الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم وقضاء الدولة / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن / التعديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    805

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

1- يتبوأ التحكيم مكاناً بارزاً كواحد من أهم وسائل حسم منازعات التجارة الدوليـة والمحليـة على حد سواء، وذلك لما يتمتع به من مزايا تستند أساساً إلى مبدأ سلطان الإرادة الذي يمنع القضاء الوطني من نظر النزاع ويمنح المحكم سلطة الفصل فيه.

2- ولعل أهم مزايا التحكيم التي مكنته من تبوأ هذه المكانة أن الحكم الصادر فـي موضـوع الدعوى التحكيمية يتمتع بالنهائية Finality فينهي الخصومة بين الأطراف ويحوز حجيـة الأمر المقضي ويعتبر عنواناً على الحقيقة مثله مثل الأحكام النهائية الصادرة من القـضاء الوطني.

3- وقد حرصت معظم التشريعات الوطنية الخاصة بالتحكيم على تحقيـق هـذه النهائيـة، إذ استبعدت إمكانية الطعن في أحكام التحكيم بالإستئناف وقصرت طرق الطعـن حـكـم التحكيم على وسيلة وحيدة هي دعوى بطلان حكم التحكيم، وذلك استناداً إلى أسباب شـكلية محدودة واردة على سبيل الحصر بحيث لا يجوز القياس عليها.

4- وتدور هذه الأسباب المحدودة بصفة عامة حول سلامة العملية التحكيمية من حيث الـشكل والإجراءات بدءاً من اتفاق التحكيم والأهلية اللازمة لإبرامه مـروراً بنزاهـة إجـراءات التحكيم وعدالتها وضرورة احترام حقوق الدفاع ومبدأ سلطان الإرادة وكذلك صحة تشكيل هيئة التحكيم والتقيد بحدود ونطاق مهمة المحكمين وصولاً إلـى صـحة حك سـحة حكـم التحكـيم وإجراءاته، فضلاً عن ضرورة عدم مخالفة حكم التحكيم للنظام العام.

5- وبطبيعة الحال، فإن هذه الأسباب التي تصلح أساساً للطعن بالبطلان علـى حـكـم التحكـيم تتعلق جميعها بالشكل وبالإجراءات دون موضوع النزاع الذي يظل محصناً ولا يملك قاضي و البطلان التعرض له أو إعادة طرحه من جديد أو مناقشة مدى صواب أو خطأ ما ذهب إليـه حكم المحكمين في شأنه أو التصدي لفهم المحكمين للواقع أو تطبيقهم للقانون، فهـذه حـالات تخرج عن النطاق التقليدي لدعوى البطلان وإن كانت مقبولة في إطـار طـعـن بالاستئناف حرصت معظم التشريعات الوطنية، كما أسلفنا، على استبعاد إمكانية إقامته بخصوص أحكـام المحكمين، وذلك احتراماً لإتفاق الأطراف وتأكيداً على نهائية هذه الأحكام.

6- وقد بلغ حرص المشرع الوطني في معظم دول العالم على ضمان نهائية أحكام التحكيم أن أصبح تحقيق هذه الغاية من أهم السياسات المتبعة في مجال التحكيم تماماً كسياسة المشرع الوطني الرامية إلى تيسير تنفيذ أحكام المحكمين، وذلك عن طريق تضييق حالات البطلان وتقييد أسباب رفض الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين تحقيقاً لفاعلية العمليـة التحكيميـة، بحيث أصبحت الرقابة القضائية التقليدية على أحكام المحكمين تتم في أضيق الحدود.

