الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم وقضاء الدولة / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن / الرقابة القضائية على أحكام التحكيم الدولية: النظام العام

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    863

التفاصيل طباعة نسخ

    يعرف التحكيم الدولي اليوم تحررية واستقلالية تكاد تكون تامة حتى في الدول التي كانـت فيما مضى تنتقده وترى فيه مسا من سيادتها وهيمنة غربية من خلال السيطرة علـى قـضائها، وخير دليل على ذلك تبني الجزائر على مراحل لقانون جديد للتحكيم فـي 25 فيفري 2008، يضيف إلى التحررية التي جاء بها المرسوم التشريعي رقم 9/93 المؤرخ في 25 أفريل 1993، وهي التي تزعمت فيما مضى بلاد العالم الثالث الرافضة للتحكيم الدولي..... وهـذه التحرريـة والاستقلالية التي يعرفها التحكيم الدولي في زمن العولمة الذي نعيشه يصاحب التحكيم منذ ولادته باتفاق التحكيم مروراً بتحررية عند تشكيل هيئة التحكيم وتحديد الإجراءات التحكيميـة والقـانون المنطبق على التحكيم وصولاً إلى مرحلة الحكم التحكيمي حيث يكاد أن يصبح هذا الحكـم سـداً منيعاً لا يمكن النيل منه، وقد بينت المداخلات التي سبقتني أن حكم التحكيم الدولي صار خاضعاً لمجرد رقابة شكلية كما يظهر ذلك من القانون النمـوذجي للتحكيم التجـاري الـدولي قـانون اليونسترال المعتمد في 21 جوان (حزيران / يونية) 1985، من اتفاقية نيويورك لعـام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية، ومجموع القوانين الحديثة المعتمدة في السنوات الأخيرة، والتي صارت أشبه ما تكون بالتوائم، وجميعها يتنافس في التحررية تجاه التحكيم الدولي لعلها تمكن من جلب "سوق" التحكيم الدولي لديها...

     ولم يبق في النهاية بيد الدول أمام هذا السيل الجارف من التحررية غير رقابة النظام العـام التي تسمح بحماية المصالح الأساسية للدول والحقوق الأساسية للأطراف الضعيفة وتـدل علـى حضور الدولة وقضائها...

    وفي خصوص الرقابة، يظهر القانون التونسي للتحكيم عدد 42 – 93 المؤرخ في 26 أفريل 1993 نوعاً من الليبرالية والتحرر أيضاً إذ يحيل إلى النظام العام حسب القانون الدولي الخاص وهومفهوم أضيق من مفهوم النظام العام الذي يحيل إليه القانون النموذجي للأمم المتحـدة لـسنة 1985 في مادتي الطعن بالبطلان والإذن بالتنفيذ وتحيل إليه اتفاقية نيويورك لسنة 1958 فـى خصوص الإذن بالتنفيذ وذلك رغم تأويل هذين النصين الأخيرين بصفة ضيقة تحيل في الحقيقـة إلى النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص.

    وعلى غرار القانون التونسي تحيل جل القوانين الحديثة عند الرقابـة للاعتـراف بأحكـام التحكيم الدولية وتنفيذها أو عند الطعن فيها، الوحيد المفتوح أي الطعن بالبطلان أو بالإلغاء، إلى مفهوم النظام العام حسب القانون الدولي الخاص أو النظام العام الدولي ومثـال ذلـك القـانون الجزائري الجديد، الذي ينص في المادة 1051 منه أنه يتم الاعتراف وكذلك الإذن بتنفيذ أحكـام التحكيم الدولي في الجزائر بشرط عدم مخالفة هذا الحكم للنظام العام الدولي وكذلك الأمر حسب المادة 1058 فيما يخص الطعن بالبطلان.

    والموقف الذي يرى أن النظام العام يشكل آخر سلاح بيد الدول لكـي تفـرض احتـرام مبادئها الأساسية في أحكام التحكيم الدولي يبرر إذا ما عدنا إلى مجمل النصوص المتعلقـة بالتحكيم وسنأخذ كمثال على ذلك اتفاقية نيويورك لسنة 1958 والقانون النمـوذجي للأمـم المتحدة لسنة 1985 (قانون اليونسترال) والقانون التونسي للتحكيم لسنة 1993 ففي كل هـذه النصوص يمثل النظام العام المطعن الوحيد الذي يمكن للمحاكم إثارته من تلقاء نفسها فـي حين تبقى بقية المطاعن بيد الطرف الذي يطلب رفض الاعتراف والإذن بالتنفيـذ أو يطلـب إبطال حكم التحكيم الدولي". وهذا يدل بوضوح على أن مطعن النظام العـام هـو الممثـل لمصالح الدولة إضافة إلى مصالح الأطراف التي تتجلى خاصة في المطاعن الأخرى. ويمثـل سلاح النظام العام في نهاية الأمر المقياس الحقيقي لمدى تحرر الدولة المراقبة لحكم التحكيم الدولي تجاه هذا التحكيم وكما يقول الفقه التونسي "... فإن الدفع بالنظـام العـام... إذا وقـع استعماله دون ترو وتفكير كان ولا يزال يمثل العائق الأهم لحرية تنقل أحكام التحكيم." وهذا ما يجعل الدفع بالنظام العام دفعا خطيراً على التحكيم الدولي بقدر ما هو ضـروري لحمايـة الطرف الضعيف ولحماية المصالح الضرورية للدولة التي يطعن في حكـم التحكـيم الـدولي أمامها، وهي عادة الدولة التي وقع اختيارها كمقر للتحكيم أو الدولة المطلوب منها الاعتراف بحكم التحكيم الدولي والإذن بتنفيذه؛ وهذا لأنه بطبعه مفهوم ذا محتوى متغير، يتسم ضـرورة بعدم الدقة فهو عبارة عن حاوية لا نعرف ما سيكون محتواها بالتدقيق إلى أن يتدخل القاضي لملئها.

    وإننا بالنظر إلى تعدد القوانين الحديثة للتحكيم وتأثرها الغالب بقواعـد اليونـسترال بـشكل يجعلها كالتوائم أو كالنسخ المستنسخة يجعل في نهاية الأمر الحكم على قانون ما بكونه متحـرراً تجاه التحكيم أو رافضاً له راجع إلى تقدير مدى إعمال الدفع بالنظام العام وكيفية فهمه وتقـديره من قبل النظام القانوني وخاصة من قبل القاضي المختص في الإبطال والإلغاء أو في الاعتراف والإذن بالتنفيذ.

   وهذا يستدعي منا النظر أولاً في مفهوم النظام العام، للمرور إلى التأمل في إعمـال الـدفع بالنظام العام ثانياً.

 I- النظام العام المراقب:

    تختلف النصوص عند التطرق إلى النظام العام في العبارات المستعملة. ولكنها وفي غالبهـا تحيل إلى نظام عام وطني (أ). والنصوص المتحررة تجاه التحكيم الدولي على غـرار القـانـون التونسي للتحكيم لسنة 1993 تحيل إلى مفهوم ضيق للنظام العام الوطني: النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص (ب).

(أ) نظام عام وطني:

   إن معظم النصوص الدولية والوطنية تحيل عند رقابة النظام العام إلى مفهوم وطني لا إلـى النظام العام الدولي الحقيقي أو النظام العام عبر الوطني وهو مفهوم حديث يحيل إلـى مجمـوع المبادئ الأساسية التي تمثل جوهر نظام قانوني دولي للتجارة، نظام عبر عنـه الفقهـاء بنظـام الأكس مركاتوريا. وهذا النظام العام يتماشى مع النظرية التي تقبل بوجود نظام قـانوني عبـر وطني un ordre juridique transnational يتكون من أعراف وقواعد ومبادئ عبر وطنيـة تحكم علاقات التجار الدولية أو عبر الوطنية، ويلعب فيها التحكيم الدولي دوراً أساسياً لمعاينة هذه المبادئ وإعمالها. فأصحاب هذه النظرية يرون أنه لا نظام قانوني بلا نظام عام يحقق التناسـق أحكامه ويحمي مبادئه الأساسية. ومن ثم برزت عديد المبادئ الأمرة عبر الوطنية والتي يتردد المحكمون في إعمالها على غرار حظر الرشوة، مبدأ حسن النية ومبدأ إلزامية العقد .

   ونجد الإحالة إلى نظام عام وطني لا إلى النظام العام عبر الوطني بـصفة صـريحة فـي بین الفصل الخامس من اتفاقية نيويورك لسنة 1958 التي تنص أن الاعتـراف بـالقرار التحكيم وتنفيذه يقع رفضهما إذا رأت المحكمة المختصة بالبلاد التي وقعت المطالبـة فيهـا بـالاعتراف بالقرار التحكيمي وتنفيذه "أن الاعتراف أو تنفيذ القرار التحكيمي يكون مخالفاً للنظام العام بهـذا البلد". والإشارة إلى نظام عام هذا البلد يدل بوضوح أن النظام العام المراقب نظام وطني لا نظام عام عبر وطني.

  ويمكن في هذا الإطار الرجوع أيضاً إلى ما ورد بالقانون النموذجي في التحكيم التجـاري الدولي للجنة الأمم المتحدة (اليونسترال) لسنة 1985 حيث تشير المادة 34-2-ب إلـى النظـام العام للدولة الواقع القيام أمام محاكمها بالطعن والمادة 36-ب تحيـل أيـضاً إلـى نفـس هـذا المفهوم .

    ومن الملاحظ أن القانون التونسي للتحكيم بإحالته في المادتين 78 و81 إلى "النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص" يحيل بالضرورة إلى نظام عام وطني. ويـرفض ضـمنياً ولكـن بوضوح الرقابة على أساس النظام العام عبر الوطني، كما يتضح ذلك بالرجوع إلى التعريـف الوارد بالفصل 36 فقرة 1 من مجلة القانون الدولي الخاص الصادر بالقـانون عـدد 97 لـسنة 1998 المؤرخ في 27 نوفمبر 1998 الذي ينص أنه لا يثير القاضي الدفع بالنظام العـام إلا إذا كانت أحكام القانون الأجنبي المعين تتعارض مع الاختيارات الأساسية للنظام القانوني التونسي".

   والإحالة إلى رقابة نظام عام وطني من قبل المشرع وقع اتباعها من قبل القضاء التونسي بمناسبة الطعن بالبطلان في أحكام التحكيم الدولية أو بمناسبة الإذن بتنفيذ أحكام التحكيم الدوليـة. ومثل ذلك ما جاء بحكم محكمة الاستئناف عدد 31-32 المؤرخ في 12 جـانفي 1999: "... شروط الإبطال هي تلك الواردة بالفصل 78 من مجلة التحكيم بالنظر إلى الصبغة الدولية للتحكيم وقد جاء بالفصل المذكور أنه -2- لا يجوز لمحكمة الاستئناف بتونس أن تبطل حكم التحكيم إلا في الصورتين الآتيتين:

   أولاً: إذا قدم طالب الإبطال دليلا يثبت احد الأمور التالية...

    ثانياً: إذا رأت المحكمة أن حكم التحكيم يخالف النظام العام فـي مفهـوم القـانون الـدولي الخاص".

    وحيث يعني ذلك أنه ليس من الضروري تطبيق قواعد القانون التونسي المتعلـق بـصحة اتفاقية التحكيم أو ببطلانها... على أن لا يؤدي تحررها من تطبيق التشريع التونسي الى مصادمة النظام العام التونسي".

    ونجد نفس هذا الموقف في بعض التشاريع المعاصرة في التحكيم التجاري الدولي ولنأخـذ على ذلك مثال القانون السوري للتحكيم المؤرخ في 17 مارس 2008 الذي ينص في المادة 50- 2 أنه تقضي المحكمة التي تنظر دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في الجمهورية العربية السورية". وكذلك كان موقف المشرع السوري فـي خصوص الإذن بالتنفيذ حين نصت المادة 56-2 أنه "لا يجوز إكساء حكم التحكيم صبغة التنفيـذ وفقاً لهذا القانون الا بعد التحقق مما يلي: ب-أنه لا يتضمن ما يخالف النظام العام في الجمهورية العربية السورية".

