من المسلم به أن القضاء كمظهر من مظاهر السيادة، لا يمارس إلا بواسطة السلطة القضائية المحددة في الدستور، غير أن الدولة وبما لها من سلطة تستطيع أن تعترف لبعض الأفراد أو الهيئات غير قضائية، بسلطة الفصل في بعض المنازعات في نطاق معين، متى توافرت شروط ذلك، وهو ما يدخل في إطار الوسائل البديلة لحل المنازعات.
ويعتبر التحكيم من بين الوسائل البديلة لتسوية المنازعات الناتجة عن المعاملات التجارية بعيدة عن قضاء الدولة، نظراً لما تتسم به هذه الوسيلة من ميزات كالسرعة في الإجراءات وقلة التكاليف، والثقة في المحكم وخبرته، والسرية.
ويعرف التحكيم بأنه إتفاق أطراف علاقة قانونية معينة سواء كانت عقدية أم غير عقدية على الفصل في النزاع الحال أو المستقبلي الناشئ عن هذه العلاقة بواسطة شخص أو عدة أشخاص يتم إختيارهم كمحكمين، والذين يستمدون سلطتهم من إتفاق التحكيم.
وقد يرتضي الطرفان تخويل المحكم صلاحية الفصل في النزاع وفقاً لما يراه محققاً للعدالة، وصولاً إلى حكم يحفظ التوازن بين مصالحهما، حتى لو كان في هذا الحكم مخالفاً لأحكام القانون التي تحكم وقائع النزاع، والتي يلتزم القاضي بتطبيقها فيما لو عرض النزاع عليه. وفي هذه الحالة يعرض كل من الطرفين طلباته أمام المحكم، لكنه في الوقت ذاته يفوض المحكم في وزنها ليس فقط بميزان القانون وإنما كذلك بميزان العدالة وما تقتضيه في ظروف النزاع. وفي هذه الحالة أيضا يقوم المحكم بتحقيق وقائع النزاع والتعرف على حكم القانون فيها، لكنه وبمقتضى السلطة المخولة له من الطرفين يملك تنحية هذه الأحكام، إذا ما قدر أنها تؤدي إلى نتائج مجافية للعدالة في خصوص النزاع المطروح عليه، ويكون حكمه رغم ذلك ملزمة للطرفين، لا يملك أحدهما أو الآخر التحلل منه بحجة مخالفته لأحكام القانون. ويسمى التحكيم في هذه الحالة التحكيم بالصلح، تعبيراً عن الوظيفة المزدوجة التي يؤديها التحكيم، إذ المحكم من ناحية شخص أجنبي عن الطرفين يتولى الفصل في النزاع بحكم ملزم لهما، مثله في ذلك مثل القاضي ولكنه من ناحية أخرى يعتمد أساسا للفصل في النزاع مماثلاً للأساس الذي تقوم عليه فكرة الصلح، وهو إسقاط ما يراه غير عادل من طلبات الطرفين، وصولاً إلى حل يراعي المصالح المشروعة لكل منهما.
وسوف نعرض في هذه الدراسة لثلاثة مباحث على التوالي وهي:
المبحث الأول - تعريف مفهوم الإنصاف ودلالات التعبير للتحكيم بالصلح.
المبحث الثاني - النصوص التشريعية التي أجازت التحكيم بالصلح.
المبحث الثالث - تحقيق المحاكمة العادلة سواء كان التحكيم بالقانون أو التحكيم
بالصلح.
المبحث الرابع - تسبيب الحكم في التحكيم بالصلح.
المبحث الخامس - النتائج العملية للمفارقة بين نوعي التحكيم.
ومن ثم الخلاصة:
المبحث الأول - تعريف مفهوم الإنصاف ودلالات التعبير عن التحكيم بالصلح:
إن تعريف الإنصاف ليس أمراً سهلاً. وإن دراسات عديدة خصصت للموضوع دون الوصول إلى إعطاء تعريف مرض بشكل كافة. وإذا كان من الصعب حبس مفهوم الإنصاف ضمن تعريف جامد ولكن من الممكن مقاربته ورسم إطار له. وانطلاقاً من هذا يمكن إعطاؤه التعريف التالي:
الإنصاف هو المبدأ الذي يوصي الشخص المكلف بوضع القاعدة (مثل المشرع أو بإصدار القرار (مثل القاضي أو المحكم)، يفرض عليه، أن يرجح "المسلمة " Axiome التي مفادها أن القانون وجد لأجل الإنسان.
والواقع أن ثمة سؤال يفرض نفسه في هذا البحث وفيما إذا كانت نصوص القانون الموضوعية لا تتضمن ولا تحتوي على قواعد الإنصاف..؟
وللإجابة على هذا السؤال يمكن القول: إن أحكام القانون الموضوعية بصياغتها العامة المجردة تحشد مجموع الوقائع والحالات الفنية التي تنظمها فكرة واحدة رغم ما بينها من إختلافات فرعية قد لا فرق بينها في الحكم في حين أن الحكم المقصود بالحكم على مقتضى قواعد العدالة والإنصاف هو الإعتداد بالظروف والملابسات الخاصة بالواقعة أو بالحالة الفردية المطلوب الفصل فيها. ثم إن هذا الجواب على هذا السؤال يدفعنا لأن نأخذ بعين الإعتبار بأمرين إثنين وهما:
الأمر الأول - أن القانون يمثل العدل في صورته المجردة، التي لا تقف عند الظروف الواقعية التي تحيط بكل حالة على حدتها. وهذا التجريد لا غنى عنه في صياغة القواعد القانونية لأن المشرع لا يمكنه أن يتوقع مختلف الحالات الفردية التي يفرزها العمل وأن يضع حلاً مفرداً لكل منها. أما العدالة والإنصاف فيعطيان لكل حالة حكمها المناسب لها والذي قد لا يتناسب بالضرورة مع حالة أخرى تشترك معها في فكرة واحدة. ومن ثم فالعدالة تمثل العدل في صورته الواقعية، التي لا تغفل الملابسات المصاحبة لكل حالة على حدتها. وهذه الواقعية تصبح ممكنة طالما كان الأمر متعلقة بنزاع معين بالذات، مطلوب الفصل فيه، وليس بوضع قاعدة تنظم مختلف الحالات التي تتفق في جنسها وإن اختلفت في تفاصيلها.
الأمر الثاني - أن القانون لا يعني بتحقيق العدل والإنصاف وحده، وإنما يعني إلى جانبه بتحقيق الإستقرار. ومن ثم فكثيراً ما يوجد نظام يتنافى مع فكرة العدل لا لسبب إلا لأن تحقيق الإستقرار يقتضيها، على نحو ما عليه الحال مثلاً في نظام التقادم. وكثيراً ما يحجم عن تبنى نظم أخرى، أو يقيد من مجال إعمالها، على الرغم من عدالتها، لا لسبب إلا لضمان الإستقرار، على نحو ما نراه مثلاً في القوانين التي تطلق القوة الملزمة للعقد على الرغم مما فيه من إستغلال أو غبن، أو تحصر الإعتداد بهما في حالات معينة لا تتعداها، وعلى نحو ما نراه في إشتراط عمومية الظرف الطارئ للإعتداد به في تعديل العقد، وفي الإتفاق على الإعفاء من المسؤولية في بعض الأحيان.
أما بالنسبة لدلالات التعبير للتحكيم بالصلح:
إذا كان التحكيم بالصلح يتضمن معنى النزول المتبادل من كل من الطرفين عن جزء من إدعائه، يترك تعيينه لتقدير المحكم، وكان النزول لا يفترض، فإن التحكيم بالصلح لا يقوم إلا إذا إتجهت إرادة الطرفين إليه بالفعل.
ولا يستدل على التحكيم بالصلح من مجرد تسمية عابرة للتحكيم، تأتي أحياناً غامضة وفيها إلتباس، فلا يعفي المحكم من تطبيق القانون، إلا إذا تجلت بوضوح وصراحة إرادة الطرفين بإعفائه من تطبيق القانون، وتطبيق العدالة بدلاً من ذلك. فإذا كان ثمة شك أو إلتباس، فإنه يصعب تفسيره بأن يتنازل عن تطبيق القانون، أسوة بقاعدة تفسير التنازل تفسير ضيقة. ومن هنا، فإن الشك يفسر الصالح التحكيم بالقانون.
ويكفي أن ينص الطرفان على التحكيم بالصلح بمعناه لا بلفظه. ومن ذلك أن ينص الطرفان في عقد التحكيم على تحرير المحكم من التقيد بأحكام القانون، غير أنه يلاحظ في هذا الصدد أنه يجوز إعفاء المحكمين من التقيد بأحكام القانون الإجرائية في كل من التحكيم بالصلح والتحكيم بالقانون على حد سواء. ومن ثم فعبارات مثل إعفاء المحكم من التقيد بالإجراءات، أو من التقيد بأحكام قانون المرافعات، لا تكفي لإعتبار التحكيم تحكيماً بالصلح خلافاً للأصل العام وهو التحكيم بالقانون.
وعلى العكس من ذلك، فإذا تضمن عقد التحكيم ما يفيد إعفاء المحكم من التقيد بأحكام القانون الموضوعية، فلا شك في إعتبار أن التحكيم هو تحكيم بالصلح. ويقوم مقام الإعفاء من التقيد بأحكام القانون الموضوعية في هذا الصدد، النص على أن يقوم المحكم بالفصل في النزاع وفقاً لمبادئ العدالة، لما يتضمنه إعمال مبادئ العدالة من التحرر من أحكام القانون. .
ويثور في هذا المقام السؤال الأتي:
هل إتفاق الأطراف على أن يكون الحكم باتاً ونهائياً يكفي للدلالة على أن التحكيم بالصلح؟
لقد أجابت على هذا السؤال محكمة تمييز دبي في الطعن رقم 294 لسنة 1994 " حقوق " حيث جاء في حيثيات الحكم ما يلي:
"... وفيما يتعلق بالبند سابعاً من ذات المشارطة على أن (فيما عدا ما تقدم يكون قرار المحكم سواء بالصلح الموافق عليه من الطرفين أو بالفصل في النزاع تحكيمياً، قراراً نهائياً ملزماً لكلا الطرفين يلتزمان بتنفيذه ويقران به ما لم يكن مخالفة للنظام العام أو القانون) معناه أن يقوم المحكم الذي إختاره الخصوم بالإجتماع بهم وإجراء المفاوضات بينهم للتقريب بين وجهات نظرهم وصولاً إلى إتفاق يقبلونه جميعاً ويتصالحون عليه أمامه ويلحقونه بمحضره، ولا يعني بحال أنهم فوضوا المحكم المذكور بالصلح الذي ينفرد به ولا يغير من ذلك ما ورد في البند ثالثاً من ذات المشارطة من عدم تقيد المحكم بإجراءات أصول المحاكمات وما ورد في الشطر الأخير في البند سابعاً المشار إليه من قبيل إعتبار قرار المحكم نهائياً وباتاً، لأن هذا أو ذاك نتيجة من نتائج التحكيم ولا يكشف - في حد ذاته - عن نية الطرفين في تفويض المحكم بالصلح الذي ينفرد به ولما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد خالف ذلك وذهب في أسبابه إلى القول بأن مشارطة التحكيم تتضمن حكم المحكم نهائياً وباتاً يفيد تنازلهم عن الحق في إستئناف الحكم الإبتدائي الصادر بالتصديق.. يكون قد خالف القانون مما يوجب نقضه..".
وحول الخلاف فيما إذا كان ممثلو الوزارة يحق لهم التحكيم بالصلح؟
ونحيل في الجواب على هذا التساؤل إلى ما قررته محكمة التمييز الأردنية حيث جاء في حيثيات القرار:
".. وفي ذلك نجد أنه من رجوعنا إلى الملف التحكيمي أن وزير الأشغال العامة والإسكان وبموجب كتابه رقم ( 15029/2005/199) تاریخ 2012/5/20 وبالإشارة إلى كتاب المحامي العام المدني رقم ( 2849/2011/3) تاریخ 2011/10/4 ، ولاحقاً لكتاب الوزارة رقم ( 315/2005/199) تاریخ 2012/1/8 بين أن مدير العقود والتحكيم ومدير الشؤون القانونية بالإضافة إلى مهندسين اثنين، هم ممثلو الوزارة أمام رئيس وأعضاء هيئة التحكيم في القضية التحكيمية لتقديم اللوائح الجوابية والإنذارات والمرافعات، وما يلزم من المستندات والبيانات الخطية والشخصية والتبليغات والتبلغ وكافة الإجراءات المطلوب إتخاذها أمام هيئة التحكيم. ويتبين من ذلك أن تفويض الأشخاص المشار إليهم أعلاه يعتبر بمثابة توكيل خاص لهم بالتحكيم، وما دام أن هذا التفويض لم يحدد لهم وصف التحكيم، فإنه يعتبر صالحة للإتفاق على التحكيم بالقضاء أو بالصلح، لأنه يشف عن قبول الموكل وزارة الأشغال العامة والإسكان لأي منهما، وإلا كانت قد حددت نوع التحكيم صراحة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، نجد أن قرار المحكمة الدستورية الأردنية رقم (2013/3) تاریخ 2013/6/12 المنشور على الصفحة (3028) من عدد الجريدة الرسمية رقم (5225) بتاريخ 2013/1/1 كان قد حسم الأمر عندما إعتبر الأموال موضوع التحكيم لا تتعلق بمال عام بالمعنی الذي يمنع التصرف به وفق النصوص العامة آنفة الذكر، حيث جاء فيه: ( يستفاد من المادة 163و60 من القانون المدني أن أملاك الدولة هي على نوعين: الأول منها منقولات أو عقارات مخصصة للنفع العام، وهذه الأموال لم جز المادة ( 2/60) من القانون المدني التصرف أو الحجز عليها أو تملكها بالتقادم، أما الثاني منها فهي الأملاك الخاصة للدولة التي يجوز لأشخاص القانون العام التصرف بها، وفقاً للقواعد القانونية التي تحددها القوانين والأنظمة، وأن ما يستفاد من المادة 163 من القانون المدني أن الإجراءات اللازمة للتصرف في مال الدولة التي تحددها القوانين والأنظمة هي من النظام العام، بمعنى أنه لا يجوز الإتفاق على مخالفة هذه الإجراءات عند التصرف بتلك الأموال، وإن مخالفة تلك الإجراءات تركيب البطلان.
