أو بناءً على إتفاق تحكيمي باطل أو ساقط بإنقضاء المهلة (2) وصدور القرار عن محكمّين لم يعينوا طبقاً للقانون، تكون هذه الرقابة شاملة في الواقع والقانون، وتلعب محكمة الإستئناف دور قاضي الإستئناف الذي ينظر مجدّداً في النزاع على إعتبار أنّ مبدأ الإختصاص- بالإختصاص المعني في الفقرة الأولى من المادة 800 أصول مدنيَّة يمارس من قبل المحكّم تحت رقابة قضاء البطلان اللاحقة، فإذا فصل المحكّم في مبدأ إختصاصه سلباً أو إيجاباً فإنّ هذا الفصل يكون تحت رقابة قضاء البطلان الشاملة (Contrôle plein) اللاحقة. والمبدأ نفسه يطبّق على الحالة الثانية من حالات البطلان والمتعلقة بصدور القرار عن محكميّن لم يعيّنوا طبقاً للقانون، فإنّ محكمة الإستئناف هي التي تقرّر ما إذا كان هؤلاء قد عينوا بما يتوافق مع أحكام القانون.
وفي ما خصّ السبب الرابع وهو صدور القرار بدون مراعاة حق الدفاع، فالرقابة هي أيضاً شاملة لأنّ محكمة الإستئناف هي التي تقرّر في النتيجة ما هو المفهوم القانوني لمراعاة حقوق الدفاع لا المحكّم. فإذا فصل في هذه المسألة أو بتّ فيها يجوز لها إعادة النظر في تعليله. والمبدأ ذاته يطبّق على السبب الخامس المتعلق بعدم إشتمال القرار على جميع بياناته الإلزامية وأسماء المحكّمين وأسباب القرار وهو سبب بطلان يتعلق بالعيوب الشكلية Vices de forme التي تشوب القرار والتي تخضع لرقابة قضاء البطلان الذي يتحقق من مدى تأثيرها إنطلاقاً من القواعد الموضوعة في هذا المجال.
أمّا الرقابة على الموضوع ذاته، وهي الأساس، فهي أضعف من رقابة قاضي التمييز على القرار الإستئنافي. ذلك أنّ تعليل القرار عندما يفصل في الموضوع نفسه يخرج عن رقابة قضاء البطلان، لأنّ المحكّم هو الذي أولي حق الفصل في النزاع بموجب الإتفاق التحكيمي فلا يجوز لقضاء البطلان أن يتدخل في الموضوع ويراقب القرار في هذا المجال بالذات، لأنّ الولاية القضائية قد استبعدت وحلّت محلّها ولاية ذات طبيعة تعاقدية.
لذلك لا يجري قضاء البطلان في هذه الحالة بالذات أيّة رقابة فعلية على مخالفة القانون أو تفسيره تفسيراً خاطئاً أو على الخطأ في تطبيقه ولا تعدّ مخالفة القانون خروجاً من القرار عن حدود المهمة المعينة للمحكّم (المادة 708 فقرة أولى).
كما أنّ الرقابة لا تتناول الواقع الذي تحقّق منه المحكّم بما له من حق التقدير، وذلك حتى في الحدّ الأدنى الذي تجريه محكمة التمييز من خلال الأسباب "الواقعية "الواردة في المادة
708 (6 و7).
فلا يسع محكمة الإستئناف ان تبطل قراراً تحكيمياً لأنه جاء فاقداً الأساس القانوني، ذلك أنّ هذا البطلان يفترض التحقق من وجود نقص في الواقع الذي هو شرط لتطبيق القاعدة القانونية ذاتها. كما أنّ التشويه البسيط على الأقل يخرج عن رقابة قضاء البطلان، إذ لا يجوز له التدقيق في التعليل الوارد في القرار التحكيمي عندما يقضي في الموضوع إذا كان داخلاً في إختصاصه.