    ونجد في جميع هذه القوانين صدى لتوصيات جمعية القانون الدولي الخاصة بالنظام العـام كسبب لرفض الاعتراف أو تنفيذ أحكام التحكيم، حيث ذكرت بالمادة 1 -ج أن المقصود بعبارة النظام العام الدولي هو مجموع القواعد والمبادئ النافذة في دولة ما..." وهذا لا يمنع حسب هـذه التوصيات أن الدولة تنفتح في نظامها العام على المبادئ العالمية.

    وإن هذه الإحالة في جل القوانين المقارنة إلى نظام عام وطني للرقابة على أحكام التحك الدولية لا يمنع من صدور قوانين حديثة تبدومنفتحة على رقابة النظام العام غير الـوطنـي علـى غرار القانون المغربي الجديد، الذي ينص في المواد 327-46 و327–49 أن حكـم التحكـيم الدولي لا يعترف به ولا ينفذ، أويقع قبول الطعن بالاستئناف في الأمر القاضي بتخويل الاعتراف أو الصبغة التنفيذية إذا كان هذا الحكم "مخالفاً للنظام العام الدولي أو الوطني". وهذا مع الإشـارة إلى أن المادة 327-51 تحيل أيضاً إلى نفس هذا المفهوم فيما يخـص الطعـن بـالبطلان، وإن التمييز في هذه المواد بين النظام العام الدولي من ناحية والنظام العام الوطني من أخرى يعني أن الأول مختلف عن الثاني، ومن ثم فذلك يحيلنا بالضرورة إلى مفهوم النظام العام عبر الـوطني، وسيظهر فقه القضاء المغربي، من خلال أحكامه كيف سيقع تأويل هـذا المفهـوم، الـذي لا نستغرب أن يكون بالرجوع إلى مفهوم النظام العام عبر الوطني.

   والقضاء المغربي لو فعل ذلك فلن يكون موقفه وحيداً في القانون المقارن وهذا بالنظر إلـى كون فقه القضاء السويسري وفقه القضاء الفرنسي ذهبا في هذا الاتجاه في بعض القـرارات  وهذا رغم غياب نصوص منفتحة على النظام العام عبر الوطني على غرار القـانون المغربـي الجديد.

    ويبدو لنا أن الاتجاه الغالب الذي لا يرى في النظام العام الخاضع للرقابـة بمناسـبة الإذن بالتنفيذ أو الطعن بالبطلان إلا نظاماً عاماً وطنياً مبرراً ومتلائماً مع الطعن بالبطلان، أو بـالإذن بالتنفيذ. وهذا لأنه من اللازم التمييز بين وضعية المحكم الدولي الذي يلتجئ إلى النظام العام في حكمه التحكيمي، والقاضي المكلف برقابة الأحكام التحكيمية الدولية.

     فالأول وحسب توجه في الفقه ليس له ما يعبر عنه في القانون الدولي الخـاص بقـانون القاضي الذي يلتجئ إليه لإزاحة القانون المنطبق عندما يخالف النظام العام لهذا القانون وإنما لـه إذا لم نتبن النظرية التي ترى يسبح في فراغ قانوني، قانون عبر وطنـى أو قـانون التجـار الدولي وعليه من ثم حماية هذا النظام القانوني، بإعمال ما يبرر التجاء المحكمين الدوليين عـادة في أحكامهم لا إلى النظام العام الوطني، ولكن إلى نظام عام عبر وطني.

   أما قاضي الرقابة (بطلان أو تنفيذ)، فإن وضعيته مختلفة اختلافاً جذرياً عن المحكم الدولي: فهو منصهر بالنظام القانوني والقضائي للدولة المطلوب منها تنفيذ حكم التحكيم الدولي أو الواقـع أمامها الطعن بالبطلان. وانصهاره بهذا النظام القانوني يجعل منه حامياً للنظام العام لهذه الدولـة وليس لنظام عام عبر وطني. ويضاف إلى ذلك أن الغاية من إعمال النظام العـام عنـد الطعـن بالبطلان أو الإذن بالتنفيذ لا يعدو أن يكون حماية المبادئ الأساسية للدولة المطلوب التنفيذ فيها أو المطعون بالبطلان أمام محاكمها. والدليل على ذلك أن محاكم الدولة تثير هذا المفهوم من تلقـاء نفسها... ويمكن أيضاً الإستناد إلى الغاية من الإذن بالتنفيذ ومن الطعن بالبطلان للتأسيس لرقابـة النظام العام الوطني. فالغاية من هذه الطعون تتمثل في إدماج الحكم التحكيمي الدولي في النظـام القانوني للدولة المختصة محاكمها في هذه الطعون أو في هذا الإذن بالتنفيذ. وإذا قبلنا أن الغاية من هذه الطعون تتمثل في إدماج أوقبول الأحكام التحكيمية الدولية في النظام القانوني يصبح من المنطقي أن نراقب هذه الأحكام بالنسبة للنظام العام الدولي لقانون القاضي .

   ويضاف إلى هذا ما ذكره الفقيه برتولد قولدمان B. Goldman، وهو من المـدافعين عـن إعمال النظام العام عبر الوطني من قبل المحكم، من عدم جدوى مراقبة النظام العام عبر الوطني من قبل القاضي. فإما أن المبدأ المعتبر من مبادئ النظام العام عبر الـوطني لا يتعـارض مـع المبادئ الموجودة في النظام العام للقاضي، ومن ثم فإن الالتجاء إليه من قبل القاضـي يدمجـه بالضرورة في النظام القانوني للقاضي واعتبار المبدأ ينصهر في النظام العام عبر الوطني يعتبر عندها من قبيل التزيد اللفظي. وإما أن المبدأ المعتبر من النظام العام عبر الوطني يتعارض مـع نظام عام القاضي، وهنا لا يمكن للقاضي رفض الإذن بتنفيذ حكم تحكيم دولي أو إبطاله في حين لا يتعارض مع قانونه الوطني بالنظر لتعارضه مع النظام العام عبر الوطني .

ومن خلال هذه الملاحظات نتبين بوضوح أن الرقابة على النظام العام عبر الـوطني غير مفيدة ولا تضيف شيئاً إلى رقابة قانون القاضي، خاصة أنه من المقبول من قديم في فقه القـضاء المقارن أن النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص يمكن من حماية المبادئ الوطنية التي لا تتمتع بالضرورة بالخصوصية ولكنها قد تتصف بالعالمية كمبادئ حقوق الإنسان. واعتبـار أن القاضي يراقب النظام العام الوطني لا يعني أنه يلتجئ إلى جميع القواعد الأمـرة فـي نظامـه القانوني، وإنما يقتصر على مفهوم ضيق للنظام العام: النظام العام حسب القانون الدولي الخاص.

ب- نظام عام حسب مفهوم القانون الدولي الخاص:

   لأول مرة في النظام القانوني التونسي وقع التنصيص على مفهوم النظام العام حسب مفهوم القانون الدولي الخاص في مجلة التحكيم سنة 1993 وهذا في إطار الرقابة على أحكام التحكـيم الدولية عند الطعن بالبطلان (الفصل 78-2-II) أو عند طلب الاعتراف والإذن بالتنفيذ (الفـصل 81-II). وإن الرجوع الى هذا المفهوم يعتبر متلائماً مع ما نجده من تأويل لاتفاقية نيويـورك وللقانون النموذجي للأنسيترال الذي وإن ذكر النظام العام دون الإشارة إلى أنه حـسب مفهـوم القانون الدولي الخاص فإن فقه القضاء المقارن فهمه عادة بهذه الصيغة.

   وما يلاحظ هو أن الأنظمة التي تحيل على غروالقانون التونسي إلى مفهوم النظام العام حسب القانون الدولي الخاص تعتبر متحررة تجاه التحكيم الدولي وذلك لأن هذا المفهوم أضيق بكثير من مفهوم النظام العام الداخلي، إذ يقتصر حسب الفصل 36 من مجلة القانون الدولي الخاص علـى حماية الاختيارات الأساسية للنظام القانوني التونسي في حين يعتبر مفهوم النظام العـام الـداخلي مفهوماً متوازياً مع مفهوم القواعد الآمرة وهي قواعد عديدة في النظام القـانونـي فـي حـين أن بعضها فقط يمثل اختياراً جوهرياً للنظام القانوني التونسي.

   وهذه التحررية تبدو مبررة تماماً حين يكون التحكيم التجاري الدولي، دولياً حقيقة، أي حين يكون موضوع التحكيم يمس حقيقة بالتجارة الدولية، ويفترض انتقال أموال أو بضائع أو خدمات من بلاد إلى أخرى، في حين يصبح هذا التحرر تسليماً وتنازلا غير مبرر عن رقابة النظام العام الداخلي إن لم يكن التحكيم موضوعه دولياً وإنما كان مكيفاً كتحكيم دولي بصفة موسعة وأحيانـاً مصطنعة.

    وما يلاحظ هو أن الفصل 48 من مجلة التحكيم، المعرف لدولية التحكيم، المتأثر بالمادة 1-3 من القانون النموذجي لليونسترال، يوسع جدا في مجال دولية التحكيم بحيث يقبل أن يكون التحكـيم دوليا لمجرد أن يكون مكان التحكيم الواقع اختياره خارج الدولة التي يقع فيها مقر التحكـيم، بـل حتى لمجرد أن يتفق الطرفان صراحة على أن موضوع اتفاق التحكيم متعلق بـأكثر مـن دولـة واحدة. وإن ذلك من شأنه أن يؤدي بصفة مصطنعة إلى تكييف تحكيمـات موضـوعية داخليـة كتحكيمات دولية وإخضاعها من ثم إلى رقابة النظام العام حسب القانون الدولي الخاص لا النظـام العام الداخلي، مما يمثل حسب الفقيه فيليب فوشار تشجيعاً على التحايل على القواعد الآمرة.

   وإن هذا الموقف للمشرع الذي يوسع بصفة مفرطة في نطاق التحكيم الدولي ويفتح المجـال حتى لإرادة الأطراف في تكييف علاقة داخلية كتحكيم دولي لم تمنع جزئياً القضاء مـن إثـارة مسألة مراقبة تكييف الأطراف للتحكيم ومن تصحيح هذا التكييف إذا بدا لها أن العلاقـة داخليـة وليست دولية.

   هذا ودون إرادة الخوض في هذه المسألة التي تحتاج وحدها إلى دراسة مستقلة، فإننـا نلاحظ أنه وإلى وقت قريب كنا نجد موقفين متباينين لمحكمة الاستئناف بتونس، المختصة وحدها للنظر في الطعون في أحكام التحكيم الدولية والإذن بتنفيذ هذه الأحكام، ولمحكمة التعقيب (التمييز) التونسية.

   ففيما يخص محكمة الاستئناف بتونس فإنها وفي عدة قرارات اعتبرت نفسها وبغض النظ عن العبارات المستعملة في الفصل 48 مختصة في تصحيح تكييف الأطـراف إذا اعتبـرت أن التحكيم دولي، في حين لا تعدو العلاقة موضوع التحكيم أن تكون داخلية. أما محكمة التعقيـب فإنها وعلى عكس ذلك تماما لم تتردد في عديد القرارات في نقض هذه الأحكام الإستئنافية معتبرة أن العبارات المستعملة في الفصل 48 من مجلة التحكيم لا تسمح بمثل هذا الدور للمحـاكم وأن سلطة الأطراف في تكييف دولية التحكيم مطلقة وإن كانت جميع عناصر النزاع داخلية.