وحيث إنه بالرجوع إلى عقد التحكيم وأوراق الدعوى الإستئنافية يتبين أن الأموال موضوع التحكيم لا تتعلق بمال عام بالمعنى الذي يمنع التصرف به وفق النصوص العامة آنفة الذكر، فإن القول بأن التصرف بها وفقا للقواعد التي حددتها القوانين والأنظمة سواء بالتحكيم أو غيره مخالف للدستور لا يستند إلى أساس سليم..).
وتأسيساً على ما تقدم تقرر نقض الحكم المطعون فيه...
(محكمة التمييز بصفتها الحقوقية، القضية رقم 2425 2015، تاریخ 2016/1/26)". ويثور في هذا المقام السؤال الآتي:
ماذا لو أن المحكم وصف التحكيم أنه تحكيم بالصلح رغم أن الإتفاق على التحكيم هو التحكيم بالقانون ولكنه في الوقت ذاته حكم بموجب نصوص القانون فهل الخطأ في توصيف التحكيم بطل حكم التحكيم؟
ونحيل في الجواب على هذا السؤال إلى ما قررته محكمة الإستئناف بتونس، فقد جاء في حيثيات القرار ما يلي:
"إن وصف الهيئة التحكيمية للقرار الذي أصدرته بأنه قرار تحكيمي مصالح هو مخالف للشرط التحكيمي، إلا أن ذلك الخطأ لا يعرض القرار المطعون فيه للإبطال طالما ثبت من مستندات القرار التحكيمي أن الهيئة طبقت القواعد القانونية ولم تتبع قواعد العدل والإنصاف....
( محكمة الإستئناف بتونس - قضية عدد 20536 - قرار نهائي صادر بتاريخ 2005/6/7)
منشور في مجلة التحكيم العالمية - د عبد الحميد الأحدب - بيروت العدد السادس ص
305.
ويثور في هذا المقام السؤال عما إذا كان يصح عدم تحديد موضوع النزاع في إتفاق التحكيم بحجة أو بداعي أن مهمة المحكم هي التحكيم بالصلح؟
ونحيل في الإجابة على هذا السؤال إلى ما قررته محكمة التمييز الكويتية، ففي قرار لها جاء في حيثيات الحكم ما يلي:
".. يجب أن يحدد موضوع النزاع في الإتفاق على التحكيم أو أثناء المرافعة ولو كان المحكم مفوضة بالصلح وإلا كان التحكيم باطلاً" - إن المشرع أطلق للخصوم حرية الإتفاق على حسم منازعاتهم عن طريق التحكيم بالقضاء أو التحكيم بالصلح...
(محكمة التمييز - طعن تجاري رقم 531 لسنة 2002 - جلسة 8 فبراير 2003)
منشور في مجلة التحكيم العالمية، د. عبد الحميد الأحدب، بیروت، العدد السابع ص 354.
المبحث الثاني - النصوص التشريعية والتنظيمية التي أجازت التحكيم بالصلح:
صحيح أن القوانين الوطنية ومعظم أنظمة مراكز التحكيم تسمح بأن يفصل المحكمون النزاع وفقاً لمبادئ العدالة والإنصاف، إذا إتفق الأطراف صراحة على ذلك.
ولكن ليس هناك تحكيم بالصلح مصبوب على قالب واحد على الصعيد الدولي. فكل مشرع فهم التحكيم بالصلح على شكل يختلف قليلاً أو كثيراً عن غيره، ولكل بلد تحكيمه بالصلح.
وكثيرة هي القوانين والتشريعات التي أجازت لأطراف الخصومة الإتفاق على التحكيم بالصلح وعلى سبيل المثال فقد عرضت المادة 38 من قانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008 للتفرقة بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح، فبعد أن تناولت في فقراتها الثلاث الأولى إلتزام المحكم بتطبيق القانون الذي يتفق عليه الطرفان أو القانون الذي تري هيئة التحكيم أنه أكثر إتصالاً بالنزاع عند عدم إتفاق أطراف الخصومة، والتزام هيئة التحكيم بمراعاة شروط العقد محل النزاع والأعراف الجارية في نوع المعاملة فقد نصت الفقرة الرابعة من المادة المذكورة على ما يلي: "إذا إتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم بالصلح جاز لها أن تفصل النزاع على مقتضى قواعد العدالة والإنصاف دون التقيد بأحكام القانون". وقد نصت المادة 39 فقرة 4 من قانون التحكيم المصري رقم 27 لعام 1994 على ذات الحالة.
وفي فرنسا:
عمد قانون التحكيم الفرنسي الدولي، على غرار قانون التحكيم الداخلي، إلى ترك إمكانية لجوء الفرقاء إلى التحكيم بالصلح، ولكنه ذهب في هذا النطاق أبعد بكثير من قوانين التحكيم التي قيدت حرية الإختيار بالقانون المطبق على التحكيم إذ قيدت اللجوء إلى التحكيم بالصلح بأن يكون مجازة في القانون المطبق. وعلى العكس من ذلك فإن القانون الفرنسي لم يأخذ في الإعتبار، القانون المطبق على التحكيم، مقر بحق اللجوء إلى التحكيم بالصلح، حتى ولو كان ذلك القانون لا يجيزه.
وكذلك عمد قانون التحكيم الدولي إلى ربط إمكانية الإختيار هذه، بوقت معين أو بمرحلة معينة من مراحل النزاع، وفقا لما ذهب إليه القانون البلجيكي.
وفي الجزائر:
فقد كان قانون التحكيم الداخلي السابق يفرق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح وكذلك التحكيم الدولي السابق يفرق، ويجيز التحكيم بالقانوني كما التحكيم بالصلح.
أما قانون التحكيم الداخلي الجديد كما قانون التحكيم الدولي فقد حصر التحكيم الداخلي بالتحكيم بالقانون، بل نص وأكد أن المحكمين يفصلون في الدعاوى وفقا لقواعد القانون .
وترك قانون التحكيم الدولي للأطراف حرية إختيار الإجراءات، كما قانون حسم النزاع، فإذا تضمن القانون الأجنبي نصاً يعترف بالتحكيم بالصلح وبالعدل والإنصاف فليس في القانون الجديد ما يمنع ذلك. أما إذا كان قانون التحكيم الدولي الجزائري هو المطبق فإنه لم يعترف بالتحكيم بالصلح والعدل والإنصاف" بل نص على أنه "تفصل محكمة التحكيم في النزاع عملاً بقواعد القانون الذي اختاره الأطراف وفي غياب هذا الإختيار تفصل حسب قواعد القانون والأعراف التي تراها مناسبة مما يعني أن القانون الجزائري أدخل الأعراف إلى جانب القانون في التحكيم الدولي.
وفي لبنان فقد نصت المادة 775 من قانون أصول المحاكمات المدنية أنه "يجوز أن يتفق الخصوم في الشرط التحكيمي، أو في عقد التحكيم أو في عقد مستقل على أن يكون التحكيم عادياً (بالقانون) أو مطلقاً (بالصلح)، كما يجوز تفويض المحكم أو المحكمين التوفيق بين الخصوم"، ولكن المادة 276 من القانون نفسه نصت على أنه "في حال الشك في وصف التحكيم، فإنه يعتبر تحكيماً عادياً (بالقانون)"، أي أنه في هذه الحالة يتم تطبيق قواعد القانون وأصول المحاكمة العادية باستثناء ما لا يتفق منها مع أصول التحكيم. ويجوز للخصوم إعفاء المحكم من تطبيق أصول المحاكمة العادية ويستثنى من هذا الإعفاء قواعد القانون المتعلقة بالنظام العام، والمبادئ الأساسية الأصول المحاكمة ولاسيما المتعلقة بحق الدفاع وبتعليل الحكم. وقد نصت المادة 777 أصول محاكمات مدنية لبناني على أنه "لا يثبت التحكيم المطلق (بالصلح) إلا بمقتضى نص صريح في إتفاقية التحكيم أو في إتفاقية مستقلة".
كما تنص المعاهدات الدولية على ذلك النوع من أنواع التحكيم، حيث أجازت المادة 42 من معاهدة واشنطن في فقرتها الثالثة لهيئات التحكيم المشكلة وفقاً لقواعد المركز الدولي لتسوية المنازعات الناشئة عن الإستثمار أن تفصل وفقاً للعدالة والإنصاف إذا إتفقت الأطراف على ذلك.
وقد أجازت لائحة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي لهيئة التحكيم الفصل في النزاع طبقاً لقواعد العدالة بشرط أن يفوضها الأطراف على ذلك صراحة.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من القواعد الدولية للمركز الدولي لحل النزاعات التابع لجمعية التحكيم الأمريكية وقواعد هيئة البلدان الأميركية للتحكيم التجارية، قد أقرت مبدأ التحكيم بالصلح إذا اتفق الأطراف صراحة على تفويض المحكم بذلك.
وقد نصت الفقرة الرابعة من المادة 33 من قواعد التحكيم لدى مركز دبي للتحكيم الدولي على هذه الحالة أيضا وقد جاء فيها: "4- للهيئة سلطة الأخذ بمبدأ الصلح أو بمبدأ العدالة والإنصاف وذلك فقط إذا كان الأطراف قد إتفقوا صراحة وكتابة على منحها هذه السلطة".
ويثور في هذا المقام السؤال الآتي:
إذا كان المحكم بالصلح معفي من التقيد بالقواعد القانونية فهل يجوز له الخروج على أحكام العقد أيضا..؟
وهل يجوز للمحكم بالصلح أن يذهب بسلطة التعديل الضمني، التي تخوله إياها العدالة وتنازل الأطراف عن تطبيق القانون؟ هل يمكنه أن يذهب إلى حد تعدیل صريح في أحكام ونصوص العقد الذي ينظر فيه؟
هل يملك سلطة تصحيح آثار العقد، باسم العدالة، ليكيفه مع الطوارئ الإقتصادية، فيطبق نظرية الظروف الطارئة، وإن لم يكن منصوص عليها لا في العقد ولا في القانون؟
الفقه منقسم في الإجابة على هذه التساؤلات:
أولاً- فتيار يعتبر أنه ليس هناك أي أساس قانوني يمكن للمحكم بالصلح، أن يعتمده لتعديل العقد أو إعادة النظر بأحكامه، من أجل أن يأخذ الظروف الإقتصادية الطارئة في الإعتبار.
فالمحكم بالصلح، الذي تنازل له الطرفان عن تطبيق القانون، لا يعفيانه من التقيد بنصوص العقد، ولأن المحكم بالصلح ليس وكيلاً عن الطرفين لإعادة مفاوضات العقد وتحديد موجبات وحقوق جديدة عن الطرفين ومكان الطرفين وأن الحكم الذي سيصدره هو لتفسير وإنفاذ العقود، وليس حكما لإنشاء العقود.
وهناك من الفقهاء من يرى أن المحكم الذي يملك سلطة تعديل العقد فإنه بذلك قد أصبح قادراً على تعديل إرادة الطرفين وتجاوز روحية العقد وجدواه الاقتصادية.
ويرى هذا الفريق من الفقهاء أن التحكيم المطلق المتحرر من مفهوم إلزامية العقد ومن شروطه وحتى من روحيته يعني إيلاء المحكم سلطة الفصل في النزاع بما يسمح له بأن يخرج عن قواعد القانون كلها الإلزامية منها أو المكملة أو التفسيرية وحتى إمكانية إقرار موجبات وحقوق مخالفة الإرادة أطراف التعاقد باستثناء ما يتعلق منها بالانتظام العام، أي أن التحكيم المطلق يطلق يد المحكم بإعادة التوازن بين حقوق وموجبات الطرفين من دون أن يتقيد حتى بالإرادة الحقيقية أو بروح العقد أو بأحكام القانون العامة. فهو متحرر من قيود القانون كلها وبالتالي، من قاعدة أن العقد هو شريعة المتعاقدين. فكيف يمكن، وهو المتحرر من تطبيق أحكام القانون والأصول أن يقيد نفسه بأحكام القانون مجدداً. إلا أننا نرى أن الخروج عن أحكام القانون لا يجوز أن يعني الخروج عن أحكام العقد لأن التحكيم المطلق هو وليد إرادة الطرفين ويهدف إلى خدمة هذه الإرادة لا إطاحتها. علما أن لا معقب على إرادة المحكم بهذا الخصوص سوى ضميره المهني. ومن هنا تكمن الخطورة في منح المحكم السلطة المطلقة في التقدير واعادة التوازن في حقوق وموجبات الطرفين انطلاقاً من عقد لم يعد ملزماً لأطرافه. فهو بما يتحسسه يمكنه أن يعتل كيفما يشاء وبإرادته التوازن المفقود، إن وجد أو شاء ذلك، وحتى إذا لم يكن مفقودة. وعليه، فإن بإمكانه أن يعطي حلاً آخر قد لا ينسجم مع مفهوم التوازن أو الإنصاف أو العدالة. فالإنصاف مفهوم شخصي ونسبي ومطاطي ويختلف من محكم لآخر.