7- وإذا كانت هذه السياسة تضمن إلى حد كبير تحقيق أهم هدفين من أهداف الإلتجاء للتحكيم، ألا وهما الفاعلية في حسم المنازعات وتفادي إطالة الوقت وإضاعة المال فـي إجـراءات مطولة أمام القضاء الوطني المزخم بالقضايا، إلا أن تزايد عدد التحكيمات وتطور وتشعب المشاكل المطروحة على المحكمين، فضلاً عن تفاوت الخبرات والإمكانيات المتوافرة فيمن يتولى هذه المهمة الدقيقة من قانونيين أو غيرهم، كل هذه العوامل ساهمت في صدور بعض الأحكام التحكيمية التي تجاوزت فيها أخطاء المحكمين مجرد الأخطاء الحسابية أو الغموض في منطوق الحكم أو إغفال الفصل في بعض الطلبات، وهي أخطاء عادة ما يمكن تداركها عن طريق تقديم طلبات تصحيح أو تفسير أو إصدار أحكام إضافية، فقد امتدت في الواقـع أخطاء بعض المحكمين لتشمل أيضاً الخطأ في تطبيق القانون والخطأ في تفسيره وسوء فهم الوقائع. فهل يترك الأمر لإتفاق أطراف العملية التحكيمية؟ إن شاءوا تحصين حكم التحكيم اتفقوا على استبعاد كافة وسائل الطعن أو على الأقل تضييق نطاقهـا، وإن فـضـلوا عـدم المخاطرة اتفقوا على توسيع نطاق الرقابة القضائية على أحكام المحكمين.

8- ولا جدال في أن هذا التساؤل يتعلق بدوره بالتوازن الواجب إعماله بين مقتضيات احتـرام إرادة الأطراف واعتبارات العدالة، فهل يجوز للأطراف التـدخل بالتعـديل فـي التنظـيم التشريعي للرقابة القضائية على أحكام المحكمين، سواء بالإستبعاد أو التضييق أو التوسيع، أن هذه الرقابة تعد من صميم عمل المشرع الوطني، وبالتالي لا يجوز الاتفـاق علـى تعديلها احتراماً لسياسة هذا المشرع وصيانة لإعتبارات العدالة.

9- سوف نحاول في هذا البحث الموجز الإجابة على هذا التساؤل من خـلال التعـرف علـى موقف التشريعات الوطنية والفقه والقضاء في بعض الدول العربية وأهم الدول الأوروبيـة وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بدور سلطان الإرادة في تعديل أسباب الطعن ببطلان أحكام المحكمين، بإعتباره أهم وسيلة من وسائل الرقابة القضائية علـى أحكـام التحكيم.

10- وفي سبيل التوصل إلى إجابة على هذا التساؤل سنقسم هذا البحث إلى قسمين نتعرض ف القسم الأول للصورة الأولى من صور التعديل الإتفاقي المحتمل للرقابة القضائية على حكم التحكيم والمتمثلة في الإتفاق على استبعاد إمكانية الطعن في حكم التحكيم أو تضييق نطـاق دعوى البطلان، أما القسم الثاني فنتناول فيه الصورة الأخرى وهي الاتفاق علـى توسـيع نطاق دعوى البطلان.

القسم الأول: استبعاد إمكانية الطعن في حكم التحكيم أو تضييق نطاق دعوى البطلان:

11- عندما يلجأ أطراف أي علاقة عقدية إلى التحكيم كوسيلة لحسم خلافاتهم، فإنهم يرتضوا في ذات الوقت إخضاع حكم التحكيم الصادر حسماً لهذه الخلافات للرقابة القضائية المعمول بها في مكان إصداره وبصفة أساسية رقابة قاضي البطلان طبقاً ووفقاً للحـدود المنـصوص عليها في القانون واجب التطبيق على إجراءات التحكيم في بلد مكان التحكيم.

12- وكما أسلفنا، فإن الغالبية العظمى من قوانين التحكيم تحصر طرق الطعن في أحكام التحكيم في إطار دعوى البطلان استناداً لأسباب إجرائية محدودة لا تتعلق بالموضوع.

13- بيد أنه في بعض الحالات قد يرغب الأطراف، ثقة منهم فـي جـودة وكفـاءة المحكمـين وحرصاً على سرعة وفاعلية العملية التحكيمية، في تحصين حكم التحكـيم ضـد الرقابـة القضائية في بلد إصداره، وذلك إما عن طريق استبعاد جميع وسائل الطعن في حكم التحكيم ومنها الطعن بالبطلان، أو عن طريق تضييق حالات البطلان الواردة في القانون واجـب التطبيق، وبالتالي الإتفاق على عدم الإعتداد ببعضها.

14- أما عن استبعاد الحق في الطعن ببطلان حكم التحكيم، وهو يمثل أقصى وأشد صورة مـن صور التعديل الإتفاقي للرقابة القضائية على أحكام التحكيم، فقد تفاوت موقـف المـشرع الوطني حياله بين الحظر المطلق للنزول المسبق عن الحق في الطعـن بـالبطلان وبـين السماح للأطراف بالاتفاق على استبعاد إمكانية إقامة هذا الطعن.