إلاّ أنّ الرقابة القضائية تتناول وجود التعليل نفسه، وهي تشبه الى حد كبير رقابة محكمة التمييز على وجود التعليل. ومن المعروف أنّ المحكمة العليا تبطل القرارات القضائية إذا كانت غير معلّلة أو إذا لم تردّ على سبب أو إذا كان التعليل لا يشكّل ردّاً حقيقياً على سبب. فعلى قضاء البطلان أن يجري رقابته على وجود التعليل بهذا المعنى الصحيح، وذلك إنطلاقاً من المبادئ التي وضعتها المحكمة العليا في هذا المجال والتي لا تدخل في موضوع هذا البحث.
وفي النتيجة،
يمكن القول إنّ رقابة محكمة الإستئناف الناظرة في طلب الإبطال الموجّه ضد القرار التحكيمي هي رقابة محصورة متى تناولت المسألة الأساس، وهي فصل المحكّم في الموضوع ذاته، وهي أدنى درجة بكثير من رقابة محكمة التمييز على القرارات الإستئنافية، كما هي محدّدة من خلال أسباب النقض الواردة في المادة 708 أ.م.م.
ولا ريب في أنّ حصر الرقابة على هذا الشكل هو أمر خطير وقد يؤدّي إلى مآسٍ حقيقية، إذ أصبح بإمكان المحكّم أن يتصرف في الموضوع، كما يشاء. فهل من الجائز أيضاً ان يفلت القرار الإستئنافي الذي نظر في دعوى البطلان من رقابة المحكمة العليا بدوره إذا لم يمارس رقابة صحيحة على القرار التحكيمي الصادر في التحكيم المطلق، وينجو من الإبطال في وقت يكون فيه قد تمنّع عن إجراء الرقابة الدنيا الصحيحة على القرار التحكيمي؟ أجابت محكمة التمييز اللّبنانية عن هذا السؤال بقرار أصدرته في 20/5/2014 يعتبر قراراً رائداً ركّز على المشكلة الحقيقية التي تثيرها الفقرة 4 المعدّلة من المادة 804 أ.م.م. وأوجد لها الحل المناسب إنطلاقاً مما يمكن تسميته روح القانون Esprit de la loi، وسوف نستعرض أولاً المشكلة التي يثيرها التفسير للنص، ثم نتطرق إلى الحل الذي إعتمدته محكمة التمييز.
إنّ ما ذهب إليه المشترع في صياغته الفقرة الرابعة من المادة 804 أ.م.م. قد زرع مشكلة تكمن في إعطاء تفسير للفقرة المذكورة في لباسها الجديد، فالنص في صيغته الظاهرة قد أكدّ أنّه لا يسع محكمة التمييز أن تراقب القرار الإستئنافي إلاّ في حال أبطلت محكمة الإستئناف قرار التحكيم. فهل يعني هذا النص أن لا رقابة إطلاقاً لمحكمة التمييز على القرار الإستئنافي إذا ردّ دعوى الإبطال؟ الجواب عن هذا السؤال هو رهن بمقاربة التفسير: برأينا أنَّه يقتضي إهمال كل تفسير ضيِّق هو ضار (1) لمصلحة التفسير الواسع (2) الّذي يعود بالنفع على القضاء والمتقاضين.
1- المقاربة الضيِّقة:
إنّ تفسير النص بشكل ضيِّق يعني أنّ أي طعن موجّه ضد القرار الإستئنافي يكون مردوداً مهما تضمّن هذا القرار من مخالفات، وحتى ولو كان صادراً عن محكمة مؤلفة خلافاً للأصول. أنه يعني أيضاً أنّه يجوز لمحكمة الإستئناف في النتيجة أن تخالف كل القواعد والمبادئ التي إعتمدت من محكمة التمييز نفسها والمتعلقة بالرقابة القضائية على القرارات التحكيمية. وذلك دون أن يكون لهذه المخالفات التي تمسّ بوحدة الإجتهاد وبتفسير وتطبيق المادة 800 بصورة عامة أي أثر على صحة القرار التحكيمي، ما يؤدّي إلى وضع نوع من القواعد الجديدة على هامش المبادئ الأساسية المقرّرة. ومن الواضح أن تكريس هاتين النتيجتين هو أمر يتعارض كلّياً مع مفهوم الرقابة بالذات بشكل عام، ومع المفهوم الخاص للرقابة الوارد في المادة 800 والمكرّس بإجتهاد مستقر جامع وضعته محكمة التمييز بشكل عام يطال القرارات التحكيمية بمجملها، فضلًا عن أنَّه يتناقض مع دور محكمة التمييز.