وإذا تحرر المحكم من القيود القانونية ومن قيود والزامية العقد ولم يكن هناك من ضابط يردع أو يقيد من جنوحه نحو تأمين مفهوم الإنصاف والحق، فإن الضرر الناجم عن إعتماد مثل هذا التحكيم قد يؤدي إلى انهيار مؤسسة التحكيم المطلق كمفهوم انصافي وعادل، وإذا حاولنا اعتماد هكذا مفهوم واسع للخروج عن مفهوم التوازن في العقد والزاميته. فجميع العقود لا يمكن لأحد أن يقول أصلا أن ثمة توازنة في الموجبات والحقوق بين أطرافها.
فإذا كان المحكم في التحكيم المطلق أو بالصلح يعود له أن يختار القواعد القانونية التي يمكن أن يسند إليها قراره ضمن إطار ومفاهيم الإنصاف والعدالة والضمير ويقوم بتطبيقها مباشرة على موضوع النزاع من دون إلزام عليه أو قيد، مهما كان سوى ضميره المهني وشرفه أو كرامته، فإن ما يورده يأتي نتيجة إختياره قواعد يراها ملائمة ضمن إطار الضمير أو الوجدان الخاص به. وهي متباينة بين المحكمين كما بين البشر، كما هو حاله إذا حصل إختيار قوانين أخرى غير وطنية أو عمد إلى تطبيق أعراف أو الخروج عنها طالما أنه غير مقيد بالقانون ولا بالأعراف بحد ذاتها. وإذا لم يدرك أطراف العقد كل ذلك، فإن لا معقب عليه من أحد. وعليه، فإن قانون العقد أصبح من حيث الأرضية وضع إحتياطية وليس أساسياً.
ويضيف هذا الفريق من الفقهاء أن أهم ما يتيحه التحكيم المطلق في موضوعنا أن يجيز للمحكم تعديل الحقوق الناشئة عن العقد، أي أنه بإمكانه أن يعدل هذه الحقوق أو يهدرها حسب إرادته فحسب من دون إحترام وجود العقد أو روحيته والغريب أن المتحاكمين يكونوا قد أولوا المحكم سلطة التحكيم المطلق، إنطلاقاً من إرادتهم الفردية أو الذاتية، وبحسب مفهومهم لحقوقهم الواردة في العقد، فينطلق المحكم المطلق من هذه الإرادة لإحلال إرادته محل إرادة المتعاقدين والتي لا تأتي تطبيقاً لما شاءه الخصوم أصلاً. فإحترام العقد أو إلزاميته لم يعد هو الأساس المعول عليه. ولا يعتبر تعديله له مخالفاً للنظام العام حتى ولو شوه المحكم مضمونه أو أعطى أحد أطراف العقد ما لا حق له فيه أصلاً.
ويضيف أصحاب هذا الرأي أنه لا يجوز تحت ستار الإنصاف الخروج عن إقتصاديات العقد من حيث الحقوق وإستقرار المعاملات وجدواها الإقتصادية.
وينبغي أن يبقى التحكيم المطلق مرتبطاً بأرض الواقع وبحقوق وموجبات الطرفين المتبادلة وعدم إنقطاع التحكيم عن المفاهيم القانونية التي تشكل وعاءاً للتعاقد من دون أن تكون فضفاضة وحتى لا إمكانية لحصرها أو احتوائها أو التضييق عليها، أي من دون إفراط أو تفريط. ويتعين دوماً تلمس الواقع ولو جرى إعتماد مبادئ العدالة والإنصاف أو الضمير أو الوجدان.
ثانياً - وهناك تيار آخر يعتبر أن التعديل أو إعادة النظر ممکنان في العقد، إذا جاءا منسجمين مع روح العقد، لأنهما يقومان على المحافظة على التوازن الأساسي للعقد.
وأن هناك اجتهاد ثابت يجيز للمحكم بالصلح الحق في تكييف إتفاق الأطراف، ذلك أنه بإتفاق الأطراف على التحكيم بالصلح، فإنهم يتنازلون عن التطبيق الحصري لحقوقهم، سواء كانت هذه الحقوق مستمدة من القانون أو من العقد.
وهناك رأي يقول إن الأطراف إختاروا التحكيم بالصلح تعبيراً عن حركة " تمرد " على القانون. الأن نص القانون لا يصلح لحل مشاكل بعض المهن.
كما أن الأطراف في بعض الأحيان، لا يريدون تطبيق قانون دولة أحدهم، فإذا إختاروا التحكيم بالصلح، فلكي لا يطبق نص وقواعد قانون أي دولة. فإذا كان بإمكان المحكم بالصلح، تطبيق القانون، فذلك يعني أن بإمكان المحكم أن يخالف إرادة المتعاقدين. وبالتالي، يكون مخالفاً للإرادة التي ولدت التحكيم وولدت سلطته.
فيكون ناقضاً ومنقوضاً في آن واحد. يكون المحكم بالصلح قد جبه حركة "التمرد على القانون بخيانة الأمانة" التي عهد بها إليه أطراف النزاع.
والتحكيم بالصلح فيه تنازل من الأطراف موقعي عقد التحكيم، ولكنه ليس تنازلاً" من أحد الطرفين للطرف الآخر، بل هو تنازل مشترك من الطرفين لشخص ثالث هو المحكم. وتفويضه سلطة إختصاص واسعة جدا لحسم النزاع، أوسع وأشمل من سلطات المحكم في التحكيم بالقانون، ومن هنا فإن الفقه يصف طبيعة الحكم التحكيمي بالصلح، بأنه يحل النزاع أكثر مما يحسمه.
وفي حكم لمحكمة باريس تقرر فيه أن تطبيق المحكم البنود الواردة في العقد من دون تطبيق الإنصاف على النتائج الحاصلة، فلا يكون المحكم قد حكم بالصلح، بالرغم من دعوة أحد الأطراف الضمنية لذلك، وإن عدم تقيده بمهمة المحكم بالصلح لم يتم ذكره أبداً في الحكم.
(محكمة الإستئناف في باريس، الغرفة الأولى، 4 تموز 2007 Leizer c/Bachelier )
وفي حكم أخر فقد ورد في حيثياته: ".. الحكم التحكيمي يثبت نية البحث عن حل يتوافق مع العدالة بحكم رجوعه تكراراً إلى العدالة في مسبباته وفي فقرته الحكمية. المحكمة قررت رد طلب إبطال الحكم التحكيمي بحجة تجاهله مهمة التحكيم المطلق بالصلح والعدل والإنصاف.
حين تعفي وثيقة التحكيم المحكمين من تطبيق - نصوص قانون المرافعات المدنية – الأمر الثابت أيضاً في - الشرط التحكيمي - أن الحكم التحكيمي الذي يلزم بغرامة إكراهية لم يطلبها أي من الطرفين لا يكون قد التزم بالمهمة التحكيمية، وبالتالي فإن المحكمة أبطلت جزئية القرار التحكيمي في الجزء الذي يلزم بدفع غرامة إكراهية. (محكمة إستئناف باريس - الغرفة الأولى مدنية - حكم صادر في 2008/5/15 Sztulman (et autre c/Le Forestiee et autre
وفي حكم آخر صدر عن محكمة استئناف بيروت فقد جاء في حيثيات الحكم:
"وحيث يعزز ما تقدم أنه من طبيعة التحكيم المطلق الذي توافق عليه المتنازعون أن يكون باستطاعة المحكمين إضفاء الطابع المنصف على الحل الذي يقررونه للنزاع المطروح عليهم، ولو تعارض الحل أحياناً مع ما ورد في العقد من نصوص، فيكون من واجبهم، وهم محكمون مطلقون، أن يستنيروا في سبيل ذلك، مهما تنوعت هذه البنود أو تعددت، أو حتى مهما إتسمت هذه البنود بطابع هام أو "مصيري" وفق تعبير القرار المطعون فيه، فالمهم فقط بالنسبة للمحكمين، وهذا أمر أساسي، أن يتصدوا للمسألة المطروحة عليهم وتحديد ما إذا كانت مبادئ الإنصاف تبرر لجوءهم التلطيف البنود التعاقدية لتأتي منسجمة مع حلول منصفة لا يمكن أن تضر بمصلحة أي من الفرقاء المتنازعين، فلا يمكنهم بالتالي أن يتنصلوا من هذه المهمة بحجة عدم تمكنهم من مخالفة العقد الصريحة... وحيث إن المحكمة تعتبر أن مبادرة المحكم المطلق إلى تطبيق مبادئ الإنصاف لا يعني أبداً هدمة لقوة العقد الملزمة للفرقاء، إذ أن هؤلاء بتضمينهم العقد أو النظام بنداً تحكيمياً مطلقاً، وهو بند أساسي غير منفصل عن العقد، يعني قبولهم المسبق بمفاعيل هذا البند من حيث إعطاء المحكم إمكانية تطبيق مبادئ الإنصاف ولو اقتضى الأمر لذلك تعديل أو تلطيف أو حتى الخروج عن بعض البنود التعاقدية، طالما لا تتعلق هذه البنود بالنظام العام، فلا يمكنهم بالتالي أن يستبعدوا مبادئ الإنصاف بحجة تعارضها مع بعض بنود العقد، مهما كانت هذه البنود. وحيث يقتضي بنتيجة كل ما تقدم فقد تقرر بالإجماع:
1- قبول الطعن شكلا.
2 - إبطال القرار التحكيمي المطعون فيه.
فتح المحاكمة وتكليف الفريقين بتقديم ما لديهم من دفاع في الأساس .
(محكمة الإستئناف المدنية في بيروت – الغرفة الثالثة - قرار صدر بتاريخ 2007/10/16) .
وفي الإجابة على السؤال المطروح في عنوان البحث وعما إذا كان قد آن الأوان لإنتهاء الجدل حول التحكيم بالصلح فإن الباحث يرى أنه يجوز للمحكم في التحكيم بالصلح سلطة تعديل آثار العقد وتعديل نتائج التطبيق الصارم والدقيق للبنود التعاقدية لأن المحكم يجب أن يراعي في حكمه إرادة الطرفين الضمنية في أن يستمرا في التعاون معاً. وهذا يفترض أن يقرأ المحكم بين سطور عقد التحكيم بالصلح. فالطرفان إذا إختارا التحكيم بالصلح، فإنما كانا يهدفان إلى الحيلولة دون انقطاع العلاقات بينهما، حتى ولو طرأت خلافات بينهما، وميزة التحكيم بالصلح هي التي تشجع الفرقاء على اللجوء إليه بحثا عن الحلول الفعلية المناسبة لحل قضاياهم.
ثم إن طبيعة التحكيم بالصلح، تستدعي أن يكون لدى المحكم بالصلح القدرة والصلاحيات الكافية لأداء مهمته بنجاح، ولهذا فإنه يجوز للمحكم بالصلح الخروج على أحكام العقد وألا يتقيد بتنفيذه حرفياً، وله في هذه الحالة مثلاً أن يخفف من بعض الإلتزامات المفروضة على الطرفين، ويمكنه تحديد مهل للتنفيذ مختلفة عن المهل المشروطة في العقد المتوافق عليه من الطرفين، وبإمكانه تعديل مواضيع الإلتزامات المتبادلة المنصوص عنها في العقد.
وبإمكانه تعديل الإلتزامات العينية إلى التزامات نقدية وليس هذا فحسب بل له سلطة تصحيح آثار العقد، ليكيفه مع الطوارئ الإقتصادية، فيطبق نظرية الظروف الطارئة، وإن لم يكن منصوصا عليها لا في العقد ولا في القانون. .
وعلى سبيل المثال، يعود للمحكم بالصلح أن يعدل في قيمة حقوق أحد فرقاء العقد إذا كانت هذه القيمة قد تدنت كثيراً بفعل إنهيار العملة أثناء تنفيذ العقد بحيث إنعدم التوازن الأصلي للعقد وزادت أعباء الفرقاء بصورة فاحشة.
وكذلك هو الحال إذا كان الأطراف أعطوا العقد وصف "عقد ايجار" فليس ما يمنعه أن يعطيه صفة "عقد بيع" إذا اقتنع ضميره وعلمه بذلك. وهو غير مقيد بالأسس القانونية التي اعتمدها أطراف النزاع، بل بإمكانه اللجوء إلى أسس قانونية أخرى لم يطرحها أحد من طرفي النزاع. فالمحكم بالصلح مطلق اليدين في بحثه عن حل، وهو غير مرتبط بالأسس التي أدلى بها الطرفان. لا يربطه سوی موضوع النزاع ولا يلزمه إلا حسمه بحل لا يتنافى مع النظام العام.