15- ويعد قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 من ضمن تلك القوانين التي تحظر الاتفاق المسبق على استبعاد الطعن بالبطلان ضد أحكام التحكيم، إذ نصت الفقرة الأولى من مادتـه (54) على أنه لا يحول دون قبول دعوى البطلان نزول مدعي البطلان عن حقه في رفعهـا قبل صدور حكم التحكيم، أي أن قانون التحكيم المصري لا يجيز النزول عن دعوى البطلان قبل ثبوت الحق في رفعها، أما النزول اللاحق على صدور حكم التحكيم، فهو جائز فقد يـتم هذا في صورة صلح تم بين الطرفين أو صفقة عقداها أو في إطار تنفيذ اختياري للحكم

16- وهذا هو ذات الموقف المتبع في سلطنة عمان، إذ تنص المادة (1/54) من قانون التحكـيم العماني رقم 47 لسنة 1997 على أنه لا يحول دون قبول دعوى البطلان نـزول مـدعي البطلان عن حقه في رفعها قبل صدور الحكم، كما نـصـت المـادة (243) مـن قـانـون المرافعات المدنية البحريني على أنه لا يمنع من قبول طلب البطلان تنازل الخصم عن حقه قبل صدور حكم المحكمين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بموجب المادة (25) من المرسـوم الملكي بقانون رقم (30) لسنة 2009 الصادر بتاريخ 29 يونيو 2009 بشأن غرفة البحرين لتسوية المنازعات الإقتصادية والمالية والإستثمارية، يجوز للأطراف الإتفاق كتابـة علـى اختيار قانون أجنبي بشأن النزاع وعلى ألا يطعن على حكم التحكيم أمام محاكم البحـرين وأن يكون الطعن على الحكم أمام الجهة المختصة في دولة أخرى. ويفهم من هذا الـنص إتاحة الإتفاق المسبق على استبعاد ليس إمكانية الطعن على حكم التحكيم وإنما اختصاص محاكم البحرين بنظر هذا الطعن.

17- وفي اليمن، استقر قضاء المحكمة العليا اليمنية على عدم جواز التنازل عن الحق في إقامة دعوى بطلان حكم المحكم قبل صدور هذا الحكم لأنه في هذه الحالة يكون تنازلا عن شيء غير معلوم".

18- أما عن الدول التي تسمح للأطراف بالإتفاق على استبعاد إمكانية الطعن في أحكام التحكيم، فتأتي بلجيكا في مقدمة تلك الدول، إذ تنص المـادة (2/1717) مـن قـانون المرافعـات البلجيكي على أنه يجوز للأطراف بموجب نص صريح في اتفاق التحكـيم أو فـي اتفـاق لاحق استبعاد أي طلب لإبطال حكم التحكيم على ألا يكون أي من الطرفين شخصاً طبيعياً يتمتع بالجنسية البلجيكية أو يقيم ببلجيكا أو شخصاً معنوياً له مقر رئيسي أو فرع بها.

19- وقد تبنى المشرع السويسري ذات الموقف، إذ تنص المادة (1/192) من القانون الدولي الخـاص السويسري على جواز اتفاق الأطراف صراحة في اتفاق التحكيم أو في اتفاق لاحق على استبعاد كافة أوجه بطلان حكم التحكيم أو تضييق حالاته المنصوص عليها في المادة (2/190) مـن ذات القانون بقصرها على واحدة أو أكثر من هذه الحالات، وذلك بشرط ألا يكون أي مـن أطـراف التحكيم الذي يجري في سويسرا مقيماً في سويسرا أو له محل إقامة معتاد أو محل عمل بها.

20- وبعد عدة أحكام قضائية لم يجد فيها القضاء السويسري اتفاقاً صريحاً على استبعاد إمكانية الطعن، أصدرت المحكمة العليا السويسرية عام 2005حكماً هاماً قامت بموجبه بتفعيل نص المادة (1/192) آنفة البيان، إذ وجدت في عبارات اتفاق التحكيم ما يدل على وجود اتفـاق صريح على استبعاد أي طريق من طرق الطعن في حكم التحكيم.