   هذا ومن الملاحظ أنه يبدو أن محكمة التعقيب قد تحولت عـن توجههـا المطلـق لإرادة الأطراف في قرار صادر بتاريخ 14 جانفي 2008، تحت عدد 13427 وذلك بأن أقرت سلطة المحاكم في رقابة التكييف الذي يتفق عليه الأطراف ومن ثم تصحيح التكييف المعتمد من قبلهم.

   وإن هذه المسألة لها دور لصيق بمسألة رقابة النظام العام حيث أنه إذا ما صححت المحاكم لتكييف المعتمد من قبل الأطراف للتحكيم مثلاً كداخلي عوض دولي فإنها ستراقب مفهوم النظام العام في مفهوم القانون الداخلي لا حسب مفهوم القانون الدولي الخاص.

    وهنا من المهم الإشارة إلى وجود نوع من الخصوصية في مفهوم النظام العام فـي مفهـوم القانون الدولي الخاص الخاضع للرقابة بالنسبة للمفهوم المكرس في مادة تنازع القوانين. ففي حين نميز في هذه المادة الأخيرة النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخـاص وقـوانين البـوليس والأمن حيث يكون للمفهوم الأول أثر سلبي فما هو إلا استثناء يقع إعماله بعد أن تطبـق قاعـدة التنازع ويعين قانون أجنبي، على عكس قوانين الأمن والبوليس التي تتميز بأثرهـا الايجـابي حيث يجب على القاضي إعمالها قبل إعمال قاعدة التنازع .

   وعلى عكس هذا التمييز في مادة تنازع القوانين، نجد نوعاً من الدمج فـي مـادة رقابـة الأحكام التحكيمية الدولية بحيث يندمج مفهوم قانون البوليس والأمن في مفهوم النظام العام حسب القانون الدولي الخاص، ففي معظم الحالات التي يقع فيها إعمال النظام العام في الرقابة يلاحـظ الفقه أن القضاء يعمل في التطبيق قوانين أمن وبوليس.

    ويمكن في هذا الإطار ذكر قرار محكمة الاستئناف بتونس في القضية عدد 6969 المؤرخة في 09 مارس 2004، الذي طرحت فيه مسألة تلاؤم الحكم التحكيمي مع النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص بكل حدة.

   وأول المسائل التي طرحت هو مدى انصهار قوانين الأمن في مفهوم النظام العـام الملتجـأ إليه عند الرقابة، وذلك لأن الطاعن في الحكم التحكيمي الصادر عن هيئة محكمين مصالحين في تونس اعتبر أن هذا الحكم لما ألزم المطلوبة بخلاص دين بالدولار الأمريكي يعد مخالفاً لأحكـام مجلة الصرف والتجارة الخارجية، التي تهم النظام العام وتلزم بأداء ما يعـادل الـدين بالــدينار التونسي لا بالعملة الصعبة.

    وإن موقف محكمة الاستئناف كان واضحاً إذ عرفت في البداية النظام العام بكونه "مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بالركائز الأساسية لكيان البلاد الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي وهو الذي يحمي الأسس الجوهرية في مجتمع قاضي النزاع بمنع تطبيق قوانين أجنبية تتعـارض مع الأسس المذكورة".

    ثم وفي مرحلة ثانية أدمجت المحكمة قواعد الصرف ضمن قواعد الأمن واستندت صراحة على الفصل 38 من مجلة القانون الدولي الخاص لتنتهي بالتصريح أنه "انطلاقاً من هذا المفهـوم يجوز للقاضي التونسي رفض إكساء حكم أجنبي بالصيغة التنفيذية إذا ما تبين له أن ذلك الحك مخالف لقواعد الأمن الوطنية ويخضع ذلك التقدير لاجتهاد المحكمة".

     وإن محكمة الاستئناف قد رفضت إعمال النظام العام معتبرة أن إقامة طرفي النزاع خـارج البلاد التونسية تجعل من اتفاقهما مطابقا لقوانين الصرف التونسية لا مخالفا لها ولكن الأهم فـي هذا القرار يتمثل في كون المحكمة وبغض النظر عن ذلك اعتبرت أنه "طالما منحت الطالبة مبلغ القرض بالعملة الأجنبية فمن حقها المطالبة بإسترجاعه بالعملة الأجنبيـة ولا يجـوز للمطلوبـة الاحتجاج ضدها بمخالفة ذلك لقانون الصرف للبلاد التونسية لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى تشجيع المطلوبة وهي تونسية الجنسية على التحلل من التزاماتها التعاقدية وسينجر عنه خرق النظام العام الاقتصادي التونسي على معنى القانون الدولي الخاص والذي يشجع الاستثمارات الأجنبية بتونس تدعيماً للاقتصاد الوطني.

   وما نلاحظه هو أن القرار الاستئنافي منح الإذن بالتنفيذ على أساس تلاؤم العقد مع قـوانين الصرف ولم يسمح بخرق قوانين الصرف التونسية أو بإستبعاد تطبيق أحكامها. أمـا الموقـف الأخير فقد يوحي بذلك...وهو يجعل في الحقيقية من محكمة الرقابة تضع نفسها في موقف المحكم الدولي أمام قوانين أمن خارجة عن القانون المنطبق، وهو ما كان موجوداً في هذه القضية، بمـا أن المحكمين كانت لهم صفة المصالح، ومن ثم لم يكن هناك فيما يخصهم قانون منطبـق. فمـن المعلوم أنه في هذه الحالة لا يقع تطبيق قوانين الأمن الأجنبية عن القانون المنطبق على العقد من قبل المحكم إلا بشروط أهمها أن تكون ذات صلة وثيقة بالنزاع وخاصة إذا كانت تابعة للبلاد التي سيقع فيها تنفيذ الحكم التحكيمي أو الطعن فيه. ولكن حرص المحكم على فعالية حكمه لا يمنعـه من رفض تطبيق هذه الأحكام إذا تبين له أن تطبيقها سيؤدي إلى نتائج تتعارض مع مبدأ حـسن النية، وهو من مبادئ النظام العام عبر الوطني... وتسمح مثلاً لشخص كما في قضية الحـال أن يتهرب من تنفيذ عقد تمتع به وترك الطرف المقابل ينفذ التزاماته كاملة.

   وإن انصهار قوانين البوليس في النظام العام حسب القانون الدولي الخاص عند الرقابة يجب أن لا يفاجئ الدارس لهذه المسألة وذلك بالنظر إلى تميز وضعية القاضي عندما يحكم في الأصل عن وضعيته حين يراقب الأحكام القضائية الأجنبية أو الأحكام التحكيمية الدولية: ففـي الحالـة الأولى يطلب منه الحكم في نزاع والفصل فيه ومن ثم يمكن له أن يعطي أولوية لقوانين الأمـن، ثم يطبق قاعدة التنازع والقانون الأجنبي إذا عينته ولا يقع إلا استثناء استبعاده لتعارضـه مـع النظام العام. أما قاضي الرقابة الذي لا يحكم من جديد في القضية موضوع الحكم المراقب فإنـه ينظر في الحكم بعد أن تم الفصل فيه، ومن ثم لا يمكن له التمييز بين قوانين البوليس والأمن التي يكون لها أثر ايجابي والنظام العام الذي يكون له أثر سلبي. وإن أهمية قوانين البوليس والأمـن بالنسبة للنظام القانوني للقاضي تجعل من الضروري عليه إدماجها في مفهومه للنظام العام. وهذا الإدماج يؤدي أيضاً إلى إعمال قوانين البوليس كما يقع إعمال النظام العام في مفهـوم القـانون الدولي الخاص فيصبح لها أثراً سلبياً لا أثراً إيجابياً، ويصبح من المهم بالنسبة للقاضي مراقبة أنه لم يقع خرق هذه القوانين، لا بالضرورة تطبيقها، وإلا لأدى ذلك إلى المس من استقلالية التحكيم التجاري الدولي ولأدى إلى نوع من المراجعة لأحكام التحكيم الدولية بدل مجرد الرقابة.

 II-رقابة النظام العام:

    إن النظام العام بمثابة الحرباء عند الرقابة الدولية للأحكام التحكيمية. فهذا المفهوم رغـم أنه واحد فهو يسمح بإخضاع الحكم التحكيمي الدولي لكل ألوان الرقابة في جميع مراحل التحكيم.

   وفي كل هذه المراحل يمثل الطابع المتغير لمفهوم النظام العام حسب القانون الدولي الخاص نفس الوقت شرط مرونة الرقابة، وخطر التعسف في الرقابة بالتوسع والإفراط فـي هـذا المفهوم. وما نلاحظه من خلال فقه القضاء التونسي، وكذلك فقه قضاء بعـض الـبلاد الغربيـة والعربية هو أن المحاكم تسعى لحقيق توازن بين ضرورة الرقابة التي تمر أساساً عبـر النظـام العام وضرورة الحفاظ على تحررية التحكيم الدولي ومرونة إجراءاته. ونجد هذا التمـشـي فـي جميع مراحل التحكيم منذ بدايته من خلال الرقابة على اختصاص المحكـم (أ) مـروراً برقابـة إجراءات التحكيم (ب)، ووصولاً إلى رقابة الحلول التحكيمية (ج).

(أ) النظام العام ورقابة اختصاص المحكم:

    إن التحكيم التجاري الدولي اكتسح في زمن العولمة جل النزاعات إلى درجة أصبح يعتبـر فيها التحكيم الدولي القضاء العادي للنزاعات التجارية الدولية في حين كان منحصراً في نطـاق استثنائي. وهذا ما يبرر أن أهم تطور عرفه التحكيم التجاري الدولي والمتمثل في توسع نطـاق التحكيم وتوسع المجالات التي أصبحت فيها النزاعات من حيث الأشخاص تعتبر رقابة وقع نسبياً تجاوزها في القانون المقارن مع أن مفهوم النظام العام يستعمل في بعض الحالات "لإحيائها" وهي "رميم" (أ) في حين ما زال النظام العام يمثل حداً هاماً من التحكيمية الموضوعية للنزاعات على الأقل في فقه القضاء التونسي، رغم وجود نزعة غالبة تضيق من هذا التدخل الخطير للنظام العام (ب).

1- النظام العام ورقابة "التحكيمية" من حيث الأشخاص: قابلية النزاعات التي تهم الدولـة للتحكيم الدولي

    كانت ضرورات النظام العام تمنع في القرن التاسع عشر الدولة والأشخاص العمومية مـن الالتجاء إلى التحكيم فالالتجاء إلى القضاء الوطني وبالخصوص إلى القضاء الإداري يعتبر مبدءا يهم النظام العام، كلما تعلقت المسألة بالدولة والأشخاص العموميين . فبالنسبة للفقه الكلاسيكي تعرض الدولة صلاحياتها كسلطة عمومية للتهديد وهدفها الأساسي المتمثل في تحقيـق مـصلحة عامة من خلال تسيير المرافق العامة للخطر إذا ما قبلت الالتجاء إلى قاض خاص: وحده القضاء العمومي وبالأخص القضاء الإداري يعطي للدولة ضمانات تمكن من الحفاظ على المصالح العليا للدولة وعلى النظام العام.

   وما يلاحظ هو أنه منذ القرن التاسع عشر بدأ التحكيم يكتسح شيئاً فشيئاً مجال النزاعات التي تهم الدولة والأشخاص العمومية. وهذا الاكتساح لم يكن محض صدفة، أو تنازلاً من الدولة عن قضائها ولكنه كان أخذا بعين الاعتبار للتغير الجوهري لدور الدولة، خاصة في العلاقات الدولية التي خرجت من دورها التقليدي كدولة شرطي، لتكتسح إلى جانب ذلك مجال العلاقات التجاريـة الدولية فتتصرف لا كسيادة وإنما كما يتصرف التجار. وتغير دور الدولة يفسر أنها لا يمكن أن لا تلتجئ إلى القضاء العادي للتجارة الدولية، أي إلى التحكيم الدولي. فذلك من شأنه أن يعوقهـا عند تصرفها كالخواص وأن يجعل من المتعامل معها معرضاً لاختصاص قضائها ومن ثم فمـن الطبيعي أن يخشى أن تحمي الدولة القاضية، الدولة المتعاقدة. وهذا ما يبرر أنه كثيراً ما لم يقـع تطبيق قوانين الدول المانعة لها من الالتجاء إلى التحكيم الدولي من قبل أحكام التحكيم الدوليـة على أساس النظام العام الدولي الحقيقي .