ويستطيع المحگم أن ينقض تعريفاً تعاقدياً للقوة القاهرة، كان قد أعطاه الطرفان في العقد ويستبدله بتعريف آخر .
إلا أن المحكم بالصلح مقيد دائماً بعدم تعديل البنيان الأساسي الذي يقوم عليه العقد. ثم إن طبيعة التحكيم بالصلح، تقتضي إتخاذ قرار من المحكم بتسوية النزاع بين الطرفين بحيث يكون عادلاً من وجهة نظر المحكم، ولأن التحكيم بالصلح يجعل من مهمة المحكم مهمة تهدئة بين الفريقين اللذين، بإتفاقهما على مبدأ التحكيم بالصلح، يعتبران قد أعلنا عن إرادتهما في التعاون بحسن نية وعن إستعدادهما للتخلي عن بعض حقوقهما تسهيلاً لهذا التعاون وبروح من التوفيق والتسوية، بحيث يصبح التحكيم بالصلح أداة لتحقيق تعایش هادئ ومستمر بين المتنازعين، فمن هذه الزاوية، يتميز التحكيم بالصلح بإضعاف الصفة القانونية القاطعة للنزاع وبترجيح العناصر والمعطيات التجارية والنفسانية وسائر المعطيات البعيدة عن المعطى القانوني الصرف.
وإذا كان المحكم بالقانون مقيداً بموضوع النزاع وأسبابه، فإن المحكم بالصلح مقيد بالموضوع، ولكنه ليس مقيداً بأسبابه، وسلطاته على هذا الصعيد واسعة جدة. وهي أوسع من سلطان المحكم بالقانون، وهي ليست مقيداً إلا بموضوع النزاع وهذا ما يفسر أن قوانين الإستثمار في الدول الإفريقية مثلاً، كانت قد نصت كلها بصراحة على أن يكون التحكيم بالصلح.
فتنفيذ العقد يستدعي أن لا يقف كل طرف بالمرصاد للطرف الآخر، ولا أن ينزل أي طرف الى خندق النصوص الحرفية القانونية، بل الأهم من النصوص هو النفوس التي يجب ان يبقى فيها الصلح سيد الأحكام، حتى يستمر تنفيذ العقد والسير به بسلام وأمان.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن مفهوم هذه العدالة هو مفهوم ضمير المحكم لمعنی العدالة. من هنا، فإن التحكيم بالصلح تلعب فيه شخصية المحكم أهمية بالغة الخطورة، لأن المحكم يعيش في التحكيم بالصلح مع ضميره في وحدة موحشة، من هنا، فإن اختيار المحكم بالصلح هو أهم ما في التحكيم إذا كان هذا التحكيم بالصلح، أو على الأقل، فإن التحكيم بالصلح يبدأ بإختيار محكم يحوز ثقة كبيرة من الطرفين.
وكل ما في الأمر أنه لا يجوز للمحكم أن يتجاوز مهمته التحكيمية عندما يعطي فريقة أكثر مما يطلب، كان يحدد مثلاً بدء إحتساب فوائد التأخير بتاريخ سابق للتاريخ الذي حدده الدائن في طلباته، أو بقرار إبطال عقد لم يدل ببطلانه أي من الفرقاء، وإذا فعل المحكم ذلك يكون قد تجاوز مهمته التحكيمية.
كما إن المحكم بالصلح ملزم باتباع قواعد الإجراءات المتفق عليها بين الطرفين، مثل مكان التحكيم ولغة التحكيم والمدة التي يتوجب عليه إصدار الحكم خلالها، وإن مخالفته لهذه الإجراءات تجعل حكمه معيباً مما يعرض الحكم للطعن به أمام القضاء.
إذن يجوز للمحكم أن يعدل المسار الذي رسمه الفرقاء لعلاقاتهم التعاقدية كي يأتي حله للنزاع متسمة بمسحة من الإنصاف فيكون بذلك قد قام بتليين ما ورد في العقد من بنود جامدة وقاسية لا تخدم روح العقد ومصلحة الفرقاء المتنازعين، حيث إن تجاوز المحكم لما ورد في العقد من بنود لا تبدو له منصفة يجد تبريره في أن النصوص التعاقدية، طالما لا تتعلق بالنظام العام، هي ذات طابع مكمل مما يعطي المحكم المطلق مجالاً لتعديلها وتلطيفها، وباستطاعة المحكمين إضفاء الطابع المنصف على الحل الذي يقررونه للنزاع المطروح عليهم، فالمحكم بالصلح يظل باحثاً عن حل وسط، طالما كان الطرفان في موقف حسن نية، أما إذا ظهر غش أو سوء نية من أحد الطرفين، فذلك يلزم المحكم بالصلح بأن لا يكون شريكاً في هذا الغش وأن يدينه ويقمعه. فمهمة المحكم بالصلح هي إيجاد الحل الوسط، الذي يحقق تعايشاً سلمياً في الأعمال تكون مكافأة لحسن نية الطرفين ولا يعود لها أي مبرر وتنتهي حين يبدأ سوء النية والغش.
ورب سائل يتساءل عن ماهية القواعد الي يطبقها المحكم بالصلح ومن أين يستقيها؟ وللجواب على هذا التساؤل نقول:
إنه لا حدود لمصادر القواعد المنصفة التي يمكن للمحكم المطلق أن يلجأ إليها. فكما أنه لا يمكن أن يلقاها في القانون نفسه، فإنه في معظم الأحيان يستخلصها من المبادئ العامة، الإجتماعية والأخلاقية والإنسانية، التي تشكل عاملاً مشتركاً بين كافة فئات المجتمع، ومن إحساس ذاتي دفين بمقاييس العدالة وحسن النية، ومن الروح التوفيقية والتصالحية التي تؤدي إلى التسوية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن عدم تقيد المحكم بأحكام القانون، إنما ينصرف في المقام الأول إلى نصوص التشريع إذ هي التي تصاغ في نصوص عامة لا تأخذ اختلاف الظروف بعين الاعتبار وتقدم عليها اعتبارات الاستقرار في كثير من الأحيان. أما مصادر القانون الأخرى كالعرف والعادة والمبادئ العامة للقانون، فأمرها مختلف. فالأولى تمثل ما يجري عليه الناس في تعاملاتهم. وهي أيضا تواجه في الغالب ظروف كل نوع من أنواع المعاملات. والثانية مبادئ كلية تعبر عن قيم أكثر مما تعبر عن حلول قابلة للتطبيق بذاتها. وهي في الغالب قيم ذات مضمون معبر عن العدالة. ولذلك فقد يستعين المحكم في التعرف على مقتضيات العدالة والإنصاف، بأعراف وعادات التجارة.
وصحيح أن المحكم بالصلح معفي من التقيد بالقواعد القانونية إلا أنه ملزم باحترام حقوق الدفاع والمساواة بين الأطراف واحترام مبدأ المواجهة.
كما إن المحكم بالصلح لا يمكنه تجاهل القواعد الآمرة، التي تمس النظام العام الدولي للدولة التي تتصل بشأنها المنازعة المعروضة عليه، وإن التزام المحكم بمراعاة النظام العام الدولي لتلك الدولة يبرره ضمان الإعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الصادر عنه في تلك الدولة التي تتصل بها المنازعة المعروضة عليه بروابط وثيقة.
وتفويض المحكم بالصلح لا يمنع بالطبع من أن يعهد إليه الطرفان بالفصل في مسألة قانونية محددة، بحسبانها مسألة أولية يقتضيها الفصل في النزاع. وتطبيقاً لذلك قضي بأنه إذا عهد الطرفان إلى المحكم بالصلح بتكييف العلاقة لتحديد ما إذا كانت علاقة وكالة أو علاقة مقاولة، فإنهما بذلك يكونان قد عهدا إليه بمهمة قانونية بالمعنى الدقيق لأن التكييف لا يتحقق إلا من خلال التحليل الدقيق لشروط العقد، وتكون مسألة التكييف من ثم خارجة عن السلطة الخاصة بالصلح في شأن عدم التقيد بأحكام القانون. .
والجدير بالذكر فإن التحكيم بالصلح فحواه الفكرة ذاتها التي هي جوهر الصلح أي نزول كل من الطرفين عن جزء من إدعائه في مقابل تسليم الطرف الآخر بالجزء المتبقي من هذا الإدعاء، ووسيلته هي وسيلة الصلح ذاتها وهي عقد الصلح، لكن العقد في حال التحكيم بالصلح من جنس آخر غير جنس عقد الصلح، وهذا ما يظهر أثره في كيفية تحديد الجزء الذي ينزل عنه كل من المتعاقدين وفي وقت تمام النزول، ففي الصلح يتم تعيين هذا الجزء محل النزول في العقد ذاته، ويتحقق النزول بتمام هذا العقد. أما في التحكيم بالصلح فيترك تحديد هذا الجزء محل النزول إلى تقدير المحكم من بعد تحقيقه وقائع النزاع وتقييمه حقوق كل من الطرفين والتزاماته في ضوء إعتبارات العدالة، ولا يتحقق هذا النزول إلا بإصدار حكم التحكيم.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً فإن نزول كل من الطرفين عن جزء من إدعاءاته لا يفترض بالضرورة وجود إدعاءات من كل من الطرفين قبل الآخر. فمن المتصور أن يقتصر إدعاء الحقوق على أحدهما قبل الآخر، وأن ينازع هذا الأخير فيها إستناداً إلى قواعد العدالة والإنصاف. وفي هذه الحالة يمكن للمحكم أن يستجيب إلى ما يثيره المدعى عليه، على نحو أو أخر، كأن يحكم للمدعي بما يدعيه ويعفي المدعى عليه من الإلتزام بالأجل المحدد للوفاء مثلاً، أو يحكم له بجزء مما يدعيه ويعفي المدعى عليه من الجزء الآخر مع إلزامه بالأداء الفوري وهكذا.
ويلتقي هذا التوجه مع إتجاه عام في العالم ففي انكلترا كتب أحد الفقهاء معلقة على أحد الأحكام القضائية، مؤكدا أن المحكم مطالب باحترام " مبادئ العدالة التي يستحيل خرقها " مع الإجتهاد فيما عداها، مبررا ذلك بأن المحكم ليس بالضرورة أن يكون من أهل القانون،
فقال:
We must not insist upon a too minute observance of the regularity of forms among persons who naturally by their education or by their opportunities cannot be familiar with legal procedure, and may accordingly make slips in what is a mere matter of form without any interference with the substance of their decisions. I should be anxious myself I have no doubt all your Lordships would, to give every effect to their decisions, on the other hand, there is some principles of justice which it is impossible to disregard, and giving every credit to the desire on the part of the court to do justice, I think it is manifest that they proceeded far too hastily in this case, and apart form imputing to them any prejudice or any desire to do wrong, I think that the mode in which the whole thing arose and was disposed of was so slipshod and irregular that it might lead to injustice".
ويثور في هذا البحث التساؤل عما إذا كان المحكم بالصلح محروم من تطبيق القواعد القانونية...؟
وللجواب على هذا التساؤل يمكن القول:
الأصل أن المحكم بالصلح غير مقيد بالقواعد القانونية، ولكن المحكم بالصلح قد يطبق هذه القواعد دون أن نعتبر ذلك خروجاً عن حدود المهمة الموكولة إليه، أي إن المحكم بالصلح معفی من تطبيق قواعد القانون ولكن ذلك لا يعني أنه محروم من تطبيقها إذ يمكنه إعمالها، إذا وجد فيها معیاراً كافياً للعدالة والإنصاف كما يراها .
ويقول أستاذنا الدكتور عبد الحميد الأحدب، فالقانون ليس بعيداً عن العدالة ولا العدالة منقطعة عن القانون، بل إن الصلة بينهما هي صلة أرحام وعصبات، والعدل حسن وهو في خفايا الضمير ولكل محكم ثقافته وفكره ومفهومه للعدالة، وإن في كل تحكيم بالقانون ظلالاً وعطراً من التحكيم بالصلح، وفي كل تحكيم بالصلح ظلالاً وعطراً من التحكيم بالقانون. ويشير الكاتب إلى الزيادة المطردة على الصعيد الدولي في التحكيم بالصلح بحسبان أن الصلح سيد الأحكام، ومن أجل تجنب التناقض في المصالح الذي يفضي إلى تناقض في القوانين المطلوب تطبيقها، وأيضاً حتى لا ينزل كل طرف إلى خندق حرفية النصوص القانونية. ويضيف بأن تنازل الدولة في عقودها عن تطبيق قانونها أو قبولها بالتحكيم بالصلح يعطي هيئة التحكيم إمكانية اختيار القانون الأصلح المطبق على العقد، بل يمنح هيئة التحكيم، حسب الظروف، تطبيق مجموعة القواعد القانونية الملائمة للنزاع المعروض بما في ذلك الأعراف السائدة في الأوساط المعنية بالنزاع.
بحث بعنوان التحكيم بالصلح، مجلة التحكيم العربي، العدد الثالث، من ص 50 إلى 58. وفي قرار المحكمة التمييز اللبنانية جاء فيه:
".. الفريقان توافقا على إعطاء المحكم صفة المحكم المطلق وما ورد من إشارة وجوب تطبيق للقانون اللبناني لا تعني أن التحكيم عادي، يبقى بإمكان المحكم إذا ما ظهر له أن حكم القانون هو عادل أو مناسب أن يقضي في النزاع على أساسه والخيار في هذا المجال يعود له وحده ويكون الوصف الذي أعطاه الطرفان للتحكيم على أنه مطلق هو وصف صحيح ولا يكون الإعتماد المحكم على القاعدة القانونية في فصل أية مسألة ولو أساسية من تأثير عليه...