- أنَّه يتعارض مع مفهوم الرقابة بشكل عام:
إنَّ الرقابة تفرض التحقُّق من إلتزام القرار القضائي المعايير المفروضة بالقانون وبالقواعد الأساسية (Normes) وإلاّ كان القرار باطلاً. وقد نصّت المادة 613 أصول مدنيَّة على أنّه لا يجوز إبطال الحكم إلاّ بإستعمال طرق الطعن المعينة في القانون. فلا بدّ إذاً من اللجوء إلى الطعن بطريقة التمييز ضد قرار إستئنافي يفتقد إلى المكوّنات الأساسية للقرار القضائي فلا يجوز قبول قرار قضائي مشوب بعيوب شكلية في النظام القانوني ولا يمكن لمحكمة التمييز عن طريق شل رقابتها أن تساهم في تفشي عيوب القرار الإستئنافي في النظام القانوني.
نشير في هذا المجال بالذات إلى أنّ المادة 640 أصول مدنيَّة قد نصّت على أن الإستئناف يكون مقبولاً في جميع الحالات المعينة في المادة المذكورة، ومن بينها:
- صدور الحكم عن محكمة غير مختصَّة وظيفياً أو نوعياً ويدخل في هذا المفهوم طبعاً صدور قرار عن هيئة قضائية مشكّلة خلافاً للأصول.
- بطلان الحكم لعيب فيه أو بطلان الإجراءات التي بني عليها الحكم.
- إغفال بتّ أحد المطالب.
- والحكم بما لم يدّعِ به أو بأكثر ما إدّعى به، ويشمل هذا الإستئناف - الإبطال تجاوز الموضوع المطالب به أو السبب المسندة إليه الدعوى أو أساس المطالب.
وقد كرست الغرفة الخامسة مبدأ الطعن بالإبطال ضد القرارات الصادرة عن رئيس الغرفة الإبتدائية إذا تجاوز حدود سلطته عندما يقضي بتعيين محكّم مع أن هذه القرارات لا تقبل الطعن بالإستئناف. فقبول الطعن يستند هنا إلى مبدأ ليس بعيداً عن الأساس المعتمد بالمادة 640 أصول مدنيَّة والّذي يبرّر وجود الإستئناف - البطلان وهو ما يسمّى تجاوز حدود السلطة.
فهل يجوز إدخال قرار إستئنافي مشوب بهذه العيوب الخطيرة في النظام القانوني؟
أجابت محكمة التمييز عن هذا السؤال بالنفي، إذ كرّست وجود طريق مراجعة
قضائية (Prétorienne) هي تجاوز حدود السلطة، فأجازت لنفسها مراجعة الأحكام القضائية وإبطالها إذا كانت مشوبة بعيوب خطيرة حتى ولو كان القانون قد استبعد المراجعة التمييزية (Pourvoi écarté) أو إستبعد مؤقتاً هذه المراجعة (Pouvoir différé) .
وقد عرّفت محكمة التمييز الفرنسية تجاوز حدود السلطة من قبل محكمة ذات إختصاص بأنّه "خرق لقاعدة تتعلق بالنظام العام رسم بمقتضاها القانون إطار سلطة المحكمة".
« L’excès de pouvoir est la transgression par le juge compétent pour connaitre le litige d’une règle d’ordre public par laquelle la loi circonscrit son autorité ».