   وبالمقابل فإن قوانين الدول أو فقه قضائها كثيراً ما أقرت بإمكانية الدولـة الالتجـاء إلـى التحكيم الدولي رغم بقاء المنع في مادة التحكيم الداخلي. ويمكن إعطاء مثل القانون التونسي على ذلك حيث نص الفصل 7-5 على أنه "لا يجوز التحكيم: خامساً- في النزاعات المتعلقة بالدولـة والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية والجماعات المحلية إلا إذا كانت هذه النزاعات ناتجة عن علاقات دولية اقتصادية كانت أو تجارية أو مالية ينظمها الباب الثالث من هذه المجلة".

   والدارس للفصل 7-5 لا يمكن أن لا يخشى من إمكانية تأويل مضيق لقابلية التحكيم علـى أساس أن هناك عقود دولية تجارية أو اقتصادية وأخرى تتصرف فيها الدولة كإدارة ولو كانـت عقوداً دولية والتي يمنع فيها النظام العام إمكانية اللجوء للتحكيم. ومثل هذا التأويل لو اعتمد مـن شأنه أن يحدث شعوراً بإنعدام الأمان القانوني بالنسبة للمتعاقدين مع الدولة، ورغم هذا فإننا نجـد صدى لهذا التمييز في فقه القضاء المقارن. وذلك على غرار مجلس الدولة الفرنسي الذي اعتب في رأيه في قضية ديزناي لاند المؤرخ في 6 مارس 1986 أن العقـد بـين الدولـة الفرنسية وديزناي لاند عقد إداري ومن ثم فهو عقد داخلي لا يجوز فيه التحكيم. وعلى عكـس موقـف مجلس الدولة في فرنسا دأب فقه القضاء العدلي عند الرقابة على اعتبار أن الصبغة التجاريـة الدولية للعقد لا تتبع صفة الأطراف أو موضوع العقد وإنما تتأتى فقط من انتقال بضائع أوخدمات عبر الحدود (محكمة الاستئناف بباريس 13 جوان 1996) ، ومن ثم فلا مجال لوجـود عقـود إدارية، متى كانت هذه العقود تمس بالتجارة الدولية، وهذا الاتجاه من شـأنه أن يطمـئن معاقـد الدولة إلى أنه لن يقع من خلال التكييف الإداري للعقد حرمانه من القضاء الذي اختاره ألا وهـو التحكيم التجاري الدولي وإخضاعه للقضاء الإداري للدولة.

    وهذه الاعتبارات لم تحل دون تأثر بعض الأنظمة القانونية المتحررة تجاه التحكيم الـدولي والتي تسمح للدولة والأشخاص العمومية بالالتجاء إلى التحكيم الدولي بموقـف مجلـس الدولـة الفرنسي.

    فنجد مثلاً في لبنان مجلس الدولة اللبناني يبطل الشروط التحكيميـة التـي أبرمهـا بعـض الأشخاص العموميين على أساس أن التحكيم مسموح به في العقود الدولية الخاصة حسب الفصل 809 من مجلة الإجراءات المدنية اللبنانية حال أن هذا العقد إداري (مجلس الدولة اللبنـاني 17 جويلية 2001).

    ولم يغب هذا التأثير عن فقه القضاء التونسي، ولكن الجديد هو أن فقه القضاء العدلي هـو الذي كرس هذا الصنف من العقود الإدارية الدولية التي لا يسمح فيها بالتحكيم على عكس عقـود التجارة الدولية. وقد حصل ذلك بمناسبة حكم لمحكمة الاستئناف بتونس في القضية عدد 69135 المؤرخ في 19 ماي 2009 بين المكلف العام بنزاعات الدولة في حق وزارة الفلاحة والمـوارد المائية ضد مجمع فيروكوم، في خصوص عقد بناء سد.

   وقد تسلط الطعن خاصة على أساس الفصل 7 -5 من مجلة التحكيم باعتبار أن عقد بناء سد عقد إداري: صفقة عمومية.

   هذا أن محكمة الاستئناف صرحت بكون هذا التحكيم تحكيم دولي، فإنها عابت علـى ومع هيئة التحكيم "تجاوز الدفع الذي يهم النظام العام" بتعلة حصول اتفاق الطرفين على التحكيم. وقـد أبطلت محكمة الاستئناف الحكم التحكيمي على أساس أننا أمام عقد إداري لا يستجيب من ثم إلى مفهوم التجارة الدولية: "وحيث ولئن يثور في هذا الصدد إشكال يتصل بمسألة التفسير القـانوني لمفهوم مصالح التجارة الدولية أو مفهوم العلاقة الدولية الاقتصادية التجارية أو المالية ذلك أن هذه المفاهيم تعد معايير واسعة وعامة وغير محددة المعالم ومن شأنها أن تشمل جانباً هاماً من العقود التي قد تربط الدولة وجهة أجنبية فإنه بالنسبة لعقد الصفقة موضوع النزاع الراهن فإنـه يظـل خارجاً عن هذا الاستثناء اعتباراً وأن موضوعه يندرج في إطار صميم صلاحيات الدولة ودورها إذ كانت متعلقة بإقامة سد وهو عمل لصيق بسير المرافق العامة وينصهر فـي إطـار تحقيـق مصلحة عامة ولا يمكن بحال اعتباره متصلاً بالتجارة الدولية أو بمفهوم الاستثمار مـن ضـمن الاستثناءات المقررة بالفصل 7 خامساً المذكور الذي يبقى التعامل معه في حدود ما يقع التعامـل به بالنسبة للاستثناءات عملا بالفصل 540 م ا ع".

   هكذا يبدو أن هذا القرار يضيق من مجال استثناء منع التحكيم بالنسبة للدولـة والأشخاص العمومية في العقود الدولية بالتمييز بين هذه العقود حسب طبيعتها الإدارية أو الخاصة. ونأمل أن يبقى هذا القرار منعزلاً ولا يرتقي إلى مرتبة فقه القضاء...

    وإمكانية التأويل للتضييق في التحكيم الدولي موجودة أيضاً فيما يخص قابلية النزاع للتحكيم من حيث الموضوع.

    2- النظام العام ومراقبة قابلية النزاعات للتحكيم من حيث الموضوع:

     رغم تنصيص اتفاقية نيويورك والقانون النموذجي للأنسيترال للتحكيم التجـاري الـدولي على قابلية النزاع للتحكيم كسبب مستقل عن النظام العام يمكن للمحكمة إثارته من تلقـاء نفـسها فإننا نجد إجماعاً في القانون المقارن على أن ذلك كان من قبيل التزيد وذلك لأن رقابـة قابليـة النزاع للتحكيم ما هي إلا وجه من أوجه رقابة النظام العام حسب القانون الدولي الخاص.

     وهذا ما يبرر موقف القانون التونسي للتحكيم حيث يقتصر الفـصلان 78 -2- ثانيـاً و81 ثانياً على التنصيص على البطلان وعلى رفض الاعتراف أو الإذن بالتنفيذ إذا رأت المحكمة أن "حكم التحكيم" (الفصل 81) يخالف النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص.

    ولتطبيق هذين الفصلين لا بد من الرجوع أيضاً للفصل 7 من مجلة التحكيم الذي يحدد المواد التي لا يجوز فيها التحكيم وينص على حالة أولى بالعبارات الآتية: "لا يجوز التحكيم: 1- في المسائل المتعلقة بالنظام العام". وهذا الفصل لو أول بصفة حرفية لآل عند الرقابـة إلى رفض الاعتراف والإذن بتنفيذ جل أحكام التحكيم الدولية وكذلك الأمر بالنسبة للبطلان. وهذا لأن التأويل الحرفي يعني أن المحكم لن يتمكن من تطبيق أي قاعدة تهم النظام العـام، ولو فعل لعرض حكمه إلى البطلان أو عدم التنفيذ إما على أساس مخالفة النظام العام أو على  أساس بطلان اتفاقية التحكيم. وهذا التأويل يؤدي لو كرس من فقه القضاء إلى وأد التحك وقتله في المهد لأن قواعد النظام العام تعددت في الدولة بـصفة تجعلهـا تمـس جميـع المجالات واعتبار أن مجرد أن تتعلق المسألة بالنظام العام ينزع عن المحكم الـدولـي كـل اختصاص في النظر في النزاع من شأنه في الحقيقة أن ينزع عنه كل اختصاص فـي جـل النزاعات لأنه مـن الصعـب أن نتصور نزاعات لا تمس من قريب أو من بعيـد النظـام العام.

    ومثل هذا التأويل الحرفي ليس محض خيال أو مجرد تصورات تـشاؤمية لواقـع التحكـيم الدولي وإنما طرح في الواقع القضائي التونسي خاصة في القضية الاستئنافية عدد 31-32 والتي حكم فيها بتاريخ 12 جانفي 1999، فقد استند الطاعن في حكم تحكيم دولي على أحكام الفصل 7 لإعتبار أن هيئة التحكيم أخطأت بالحكم في قضية أثيرت فيها مسألة تهم النظام العـام (اعتبـار الدولار كعملة للحساب في العقد)، فطبقت هيئة التحكيم قواعد النظام العام لاعتبار أنه لا توجد أي مخالفة للقواعد الآمرة للصرف والتجارة الخارجية، كما رفضت إيقاف النظر في القضية إلى أن تنظر محكمة عدلية في مسألة صحة أو بطلان هذا العقد والمهم هو أن الطاعن يعتبر أنه من غير الجائز حسب الفصل 7 تطبيق قواعد النظام العام من قبل المحكم الدولي حتى ولو رأى المحكم أن العقد غير مخالف للنظام العام. ومن ثم فعلى المحكم إيقاف النظر حتى تنظر المحاكم العدلية في القضية المتعلقة ببطلان العقد.

   وإنه لمن المهم الإشارة إلى أن محكمة الاستئناف بتونس قد أحسنت صـنيعاً بـرفض هـذا المطعن، معتمدة تأويلاً غير حرفي ولا موسع للفصل 7 فقرة 1. وأهميـة الحيثيـات الموجـودة بالحكم يجعل من المفيد التذكير بأهمها: "...حيث أن المبدأ في القانون التونسي هو جواز التحكيم في كل ميدان بين جميع الأشخاص وإن أحكام الفصل المذكور إنما جاءت بعدد من الاستثناءات لذلك المبدأ.

   وحيث اقتضى الفصل 540 م ا ع أن "ما به قيد أواستثناء من القوانين العمومية أو غيرها لا يتجاوز القدر المحصور مدة وصورة .

     وحيث يخلص من هذا النص أن القواعد الاستثنائية يجب تأويلها تأويلاً ضيقاً وحـصرياً ولا يصح التوسع في فهمها، حتى لا تنقلب المبادئ إلى استثناءات والعكس بالعكس.

    وحيث أن المقصود بذلك ليس مجرد وجود قاعدة من قواعد النظام العام التي لها علاقة من بعيد أو قريب بموضوع التحكيم بل يجب أن يتعلق الأمر بمسألة تنطبق عليها قواعد النظام العام، انطباقا مباشرا".

    وعلى هذا الأساس رفضت محكمة الاستئناف إبطال الحكم التحكيمـي الـدولي معتبـرة أن النزاع يتعلق بتسيير أمور الشركة وتقاسم الأرباح وتحمل الخسائر وليست لهـا علاقـة بقواعـد الصرف، خاصة والهيئة التحكيمية قد اقتصرت على تطبيق قواعد الصرف لتبين عدم وجود أي مساس بقواعد النظام العام.