(محكمة التمييز المدنية – الغرفة الخامسة - قرار رقم 11 تاریخ 1/29/ 2007)
ومن إحصاء أجرته هيئة التحكيم الأميركية .A.A.A يتبين أن 80% من المحكمين طبقوا القواعد القانونية في أحكامهم، وإن كانوا غير ملزمين بذلك، ولكنهم أضافوا أنهم ما كانوا يسلكون هذا الدرب لو أنهم وجدوا أن إتباع طريق آخر، كان سيفضي بهم إلى حل أكثر عدلا وإنصاف.
وفي هذا الصدد قررت محكمة التمييز اللبنانية بقرار جاء فيه تحرير المحكم من واجب تبرير نفسه في القرار الذي يصدره وفقاً لأحكام القانون رغم أنه محكماً مطلقاً يفترض فيه أن يكون قد تحقق من أن القانون الذي يطبقه هو منصف للمتقاضين بقولها:
(... ثانياً ليس أمراً مفروضاً على المحكم الذي يبقي بإمكانه إذا ما ظهر له أن حكم القانون هو عادل أو مناسب أن يقضي في النزاع على أساسه والخيار في هذا المجال يعود له وحده، فيكون الوصف الذي أعطاه الطرفان للتحكيم، على أنه مطلق هو وصف صحيح ومنطبق في النتيجة على إرادتهما الحقيقية ولا يكون الإعتماد المحكم على القاعدة القانونية في فصل أية مسألة ولو أساسية من تأثير عليه...).
قرار رقم / 2007/11 تاريخ 2007/1/29 ، تمييز مدني، غرفة خامسة.
وفي تعليق للبروفيسور ميشال سمراني على القرار المذكور فقد قال: (.. وقد جاء القرار موضوع هذا التعليق يؤكد هذا التوجه بالإجتهاد الذي يقضي بأن إخضاع التحكيم المطلق للقوانين اللبنانية لا يتنافى مع طبيعته لكونه لا يمنعه من إعتماد القواعد القانونية كقواعد تتوافق والإنصاف..).
مجلة التحكيم العالمية، د. عبد الحميد الأحدب، بیروت ص. 471، العدد التاسع، لعام 2011.
ومما يثور في هذا البحث أيضا السؤال الأتي:
ماذا لو أن المحكم بالقانون طبق قواعد العدالة في الوقت الذي لم يحدد فيه المدعي أي قاعدة من قواعد القانون المطبق على أساس النزاع؟
لقد أجابت على هذا التساؤل محكمة استئناف باريس حيث قررت:
... أن إعتماد المحكم مبدأ العدالة في تخمين العطل والضرر في وضع لم يحدد فيه الطرف طالب التعويض أي قاعدة من قواعد القانون المطبق على أساس النزاع، إن المحكم في هذا الإعتماد يكون قد تبني قاعدة من قواعد المبادئ العامة للقانون المعترف بها في كل الأنظمة القانونية فلا يكون المحكم قد تجاوز مهمته كمحكم بالقانون إلى سلطات المحكم بالصلح و بالعدل والإنصاف.
إن الأطراف في الدعوى لم يحددوا أي قاعدة من قواعد القانون المطبق على أساس النزاع الطبق في مادة تقدير كمية تعويض العطل والضرر. هكذا استبعد المحكم هذه الآثار للبحث عن الحل الأكثر عدلاً، فيكون المحكم في تقديره للعطل والضرر وفقاً للعدالة والضمير، قد قام بما يوازي الأخذ بمبدأ من المبادئ العامة في القانون المعترف به في كل الأنظمة القانونية بما فيها القانون المطبق على أساس النزاع، معتمدة العناصر الموضوعية المقدمة إليه لتقدير إجمالي الضرر.
فلا يكون المحكم في هذه الظروف قد تجاوز مهمته بإعطاء نفسه سلطات المحكم بالصلح والعدل والإنصاف...".
(محكمة إستئناف باريس - ألغرفة المدنية الأولى - 17 يناير 2008 -SA-SDMS
على سبيل المثال وفي القانون اللبناني فقد نصت المادة 775 من قانون الأصول المحاكمات المدنية:
يجوز أن يتفق الخصوم في البند التحكيمي أو في عقد التحكيم أو في عقد مستقل على أن يكون التحكيم عادياً أو مطلقاً، كما يجوز تفويض المحكم أو المحكمين التوفيق بين الخصوم".
كما جاءت الفقرة الأولى من المادة 777 لتنص على:
في التحكيم المطلق يعفي المحكم أو المحكمون من تطبيق قواعد القانون وأصول المحاكمة العادية ويحكمون بمقتضى الإنصاف".
وما زالت هذه النصوص ومثيلاتها في القوانين الأخري تثير الجدل حول ما إذا كانت سلطة المحكم في تطبيق العدالة والإنصاف إختيارياً أم إجبارياً؟
وفي لبنان طرحت هذه المسألة على الإجتهاد فجاء البعض ليقول أنه يكفي للمحكم عندما يقضي بموجب القانون أن يلحظ صراحة أنه تأكد عند إصداره القرار التحكيمي بأن القواعد القانونية التي إستند إليها تنصف المتقاضيين.
إلا أن إجتهاد محكمة التمييز اللبنانية جاء ليحرر المحكم من واجب تبرير نفسه في القرار الذي يصدره وفقاً لأحكام القانون لأنه بصفته محكماً مطلقاً يفترض فيه أن يكون قد تحقق من أن القانون الذي يطبقه هو منصف للمتقاضين بقوله:" ثانياً , ليس أمراً مفروضاً على المحكم الذي يبقى بإمكانه إذا ما ظهر له أن حكم القانون هو عادل أو مناسب أن يقضي في النزاع على أساسه والخيار في هذا المجال يعود له وحده، فيكون الوصف الذي أعطاه الطرفان للتحكيم، على أنه مطلق وهو وصف صحيح ومنطبق في النتيجة على إرادتهما الحقيقية ولا يكون الإعتماد المحكم على القاعدة القانونية في فصل أية مسألة ولو أساسية من تأثير عليه.
وحيث إن القرار الإستئنافي يكون إذن قد صدر في إطار تحكيم مطلق فيتعين رد هذا التمييز بالإستناد إلى المادة 821 معطوفة على المادة 804 أ. م. م. معدل.
لذلك تقرر بالإتفاق:
رد التمييز الحالي لعدم قابلية القرار للطعن فيه...". قرار رقم 2007/11 ، تاریخ 2007/1/29 وتمييز مدني، غرفة خامسة).
وفي حكم المحكمة إستئناف باريس فقد جاء بحيثياته: "حيث إن المحكم لم يفصل في التحكيم بالصلح طالما أنه طبق البنود العقدية من دون الفصل في النتائج الحاصلة على أساس الإنصاف وذلك بالرغم من دعوة أحد الأطراف الضمنية، رغم أنه لم يأت على ذكر عدم تقيده بمهمة الفصل في التحكيم بالصلح.
(محكمة إستئناف باريس - الغرفة المدنية الأولى - 14 آذار 2006 C. et autres).
ولكن محكمة التمييز الفرنسية وفي قرار صادر عنها بتاريخ 15 شباط 2001 قد اعتبرت أن المحكم بالصلح يخرج عن حدود مهمته عندما يطبق أحكام القانون دون أن يبين مطابقة هذه الأحكام لمبادئ الإنصاف.
وفي هذه القضية رد المحكم بالصلح الدعوى التي ترمي إلى إبطال التفرغ عن أسهم في شركة إستناداً إلى أحكام القانون المستمدة من مرور الزمن ومن قوة القضية، دون أن يعلل قراره بأن هذه الأحكام كانت مطابقة لمبادئ الإنصاف.
تقدم الفريق الخاسر بطلب إبطال القرار التحكيمي أمام محكمة إكس إن - بروفانس aix - en Provence - التي ردت طلب الإبطال على إعتبار أن المحكم المطلق يحق له أن يتخلى عن القواعد القانونية لكنه ليس ملزمة بأن يتخلى عنها.
وقد نقضت محكمة التمييز هذا القرار معتبرة أن المحكم المطلق يترتب عليه واجب أن يبين أن القواعد القانونية التي طبقها تتوافق مع مبادئ الإنصاف.
وبعد أن أصدرت محكمة استئناف اکس - إن - برفانس قراراً قضى بإعطاء هذه السلطة الطابع الإختياري كرست محكمة التمييز الفرنسية في قرارها المؤرخ 15 شباط 2001 المذكور الطابع الإلزامي بعبارات ملطفة مفادها أنه يترتب على المحكم المطلق أن يشرح في قراره كيف أن أحكام القانون التي طبقها كانت متوافقة مع مبادئ الإنصاف. وبعبارة أخرى إن هذا القرار ألزم المحكم المطلق، في القانون الداخلي، بأن يعلل قراره لجهة مطابقة أحكام القانون التي إعتمدها المبادئ الإنصاف.
وصفوة القول:
بالنسبة للتحكيم بالصلح يمكن التفريق بين ثلاث حالات:
الحالة الأولى - وهي التي يطبق فيها المحكم بالصلح مبادئ الإنصاف فقط دون الإشارة إلى القانون.
الحالة الثانية - الحالة التي يطبق فيها المحكم بالصلح القواعد القانونية مع التعليل بأن القانون يتوافق، في الحالة التي فصل فيها، مع مبادئ الإنصاف.
الحالة الثالثة - الحالة التي يطبق فيها التحكيم بالصلح، حيث يطبق المحكم القانون والقواعد القانونية دون التعليل بأن القانون يتوافق، في الحالة التي فصل فيها، مع مبادئ الإنصاف.
ففي الحالة الأولى، يكون القرار التحكيمي صحيحاً ولا يجوز طلب أبطاله لعلة تجاوز المحكم بالصلح لحدود مهمته لأن هذا الأخير قد إحترم إرادة الفريقين بأن يصدر القرار إستنادا إلى مبادئ الإنصاف.
وفي الحالة الثانية، أي في الحالة التي يطبق فيها المحكم بالصلح القانون مع التعليل بأن أحكام القانون التي طبقها تتوافق مع مبادئ الإنصاف، لا يكون المحكم قد تجاوز حدود مهمته لأن الإنصاف يكون قد لعب دور التأشيرة التي سمحت للقانون بالدخول إلى دائرة التحكيم بالصلح .
أما في الحالة الثالثة، أي الحالة التي يطبق فيها المحكم القانون دون التعليل بأن الأحكام القانونية التي طبقها تتوافق مع مبادئ الإنصاف، فيكون القرار التحكيمي باطلاً لعلة تجاوز المحكم بالصلح لحدود مهمته.
وصفوة القول: إن المحكم بالصلح، إذ يحمل عبء مهمة فانه لا يتمتع بمجرد سلطة، بل إنه ملزم أن يضع العدل نصب عينيه وأن يبحث عن الحل في ضوء العدل، ويترك قواعد القانون إحتياطاً يلجأ إليه عند الضرورة وعند الحاجة، ولا يبدأ به مسيرة البحث عن العدل.
ولهذا فإن سلطة المحكم بالصلح بتطبيق مبادئ الإنصاف هي إلزامية وليست اختيارية. وبإمكان المحكم بالصلح أن يطبق القواعد القانونية شرط أن يبين أن تطبيق هذه القواعد تتوافق مع مبادئ الإنصاف. أما في العقود فيحق للمحكم بالصلح، إستناداً إلى مبادئ الإنصاف، أن يقوم بتلطيف بنود العقد أو تعديلها أو حتى الخروج عنها شرط التقيد بمبدأ المحافظة على الخلفية الإقتصادية للعقد والإمتناع عن كل ما من شأنه أن يهدمه.
وسواء كان التحكيم بالقانون أو بالصلح فإن المحكم يكون دائماً مقيداً بمقتضيات النظام العام سواء كانت هذه المقتضيات المتعلقة بالنظام العام أحكاماً موضوعية أو أحكاماً إجرائية.
المبحث الثالث - تحقيق المحاكمة العادلة سواء كان التحكيم بالقانون أو التحكيم بالصلح:
إن شرط الحصول على محاكمة وفق الأصول القانونية هو أمر لا يزال يتطور في القوانين كحق أساسي من حقوق المواطن. في الإجراءات التحكيمية، تكمن القاعدة الأساسية في الخضوع المبادئ المساواة والمحاكمة العادلة وحق الوجاهية. يجب معاملة الأطراف على قدم المساواة ويجب إعطاء كل واحد منهم فرصة كافية ليعرض دعواه.
إن الحق في المحاكمة وفق الأصول القانونية يتطلب من المحكمين أن يجروا التحكيم وبالتالي، أن يصوغوا الأحكام التحكيمية الصادرة عنهم بحيث تكون قابلة للتنفيذ وهذا يعني أنه يتوجب عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم ليضمنوا أن الأحكام التحكيمية الصادرة عنهم ليست خاضعة للإبطال في مكان التحكيم، وأنها قابلة للتنفيذ في المكان الذي يرغب الشخص الذي صدر حكم التحكيم لصالحه أن ينفذه.