ولا ريب في أنّ الأسباب الواردة في المادة 640 أصول مدنيَّة المذكورة أعلاه تشكّل تجاوزاً لحدود السلطة القانونية الممنوحة للقاضي. ويحصل هذا التجاوز لو خالفت المحكمة مبدأ فصل السلطات أو وسّعت أو ضيّقت سلطتها القضائية أو إستنكفت عن احقاق الحق أو خالفت مبادئ أساسية للتنظيم القضائي أو المحاكمة ولم تراعِ حقوق الدفاع أو مبدأ سيادة الخصوم على الدعوى أو ردّت الدعوى تلقائياً لمرور الزمن. كما يحصل هذا التجاوز إذا خرجت عن نطاق النزاع ولم تراعِ المبادئ الأساسية (Principes Directeurs) المحدّدة في المواد 365 و366 و368 أصول مدنيَّة فتجاوزت الموضوع وقضت بما لم يطلب أو أستبدلت الأساس القانوني بأساس قانوني آخر .
فإطلاق يد محكمة الإستئناف الناظرة في صحة القرارات التحكيميَّة بحجة أنّ التحكيم مطلق، هو أمر خطير لأنه يتنافى مع الدور الّذي اسنده القانون إلى محكمة التمييز في تحقيق المساواة بين الجميع أمام القانون كما يقول .
ولا ريب في أن هذه المساواة أمام القانون لا تتحقق إذا إنقسمت الرقابة إلى رقابتين مختلفتين، فهذا التفسير الحصري يتنافى مع الدور الذي تلعبه محكمة التمييز.
- أنه يتنافى مع دور محكمة التمييز:
لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ القرار التحكيمي صادر عن شخص إختاره الأطراف وهو لا يتمتع بالحصانة التي يوفرها القانون للقاضي الذي هو جزء من مؤسسة قضائية متكاملة تصون العمل القضائي الذي يقوم به، فبات من المفروض أن يعترف النظام القضائي بالقرار التحكيمي، وذلك من خلال الرقابة الدنيا التي يجريها على صحة هذا القرار.
ولقد وضعت محكمة التمييز، على هامش أسباب البطلان المعدّدة في المادتين 800 و817 أصول مدنيَّة، القواعد الأساسية التي يجب أن تتخذ في الرقابة على القرارات التحكيمية وهي تسري على القرارات الصادرة في إطار التحكيم المطلق. فضلاً عن ذلك نصّت المادة 777 أصول مدنيَّة على إعفاء الحكم المطلق من تطبيق قواعد القانون وأصول المحاكمات العادية إلاّ أنها إستثنت من هذا الإعفاء قواعد القانون المتعلقة بالنظام العام والمبادئ الأساسية لأصول المحاكمة، فهل يجوز لمحكمة الإستئناف أن تستبعد هذه القواعد الرقابية العامة عند بتّها في صحة قرار تحكيمي صدر في مجال التحكيم المطلق، وأن يبقى قرارها دون رقابة في الوقت الذي لم تجرِ رقابة بصورة صحيحة؟
إنَّ هذا التفسير الضيّق، بل المتزمت، مرفوض لأنه يتعارض مع الشعار التي تعمل فيه محكمة التمييز وهو يقول: “La loi est la même pour tous”.
وهو يؤدّي إلى إحداث فوضى وخلل خطيرين في نظام الرقابة القضائية الواحدة على القرارات التحكيمية، فعلى محكمة التمييز أن تسهر على أن لا يكون هنالك صيف وشتاء تحت سقف الرقابة الواحدة والا تكون قد خرجت عن دورها كحامية القانون. ويمكن إعطاء بعض الأمثلة على مثل هذا النوع من المخالفات التي يمكن أن ترتكبها محاكم الإستئناف، والتي تتعارض كلّياً مع الأصول الرقابية الصحيحة.