    وإن هذا الحكم ولو طمأن الفقه من خلال عدم اعتماده التأويل الحرفي واعتباره أنـه مـن اللازم تأويل مفهوم النظام العام بصفة ضيقة فهولا يتسم بجلاء ووضوح العبارة ولا يمكن اعتباره على عكس ما صرح به قد اعتمد تأويلاً ضيقاً للنظام العام كسبب من أسباب إبطـال الأحكـام التحكيمية الدولية أو رفض الإذن بتنفيذها والاعتراف بها. وذلك راجع إلى كون المحكمة رفضت الإبطال معتبرة أن النظام العام لا ينطبق بصفة مباشرة وأن المحكم اقتصر على تطبيقه لملاحظة عدم المساس به فحسب وهذا يعني بتأويل عكسي أنه في نظر محكمة الاستئناف لو طبق المحكم قواعد النظام العام على النزاع مباشرة، أو لو خالف الأطراف النظـام العـام، لغـرض حكـم المحكمين للإبطال وعدم التنفيذ. وفي هذا شطط وعدم تلاؤم مع مبدأ استقلالية الشرط التحكيم و الذي يسمح ببقاء المحكم مختصاً ولو كان العقد الأساسي باطلاً ويسمح له بتطبيق أحكام النظـام العام مباشرة وتوقيع جزاء البطلان على العقد.

   وعلى كل حال هذا هو الحل الذي وصل إليه فقه القضاء الفرنسي بعد قرابة القـرنين مـن الاجتهاد في تأويل أحكام بالمجلة المدنية الفرنسية شبيهة بالفصل 7 فقرة 1 من مجلـة التحكـيم التونسية. إذ اعتبرت محكمة التعقيب، بعد تجاوزها النظرة الرافضة لكل تدخل للتحكـيم فـي مسائل تهم النظام العام، في مرحلة أولى أن المحكم الدولي يمكنه تطبيق أحكام النظـام العـام لتبين عدم مخالفة النظام العام. أما إذا لاحظ المحكم الدولي وهو قاض خاص لا سـلطـة فـرض وإجبار له، أن الأطراف قد خرقوا قواعد النظام العام، فمن واجبه التخلي وترك المجال للقـضاء العدلي لإيقاع الجزاء. ثم تجاوزت المحاكم الفرنسية هذا الحل لتعطي فـي قـرارات متـواترة  للمحكم الدولي سلطة تطبيق قواعد النظام العام الدولي، وسلطة توقيع جزاء البطلان إلا في مجال ضيق جدا يخرج عن اختصاص المحكمين الدوليين لمساسه المباشر بالنظام العام على غـرار إيقاع الطلاق مثلاً أو المسائل الجبائية الصرفة التي تؤدي إلى نزاعات تخص الدولة من ناحيـة والخاضع للأداء من أخرى .

   ويبدو أن المحاكم التونسية بدأت تسير في هذا الاتجاه على الأقل فيما يخص إمكانية تطبيـق القوانين التي تهم النظام العام وقوانين الأمن والبوليس. ويمكن إعطاء أمثلة أربعة لهـذا الاتجـاه الذي نأمل أن يدعم بتمكين المحكمين الدوليين من أن يوقعوا بأنفسهم جزاء البطلان:

    المثال الأول - المادة الجبائية: من المعلوم أن المادة الجبائية تهم النظام العام ويرى البعض أنها من المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم أصلاً. وهذا لم يمنع محكمة الاستئناف بتونس فـي قرار بتاريخ 15 فيفري 2000، عدد 51 من أن تعتبر الدعوى الهادفة إلى إلزام شخص بـدفع مبلغ مالي مع طرح الخصم من المورد (retenue à la source) بعنوان الـضريبة المـستوجبة على أرباح الدائن ومداخيله يجوز فيها التحكيم. وقد اعتمدت المحكمة تمييزاً يدل على إرادتهـا التوسيع في مجال التحكيم وذلك بالتمييز بين:

-النزاعات الجبائية بمعناها الضيق التي تنشب بين الدولة والخاضع للأداء وهـي نزاعات خارجة عن التحكيم لتعلقها بالنظام العام طبق الفصل 7 من مجلة التحكيم.

-النزاعات الجبائية بمعناها الموسع أي تلك التي تنشب بين بعض الخواص الـذين يكلفهـم القانون بدور الوسيط في استخلاص الأداء (أداء على الضريبة أو على القيمة المضافة) و نزاعات يجوز فيها التحكيم.

    واستناداً على هذا التمييز رفضت محكمة الاستئناف إبطال حكم تحكيمي نظـر فـي نـزاع جبائي بالمعنى الموسع على أساس أنه نزاع بين أشخاص خاصين في خصوص حقوق خاصـة بهما... وإنه بحكم صبغتها المدنية والشخصية فهي لا تتعلق بالنظام العام خلافاً للـدعاوى التـى تكون لإدارة الجباية على الخاضعين للضريبة فلا تشملها أحكام الفصل 7 من مجلة التحكيم وعليه فإنه من الجائز الاتفاق على التحكيم لفضها وإن نظر هيئة التحكيم فيها لا يعد خرقاً لقواعد النظام العام أو نظراً في مسائل لا يجوز فيها التحكيم...

   المثال الثاني- قانون المنافسة، قوانين الأمن والبوليس: في قرارها عدد 101 المؤرخ في 23 أكتوبر 2001 لم تثر محكمة الاستئناف بتونس التي طلب منها إبطال حكم تحكيمي دولـي من تلقاء نفسها مخالفة النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص على أسـاس أن المحكمـين طبقوا قانون المنافسة التونسية مع الاستناد إلى الفصل 38 من م ق د ج أي باعتبار هذا القـانون قانون أمن وبوليس. وهذا السكوت عن إثارة مخالفة النظام العام دليل على أن محكمة الاستئناف نقر للمحكم الدولي بإمكانية تطبيق قواعد النظام العام بمعناها القوي، أي قواعـد الأمـن وهـي قواعد لها إلزامية دولية des règles internationalement impératives ونأمل أن يتلوهـذا الموقف آخر يسمح للمحكم الدولي بإيقاع جزاء مخالفة النظام العام، لأنه في هذه القضية اعتبرت محكمة الاستئناف أن شرط عدم المنافسة ليس فيه تعارض مع القانون التونسي للمنافسة ولـيس فيه تعسف ومن ثم فهي لم تر مسا بقانون المنافسة واقتصرت على تطبيقه دون إيقاع جزاء على العقد.

   المثال الثالث: قانون الإجراءات الجماعية قرار محكمة التعقيب في القرار عـدد 13427 بتاريخ 14 جانفي 2008): تعتبر قوانين الإجراءات الجماعية والإفلاس وإنقاذ المؤسسات من القوانين التي تهم النظام العام. وعلى عكس اتجاه تقليدي يرى أن المحكم الدولي غير مختص في النزاعات التي تهم مؤسسة خاضعة لإجراء جماعي وذلك احتراماً لمبدأ تعليق الدعاوى الفرديـة منذ انطلاق إجراءات معالجة إعسار المؤسسات، اعتبرت محكمة التعقيب أن المحكم لـه سـلطة النظر في الدعوى لإصدار حكم يسمح بإثبات حق المدعي، دون أن تقضي بالأداء.

   وقد أكدت محكمة التعقيب ما يلي: "حيث ثبت من أوراق القضية أن المدعى عليهمـا فـي الأصل خاضعتان للمراقبة في إطار القانون المتعلق بإنقاذ المؤسـسـات التـي تمـر بـصعوبات اقتصادية وفي هذا الإطار اقتضى الفصل 32 من القانون المذكور المؤرخ في 17 أفريل 1995 والمنقح... أنه "يتعطل خلال فترة المراقبة كل تتبع فردي أو عمل تنفيذي يرمي إلى استخلاص ديون سابقة لفترة المراقبة أو إلى استرجاع منقولات أو عقارات يسبب عدم أداء دين".

   وحيث أن الأحكام المذكورة تحول دون التتبعات الفردية لاستخلاص الديون ورغم ذلك تـم النظر في هذه الدعوى ومرد ذلك التفريق الذي قام به المحكمون في التحكيم الدولي بين الأحكـام الملزمة والتي لها قوة تنفيذية والأحكام المثبتة للحق والتي لها قوة ثبوتية وهو ما أكده المحكمون هذه الدعوى ضرورة أن منطوق الحكم تضمن أن المبالغ المحكوم بها تدفع في نطاق نظـام التسوية القضائية ومن ثم قد تم إعمال القواعد المادية للتحكيم الدولي المناقضة لأحكام آمرة وذلك حتى يحصل الدائن على سند مثبت للحق ولا ينفذ إلا في إطار التسوية القضائية وهو مـا يعـد تطبيقا سليما للقانون ويحتم إعمال هذه التفرقة" .

   المثال الرابع- قانون البعث العقاري والقانون المنطبق في خصوص مسؤولية المقاولين عن سلامة البناءات والمنشآت: من المعلوم أن قانون البعث العقاري يهم بصفة مباشرة النظـام العام إذ يهم علاقة قانونية بين باعث عقاري ومشتر يمكن اعتباره بمثابـة المـستهلك وبمثابـة الطرف الضعيف ولذلك نجد أن جل قواعد البعث العقاري قواعد حمائية ولها طابع آمر. .... هـذا وقد طرحت ضمنياً قابلية هذه النزاعات للتحكيم في القرار عـدد 87980 لمحكمـة الاستئناف بتونس بتاريخ 24 نوفمبر 2009 (شركة تنمية السياحية بحلق الواي ضد م.أ. مقاول)".

    وقد تعلق هذا النزاع بعقد مقاولة، لبناء نزل وقد وقع الحكم فـي التحكـم علـى المقـاول بإصلاح العيوب الموجودة بالبناء مع التأكيد على أن المسؤولية... المنصوص عليها بالقانون عدد 9-94 المؤرخ في 31 جانفي 1994 تبقى ملزمة للمقاول ابتداء مـن 16 ديسمبر 1997 وأن الاستناد على هذا النص الذي يهم النظام العام يعني ضمنياً من قبل الحكم إقرارا بإختصاصه في تطبيق قواعد النظام العام وحتى في إيقاع الجزاء المترتب عن عدم احترامها.

    وقد وقعت معاضدة هذا الموقف ضمنياً أيضاً حين الطعن بالإبطـال إذ لـم تثـر محكمـة الاستئناف من تلقاء نفسها أن هيئة التحكيم طبقت قواعد تهم النظام العام لإبطال الحكم التحكيم مما يدل على إقرارها بصفة أكيدة سلطة الحكم في تطبيق قواعد النظام العـام، وإن كـان هـذا الإقرار ضمنياً.

   وتدل هذه الأمثلة على أن النظام العام لم يعد إلا نادراً حاجزاً أمام اختصاص المحكمـين على شرط احترام قواعد النظام العام في الأصل والإجراءات.

ب-النظام العام ورقابة إجراءات التحكيم:

    إن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا يتمثل في تبين هـل أن عـدم احتـرام الإجـراءت الأساسية يعتبر من المآخذ التي تنصهر في إطار رقابة النظام العام حسب مفهوم القانون الـدولي الخاص، فيتمكن القاضي من إثارتها من تلقاء نفسه حين يطلب منه الاعتـراف بحكـم تحكيمـي والإذن بتنفيذه أو بإبطاله أو أنها تندرج فقط ضمن المآخذ التي يجب على الأطراف إثارتها، دون تمكين القضاء من إثارتها من تلقاء نفسه.