لدى صياغتهم قرارهم، يتوجب على المحكمين أن يسألوا أنفسهم أو وفق أي قانون واجب التطبيق يجب تقييم ماهية الحق في المحاكمة وفق الأصول القانونية. بالطبع، إن نقطة الإنطلاق يجب أن تكون رغبة أطراف النزاع. علاوة على ذلك، يجب أن يأخذ المحكمون بالإعتبار القانون الدولي الإتفاقي والعرفية.
واذا إتفق الأطراف على الإلتجاء إلى التحكيم لفض نزاعاتهم القابلة للتحكيم سواء كان في صورة شرط أو مشارطة تحكيم ليست ظاهرة البطلان أو غير قابلة للتطبيق - وعدم وجود تنازل صريح أو ضمني عن إتفاق التحكيم - فإنه يتولد للأطراف حق أساسي من الحقوق الأساسية اللصيقة بهم، وهو حق الإلتجاء للقضاء، ولكنه قضاء تحكيمي فلا يمكن لهيئة التحكيم أن لا تقبل نظر الدعوى تعسفاً أو إنكاراً للعدالة، وفي هذا قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر 28 مارس 2013 بأن تعتبر هيئة التحكيم قد خالفت مبدأ المساواة في الإلتجاء إلى قضاء التحكيم، إذا رفضت هيئة التحكيم نظر الطلبات العارضة المقدمة من أحد الخصوم بسبب عدم قدرته على دفع مصاريف التحكيم لهيئة التحكيم، وذلك بسبب تصفية الشركة، فالطلبات العارضة جزء لا يتجزأ من الطلبات الرئيسية ما دامت مرتبطة بها، فالهيئة برفضها نظر تلك الطلبات تكون قد خالفت مبدأ المساواة في الإلتجاء إلى القضاء التحكيمي".
وقضت أيضاً الدائرة الأولى المدنية لمحكمة النقض الفرنسية بأن 23 بعد إبرام الشخص الإتفاق التحكيم، يتولد له الحق في الإلتجاء إلى هيئة التحكيم، الذي يعد من النظام العام الدولي، والمتواتر عليه ضمن قواعد التحكيم الدولي، والمطبق للمادة 1/6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وبالتالي إذا استحال على الشخص الإلتجاء إلى هيئة التحكيم، يشكل ذلك إنكاراً للعدالة ويبرر تدخل قاضي الدولة.
ولا خلاف على أن التحكيم هو نتاج ضرورة فرضتها حاجة الحياة الإجتماعية والإقتصادية إلى نظام قانوني قادر على الفصل في المنازعات التجارية بعيداً عن قضاء الدولة ومحاكمها، ولهذا لا بد لهذا النظام من أن يؤدي دوره القانوني في تحقيق عدالة تحكيمية رغب فيها الأطراف مقدماً.
ومن ثم لا يقوم النظام القانوني للتحكيم ويحقق أهدافه بمجرد وجود القواعد القانونية، بل أنه من المبادئ الراسخة التي ترعى قانون التحكيم مبدأ حياد المحكم واستقلاله، ذلك أنه على الرغم من أن التحكيم نابع من إرادة أطرافه، وهو بالتالي ذو طبيعة تعاقدية فإنه يبقى أن دور المحكم شبيه إلى حد بعيد بدور القاضي، وهو على هذا الأساس مقيد بالضوابط والقواعد التي فرضها المشترع على القاضي بغية صيانة حقوق المتقاضين ولتأمين سير المحاكمة على أسس عادلة ولإصدار حكم عادل ، هذا مع التنويه بأن الطبيعة التعاقدية للتحكيم تفرض في بعض الأحيان تقديراً خاصة لأسباب الرد قد لا يتلاءم مع المفهوم السائد في قضاء الدولة التقليدي..).
والواقع أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 في المادة 10 منه قد نص على ان لكل إنسان الحق بمحاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مستقلة ومحايدة عند تقرير حقوقه وواجباته وعند أي اتهام جنائي يوجه ضده.
هذا وقد اكدت المعاهدة الاوروبية لحقوق الانسان 1950 في المادة 6 منها على ان لكل انسان الحق في محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة.
ولتحقيق المحاكمة العادلة ينبغي على المحكم مراعاة المسائل التالية.
المسألة الأولى: التحكيم ومسألة منع التمييز على أساس الإنتماء .
المسألة الثانية: عدم التمييز على أساس العرق.
المسألة الثالثة: ضمان مبدأ المواجهة .
المسألة الرابعة: إجراء التحقيق في الدعوى.
المسألة الأولى: منع التمييز على أساس الانتماء:
يقصد بهذا التمييز هنا منع التعامل الإقتصادي مع أشخاص معينين على أساس انتمائهم لعرق معين أو لدولة معينة أو بسبب إعتقادهم بدین معين، فمثل هذا التمييز يثير مسائل قانونية وسياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة لا مجال لمعالجتها كلها هنا، والذي يهمنا هنا هو التساؤل عن الموقف الذي اتخذه المحكمون بصدد القضايا التي عرضت عليهم بهذا الشأن، القرارات التحكيمية التي تعرضت لمسألة التمييز بكافة أشكاله انحصرت بنطاقين اثنين: الأول يتعلق بالتمييز على أساس العرق، والثاني يتعلق بالتمييز لأسباب سياسية ودينية.
المسألة الثانية: منع التمييز على أساس العرق:
ثمة مناسبتان قديمتان نسبية أثيرت فيهما مسألة التحكيم في قضايا تمحور النزاع حول شرعية ملكية إنسان لإنسان آخر بسبب لونه أو عرقه.
وفي التطبيقات العملية:
المناسبة الأولى حدثت سنة 1855 في قضية الباخرة Creole التي كانت تنقل عبيدة لأحد الأشخاص على متنها، والتي لم تستطع الوصول إلى وجهتها وما تلا ذلك من ثورة قام بها العبيد. الحكم التحكيمي الصادر في هذه القضية إعترف بحق المالك على العبيد معتبراً أنه "لا يظن أنه من الضروري العودة هنا إلى سلطات ما لبيان أن الاسترقاق مهما كان بشعة ومخالفة لمبادئ العدالة والإنسانية يمكن أن يكرس بقانون قطر معين وكونه مكرسة في عدة أقطار لا يمكن أن يكون مخالفة القانون الأمم".
وبالرغم من أن المحكم في هذا القرار أقر للمالك بحق ملكية على العبيد، فإن إشارته إلى مبادئ العدالة والإنسانية تعد خطوة نحو الأمام، هذه الخطوة لم يكتب لها النجاح لإعطائها كافة مفاعيلها بسبب عدم وجود توافق دولي أو إشتراك قانوني بين الدول يدين العبودية، لا بل على العكس من ذلك يشهد التاريخ أنه في تلك الفترة كانت تسود المفاهيم العنصرية في معظم الدول، وقد يكون لغياب صفة الدولة المستقلة للكيانات المستعمرة أثره في ذلك، هذا بالإضافة إلى غياب سمو مبدأ العدالة والإنسانية على النصوص الداخلية التي تجيز مثل هذه الملكية.
المناسبة الثانية تتلخص في الحكم الذي صدر سنة 1857 في قضية الباخرة Luz Marie واعتبر أن قيام السلطات اليابانية بتحرير العبيد وفقاً لقوانينها الخاصة وأعرافها، لا يشكل خرقة القانون الشعوب أو لأحكام المعاهدات الخاصة.
وبالرغم من عدم ذكر القرارين السابقين للنظام العام عبر الدولي أو حتى الدولي في فقرتيهما الحكميتين، وبالرغم من اختلاف الحلول المقررة فيهما، فإن قيمتها تظهر من إشارتهما إلى بعض المفاهيم التي لم تكن قد تبلورت كفاية في تلك الفترة، لجهة أهميتها في تقرير مفهوم ومضمون ومصادر النظام العام عبر الدولي، كمبادئ العدالة والإنسانية وقانون الشعوب والمعاهدات الدولية، ولهذه المواضيع أهميتها بخصوص ظهور القواعد عبر الدولية وبالتالي النظام العام عبر الدولي.
المسألة الثالثة: ضمان مبدأ المواجهة:
إن مبدأ المواجهة واجب لكل من يخول سلطة الفصل في النزاع، فيعد من الضمانات الأساسية التي يقوم عليها النظام القضائي، فبدون إحترامه لا وجود للمحاكمة العادلة. وقد قضت محكمة إستئناف باريس في حكمها الصادر 22 نوفمبر 1978 بأن مبدأ المواجهة من النظام العام الدولي الإجرائي 29 لذلك فهو واجب على المحكم مثل القاضي.
وإن شرط الحصول على محاكمة وفق الأصول القانونية هو أمر لا يزال يتطور في القوانين كحق أساسي من حقوق المواطن. في الإجراءات التحكيمية، تكمن القاعدة الأساسية في الخضوع المبادئ المساواة والمحاكمة العادلة وحق الوجاهية. يجب معاملة الأطراف على قدم المساواة ويجب إعطاء كل واحد منهم فرصة كافية ليعرض دعواه.
وعلى المحكم أن يراعي مبدأ الوجاهية بشكل فعلي وليس بشكل ظاهري الذي هو أساس العمل القضائي الذي يقوم به. لقد أكد الإجتهاد ان هذا واجب مطلق، وجميع إجراءات تحقيق النزاع يتعين إتمامها من هيئة التحكيم مجتمعة وفي حضور الخصوم، ما لم يقض إتفاق التحكيم بغير ذلك. فإذا قام بها أحد أطراف الهيئة دون موافقة من الخصوم، كانت باطلة. وليس هناك حاجة للطعن على حكم هيئة التحكيم بالتزوير تأسيساً على عدم حضور كافة أعضاء الهيئة للمرافعات، إلا إذا ذكر صراحة حضورهم جميعاً لها. والأمر يتعلق بواقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات 4.
ومبدأ المواجهة يتطلب دعوة الخصوم إلى الجلسات. وإذا ما أعيد فتح باب المرافعة فلا يجوز الحكم بناء على ما يقدمه أحد الطرفين من مستندات دون تمكين الطرف الآخر من تقديم ما قد يكون لديه من إيضاحات. وهو يتطلب سماع الخصم في حضور خصمه واطلاعه على ما يقدمه
من مذكرات ومن مستندات إعتمد عليها الحكم. وبالمثل في سماع الشهود والإعتماد على تقارير الخبراء.
وإذا ما عبر الخصم عن نيته في عدم المشاركة في التحكيم، فلا جناح على هيئة التحكيم إن هي لم تعاود دعوته إلى الحضور، وليس له في هذه الحالة أن يدعي إخلالها بحقه في الدفاع وبالمثل إذا ما تغيب عن حضور جلسة خديت بإتفاق الطرفين.
والذي نريد التركيز عليه أنه يجب على هيئة التحكيم أن تحترم مبدأ المواجهة، الذي يتطلب أن يسبب القاضي حكمه بناء على الأدلة القانونية التي عرضها على الخصوم، والمقدمة منهم في مرافعات تمكن كل خصم بإثارة أسبابه الواقعية والقانونية، وأن يعلم بها خصمه لكي يناقشها وأن أي مذكرات أو مستندات تقدم إلى المحكمين، يجب أن يطلع عليها الخصوم، وأن أية أسباب قانونية أو واقعية يجب أن لا تثار من تلقاء نفس المحكم، دون أن يدعوا الخصوم لإبداء ملاحظتهم عليها.
وفي حكم حديث لمحكمة النقض الفرنسية طبقت قاعدة عدم التناقض فقضت بأنه: "لا يمكن لأحد أن يناقض أفعاله بقصد الإضرار بالآخرين، والجزاء هو عدم قبول الإدعاءات المتناقضة إجراءات سابقة، فإن الخصم الذي لم يدع أمام المحكم بسبب البطلان يكون متناقضة مع نفسه، وبالتالي رفضت المحكمة ادعاء المصفي القضائي بأنه لم يشارك في إجراءات التحكيم، على أساس أنه أعلن بها .
فبرغم أن قواعد التصفية من النظام العام، إلا أن محكمة النقض ومحكمة إستئناف باريس طبقتا مبدأ الإستوبل، واعتبرتا إعلان المصفي مباشرة إجراءات التحكيم، وعدم حضوره يعتبر متناقض مع فعله ، ويصدر حكم تحكيم بدون حضوره جلسات التحكيم.
المسألة الرابعة - إجراءات التحقيق في الدعوى:
للمحكم أن يأمر بكافة إجراءات التحقيق في الدعوى التي يعمل بها القاضي دون قيد أو شرط.
فله مثلاً أن يأمر بإجراء بحث بين الطرفين، كما له أن ينيب من يراه أهلا من أهل الخبرة والفن والصناعة الاستجلاء نقطة تقنية أو فنية لا قبل له بها، كما له أن يستمع إلى الشهود والى أي شخص يرى فائدة في الاستماع إليه، وله سلطة استيفاء اليمين القانونية قبل الاستماع إلى هؤلاء.
وبإمكانه أن يقوم بكل ما يراه لازماً ومفيداً للوصول إلى الحقيقة كالمعاينات مثلاً سواء بشخصه أو بواسطة مندوب ينتدبه .