فمن المستقر أنّ قضاء البطلان يجري رقابة شاملة على القرار التحكيمي عندما يبت المحكّم مدى إختصاصه ليعطيه أو يرفضه، وهو في ذلك لا يلتفت إلى التعليل الوارد في القرار التحكيمي ورقابة قضاء البطلان تجري في الواقع والقانون .
كما أن أسباب البطلان بشكل عام تخضع لرقابة قضاء البطلان الشاملة في الواقع
والقانون.
فهل يجوز قبول قرار إستئنافي صدر في نطاق تحكيم مطلق خالف هذا المبدأ الجوهري تاركاً للمحكم وحده بت مدى إختصاصه بحجة أن لا رقابة لقضاء البطلان على التعليل؟!!
ومن المسلّم به والمستقر أيضاً، وهذا مثل آخر، أن الغش المرتكب أثناء التحكيم من قبل أحد المتقاضين يؤدّي إلى بطلان هذا القرار، وأنّ على قضاء البطلان أن يتحرى عن وجوده وأن يجري رقابة شاملة في الواقع والقانون على التعليل الوارد في القرار في هذا المجال.
فهل يجوز قبول قرار إستئنافي رفض تطبيق هذا المبدأ وأعلن أنّ لا رقابة له على تعليل المحكّم في مسألة وجود الغش؟
إنّ قبول قرارات إستئنافية رفضت القيام بدورها الرقابي الصحيح وأعطت المحكّم حرية تامة في التصرّف ولم تجرِ الرقابة القانونية الدنيا المفروضة عليها هو أمر خطير إذ يؤدّي أيضاً إلى إعطاء القرار التحكيمي حصانة أقوى وأعلى شأناً من القرار القضائي نفسه مع أنه عبارة عن عمل فردي (acte privé) لا يعدّ عملاً قضائياً إلاّ إذا صار إدخاله في النظام القانوني وهذا الإدخال
واضح مما سبق بيانه أنّ التفسير والتطبيق الحرفيين لأحكام الفقرة 4 من المادة 804 أصول مدنيَّة يتعارضان كلّياً مع المبادئ والأسس التي بني عليها مفهوم الرقابة بشكل عام ومفهوم الرقابة التمييزية بشكل خاص، وهما يتعارضان كذلك مع الدور الذي يسنده القانون إلى القاضي وهو تحقيق العدالة على أساس مبدأ المساواة في ما بين المتقاضين. وتحقيق العدالة أفضل من المحافظة على قرار معيوب أو باطل أو صدر بنتيجة الغش. ومحكمة التمييز هي صمّام الأمان كما يقول J. BORÉ في هذا المجال. من هنا، وسَّعت نطاق الرقابة بهدف تحقيق العدالة.
- توسيع نطاق الرقابة:
ومن هذا المنطلق، وسّعت المحاكم العليا كما محاكم الأساس نطاق رقابتها في ما خصّ قبول أسباب الطعن عندما يتبيّن لها أنّ الرقابة قد مورست بصورة غير مطابقة أو غير دقيقة، فخرجت عن النص الحرفي وعن الأسباب الحصرية فأبطلت القرارات غير المطابقة مع القواعد القانونية بشكل عام وأخذت بالمعنى العام للرقابة التي تفترض التحقق من مطابقة القرارات على المعايير الأساسية المفروض ان تتحقق في أي قرار أو وضع أو تصرف، إذ يجب أن تحقّق الرقابة الغاية التي وضعت من أجلها، كما يقول CORNU .
وهذه المطابقة تتم بالنظر إلى القواعد القانونية العامة (Règles) وليس بالنظر إلى نصوص قانونية محدّدة (Textes) فتوسع الإجتهاد في قبول أسباب الطعن وفي أسباب الإبطال إنطلاقاً من عدم تطابق الأعمال والقرارات مع المعطيات المفروضة بالمبادئ العامة. وتدخل في هذا المفهوم العام:
- تجاوز حدود السلطة .
- مخالفة مبدأ جوهري .