    وهذا التساؤل راجع إلى أن الفصلين 78-1 (الإبطال) و81 أولاً (الإعتراف والإذن بالتنفيذ) ينصان على هذا الجزاء وذلك إذا أثبت الطرف الرافض للاعتراف أو التنفيذ أو الـساعي إلـى الإبطال أن تشكيل هيئة التحكيم أو ما وقع إتباعه في إجراءات التحكيم كان مخالفـاً لمقتضيات اتفاقية تحكيم بصفة عامة أو لنظام تحكيم مختار أو لقانون دولة وقع اعتماده أو لقواعد أحكام هذا الباب المتعلق بتشكيل هيئة التحكيم. وهذا التساؤل الذي يطرح نفسه بالنسبة للقانون التونسي قـد طرح أيضاً في خصوص اتفاقية نيويورك لسنة 1958 لوجود نفس الصيغة تقريباً في المـادة 5-1- د ويمكن أن يطرح بالنسبة لعديد النصوص القانونية الأخرى على غرار القانون النمـوذجي للأنسيترال لسنة 1985 حيث نجد إحالة إلى رقابة الإجراءات بناء على طلب الطرف الـذي لـه مصلحة في ذلك في المـادة 34-2-1-4 (إلغـاء أو إبطـال) و36-1-أ-4 (الاعتـراف والإذن بالتنفيذ).

   وقد يجد من يستند على تأويل حرفي وشكلي للنصوص حجة في وجـود تنـصيص علـى الإجراءات في خصوص المسائل التي يثيرها الأطراف ليستنتج من ذلك أن المحاكم لا يمكن لها إثارة الإجراءات في إطار النظام العام حسب القانون الدولي الخاص ومن ثم فمتى لم يثر الطرف الذي له مصلحة مخالفة الإجراءات الأساسية يجد قاضي الرقابة يده مغلولة عن ذلك وما عليه إلا الإذن بالتنفيذ أو رفض الإبطال مهما كانت "العلل" الإجرائية للحكم التحكيمي الدولي.

   ورغم ما في هذا المنطق من وجاهة شكلية فإنه يبدو لنا ضعيفاً إذا استندنا إلى روح التحكيم الدولي وإلى كنه الرقابة ودور القضاء: لأن احترام الإجراءات الأساسية من جـوهر التحكـيم، وبدونه تنعدم صفته كقضاء، ومن ثم لا يمكن تبرير ترك الإثارة فقط للأطـراف ومنـع قاضـي الرقابة عن ذلك.

   وهذا ما برر أن المحاكم دأبت على اعتبار خرق الإجراءات الأساسية منصهراً في النظـام العام حسب القانون الدولي الخاص مما يمكن القاضي من إثارته مـن تلقـاء نفـسـه إذا سـكت الأطراف عن ذلك. وعلى سبيل المثال يمكن ذكر القرار عدد 31- 32 لمحكمة الاستئناف بتونس المؤرخ في 12 جانفي 1999 والذي جاء به في خصوص مبدأ حياد المحكم وهو من الإجراءات الأساسية ما يلي: "وحيث أن الحياد هو الصفة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها القاضي سـواء كان قاضياً عدلياً أم قاضياً خاصاً وفي غيابها تفتقد الثقة في العدالة وعليه فإن الانحياز إلى احـد الخصوم إن ثبت يجعل القرار التحكيمي مخالفاً للنظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص مما يصيره حرياً بالإبطال عملاً بالفصل 78 من مجلة التحكيم".

   كما أن الفقه المقارن وخاصة الشارح لاتفاقية نيويورك يؤكد أن ذكر الإجراءات الأساسـية للتحكيم في إطار المطاعن التي يثيرها الأطراف لا يعفي من أنها تنصهر في النظام العام ويمكن لقاضي الرقابة، بل يجب عليه، إثارتها من تلقاء نفسه إذا لم يثرها الأطراف، أما التكرار فيبدو أنه اعتمد للتأكيد نظراً للأهمية القصوى لهذه الإجراءات. وهذا الموقف جاء مثلاً على لسان الفقيه أ- ر. بروتونز في درسه في أكاديمية لاهاي للقانون الدولي: "إن هذين التنصيصين (في الفصل 5- 1-أ والفصل 5-2-ب من اتفاقية نيويورك) يتكاملان، إذ يهدف كلاهما إلى أن يكون سدا أمـام الأحكام التي تبدو للسلطة المعنية في بلد التنفيذ مخالفة للإجراءات التي تعتبرهـ هـذه الـسلطة أساسية ومن ثم فإن هذا التكرار والتزيد تفسيره بسيكولوجي أو نفسي" .

   وإن الصعوبة الأساسية وبالأحرى التحدي الأساسي المطروح أمام قاضي الرقابة سواء كان قاضي إبطال أو تنفيذ يتمثل في تحديد مفهوم الإجراءات الأساسية، وهو مفهوم مطـاط، يحتمـل التوسيع والتضييق، ويستحيل فيه على غرار جميع المفاهيم ذات المحتوى المتغير تحديـد قائمـة جامدة تحتوي على ما ينصهر في الإجراءات الأساسية.

    والمهم بالنسبة للقاضي هو أن يتمكن من خلال تحديده للإجراءات الأساسية من تحقيـق توازن بين مرونة التحكيم التي لا بد من الحفاظ عليها، وضرورة حماية الأسس الإجرائية التي يفقد بدونها هذا التحكيم صفته كقضاء. ومن ثم فكل إفراط في مفهوم الإجراءات الأساسية قـد يؤول إلى المس من مرونة الإجراءات التحكيمية ومن خصوصيتها. في حين أن التفريط فـي تحديد ما هو أساسي قد يؤول إلى جعل التحكيم غير محترم لصفته كقـضاء وغيـر محقـق للعدالة.

   وهذا التوازن الذي ما فتئ القضاء التونسي يحاول تحقيقه يجعل جل الأحكام تؤكـد علـى بعض المبادئ الإجرائية الجوهرية وتدمجها ضمن هذا المفهوم مـع تـرك الحريـة للأطـراف والمحكمين في تحديد إجراءات التحكيم فيما عدا ذلك.

   ويمكن الإشارة في هذا الصدد كمثال على هذا الاتجاه العام لما ورد في القرار الاستئنافي عدد 51 المؤرخ في 15 فيفري 2000 عند تحديده لمفهوم الإجراءات الأساسـية الـواردة فـي الفصل 13 من مجلة التحكيم، أي في الأحكام المشتركة بين التحكيمين الداخلي والدولي: "وحيث يتضح من النص المذكور أن القواعد الأساسية للإجراءات هي صفوة القواعد الإجرائيـة وهـي القواعد التي لا يمكن دون احترامها إصدار قرار عادل أو ضامن لحد أدنى من العدالة. وأهمهـا احترام حق الدفاع، وإنه بربط النص المذكور بأحكام الفصل 63 من مجلة التحكيم يتضح أن من القواعد الأساسية للإجراءات أيضا مبدأ المساواة .

   وهذه الإشارة إلى "صفوة القواعد الإجرائية" على غاية من الأهمية، إذ تدل علـى تـوخي القضاء منهجاً ضيقاً في تحديد قواعد الإجراءات الواجب احترامها من قبـل المحكـم، وخاصـة المحكم الدولي، حيث تترك لإجراءات التحكيم مرونتها دون التضحية بالقواعد الضرورية في كل قضاء، سواء كان عموميا أو خاصاً.

   وتنحصر هذه القواعد الأساسية حسب فقه القضاء التونسي الغالـب فـي بعـض المبـادئ الجوهرية والمتمثلة خاصة في:

   - مبدأ المساواة بين الأطراف وحياد المحكم، وهو مبدأ نصت عليه مجلة التحكـيـم بـصيغة آمرة في الفصل 63: يجب أن يعامل الأطراف على قدم المساواة وأن تهيأ لكل مـنهم فرصـة كاملة للدفاع عن حقوقه". وتطبيقاً لهذا المبدأ اعتبرت محكمة الاستئناف بتـونـس فـي قرارهـا المؤرخ في 12 جانفي 1999 أن "الحياد هو الصفة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها القاضي سواء كان قاضيا عدلياً أم قاضياً خاصاً، وفي غيابها تفتقد الثقة في العدالة وعليه فإن الانحياز إلى احد الخصوم إن ثبت يجعل القرار التحكيمي مخالفا للنظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص مما يصيره حريا بالإبطال عملا بالفصل 78 من مجلة التحكيم".

- احترام حق الدفاع ومبدأ المواجهة: وقع أيضاً تأكيد القضاء عند الرقابة على أهمية، ان لم نقل "قدسية"، هذا المبدأ في إجراءات التحكيم، إذ لا يمكن المساس به سواء كان التحكيم داخلياً أو دولياً، حسب القانون أو تحكيما مصالحا، وفي هذا الإطار جاء بالقرار الاستئنافي عـدد 101 المؤرخ في 23 اکتوبر 2001 ما يلي: اقتضى الفصل 13 من مجلة التحكيم في فقرته الأخيرة أنه وفي جميع الصور تراعي المبادئ الأساسية للمرافعات المدنية والتجاريـة وخاصـة منـهـا المتعلقة بحق الدفاع كما اقتضى الفصل 63 من نفس المجلة أنه يجب تهيئة فرصة كاملـة لكـل طرف للدفاع عن حقوقه. وحيث أن المشرع قد اختار التأكيد وبوجه صريح على أحـد المبـادئ الأساسية للإجراءات الواجب احترامها من قبل المحكمين أيا كان صنف التحكيم معتبراً أن ذلـك المبدأ هو مبدأ جوهري ضمن المبادئ الأساسية للإجراءات وإن احترام حق الدفاع يقتضي أنـه لكل خصم الحق في الإطلاع على جميع أوراق النازلة بما في ذلك تلك المدلى بها من الخـصم وتلك التي تتوصل بها هيئة التحكيم من خلال جميع الأعمال سواء الاستقرائية والاستقصائية التي تجريها هيئة التحكيم إما بواسطة أعضائها أو بواسطة الغير كالاختبارات، كما يقتضي ذلك المبدأ تمكين الطرفين من الرد على دعاوى خصومهم والدفاع عن أنفسهم. وحيث أن الثقة في العدالـة سواء كانت خاصة أو عامة لا يمكن أن تقوم إلا إذا وقع تمكين المتقاضين من الدفاع عن أنفسهم، وعليه فإنه لا يجوز السماح بخرق المبدأ بأية علة كانت...وحيث أن خرق هيئة التحكـيم لمبـدا المواجهة وحقوق الدفاع لا يمكن إلا أن يشيب قرارها بالبطلان مهما كانت سلامة المنطق الـذي قام عليه، وتعين حينئذ قبول المطعن المتعلق بذلك ..."

   وانه لمن المهم الإشارة إلى أن المحاكم التونسية، كثيراً ما رفضت التوسـع فـي مفهـوم الإجراءات الأساسية مقتصرة على هذه المبادئ الجوهرية المتمثلة في المساواة بين الأطراف وما تفترضه من حياد في المحكم واحترام حقوق الدفاع.

    هذا وإن فرض احترام هذه المبادئ من قبل القضاء لا يعفي طالب الإبطال من إثارة كل ما من شأنه المس من حقه في الدفاع في الإبان وإلا عد متنازلاً عن إثارة ذلك الدفع طبقا للفصل 50 من مجلة التحكيم: "يعتبر متنازلاً عن حقه في الدفع كل طرف مع علمه بمخالفة شرط من شروط التحكيم أو نص من نصوص هذا الباب التي يجوز للأطراف التمسك بها يستمر فـي إجـراءات التحكيم دون أن يبادر إلى الدفع حالاً أو خلال الأجل إن سبق تعيينه".