21- وتجدر الإشارة إلى أن المشرع التونسي قد تبنى ذات الموقف المتبع في القانون السويسري، إذ تنص المادة (6/78) من قانون التحكيم التونسي رقم 42 لسنة 1993 على أنـه يجـوز للأطراف الذين ليس لهم بتونس مقر أو محل إقامة أصلي أو محل عمل أن يتفقـوا علـى استبعاد الطعن كلياً أو جزئياً فيما تصدره هيئة التحكيم. وهذا النص واضح في أنه يجيـز الاتفاق ليس فقط على استبعاد كافة سبل الطعن في أحكام التحكيم، بل أيضاً على تضييق نطاق الرقابة القضائية على حكم التحكيم عن طريق استبعاد بعض أسباب الطعن.

22- ويخالف هذا الموقف المقرر في القضاء الفرنسي الذي عادة ما ينظر إلى التنظيم التشريعي لطرق الطعن في أحكام المحكمين بإعتباره من النظام العام، وبالتالي لا يجيـز للأطـراف الإتفاق سواء على استبعاد هذه الطرق أو حتى تضييق حالاتها".

23- أما في المملكة المتحدة، فلا يتناول قانون التحكيم الإنجليزي الصادر عـام 1996 مـسألة إمكانية الاتفاق على استبعاد الطعن أو تضييق حالات البطلان مكتفيا بالنص في القـسم 73 (1) منه على زوال الحق في الاعتراض أو الطعن في حكم التحكيم بصفة خاصة إذا لم يتم الاعتراض على عدم اختصاص هيئة التحكيم أو على عدم احترام اتفاق التحكيم أو إذا تـم الاستمرار في إجراءات التحكيم دون الاعتراض على أي خلل يعيب تشكيل هيئة التحكيم أو الإجراءات. وبناء عليه، فإنه قد يفهم ضمناً من هذا النص الخاص بالنزول عن الحق فـي الإعتراض أنه يشمل أيضاً إمكانية النزول عن حق الطعن في حكم التحكيم.

24- إذا كانت مسألة إمكانية الاتفاق على استبعاد أو تضييق نطاق الرقابة القضائية على أحكـام المحكمين قد تميزت بمساهمات الفقه والقضاء الأوروبي والعربي، فإن القضاء الأمريكـي كان سباقاً في تناول مسألة التوسيع الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكـام التحكـيم، وهو ما سنتناوله في القسم الثاني من هذا البحث.

القسم الثاني: توسيع نطاق دعوى البطلان:

25- يتناول هذا القسم مسألة إمكانية اتفاق الأطراف على توسيع النطاق التقليدي الضيق لرقابـة القضاء على أحكام التحكيم من خلال دعاوى البطلان، وذلك عن طريق إضـافة أسـباب أخرى غير تلك المنصوص عليها في قوانين التحكيم لإبطال الحكم، في محاولـة لتقريـب الرقابة المذكورة من تلك التي يباشرها قاضي الاستئناف.

26- فإذا كانت السياسة التشريعية المضيقة لحالات إبطال أحكام التحكيم تساهم بلا جـدال فـي جعل العملية التحكيمية أكثر فعالية من خلال تقليل الوقت اللازم للتوصل إلى نهائية الحكـم الصادر فيها، إلا أنه في الحالات التي يصدر فيها المحكمون أحكاماً مخالفة للقانون أو للواقع بسبب تفسير خاطئ لشروط العقد أو لنصوص القانون أو نتيجـة لـسوء تحـصيل الوقائع، يكون الحكم مع ذلك محصناً وغير قابل للمراجعة في ظـل الأسـباب الإجرائيـة التقليدية التي تقوم عليها دعوى البطلان.

27- ولذلك، فقد لوحظ أن هذه النتيجة الحتمية تقف عائقاً أمام التجاء بعض الأطراف إلى التحكيم لحسم خلافاتهم، وبالتالي يحاول هؤلاء إيجاد شبكه أمان" تتمثل في الاتفاق على تدخل أكبر وسلطات أوسع للقضاء الوطني في مجال الرقابة على أحكام المحكمين.

28- وقد كان القضاء الأمريكي سباقاً في التعرض لهذه المسألة، إلا أن بعض دوائـر محكمـة الاستئناف الاتحادية قد تبنت مواقفا متعارضة فيما يتعلق بمدى جواز إعمال وتفعيل اتفـاق الأطراف على توسيع نطاق الرقابة القضائية على حكم التحكيم، ويرجع هذا التعارض في الواقع إلى صعوبة الاتفاق على اعتماد تفسير واحد لنصوص قـانون التحكـيم الاتحـادي الأمريكي الخاصة بالطعن في أحكام المحكمين.