- مخالفة قواعد إجرائية أساسية .
- مخالفة مبدأ المساواة بين المتقاضين .
هذا فضلاً عن القواعد التي إبتكرتها أو توسّلتها المحاكم لعدم قبول دفع أو دفاع كمبدأ عدم التناقض وحسن النية، وإعتماد مبدأ الإستقامة (loyauté) أثناء إجراءات المحاكمة ولا سيّما وأنّ هذه الإستقامة هي شرط من شروط المحاكمة العادلة .
فتوافق القرار مع مقتضيات المبادئ الأساسية تعلو على أسباب الطعن وعلى طرق
الطعن .
ولا بد هنا من أن نستذكر كيف أنّ المحاكم الفرنسية وبعض المحاكم اللّبنانية إبتكرت آلية إستعادة القرار Rabat d’arrêt غير القابل لأي طريق من طرق المراجعة فوضعت يدها مجدّداً على القرار كوسيلة شفاء من أجل رفع الظلم عن المتقاضين بنتيجة خطأ إجرائي ليسوا مسؤولين عنه أثرّ في حلّ النزاع .
- تحقيق العدالة:
لقد واكبت الغرفة الخامسة لمحكمة التمييز اللّبنانية الإتجاه العام المبيَّن آنفًا وسارت على الدرب عندما أعطت التفسير الصحيح للفقرة الرابعة فلم تلتزم حرفية النصّ إنما روحه (Esprit) كما يقولIhering وهدفها كان تحقيق العدالة بأسمى معانيها، والتي وصفها العالم الكبير بأنها تدخل الحياة في تطوير القانون !!
في قضية أولى، أبطلت المحكمة العليا بموجب القرار تاريخ 20/5/2014 القرار الإستئنافي الصادر في تحكيم مطلق وكان قد ردّ طلب وقف تنفيذ القرار التحكيمي دون تعليل إذ اعتبرت أنّ تعليل الأحكام واجب يتعلق بالنظام العام الإلزامي يطبّق حتى في التحكيم المطلق:
"وبما أنّه في النظام القانوني المعتمد في لبنان، تعليل الأحكام واجب يتعلّق بالنظام العام الإلزامي"، وغياب التعليل يؤدّي حكماً إلى إبطال الحكم، ولا تستثنى من ذلك الأحكام المؤقتة حيث يلزم تعليلها بشكل ولو مقتضب، يبيّن كيفيّة إسناد الحل المؤقت، وإلاّ شكّل الأمر مخالفة ليست قانونية وحسب إنّما دستورية أيضاً، إنطلاقاً من أحكام المادة 20 من الدستور اللّبناني التي حفظت للمتقاضين الضمانات اللازمة، وتعليل الأحكام هو من شروط الضمانة القضائية المعيّنة بالقانون... فإنّ إقران القرار التحكيمي بالنفاذ المعجّل دون تحقّق الشروط المفروضة بالمادة /571/ معطوفة على المادة /797/ أ.م.م.، ينطوي على مخالفة قانونية، هذا حتى في حال كان التحكيم مطلقاً حيث أصول التنفيذ ومن ضمنها النفاذ المعجّل تتعلّق بالنظام العام الذي لا يجوز للمحكّم مخالفته، وإنّ محكمة الاستئناف إذ هي لم تعلّل بالحالة المعروضة قرارها القاضي بردّ طلب وقف التنفيذ واكتفت برد الطلب "لعدم وجود ما يبرّره في حالة الأوراق الراهنة" دون التطرّق ولو بشكل مقتضب إلى السبب المثار، تكون قد خالفت المادة /537/أ.م.م. فقرتها ما قبل الأخيرة، كما أنّها، إذ هي لم تقرّر وفي ضوء أحكام الفقرة ما قبل الأخيرة المادة /577/ أ.م.م. وقف التنفيذ في حالة يمنع فيها القانون تعجيل التنفيذ تكون خالفت القانون أيضاً، معرّضة بذلك قرارها للنقض برمته؛
وفي قضيّة ثانية أكدّت محكمة التمييز بموجب القرار تاريخ 30/9/2014 ، إستعادة دورها الرقابي "عند توافر مخالفة قانونية في كيفية صدور القرار أو مخالفة الإجراءات الجوهريّة لإجراءات المحكمة الإستئنافية مؤكدّة في متن قرارها " أن هذا ما نحت إليه في قراراتها بشكل مستقرّ". وقد عبّرت المحكمة عن رأيها على الشكل التالي:
"بما أنّه نصّت المادة 804 أ.م.م. على أنّه لا يقبل القرار التحكيمي في التحكيم المطلق التمييز إلاّ في حال أبطلت محكمة الإستئناف القرار المذكور وينحصر التمييز في هذه الحالة بأسباب البطلان مع مراعاة أحكام المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية، وذلك على إعتبار أنّ محكمة التمييز هي محكمة قانون لا يسعها في المبدأ مراقبة التقدير الذي أجراه المحكم ومن بعده محكمة الإستئناف في معرض البحث في مبادئ الإنصاف والعدالة التي توسّلاها، يبقى أنّه إذا ما بني التمييز على سبب متعلّق بمخالفة قانونية في كيفية صدور القرار الإستئنافي أو مخالفة جوهرّية لإجراءات المحاكمة الإستئنافية القانونية، يغدو التمييز مقبولاً، حيث أنّ توافر أي من هاتين المخالفتين أو أقلّه التذرّع بأي منهما يعيد الى محكمة التمييز دورها الرقابي...".
ففي هذا القرار وضعت المحكمة العليا الأسس الواجب إعتمادها لتفسير المادة 804 فقرة 4 فأكدّت أولاً على انّ هدف المشترع كان إستبعاد التمييز في كل ما يتصل بتطبيق قواعد العدالة والإنصاف ما يعني ان كل ما يتجاوز هذا النطاق المحدّد والمحصور يبقى واقعاً تحت رقابتها.
ولا ريب في انّ هذا المبدأ الذي وضعته المحكمة العليا ينسجم تماماً مع غاية المشترع ومع أصول العمل الرقابي الذي يتناول القرارات التحكيمية ذلك ان صحة العمل التحكيمي يخضع بصورة عامة للقواعد ذاتها أكان التحكيم مطلقاً أو عادياً. ففي ما خصّ هذه القواعد المشتركة لا يجوز حصر الرقابة التمييزية بالقضاء الإستئنافي فحسب، وإلا دبّت الفوضى وتناقضت القرارات.
وتوضيحاً للمبدأ العام التي رسمته في هذا المجال أعطت المحكمة العليا فكرة عن هذه العيوب المشتركة التي تطال القرار الإستئنافي بحد ذاته والتي تؤدي إلى بطلانه، فأشارت أولاً إلى المخالفات التي ترافق كيفية صدور القرار الإستئنافي وهي القواعد الواردة في المواد 528 إلى 538 أ.م.م. والتي تتعلق بإصدار الأحكام وبصحة القرار الإستئنافي الذي يجب ان يستجمع الشروط التي عدّدتها المادة 537 أ.م.م.
وكذلك، ومن باب التوضيح ذاته أشارت المحكمة العليا الى المخالفات الجوهرية التي تشوب إجراءات المحاكمة بصورة عامة، وهي تشمل تشكيل المحكمة والمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها المحاكمة العادلة ولاسيما المبادئ الأساسية (Principes directeurs) الواردة في المواد 365 إلى 368 أ.م.م. ومبدأ الوجاهية وإحترام حقوق الدفاع ومبدأ المساواة بين المتقاضين.