وسواء كان اختيار الإجراءات من قبل الأطراف أو من قبل هيئة التحكيم فإنه يتوجب على الأطراف الإلتزام باحترام إجراءات التحكيم والإمتثال لها، مثال ذلك: إلتزامهم بتزويد المحكم بأوراق الدعوى والبنيات التي تثبت ادعائهم. وكذلك التزامهم بتنفيذ القرارات الوقتية التي يصدرها المحكم أثناء إجراءات التحكيم لمساعدته في تسيير إجراءات التحكيم. كحالة إصدار المحكم أمرة لأحد أطراف النزاع وإلزامه بتقديم مستندات تحت يده، إذ يتوجب على ذلك الطرف أن يمتثل لقرار المحكم. كذلك يتوجب على الأطراف التعاون بحسن نية خلال إجراءات التحكيم، وأن لا يقوم أي طرف بتعطيل سير الإجراءات 52. كما يتوجب عليهم الإمتناع عن إتخاذ أي فعل من شأنه أن يعطل تنفيذ حكم التحكيم النهائي.
والأصل إن المحكم - كالقاضي - يفصل في النزاع من واقع الأوراق والمرافعات، دون أن يكون لمعلوماته الشخصية دور في القرار الذي يصدره. فالمبدأ الأساسي الذي يحكم النظرية العامة في الإثبات هو مبدأ حياد القاضي فلا يجوز له أن يقضي معتمداً على معلوماته الشخصية كعنصر من عناصر الإثبات أو النفي في الدعوى إلا ما كان منها من قبيل المعارف العامة.
ومع ذلك ينبغي أن لا تكون لهذه القاعدة في مجال التحكيم نفس القدر من الأهمية المطلوبة في مجال القضاء، ذلك لأن المحكم ليس قاضياً محترفاً بل ليس قاضياً أصلاً، وانما في غالب الفروض من التجار أو رجال الأعمال الذين يختلطون بحكم عملهم بمختلف الأوساط التجارية، هو ما دفع الخصوم إلى اختيارهم للتحكيم. ثم إنه قد يراعى في إختيار المحكم ما لديه من خبرة في الأمر الذي يدور حوله النزاع وينتظر منه الخصوم إستعمال هذه الخبرة في الفصل فيه، فلا غرابة والحال كذلك إن إستند لتبرير قراره إلى الحقائق التي تكشف عنها خبرته الشخصية. ومع ذلك يجب أن يقتصر المحكم على خبرته هو ومعلوماته الشخصية، فلا يسعى للحصول على معلومات بأساليب لا يعلمها الخصوم، كالاستفسار في السوق عن أسباب الخلاف بينهم، أو عن رأي زملائه في سلوكهم التجاري.
وفي مجال التحكيم - وبالنظر إلى طبيعته الإتفاقية والأساس الذي يتم بمقتضاه إختيار المحكمين - تضحی القاعدة عدم قضاء القاضي بعلمه الشخصي مفهوم مغايرة. فالمحكم وإن كان يشترك مع القاضي في الإستناد إلى ما يحصله من خبرته بالشؤون العامة المفروض إلمام الكافة بها للفصل في النزاع، إلا أنه له علاوة على ذلك الاستناد إلى معلوماته الفنية وخبراته الخاصة قد تكون السبب في اختياره للقيام بالمهمة التحكيمية، فخبرات المحكم التي اكتسبها من تكرار إختياره محكمة في أنواع معينة من المنازعات، كالتحكيم البحري، تعد غالباً من الأمور الحاسمة لهذا الإختيار. ويتعين على الأطراف حتى يتمكنوا من مناقشتها إحتراما لحقهم في الدفاع.
ولا يصح أن ينسب عدم حیدة محكم ما إلى مجرد موقف إتخذه المحكم في تحكيم سابق إذا كان يجري التحكيم بين أطراف مختلفين. كما لا ينسب عدم حياد المحگم إلى رأي قانوني أبداه المحكم سابقاً في بحث قانوني. وتقاضي المحكم أتعابه من الطرف الذي اختاره لا يتنافى مع إستقلاله أو حيدته. كل ذلك يكون مقبولاً إذا ما كان الحياد أو الاستقلال أمرا لازما ومطلوبة.
ويثور في هذا المقام السؤال عن دور المحكم في التوصل إلى أدلة الإثبات التي يمكن أن يبني عليها حكمه؟ هل هو دور سلبي يتوقع من الفرقاء المحتكمين تقديم وإبراز أدلتهم وإثباتاتهم؟ أم هو دور إيجابي إستقصائي يسعى من خلاله المحكم إلى تكوين قناعته من الأدلة والإثباتات التي ترتكز عليها هذه القناعة؟
أي ما هو دور الهيئة التحكيمية في هذا المجال؟
في الواقع إن عدم إلتزام المحكمين بإجراءات وشكليات التقاضي المعمول بها أمام محاكم الدولة أوجد في الواقع العملي مشكلة كبيرة وهي كيفية إثبات أن مستند ما قد تم إبرازه وتبادله بطريقة صحيحة بين المحتكمين. من هنا وضع القضاء الفرنسي قرينة مقتضاها صحة كل الأعمال والإجراءات التي اتخذها المحكمون طالما أنهم أشاروا إليها في حكمهم، وعلى من يدعي خلاف ذلك أن يقيم الدليل على صحة ما يدعيه.
وقد أكدت محكمة إستئناف باريس .C.A Paris 24 Oct. 1991 Rev, arb 1993 p) (110 هذه القاعدة واشترطت ليس فقط أن يشير المحكم أو أن يذكر أو يرد على ما جاء في مستند معين في حيثيات حكمه، وإنما لا بد من أن يشير المحكم إلى أن هذا المستند قد تم تبادله بطريقة صحيحة وكافية بين الخصوم، فقضت ببطلان حكم المحكمين لمخالفته مبدأ الوجاهية إذا كان المحكم قد ذكر في حكمه أنه تلقى بعض المستندات من أحد الخصوم ولكنه لم يذكر أنه تم تبادلها مع الخصم الآخر.
ويرى R. David أن التحكيم يمكن أن يؤدي دوراً مهما في التقريب بين النظم القانونية المختلفة بصدد نظام الإثبات. ففي دول Common law يسود نظام الإثبات الإتهامي الذي يلعب فيه الخصوم ووكلائهم دوراً كبيراً في عملية الإثبات ويقومون بأنفسهم بعملية الإستجواب والإستجواب المعاكس أي أن الفرقاء هم الذين يهيمنون على الإجراءات إلى حد كبير.
أما في الدول التي يسود فيها نظام الإثبات ذات الطابع الاستقصائي فإن القاضي هو الذي يقوم بعملية الإستجواب والبحث عن أدلة الإثبات.
وهنا يمكن أن يلعب التحكيم دوره في التقريب بين هذه النظم ( 412 .David p).
وانطلاقاً من المبدأ العام الذي أقرته التشريعات الحديثة للمحكمين بتنظيم إجراءات خصومة التحكيم والأمر بما يرونه مناسباً ومنتجاً في الدعوى من وسائل الإثبات يستطيع المحكمون إلزام الخصوم بتقديم مستندات أخرى غير تلك التي قدموها بأنفسهم مع ملف الدعوى أو في بداية الخصومة، كما يمكنهم دعوة شهود أخرين للإدلاء بشهادتهم إذا كانت الأقوال التي أدلى بها الشهود الذين استعان بهم الخصوم غير كافية، ومن ناحية أخرى يستطيع المحكمون الإستعانة بخبير أو أكثر لإبداء رأيه في نقطة أو نقاط محددة، كما يمكنهم الانتقال للمعاينة إذا كان لازمة للفصل في النزاع.
وتأسيساً على ما سبق يمكن القول أن كل وسائل الإثبات تعد مقبولة أمام المحكم، ولكن دون إلتزام بإتباع القواعد الإجرائية الواردة في قانون أصول المحاكمات أو قانون الإثبات إعمالاً للمبدأ العام الذي يقضي بإعفاء المحكمين من تطبيق إجراءات التقاضي المعمول بها أمام المحاكم ولا سيما أن قواعد الإثبات ليست من النظام العام. وفي الغالب أن يجري التحكيم في مسألة تجارية حيث يسود مبدأ الإثبات الكر ولا يتقيد المحكم بقواعد الإثبات في المواد المدنية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:
هل يجوز للمحكم التنبيه على الخصوم لإستكمال دفاعهم؟
لقد سكت قانون التحكيم المصري وقانون التحكيم الأردني، وقانون التحكيم البحريني عن هذه المسألة.
ونحيل في الجواب على هذا السؤال إلى ما نصت عليه المادة 29 من قانون اليونسترال بقولها:
"1- لهيئة التحكيم أن تستفسر من الطرفين عما إذا كان لديهما أدلة أخرى للإدلاء بها. فإذا كان الجواب نفية، جاز لهيئة التحكيم أن تقرر إنهاء المرافعة.
2- ولهيئة التحكيم أن تقرر من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الطرفين إعادة فتح باب المرافعة في أي وقت قبل قرار التحكيم إذا رأت ضرورة ذلك نظرا لظروف إستثنائية".
وحسن أنه قد وردت هذه العبارة بهذا الشكل لأن إعادة فتح باب المرافعة لا يكون إلا بكثير من الحيطة والحذر، حتى لا يتخذه الخصم ذريعة لتعطيل الفصل في الدعوى، إذا ما استشعر بعد نهاية المرافعة ضعف موقفه في القضية، وذلك حرصا على قيمة الوقت في الدعوى.
كما أن المادة المادة 24 من قانون اليونسترال نصت على أنه:
لهيئة التحكيم أن تطلب إذا استصوبت ذلك من أحد الطرفين أن يقدم إليها وإلى الطرف الآخر خلال المدة التي تحددها، ملخصاً للوثائق وأدلة الإثبات الأخرى التي يعتزم تقديمها لتأييد الوقائع المتنازع عليها والمبينة في دعواه أو بيان دفاعه، ولهيئة التحكيم أن تطلب من الطرفين في أي وقت أثناء إجراءات التحكيم أن يقدما خلال المدة التي تحددها وثائق أو مستندات أو أية أدلة أخرى".
وقد نصت على ذلك، ولكن بشكل أقل ضماناً من النص السابق المادة (22) من لائحة التحكيم لدى الغرفة التجارية بباريس، بقولها تعلن محكمة التحكيم عن قفل باب المرافعة إذا رأت أنها قد أتاحت فرصة كافية لسماع الأطراف، ولا يجوز بعد هذا التاريخ تقديم أية مذكرة كتابية أو إدعاء أو دليل إلا إذا طلبت محكمة التحكيم ذلك أو سمحت به"، واكتفت مجلة التحكيم التونسية في الفصل (29) على أنه:
"عندما تهياً القضية للحكم تعلم هيئة التحكيم أطراف النزاع بختم المرافعة".
ونحن من جانبنا نؤيد هذا النهج لأن من مقتضيات حق الإثبات أن يتم توفير الفرص الكاملة حتى اللحظة الأخيرة لكل من الخصوم لإبداء ما يعين على بالهم من أدلة.
وخلال كل هذا يحق لكلا الطرفين تعديل طلباتهما، وأوجه دفاعهما واستكمالها، ما لم تقرر هيئة التحكيم عدم قبول ذلك منعا لإعادة فصل النزاع.
وللهيئة التحكيمية الكلمة الفصل، بخصوص قبول الطلبات المعدلة، وذلك بالإعتماد على الإتفاق التحكيمي أساساً ومحضر إسناد المهمة إذا أنجز، ومدى إرتباط الطلبات الجديدة بالطلب الأصلي .
المبحث الرابع - تسبيب الحكم في التحكيم بالصلح:
يعتبر تعليل الحكم هو ذلك البناء المنطقي القانوني الذي اعتمده المحكم لإصدار قراره، وبالتالي يعكس مدى استيعاب المحكم للنزاع المعروض عليه، وتوقفه في اختيار الحل الملائم له، ففي التعليل حماية للمحكم من الشطط والإنزلاق وضمانة للمحتكمين من التعسف وسوء تطبيق القانون والإتفاق.
ويعتبر تعليل الحكم واجباً مهنياً محمولاً على المحكم والمقصود به هو بيان أسباب حكم التحكيم أي العلل التي بني عليها، سواء تعلق الأمر بحجج قانونية أو شرعية أو منطقية أو بالعدل والإنصاف. وقد اعتبر فقه القضاء التي تقضي تقاليده تعليل الأحكام أن فقدان التعليل صنوا لخرق حقوق الدفاع إذا أنه ضرب من العشوائية والتحكم. ومن ثم فإن جزاء غياب التعليل هو إبطال حكم التحكيم.
وفي حكم تحكيمي إقتصر فيه المحكم على ذكر مراجع مذكرات محامي الخصوم أي ذكره تواريخ تقديم المذكرات دون بيان مضمونها ولو بإيجاز . وقد اعتقد هذا المحكم أن العملية غير مجدية، غير أن طريقته ليست هي المثلى ولا الصحيحة خاصة أن حكمه سيخضع لرقابة قضائية لاحقة.
ولذلك فالقاعدة أن حكم التحكيم ينبغي أن يكون كافياً بذاته بحيث يتمكن من يقرأه من فهم موضوع النزاع ومواقف الأطراف ثم موقف المحكم دون حاجة إلى الرجوع إلى أي وثيقة أخرى.
ويثور في هذا المقام السؤال الآتي: هل يجوز للمحكم بالصلح أن يتساهل في مسألة تعليل الحكم التحكيمي؟ وللجواب على هذا السؤال يمكن القول:
من المقرر أنه في الأصل أن الحكم بمقتضى العدالة والإنصاف لا يعني ترك الحرية للمحكمين دون قيد. كما لا يجوز لهم الحكم بما لا يستند على الوقائع الثابتة في الدعوى. ولهذا لا يكفي أن يستند الحكم إلى قواعد العدل والإنصاف، فمن المقرر أن حكم التحكيم يجب أن يكون مسببة وفقا لضوابط تسبيب أحكام المحكمين، ولو كان التحكيم مع التفويض بالصلح، اذ لم يستثن القانون هذا التحكيم من ضرورة التسبيب.
وفي إجتهاد لمحكمة إستئناف القاهرة جاء فيه:
".. إذا لم يتفق الطرفان على عدم التسبيب وخلا الحكم من التسبيب فهو باطل...". (محكمة إستئناف القاهرة - الدائرة 8 - تجاري - رقم 124/102 تاریخ 2008/4/22). ولكن تجدر الإشارة أن تعليل الحكم لا يفرض على هيئة التحكيم الرد على جميع الدفوع التي هي غير جدية وقد أكدت محكمة التعقيب في تونس على ذلك في حكمها الذي جاء فيه أنه:
".. لا يفترض الرد وجوباً على جميع الدفوعات وإنما يقتصر الأمر على بيان المنهج الذي سلكته هيئة التحكيم في مراحل تفكيرها للتوصل إلى القناعة بالحكم الذي أصدرته مما يجعله وليد مراحل منطقية مبررة ولم يكن نتيجة نزوة أو من محض الصدفة ولذلك فإنه لا يتوجب على هيئة التحكيم الرد على جميع الدفوعات خاصة وأن المحاكم القضائية لا يحق لها تفحص المعطيات والدفوعات لإعادة تقييم الوقائع ومراجعة النزاع وطبيعته وطريقة فصله وإنما يقتصر نظرها على التثبت من احترام ما أوجب القانون إحترامه ورتب عن الإخلال به بطلان القرار التحكيمي وهي صورة محدودة بالنص ولا يحق التوسع فيها..".
(محكمة التعقيب في تونس في القرار عدد 26338 المؤرخ في 28 ماي 2009)
ونجد نفس هذا التوجه المرن في خصوص تعليل أو تسبيب الأحكام التحكيمية، فمن المعلوم أن التعليل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الدفاع، إذ يسمح التعليل بتبين أن المحكم قد تمعن في طلبات الأطراف واتخذ موقفا منها. ومحكمة التعقيب في تونس إعتبرت أنه من الضروري وجود تعليل للحكم التحكيمي لكن محكمة الرقابة تقتصر على التثبت من وجود التعليل، دون أن يكون ذلك مطية لمراجعة الحكم التحكيمي، إذ يقتصر دورها على رقابة شكلية دون إمكان الولوج إلى أصل النزاع للتأكد من صحة التعليل، ومن ثم فإن مجرد وجود تعليل يكفي لإستيفاء هذا الواجب واعتبار أنه تم احترام الإجراءات الأساسية، باستثناء الحالة التي قد يوجد فيها تناقض في التعليل وهي حالة شبيهة بعدم وجود تعليل: "حيث أن تعليل القرارات التحكيمية من الضروريات المحمولة وجوبا على المحكمين حسبما يقتضيه الفصل 30 و 75 من مجلة التحكيم إلا أن الأسانيد لا تقتضي أن تكون عادلة في مضمونها سواء فيما يتعلق بالوقائع أو بالقانون وإنما يكفي أن تكون مقنعة ومرتبطة الصلة بموضوع القرار.
( محكمة التعقيب في تونس في قرارها عدد 2007/20596 المؤرخ في 27 نوفمبر 2008)
وحيث أنه ترتيباً على ذلك فإن تعليل القرارات التحكيمية يمكن أن يقتصر على ما تحتمه طبيعة النزاع وهو ما يعفي من شمول الرد على جميع دفوعات الأطراف.
وحيث أنه لا يمكن إبطال القرار التحكيمي إلا إذا كان فاقداً تماماً للتعليل أو إذا كانت أسانيده متناقضة مما يجعلها في حكم العدم...".
وقد جرى قضاء النقض في مصر على أن مجرد إغفال الحكم بيان ملخص أقوال الخصوم لا يعد سبباً لبطلانه، إلا إذا كانت هذه الأقوال تتضمن دفاعاً جوهرياً لو تم بحثه لتغيرت النتيجة التي إنتهى إليها الحكم؟؟
كما جرى قضاء محكمة إستئناف القاهرة على أن عدم إشتمال الحكم على بيان دفاع أحد الخصوم الجوهري إيرادة وردة يعيبه بالإخلال بحق الدفاع ويبطله
المبحث الخامس - النتائج العملية للتفرقة بين نوعية التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح:
وترتيباً على الفارق السابق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح - من إلتزام المحكم بالقانون بأحكام القانون الموضوعية، وعدم إلتزام المحكم بالصلح بها - فإن المنطق يقضي بإجازة الطعن في حكم المحكم تأسيسا ًعلى مخالفة القانون أو الخطأ في تفسيره وتطبيقه، كلما كان التحكيم تحكيمة بالقانون، وتحريم مثل هذا الطعن كلما كان التحكيم تحكيمة بالصلح، إذ الطعن في الحالة الأولى هو السبيل إلى ضمان إلتزام المحكم بأحكام القانون بالفعل. ومع ذلك فقد اتجهت كثير من التشريعات إلى تحريم الطعن في حكم المحكم بأي طريق من طرق الطعن، سواء تعلق الأمر بالتحكيم بالقانون أو بالتحكيم بالصلح. إلا أن تحريم الطعن في حكم المحكم بالقانون على هذا النحو المطلق من شأنه أن يطلق يد المحكم في الحكم وفقاً لما يراه ويقدره حتى ولو كان ذلك مخالفة للقانون، مما يتعارض مع مقصود الطرفين، مع نصوص القانون التي تلزم التقيد بأحكامه، ويظهر حجم هذا التعارض إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن المحكم كثيراً ما يكون فنيا غير ملم بأحكام القانون. .
وفي حكم لمحكمة شمال لبنان جاء فيه:
"... حيث إن القرار التحكيمي لا يكون في شقه هذا قد خالف الفقرتين 5 و6 من المادة 800 أ. م. م. وأن النقص في التعليل على فرض تحققه لا يتعلق بالنظام العام ولا يدخل ضمن الحالات المحددة حصراً في المادة المذكورة، كما أن قاضي البطلان لا يراقب صحة التعليل أو صوابيته بل يكتفي بوجوده...
(محكمة الإستئناف المدنية في لبنان الشمالي، القرار رقم 2011/26 تاريخ 2011/1/20 )
ومن المقرر بقضاء محكمة النقض المصرية أن: " التحكيم هو طريق إستثنائي لفض الخصومات قوامه الخروج عن طريق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات " كما أنه من المقرر بقضاء النقض له أن: "تعييب قضاء هيئة التحكيم في موضوع النزاع والطعن في سلامة فهمها الحقيقة الواقع في الدعوى ورجمه بخطئها في تفسير القانون وتطبيقه لا يتسع له نطاق دعوی البطلان لما هو مقرر من أن دعوى بطلان حكم التحكيم ليست طعناً عليه بالإستئناف فلا تتسع لإعادة النظر في موضع النزاع وتعييب قضاء ذلك الحكم فيه". كما أن المشرع أجاز في المادة 2/43 من قانون التحكيم الإتفاق على إعفاء هيئة التحكيم من تسبيب الحكم الصادر منها، لعدم إتصال تسبيب الأحكام في التحكيم بالنظام العامة، إلا أنه لا شك في أن التسبيب بوجه عام ضمانة كفيلة لصحة تطبيق القانون.
ذلك أن دعوى بطلان حكم التحكيم لا شأن لها بالنتيجة التي خلص إليها الحكم أو بصحة تطبيق المحكم القواعد القانونية التي تحكم المنازعة من ناحية الموضوع، وأخطاء حكم التحكيم المتعلقة في التقدير بالنسبة للواقع أو بمخالفة القانون لا تجعله موصوفة بالبطلان.
وفي ذات السياق، أكدت محكمة إستئناف القاهرة في حكم حديث لها "أنه ليس للقضاء أن يتدخل في عدالة المحكم أو حريته في الإقتناع ولو أخطأ في ذلك. بوجه عام، فقاضي البطلان يراقب حكم التحكيم من أجل الحفاظ على نزاهة العملية التحكيمية التي تمت والاستيثاق من أن حقوق الأطراف الإجرائية التي لا يجوز تجاوزها قد روعت، وذلك في ضوء النطاق المحدد في القانون لإبطال حكم التحكيم".
(منشور في مجلة التحكيم العربي - ألعدد30 - ابريل 2016 - ص 444)
ونحن من جانبنا فإن الذي نريد التركيز عليه أن عيوب الأحكام القضائية على نوعين عيب في الإجراء وعيب في التقدير. ودعوى البطلان، سواء الموجهة الى حكم القضاء أو التحكيم فإنها توجه كعمل قانوني بصرف النظر عما يتضمنه من تقدير. وبالتالي فإن العيب الذي يجوز التمسك به في دعوى البطلان هو عيب اجرائي، أما الخطأ في التقدير بمخالفة القانون، أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله فإنه مهما كانت جسامته لا يؤدي إلى بطلان الحكم، ولا يجيز بالتالي رفع دعوى ببطلانه وإن هذه الحالة ينبغي العمل بها سواء كان التحكيم بالقانون أو التحكيم بالصلح.
وهذا ما يؤدي إلى القول: بعدم وجود جدوى، من الناحية العملية، فرق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح.
الخلاصة:
إن أنظمة التحكيم في العالم أصبحت منقسمة إلى ثلاثة اتجاهات:
2- إتجاه لا يعترف ولا يفترض ثنائية التحكيم، أي لا تفريق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح.
3- إتجاه لا يعترف إلا بنوع واحد من التحكيم هو "التحكيم القضائي الذي ليس فيه مكان
للتحكيم بالصلح.
وبالرغم من أن قوانين التحكيم لم تنص على شروط شكلية معينة للإتفاق على التحكيم بالصلح، فإن القيد الوحيد هو وجود إرادة أكيدة من الأطراف باللجوء إلى هذه الطريقة لحل نزاعهم. وإذا حكم المحكمون في النزاع بالصلح، في غياب إرادة واضحة من الأطراف، يكونون قد تخطوا المهمة المسندة إليهم، مما يعرض الحكم التحكيمي للإبطال.
ويمكن اعتماد مقياس أساسي للتفريق بين التحكيم بالصلح والتحكيم بالقانون. ولإلقاء ضوء على طبيعة كلا التحكيمين وخصائص كل منهما من جهة أخرى، يمكن إعتماد مقياس التفريق بالقول أن التحكيم بالصلح يتضمن تنازلاً من المتفقين عليه عن تطبيق نص القانون وقواعد القانون وهو عودة إلى العدالة وضمير المحكم.
في التحكيم لا ينتهي النزاع بمجرد إبرام الإتفاق على التحكيم وإنما ينتهي بممارسة المحكم لمهمته وإصدار حكم فيه، فإذا كانت نصوص الإتفاق على التحكيم تفرض على المحكم الإلتزام بأحكام القانون كان الأمر متعلقة بالتحكيم بالقانون، وتكون مهمة المحكم هي تحقيق مدى صحة الإدعاءات المتبادلة وإنزال حكم القانون عليها بصرف النظر عن تقديره لمدى عدالة النتائج التي توصل إليها وذلك كما يفعل القاضي سواء بسواء.
أما إن كانت نصوص العقد تعفي المحكم من التقيد بأحكام القانون، فإن الأمر يكون متعلقة بالتحكيم بالصلح بالمعنى الدقيق، وتجري عليه أحكام هذا النوع من التحكيم حيث يكون للمحكم منذ البداية تخطي المصادر القانونية - بما فيها حرفية شروط العقد - فيما لو قدر أن ما تتضمنه من أحكام تجافي العدالة والإنصاف.
الشرط الأساسي الذي يميز التحكيم بالصلح عن التحكيم بالقانون. واستبدال تطبيق القانون وقواعده بالعدالة والضمير، من أجل حسم الخلافات، هو عملية معايير موضوعية بمعايير ذاتية.
لذلك، فإن التحكيم يصبح كله بيد المحكم. فبينما في التحكيم بالقانون المحكم هو قانون وقاض، في حين إنه في التحكيم بالصلح فإن المحكم هو محكم أولاً وأخيراً، فهو عدالة يرجع اليها ضمير المحكم.
ثم إن المحكم سواء كان التحكيم بالقانون أو بالصلح يكون دائما مقيدة بمقتضيات وجاهية المحاكمة وإحترام قواعد النظام العامه.
بقي أن نشير إلى أنه سواء كان التحكيم بالقانون أو بالصلح فإنه يفترض في الطرفين درجة عالية من الثقة في المحكم واحساسه بالعدالة وحسن تقديره وخبرته.