29- ففي عام 1997 أصدرت الدائرة التاسعة بمحكمة الاستئناف الاتحادية حكماً شهيراً في قضية Kyocera أكدت فيه سلطة الأطراف في تعديل نطاق الرقابة القضائية على حكم التحكـيم من خلال الاتفاق على توسيع حالات الطعن بالبطلان. وتجدر الإشارة إلى أن الأطـراف في هذه القضية قد اتفقوا صراحة في شرط التحكيم على وجوب تسبيب الحكم فيما يتعلـق بالواقع والقانون وأوضحوا أنه يجوز للقضاء الوطني إبطال الحكم إذا كانت الوقائع استند إليها المحكمون غير مؤكدة بأي دليل أو إذا أخطأ الحكم في التسبيب القانوني.

30- وبعد إصدار الحكم طعن عليه أمام محكمة أول درجة التي رفض قـضاتها بـشكـل قـاطـع التعرض لأسباب الحكم وفهمه للواقع والقانون معتبرين أن أسباب الطعن في أحكام التحكيم واردة على سبيل الحصر في قانون التحكيم الاتحادي ولا يجوز الاتفـاق علـى توسيعها بموجب نص تعاقدي. بيد أن محكمة الاستئناف لم تؤيد هذا القـضاء وأعـادت الـدعوى لمحكمة أول درجة لإعادة النظر في حكم التحكيم في ضوء النصوص التعاقدية"، وبالتالي اعتمدت حرية الأطراف في الاتفاق على توسيع حالات الطعن ببطلان أحكام التحكيم.

31- وقد اختلف الفقه اختلافاً كبيراً حول هذا الموقف القضائي المؤيد للتعديل الاتفـاقي للرقابـة القضائية على أحكام التحكيم، فبينما يؤيد البعض ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف الأمريكية انتصاراً لإعتبارات سلطان الإرادة التي يقوم عليها التحكيم وتسمح بالتالي للأطراف بتنظيم نطاق إجراءات التحكيم بما يتواءم مع حاجاتهم وظروفهم الشخصية، يعـارض الـبعض الآخر السماح للأطراف بالتوسيع الاتفاقي لأسباب البطلان بحيث تشمل الخطأ فـي فهـم الواقع والخطأ في تطبيق القانون أو تأويله، معتقدين أنه من شأن هذا تفريغ التفرقـة بـين القضاء والتحكيم من مضمونها وبالتالي القضاء على أهم ميزة من مزايا التحكيم، وهي توفير وسيلة سريعة وفعالة لحسم المنازعات على أساس درجـة واحـدة مـن درجـات التقاضي .

32- ويبدو أن هذا الاعتراض كان سبباً في تبني دوائر أخرى لمحكمـة الاستئناف الاتحاديـة الأمريكية موقفاً معارضاً للتعديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام المحكمين عن طريق توسيع حالات البطلان، وذلك استناداً إلى أن الغرض من تـشريع قـانون التحكـيم الاتحادي وكذلك المبادئ المستقرة في العديد من أحكام المحكمة العليـا لا يؤيـد الـسماح للأطراف بالاتفاق على ذلك في العقد.

33- وقد كانت الدائرة العاشرة لمحكمة الاستئناف الاتحادية أول دائـرة تبنـت هـذا الموقـف المعارض في حكم Bowen الصادر عام 2001.

34- وقد أوضحت هذه الدائرة أن أياً من أحكام المحكمة العليا الصادرة بخصوص التحكـيـم لـم تقرر حرية الأطراف في التدخل في العملية القضائية وانتهـت إلـى أن قـانون التحكـيم الاتحادي لا يعد مجرد قانون تكميلي يسري فقط في حالة ما إذا لم يتفق الأطـراف علـى خلافه، مؤكدة أن اتفاق الأطراف على توسيع نطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكـيم يعتبر قاعدة بديلة تتعارض مع السياسات المتبعة في قانون التحكيم الاتحـادي الأمريكـي والتي تهدف، من خلال تضييق حالات بطلان حكم التحكيم، إلى تشجيع التحكيم والحفـاظ على استقلالية العملية التحكيمية.