وكانت المحكمة العليا قد أشارت في القرار السابق الذي أصدرته في 20/5/2014 إلى أن كل ما يتعلق بقواعد النظام العام وأحكام القانون الآمرة تقع تحت رقابتها. فصدور قرار تحكيمي معجّل التنفيذ دون طلب هو خروج عن حدود المهمة المعينة للمحكّم، كما أنّ إعطاء القرار التحكيمي صفة التنفيذ المعجّل خارج الحالات المحدّدة بالمادة 797 أصول مدنيَّة. وهي حالة تطبّق على التحكيم المطلق هو أيضاً مخالفة للقانون يستدعي إبطال القرار الإستئنافي.
فالمبدأ إذاً، هو ان التمييز يكون مقبولاً في كل ما ليس له علاقة بالرقابة الإستئنافية على الشق في القرارات التحكيمية الصادرة في التحكيم المطلق والمتعلق بتطبيق العدالة والإنصاف أكان له علاقة بالإجراءات أم بالموضوع كإعتماد القانون مثلاّ كونه ينسجم مع مبدأ العدالة أو إستبعاده لأنه لا يتفق معها وهي مسألة تثير العديد من الإشكالات القانونية وقد إختلفت الآراء حولها، أما العيوب التي تشوب العمل التحكيمي بشكل عام كما هي محدّدة بالمادتين 800 و807 أصول مدنيَّة. فليس لها علاقة بنوع التحكيم فتبقى خاضعة لرقابة المحكمة العليا كما تبقى خاضعة لهذه الرقابة العيوب التي تشوب القرار الإستئنافي بحد ذاته بما فيها الإجراءات القضائية.
إنَّ ما توصلت إليه المحكمة العليا في هذا المجال لا ينسجم فقط مع المبادئ العامة في التفسير وقواعد الرقابة وإنما يتفق مع إرادة المشترع كما يمكن إستخراجها من النص ذاته الذي أكدّ ان ما هو معني بعدم قبول التمييز هو القرار التحكيمي الصادر في مجال التحكيم المطلق ذاته وإذا كان صحيحاً ان الصياغة القانونية خالية من الدقة اللازمة حيث ان الطعن يتناول القرار الإستئنافي لا القرار التحكيمي إلاّ أنّ لا ريب أن هذا العيب (lapsus calami) يكشف نية المشترع الحقيقية عن عدم إستبعاد التمييز في المطلق وحصر هذا الإستبعاد على الوجه الذي حدّدته المحكمة العليا. فالمادة المذكورة لم تحدث في النتيجة ثورة أو إنتفاضة على المبادئ العامة إنما جاءت تؤكد مرّة أخرى أنه لا يسع محكمة القانون ان تراقب تطبيق مبادئ الإنصاف التي لا علاقة لها بوظيفتها الأساسية كحامية للقانون وهذا المبدأ يجب أن يطبّق عندما تنظر محكمة النقض في صحة القرارات الإستئنافية التي تفصل في الدعوى التحكيمية بعد إبطال القرار التحكيمي- فمن المعروف ان محكمة الإستئناف يجب أن تلتزم أن يفصل في النزاع في حدود المهمة المعنية للمحكّم وفي هذه الحالة يتوجب عليها ان تطبّق قواعد العدل والإنصاف.
فلا يمكن لمحكمة التمييز في هذه الحالة أن تراقب القرار الإستئنافي في هذا المجال إنطلاقاً من مبدأ التفسير ذاته الذي وضعته. فما يبرّر توسيعها رقابتها في الحالة الأولى يبرّر الحدّ من هذه الرقابة في الحالة الثانية وكلا الحالتان تنطلقان من الفقرة الرابعة التي تقول إنّ المعني في الحقيقة بالرقابة هو القرار التحكيمي والقرار الإستئنافي الصادر بعد الإبطال هو بمثابة القرار التحكيمي، إذ يبتّ النزاع في حدود المهمة المعينة للمحكم. فالمعيار السليم الذي وضعته محكمة التمييز هو في النتيجة مبدأ ذو حدّين: أحدهما ايجابي يوسع دائرة الرقابة والثاني سلبي يضيق منه.