   وفي هذا الإطار قضت محكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 21 المؤرخ في 4 جـوان 1997 أنه لا يمكن القيام بطلب في الإبطال على أساس عدم احترام الحق في الدفاع المتمثل في تقديم تقرير بضعة أيام قبل المرافعة إذا لم تثر هذه الطاعنة أي احتراز أثناء سير الإجـراءات وترافعت في القضية دون إثارة هذه المسألة: لما كان يتبين من مظروفات ملف القضية وخاصة من فحوى محضر جلسة المرافعة المنعقدة يوم 21 أكتوبر 1996 أي قبل موعد الجلسة بأيام، ما دام أنه قد أتيحت لها الفرصة لإبداء ما لها من دفاع أو على الأقل تسجيل احترازها على مقتضى الفصل 50 من مجلة التحكيم الذي يجعل استمرارها في إجراءات التحكيم دون أن تبادر إلى الدفع حالا تنازلا عن حقها في ذلك الدفع".

   ومن المعلوم أن المحكمة عند الرقابة، وحين تعمل الفصل 50، فإنها لا تتخلى عـن حـق الدفاع "كمبدأ إجرائي جوهري، وإنما تؤوله بصفة تسمح بإحترام مبدأ النزاهة الذي يفترض عدم الخديعة وترك بعض المسائل الإجرائية غير المثارة أثناء سير الإجراءات لإثارتها بعد صـدور الحكم التحكيمي، إذا لم يحقق المرجو أصلاً، في إطار دعوى إبطال .

   وان الإقتصار على رقابة احترام "صفوة" الإجراءات، يبرر أن المحاكم التونسية تجنبـت إبطال بعض الأحكام التحكيمية التي لم تحترم قواعد إجرائية غير أساسية. ومثـل ذلـك غيـاب الرخصة الإدارية بالنسبة للقاضي أو للعون العمـومي المفروضـة فـي التحكيمـين الـداخلي والدولي . فهذه مثلا محكمة الاستئناف بتونس تعتبر في القرار عدد 39 المؤرخ في 15 جـوان أن غياب الرخصة الإدارية لا يؤدي إلى بطلان الحكم التحكيمي على أساس صـدوره عن هيئة تحكيم مختلة: إن الأستاذ الجامعي الذي هو في نفس الوقت محام غيـر مـعفـى مـن الرخصة الإدارية المسبقة لممارسة التحكيم لأن صفته كعون عمومي تلازمه أياً كان النشاط الذي يمارسه، إلا أن عدم حصول العون العمومي على الرخصة المسبقة وإن كان يمثل خطأ مهنيا فهو ليس سبباً مبطلاً لقرار التحكيم" .

 ونجد نفس هذا الاتجاه المضيق في مفهوم الإجراءات الأساسية في القرار الاستئنافي عـدد 61134/61133 المؤرخ في 19 أكتوبر 1999. ففي هذه القضية قدم طالب الإبطال ما يـدل على أن عريضة الدعوى لم تحتو على بيان الطلبات منذ الجلسة الأولى معتبراً أن في ذلك خرقاً للإجراءات الأساسية. لكن محكمة الاستئناف التي سايرت طالبة الإبطال في اتجاه وجود قاعـدة تفرض بيان الطلبات في العريضة الافتتاحية للدعوى اعتبرتها قاعدة غير أساسية، لا يمكن على أساسها إبطال القرار التحكيمي: "وحيث أن قاعدة وجوب تقديم عريضة الدعوى وبيان الطلبـات منذ الجلسة الأولى لهيئة القضاء هي قاعدة إجرائية لا محالة، إلا انه لا يصح وصفها بالأساسـية طالما أن لا علاقة لها بمبدأ احترام حق الدفاع والمواجهة بين الخصوم والمساواة وحيـاد هيئـة التحكيم".

    وتظهر مرونة القضاء في رقابة هيئات التحكيم للإجراءات الأساسية من خلال فهـم دقيـق لحق الدفاع: فهذا الحق لا يفرض الرد على جميع الدفوع حتى التي لا تكون جدية وقـد أكـدت محكمة التعقيب ذلك أخيرا في القرار عدد 26338 المؤرخ في 28 ماي 2009 والذي جاء به أنه لا يفترض الرد وجوبا على جميع الدفوعات وإنما يقتصر الأمر على بيان المنهج الذي سلكته هيئة التحكيم في مراحل تفكيرها للتوصل إلى القناعة بالحكم الذي أصدرته مما تجعله وليد مراحل منطقية مبررة ولم يكن نتيجة نزوة أومن محض الصدفة ولذلك فإنه لا يتوجب على هيئة التحكيم الرد على جميع الدفوعات خاصة وأن المحاكم القضائية لا يحق لها تفحص المعطيات والدفوعات لإعادة تقييم الوقائع ومراجعة النزاع وطبيعته وطريقة فصله وإنما يقتصر نظرها على التثبت من احترام ما أوجب القانون احترامه ورتب عن الإخلال به بطلان القرار التحكيمي وهـي صـورة محدودة بالنص ولا يحق التوسع فيها ".

      ونجد نفس هذا التوجه في قرار محكمة الاستئناف بتونس عدد 30536 المؤرخ في 7 جوان 2005، حيث اعتبرت طالبة الإبطال أنه وقع المس من حقها في الدفاع إذ طلبت تعيين خبيـر ولم تجب إلى ذلك من هيئة التحكيم. وعلى عكس هذا الموقف ساندت محكمة الاستئناف هيئـة التحكيم في هذا الرفض إذ اعتبرت أن الهيئة أجابت عن ذلك بتأكيدها علـى أن سـقوط دعـوى الضمان يجعل تعيين خبير غير ذي جدوى.

    وفي نفس هذه القضية نجد نفس المرونة في التمشي في خصوص واجب حجـز القـضية للمفاوضة وذلك لأن محكمة الاستئناف اعتبرت أن "عدم التنصيص على حجز القضية للمفاوضة لا ينجر عنه إيطال القرار التحكيمي طالما أن التنصيص على وقوع حجـز القـضية للتـصريح وصدور القرار التحكيمي من طرف الهيئة التحكيمية بعد إمضاء كافة المحكمين عليه يفيد وقـوع التفاوض بين المحكمين المذكورين واحترامهم لمتقضيات الفصل 30 من مجلة التحكيم" .

    ونجد نفس هذا التمشي المرن في خصوص تعليل أو تسبيب الأحكام التحكيمية، فمن المعلوم أن التعليل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الدفاع، إذ يسمح التعليل بتبين أن المحكمين قد تمعنـوا فـي طلبات الأطراف واتخذوا موقفاً منها. ومحكمة التعقيب في قرارها عدد 2007/20596 المـؤرخ في 27 نوفمبر 2008 اعتبرت أنه من الضروري وجود تعليل للحكم التحكيمـي لـكـن محكمـة الرقابة تقتصر صر على التثبت من وجود التعليل، دون أن يكون ذلـك مطيـة لمراجعـة الحكـم التحكيمي، إذ يقتصر دورها على رقابة شكلية دون إمكان الولوج إلى أصل النزاع للتأكـد مـن صحة التعليل، ومن ثم فإن مجرد وجود تعليل يكفي لاستيفاء هذا الواجب واعتبار أنه تم احتـرام الإجراءات الأساسية، بإستثناء الحالة التي قد يوجد فيها تناقض في التعليل وهي حالة شبيهة بعدم وجود تعليل: "حيث أن تعليل القرارات التحكيمية من الضروريات المحمولـة وجويـا علـى المحكمين حسبما يقتضيه الفصلان 30 و 75 من مجلة التحكيم إلا أن الأسانيد لا تقتضي أن تكون عادلة في مضمونها سواء فيما يتعلق بالوقائع أو بالقانون وإنما يكفي أن تكون مقنعـة ومرتبطـة الصلة بموضوع القرار.

   وحيث أنه ترتيباً على ذلك فإن تعليل القرارات التحكيمية يمكن أن يقتصر على مـا تحتمـه طبيعة النزاع وهو ما يعفي من شمول الرد على جميع دفوعات الاطراف.

   وحيث أنه لا يمكن إيطال القرار التحكيمي إلا إذا كان فاقداً تماماً للتعليل أوإذا كانت أسانيده متناقضة مما يجعلها في حكم العدم..."

    وتظهر المرونة أيضاً في أحكام أخرى عديدة منها على سبيل الذكر القرار الاستئنافي عـدد 56 المؤرخ في 13 مارس 2001، والذي تمسكت به الطاعنة بالإبطال في قرار تحكيمي، بأنه لخص مقالات الأطراف تلخيصاً مخلاً، فما كان من محكمة الاستئناف إلا أن أوضحت أن "هيئـة التحكيم ليست مطالبة بنقل كل ما ورد في تقارير الأطراف حرفياً ونسخها مثلما وردت عليها بل هي ملزمة بنقل التقارير والمؤيدات ووضعها على ذمة أطراف النزاع حتى يتمكنوا من الاطلاع عليها ومناقشتها وهو أمر جوهري وأساسي وبدونه يحصل إخلال بالإجراءات الأساسية لحقوق الدفاع، كما أنها مطالبة عند إصدار القرار التحكيمي بذكر ملخص مقالات الخصوم وبيان المستندات الواقعية والقانونية...".

   وإنه من الجدير في النهاية الملاحظة أن وجود اتجاه غالب في فقه القضاء يحقق توازناً بين ضرورة احترام الإجراءات الأساسية المتمثلة خاصة في احترام حقوق الـدفاع والمساواة بـين الأطراف وحياد المحكمين وضرورة ترك مرونة للإجراءات التحكيمية المؤسسة قبل كل شـىء على حرية الأطراف أو استقلالية هيئة التحكيم لا يمنع من وجود بعض القرارات المنعزلة التـى ضاع فيها هذا التوازن، إما بتحررية مفرطة فرطت في ضرورة احترام جوهر إجراءات التحكيم وطابعه القضائي أو بتشدد في القواعد الواجب احترامها بشكل يجعل من هيئة التحكيم نسخة مـن القضاء العدلي، مما يؤدي إلى نزع جدوى اللجوء إلى الإجراءات التحكيمية المتمثلة أساساً المرونة والحرية.

   ويمكن للدلالة على الاتجاه الأول المفرط في التحررية ذكر القرار الصادر عـن محكمـة الاستئناف بتونس عدد 6 المؤرخ في 3 جانفي 1996، الذي لم يبطل قراراً تحكيميا استند على تقرير لم يعرض على أحد الطرفين، ووقع من ثم المس بوضوح من حقوق الدفاع ومـن مبـدأ المواجهة، ولكن هذا لم يمنع محكمة الاستئناف من تعليل موقفها كما يلي: "...وحيث فضلاً عـن أن المحكم هو مفاوض مصالح وغير ملزم بالتقيد بالمقتضيات القانونية ويجـري قـضاءه علـى مقتضى العدل والإنصاف فإن قاعدة الاطلاع لا تعد من قواعد الإجراءات الأساسية، لأن الاطلاع في حد ذاته ليس علة وضع هذه القاعدة...ما دام الطرفان على علم بتقديم كل منهما لتقرير أخير يتعلق بآثار التسليم المؤقت للأشغال ..."

   وإنه لا يمكن قبول مثل هذه التحررية إذ يفقد النزاع كل معنى إذا لـم يقـع احـتـرام مـبـدأ المواجهة ولا يمكن أن تبرر صفة التحكيم كمصالح تجاوز هذه القواعد الأساسية، بإعتبــار أن صفة المحكم المصالح تخص أصل النزاع ولا يمكن لو قبلنا جدلاً أنها تهم الإجراءات أن تمكـن المحكمين من عدم تطبيق القواعد التي تهم النظام العام ومن أهمها مبدأ المواجهة.

    وعلى خلاف هذا الاتجاه المفرط في التحررية تجاه الإجراءات التحكيمية نجد اتجاها آخـر يعرض الإجراءات التحكيمية إلى رقابة مشددة ويوسع في مفهوم الإجراءات الأساسية. فهذه مثلاً محكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 65 المؤرخ في 27 مارس 2001 تفرض على هيئـة التحكيم أن تقوم بتحديد موعد جلسة مفاوضة، وأن لا تتلقى ملحوظات أو تقارير بعد هذا التاريخ: إن هيئة التحكيم لم تحدد موعد جلسة المفاوضة بل أكثر من ذلك فإنها صرفت القضية للمفاوضة وفتحت الباب أمام طرفي النزاع لتبادل التقارير والملحوظات إلى حدود ثلاث مرات لكل طـرف ومثل هذا الإجراء يشكل خرقاً صارخاً لمبادئ القواعد الإجرائية ولما جاءت به أحكـام الفـصل 119 م.م.م.ت، إذ تقتضي أحكام هذا الفصل تعيين موعد جلسة المفاوضة وتمنع علـى الهيئـة القضائية قبول ملاحظات أو حجج من الخصوم إلا في بعض الحالات الاستثنائية..."

   وهذا الموقف من المحكمة وقع نقده من المعلقين على أساس أنه يتجـاوز مجـرد محاكـاة الإجراءات الواجبة أمام المحاكم العدلية ليفرض على المحكم ما يبيح للحاكم تجاوزه، في حين كان يجب تكريس حرية للأطراف أو للمحكوم في تحديد إجراءات التحكيم شرط احترام صفوة القواعد الإجرائية المذكورة آنفاً.

   ونجد نفس التشدد في القرار الاستئنافي بتونس عدد 115 المـؤرخ فـي 8 أكتوبر 2002 والذي جاء به فرض مرور القضية بجلسة مرافعة وإلا عرضت للبطلان، في حين لا يمس غياب جلسة المرافعة من المبادئ الجوهرية للإجراءات، ولا يؤول بالضرورة إلـى المـساس بمبـدأ المواجهة أو بحقوق الدفاع.

   ويمكن أن نذكر في نفس الاتجاه قرار محكمة الاستئناف بتونس عدد 106 بتاريخ 8 جانفي 2002، حيث وقع الطعن في حكم تحكيمي حرر نصفه الأول باللغة الفرنسية ونـصفه الثـاني بالعربية. وإنه من المؤكد أنه كان يجب على هيئة التحكيم تجنب حكم بلغتين وذلك بترجمة بعض التقارير المقدمة من الأطراف وتلخيصها... ولكن مجرد تحرير الحكم بلغتين وإن كـان حـسب رأينا قابلاً للنقد فهو لا يكفي وحده كسبب لإبطال الحكم التحكيمي إذا وقع احترام حقوق الـدفاع وبقية الإجراءات الأساسية. ولكن محكمة الاستئناف بتونس تبنت موقفاً مغايراً تماماً إذ اعتبـرت أن كتابة الحكم بلغة واحد يعد من الإجراءات الأساسية في ذاته، مما يؤول بصفة آلية في حالـة الكتابة بأكثر من لغة إلى بطلان الحكم التحكيمي وهذا الموقف يمكن اعتباره متشدداً وموسـعاً لإجراءات التحكيم الأساسية.

    ونجد في نفس هذا الاتجاه المضيق لحرية المحكمين والأطراف، حكم محكمـة الاستئناف بتونس عدد 101 بتاريخ 23 أكتوبر 2001، التي اعتبرت أن تجاوز المحكمين لأمر القـضاء بإيقاف إجراءات التحكيم لوقوع تجريح في المحكمين يعد خرقاً لإجراء أساسـي يعـرض حكـم المحكمين للإبطال. وقد وقع انتقاد هذا الحكم على أساس أنه يوسع في الرقابة ويمس من استقلالية إجراءات التحكيم الدولي .

   وعلى غرار ما نجده في الإجراءات فإن رقابة النظام العام في الأصل ضـيقة مبدئياً ولا يجب أن تؤول إلى مراجعة للأحكام التحكيمية الدولية وإن كان الطابع المتغير لهذا المفهـوم قـد يؤدي إلى ذلك.

ج/ النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص والرقابة من حيث الأصل:

   دأبت المحاكم التونسية على التأكيد أنها حين تتدخل كمحكمة رقابة سواء كمحكمة إبطـال أو في مادة الإذن بالتنفيذ فإن دورها يقتصر على رقابة شكلية ومحدودة مرتبطـة حـصراً بمـا ورد بالفصلين 78 و81 من مجلة التحكيم، ولا يمكنها من خلال الرقابة الولوج إلى أصل النزاع وإعادة النظر في الوقائع أو في مدى صحة تطبيق القاعدة القانونية من قبل المحكم وإلا لانحرفنا بالمراقبة إلى نظام مراجعة، التي تخلى عنها القانون التونسي والقوانين المقارنة، وهو نظام يخل بالاستقلالية النسبية المعطاة للمحكم، وخاصة الدولي، ويعارض السياسة التشريعية التونسي المـشجعة للتحكـيم التجاري الدولي، والساعية إلى أن تصبح تونس مركزاً من مراكز التحكيم الدولي.

    وفي هذا الإطار وقبل إجراء محكمة الاستئناف بتونس في القرار عدد 7023 المؤرخ فـي 04 ماي 2004 رقابتها كمحكمة إبطال على مدى احترام النظام العام حسب القانون الدولي الخاص أكدت على حدود الرقابة: "... وحيث أن دور هذه المحكمة المتعهدة بالنظر في إيط القرار التحكيمي هو دور مراقبة شكلية يقوم بها القضاء في إطار الفصل 78 من مجلة التحكـيم في حدود الصور الواردة على سبيل الحصر صلب الفصل المذكور والتي تتعلق أساساً بالأهليـة واحترام مبدأ المواجهة والدفاع ووجود الشرط التحكيمي واحترامه من قبل هيئة التحكـيم، هـذا إضافة إلى احترام حكم التحكيم النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص".

    وهذه الرقابة المحددة لمحاكم الإبطال والإذن بالتنفيذ، لا تطرح إشكالاً في كافة أوجه هـذه الرقابة، بإستثناء رقابة النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص. وذلك راجع أولاً إلى الطابع المتغير والمطاط لهذا المفهوم، مما قد يسهل الانحراف به لإخضاع أحكام التحكيم الدولية لرقابـة من حيث الأصل. ويضاف إلى هذا أن الرقابة الشكلية تفترض الأخذ بفهم المحكم للوقائع وتكييفها دون إعادة النظر فيها بمناسبة الرقابة، وهذا ما طرح إشكالاً كبيراً فـي القـانون المقـارن فـي خصوص رقابة النظام العام إذ نجد خاصة في القانون الفرنسي اتجاهين متضاربين:

   -   اتجاه أول يسير إلى إدماج النظام العام كغيره من أسباب الرقابة فـي إطـار الرقابـة الشكلية، وهو يدافع عن رقابة دنياً للنظام العام على أساس أن حكم التحكـيم الـدولي" لـيس مسودة يحسنها قاضي الرقابة بل هو حكم نهائي ويجب أن يبقى كذلك. وهذه الرقابـة الـدنيا تفترض حسب هذا الشق من الفقهاء أن لا يعاد بمناسبة الرقابة النظر في أصل النزاع من جديـد ومن ثم فيجب الاقتصار على ملاءمة الحل التحكيمي للنظام العام دون عـود إلـى الوقـائع أو التكييف الذي به هذا الحل، ودون رجوع إلى رقابة التعليل الذي تبقى هيئة التحكيم حرة فيه على شرط وجوده شكلياً فحسب وإلا لوقع الانحراف بالرقابة إلى المراجعة.

   -  وعلى عكس هذا الاتجاه نجد تمشياً ثانياً يعتبر أنه من اللازم أن تكون الرقابـة رقابـة قصوى إذا تعلقت المسألة بالنظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص وإلا لانتقلنا إلى رقابـة صورية وظاهرية وغير فعلية، فتطبيق قاعدة من قواعد النظام العام تفتـرض ضـرورة الفهـم الصحيح للوقائع، والتكييف الصحيح من قبل المحكم لها إضافة إلى التطبيق السليم لهذه القواعـد ومن ثم وحتى تكون الرقابة فعلية فمن اللازم أن يحل قاضي الرقابة تماماً محـل المحكـم فـي تقديره للوقائع وتطبيقه للقانون".

     وإن فقه القضاء الفرنسي يكرس اليوم وبوضوح رقابة دنيا للنظام العام في مفهوم القـانون الدولي الخاص، وذلك خاصة منذ القرار الشهير Thales c/euromissiles لمحكمة الاستئناف بباريس المؤرخ في 18 نوفمبر 2004 .

    أما في القانون التونسي فإن المسألة لا تزال تحتاج إلى توضيح من فقه القضاء وذلك نظرا إلى أن محكمة الاستئناف بتونس وإن أكدت دوما على الرقابة الشكلية فإنها صرحت في قرارهـا الاستئنافي عدد 101 المؤرخ في 23 أكتوبر 2001 أن "نطاق رقابة محكمة الاستئناف علـى القرارات التحكيمية ينحصر في الجوانب الشكلية وخاصة منها الإجرائية المتعلقة بتكـوين هيئـة التحكيم وبسير الإجراءات أمامها إلا أن المشرع فتح باباً ضيقاً للرقابة على أصل الموضوع من خلال حرصه على حماية النظام العام".

   وإن عبارة "باب ضيق" للرقابة على أصل النزاع يعني أن رقابة النظام العام لها خصوصية مقارنة بالأسباب الأخرى إذ تسمح بالرقابة على أصل الموضوع، وتجنباً للانزلاق فـي نظـام المراجعة من خلال الولوج إلى أصل النزاع اعتمدت الحكمة عبارة "بابا ضيقا". وهذه العبارة وإن دلت على أن المحكمة لا تتجه إلى المراجعة وتحاول التضييق في نطاق الرقابة فإنها قاصرة عن بيان حدود هذه الرقابة وسلطات قاضي الرقابة: هل نسمح له على غرار دعاة الرقابة القـصوى في القانون الفرنسي "بالحلول" تماما محل المحكم في تقديره للوقائع وتطبيقه للقانون؟ أو سـنمنع عليه لأن هذا الباب ضيق إعادة النظر في أصل النزاع وكيفية تطبيق قواعد النظام العـام. فـى الحقيقة لا يمكن اليوم الحسم في أي اتجاه سيكون العمل القضائي، وذلك نظراً إلى كـون رقابـة احترام الحلول التحكيمية للنظام العام، تبقى بمثابة السلاح الذي يقع إشهاره مع الأمل فـي عـدم استعماله، وهو على كل حال نادر في فقه القضاء إذ تتجه معظم القرارات في مادة النظام العـام إلى رقابة مدى قابلية النزاع للتحكيم ومدى صحة وسلامة الإجراءات التحكيمية أما أصل النزاع فالمسألة تطرح نادراً سواء في القانون التونسي أو في القانون المقارن .

    وعلى كل حال فإننا، وإن كنا نعتبر أن نظرية الرقابة القصوى لها مبرراتها المنطقية، نرى أنه في بلد اعتمد حديثاً نظاماً قانونياً متكاملاً يخص التحكيم الدولي (مجلة التحكيم لـسنة 1993) من المستحسن اعتماد نوع من الرقابة الدنيا في خصوص النظام العام حتى نتجنـب أن تـصبح رقابة النظام العام مطية تسمح بمراجعة الأحكام التحكيمية الدولية ويقع اعتمادها لمعاكـسة إرادة المشرع التحررية تجاه التحكيم الدولي...

* * *

   وإنني في نهاية هذه المحاضرة التي تحاول استجلاء دور النظام العام عنـد رقابـة أحكـام التحكيم الدولية لا يمكن أن أخفي عنكم شعوري بأن من يركب مركب النظام العام لا يأمن، كمن يركب البحر، من الغرق. فعسى إن غرقت في هذا البحر المتلاطم الأمواج أن لا تبخلـوا علـي بملاحظاتكم التي ستكون لي بمثابة قارب النجاة...