35- ولم تكتف الدائرة المذكورة بهذه الحجج، فذكرت أنه لا يجوز للأطراف أن يفرضوا على المحـاكم الوطنية تطبيق قواعد وإجراءات غير متعارف عليها، كما أضافت أنه في حالة إجـازة التوسـيع الإتفاقي لنظام الرقابة القضائية على أحكام المحكمين، فإن ذلك من شأنه أن يجبر المحكمين علـى تسبيب أحكامهم بشكل مشابه لأحكام القضاء الوطني، مما قـد يـؤدي إلـى التـضحية ببساطة وسرعة التحكيم، ومن ثم تحوله إلى الرجة أخرى من درجات السلم القضائي".

36- أما في فرنسا، فمن المقرر فقهاً وقضاء أن حالات بطلان أحكام التحكيم الأجنبية أو الدولية المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية الفرنسية هي حـالات واردة علـى سـبيل الحصر بحيث لا يجوز للأطراف الاتفاق في العقد على توسيعها عن طريق إضافة حالات أخرى، وهذا ما أكدته محكمة استئناف باريس في أحكامها، إذ قضت بأن تحديـد وسـائل الطعن في حكم التحكيم يجب ألا يعتمد فقط على إرادة الأطراف، كما أنـه وفقـاً لـذات المحكمة لا يجوز للأطراف الاتفاق على جواز استئناف أحكام التحكيم أمام القضاء الفرنسي وإلا أدى ذلك إلى بطلان مثل هذا الاتفاق واعتباره غير مكتوب".

37- و في مصر، تنص المادة (53) من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 على أنـه لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية (...)". وهذه المادة قاطعـة فـي  طابعها الحصري مما يعني عدم جواز الطعن بالبطلان لأي سبب آخـر سـوى الأسـباب الواردة حصراً في المادة المذكورة. وهذا ما أكدته محكمة النقض المصرية، إذ قضت بأن أسباب البطلان وردت على سبيل الحصر، وبالتالي يكون خطأ إبطال حكم التحكيم تأسيــاً على الغلط في احتساب مدة التقادم لأنه لا يعد سبباً للبطلان

38- كما أكدت محكمة استئناف القاهرة في العديد من أحكامها المتواترة أن الخطأ فـي تطبيـق القانون ليس سبباً للبطلان نظراً للطابع الحصري لحالات البطلان الواردة في المادة (53) من قانون التحكيم المصري .

39- وبناء على ما تقدم، فإنه طبقاً للقانون المصري لا يجوز طلب البطلان تأسيساً على خطـأ المحكمين في تفسير شروط العقد أو نصوص القانون واجب التطبيق، أو سـوء تحـصيل الواقع، وبالتالي فإنه نظراً لإلغاء إمكانية الطعن بالتماس إعادة النظر، فإن حكـم التحكـيم الصادر في مصر يكون محصناً حتى لو ثبت وجود غش أو صدوره بناء على مـستندات مزوره أو شهادة قضى بتزويرها.

40- وقد أثار هذا الطابع الحصري لأسباب البطلان حفيظة بعض الفقهـاء المؤيدين لاعتمـاد التفسير الواسع لأسباب البطلان بعد أن أوصد المشرع كل الأبواب وجعل لأحكام المحكمين شأناً لا تبلغه أحكام القضاء، إذ يرى البعض أن دعوى البطلان تعد نظاماً خاصاً وأسلوباً جامعاً لمراجعة حكم التحكيم، فلا يجوز تفسير أسبابها تفسيراً ضـيقاً أو تخصيصها أو تقييدها بغير نص، باعتبارها السبيل الوحيد لإلغاء حكم التحكيم المعيب، كما قيـل بـأن تعداد أسباب البطلان التي ساقها قانون التحكيم لا يقف مانعاً دون الاستناد إلى سبب آخر لم يرد في هذا القانون، بل تحكمه القواعد العامة في بطلان الأحكام. وقد اقتـرح الـبعض تعديل المادة (53) من قانون التحكيم بحيث تمتد لتشمل حالات مخالفة القانون الموضوعي والخطأ في تفسيره وتطبيقه إذا كان التحكيم وفقاً للقانون .

41- أما في اليمن، فإن قانون التحكيم اليمني رقم 22 لعام 1992 لا يجيز الطعن فـي أحكـام التحكيم بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها فـي قـانون المرافعـات المدنيـة والتجارية، كما أنه لا يجيز اتفاق أطراف التحكيم على جعل حكم التحكيم قابلاً للطعن فيـه بطريق غير طريق دعوى البطلان.

42- وفي السـودان تنـص المـادة (40) من قانون التحكيم السوداني الجديد لسنة 2005 الصادر بتاريخ 2005/6/25 على أن قرار هيئة التحكيم لا يقبل الطعن فيه إلا عن طريـق دعـوى البطلان، وذلك إستناداً لأسباب أوردها المشرع في المادة (1/41) على سبيل الحصر.

43- وفي سوريا، حيث صدر مؤخراً قانون التحكيم السوري الجديد رقم 4 لعام 2008 بتـاريخ 2008/3/25، فقد ألغى المشرع السوري النصوص التي كانت تسمح بالطعن فـي الحكـم التحكيمي بالاستئناف أو بإعادة المحاكمة، ونص صراحة على صدور أحكام التحكيم مبرمة غير خاضعة لأي طريق من طرق الطعن (المادة 49)، متبعاً في ذلك منهج قانون التحكيم المصري والقانون النموذجي، وقصر إمكانية الطعن في الحكم التحكيمـي علـى دعـوى البطلان التي أجاز رفعها في حالات محددة ولأسباب حصرية (المادة 50).

خاتمـة:

44- في ختام هذا البحث الموجز عن التعديل الاتفاقي لنطاق الرقابـة القـضائية علـى أحكـام التحكيم، يمكننا أن نلاحظ أنه لا يوجد في القوانين الوطنية أو الفقه أو القـضاء المقـارن موقف موحد تجاه أي من صور هذا التعديل سواء عن طريق الإستبعاد أو التضييق أو التوسيع.

45- فبالنسبة لإستبعاد طرق الطعن ضد أحكام التحكيم، فإن المبدأ السائد هو عدم جواز الاتفـاق على ذلك، إذ ان هذا الإتفاق قد يعد مخالفا للنظام العام، وذلك ما لم يسمح قانون التحكـيم واجب التطبيق صراحة بذلك.

46- ونرى أنه حتى لو كان قانون التحكيم واجب التطبيق يسمح للأطراف بالاتفاق على استبعاد الحق في الطعن في حكم التحكيم، فإنه قد يكون من الأفضل ألا يتفق الأطراف على ذلـك، إذ أن هذا الاتفاق إذا تم في إطار التحكيمات الدولية، قد يؤدي إلى عدم الاعتراف أو تنفيذ حكم التحكيم في ظل اتفاقية نيويورك إذا كان قانون البلد التي يطلب فيها التنفيذ لا يسمح بمثل هذا الاتفاق .

47- وهذا أيضاً ما يدعونا إلى تبني موقف حذر حيال الصورة الأخرى مـن صـور التعـديل الإتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم عن طريق توسيع حالات بطلان هـذه الأحكام، نظراً للتعارض الواضح لمواقف قضاء الدولة الواحدة تجاه هذه المسألة، بين مـن يؤيدها تدعيماً لمبدأ سلطان الإرادة والطبيعة الرضائية للتحكيم وبين من يعارضها تفضيلاً لاستقلالية التحكيم عن المحاكم، وكذلك نظراً لعدم التأكد من الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية التي خضعت لرقابة قضائية موسعة في دول إصدارها شملت فهم المحكمين للواقع والقانون، وجميعها عوامل تجعل من التوسيع الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكـام التحكيم خياراً غير عملي للأطراف في التحكيمات الدولية، على الأقل في الوقت الحالي.

48- في ضوء ما تقدم، يمكننا أن نخلص إلى أن أطراف العملية التحكيمية يملكون عدة خيارات فيما يتعلق بالرقابة القضائية على أحكام التحكيم الصادرة حسماً لمنازعاتهم. فهم يملكون إما استبعاد هذه الرقابة أو تضييق أو توسيع نطاقها، بيد أن سلطان إرادة الأطراف فـي هـذه الحالة، كغيرها من الحالات، ليس مطلقاً بل هو مقيد إما احتراماً لنصوص قانونية آمرة أو تفادياً لمواقف قضائية معارضة أو مراعاة لاعتبارات عمليـة يقتضيها الحـرص علـى الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم.