الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم وقضاء الدولة / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / التعديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 5
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    129

التفاصيل طباعة نسخ

 مقدمـة

  1- يتبوأ التحكيم مكاناً بارزاً كأحد أهم وسائل حسم منازعات التجارة الدولية والمحلية على حد سواء، وذلك لما يتمتع به من مزايا تستند أساساً إلى مبدأ سلطان الإرادة الذي يمنع القضاء الوطني من النظر في النزاع ويمنح المحكم سلطة الفصل فيه.

   2- ولعل أهم مزايا التحكيم التي مكنته من تبوء هذه المكانة أن الحكم الصادر في موضوع الدعوى التحكيمية يتمتع بالنهائية Finality فينهي الخصومة بين الأطراف ويحوز حجية الأمـر المقضي ويعتبر عنواناً على الحقيقة مثله مثل الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء الوطني. 

  3- وقد حرصت معظم التشريعات الوطنية الخاصة بالتحكيم على تحقيق هذه النهائيـة، إذ استبعدت إمكانية الطعن في أحكام التحكيم بالاستئناف وقصرت طرق الطعن في حكـم التحكـيم على وسيلة وحيدة هي دعوى بطلان حكم التحكيم، وذلك استناداً إلى أسباب شكلية محدودة واردة على سبيل الحصر بحيث لا يجوز القياس عليها. 

  4- وتدور هذه الأسباب المحدودة بصفة عامة حول سلامة العملية التحكيميـة مـن حيـث الشكل والإجراءات بدءاً من اتفاق التحكيم والأهلية اللازمة لإبرامه مـروراً بنزاهـة إجـراءات التحكيم وعدالتها وضرورة احترام حقوق الدفاع ومبدأ سلطان الإرادة وكذلك صحة تشكيل هيئـة التحكيم والتقيد بحدود ونطاق مهمة المحكمين وصولاً إلى صحة حكم التحكيم وإجراءاته، فـضـلاً عن ضرورة عدم مخالفة حكم التحكيم للنظام العام. 

  5- وبطبيعة الحال، فإن هذه الأسباب التي تصلح أساساً للطعن بالبطلان على حكم تتعلق جميعها بالشكل وبالإجراءات دون موضوع النزاع الذي يظل محصناً ولا يملـك قاضـي البطلان التعرض له أو إعادة طرحه من جديد أو مناقشة مدى صواب أو خطأ ما ذهب إليه حكم المحكمين في شأنه أو التصدي لفهم المحكمين للواقع أو تطبيقهم للقانون، فهذه حالات تخرج عن النطاق التقليدي لدعوى البطلان وإن كانت مقبولة في إطار طعن بالاستئناف حرصـت معظـم التشريعات الوطنية، كما أسلفنا، على استبعاد إمكانية إقامته بخصوص أحكام المحكمـين، وذلـك احتراماً لاتفاق الأطراف وتأكيداً على نهائية هذه الأحكام. 

  6- وقد بلغ حرص المشرع الوطني في معظم دول العالم على ضمان نهائية أحكام التحكيم أن أصبح تحقيق هذه الغاية من أهم السياسات المتبعة في مجال التحكيم تماماً كــسياسة المـشرع الوطني الرامية إلى تيسير تنفيذ أحكام المحكمين، وذلك عن طريق تضييق حالات البطلان وتقييد أسباب رفض الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين تحقيقاً لفاعلية العملية التحكيمية، بحيث أصبحت الرقابة القضائية التقليدية على أحكام المحكمين تتم في أضيق الحدود. 

  7- وإذا كانت هذه السياسة تضمن إلى حد كبير تحقيق أهم هدفين من أهداف الالتجاء الـى التحكيم، ألا وهما الفاعلية في حسم المنازعات وتفادي إطالة الوقت وإضاعة المال في إجـراءات مطولة أمام القضاء الوطني المزخم بالقضايا، إلا أن تزايد عدد التحكيمـات وتطـور وتـشعب المشاكل المطروحة على المحكمين، فضلاً عن تفاوت الخبرات والإمكانيات المتوافرة فيمن يتولى هذه المهمة الدقيقة من قانونيين أو غيرهم، كل هذه العوامل ساهمت في صدور بعـض الأحكـام التحكيمية التي تجاوزت فيها أخطاء المحكمين مجرد الأخطاء الحسابية أو الغموض في منطـوق الحكم أو إغفال الفصل في بعض الطلبات، وهي أخطاء عادة ما يمكن تداركها عن طريق تقـديم طلبات تصحيح أو تفسير أو إصدار أحكام إضافية، فقد امتدت في الواقع أخطاء بعض المحكمين لتشمل أيضاً الخطأ في تطبيق القانون والخطأ في تفسيره وسوء فهم الوقائع. فهل يتـرك الأمـر لاتفاق أطراف العملية التحكيمية؟ إن شاءوا تحصين حكم التحكيم اتفقوا على استبعاد كافة وسائل الطعن أو على الأقل تضييق نطاقها، وإن فضلوا عدم المخاطرة اتفقوا على توسيع نطاق الرقابـة القضائية على أحكام المحكمين. 

  8- ولا جدال في أن هذا التساؤل يتعلق بدوره بالتوازن الواجب إعمالـه بـين مقتضيات احترام إرادة الأطراف واعتبارات العدالة، فهل يجوز للأطراف التدخل بالتعـديل فـي التنظـيم التشريعي للرقابة القضائية على أحكام المحكمين، سواء بالاستبعاد أو التضييق أو التوسيع، أم أن هذه الرقابة تعد من صميم عمل المشرع الوطني، وبالتالي لا يجوز الاتفاق على تعديلها احترامـاً لسياسة هذا المشرع وصيانة لاعتبارات العدالة. 

  9- سوف نحاول في هذا البحث الموجز الإجابة عن هذا التساؤل من خلال التعـرف إلـى موقف التشريعات الوطنية والفقه والقضاء في بعض الدول العربية وأهم الدول الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بدور سلطان الإرادة في تعديل أسباب الطعن ببطلان أحكام المحكمين، باعتباره أهم وسيلة من وسائل الرقابة القضائية على أحكام التحكيم. 

  10- وفي سبيل التوصل إلى إجابة عن هذا التساؤل سنقسم هذا البحث إلى قسمين: نتعرض في القسم الأول للصورة الأولى من صور التعديل الاتفاقي المحتمل للرقابة القضائية على حكـم التحكيم والمتمثلة في الاتفاق على استبعاد إمكانية الطعن في حكم التحكيم أو تضييق نطاق دعوى البطلان، أما القسم الثاني فنتناول فيه الصورة الأخرى وهي الاتفاق على توسيع نطـاق دعـوى البطلان. 

القسم الأول: استبعاد إمكانية الطعن في حكم التحكيم أو تضييق نطاق دعوى البطلان

  11- عندما يلجأ أطراف أي علاقة عقدية إلى التحكيم كوسيلة لحـسم خـلافـاتهم، فـإنهم يرتضون في الوقت ذاته إخضاع حكم التحكيم الصادر حسماً لهذه الخلافات للرقابـة القـضائية المعمول بها في مكان إصداره وبصفة أساسية رقابة قاضـي الـبطلان طبقـاً ووفقـاً للحـدود المنصوص عليها في القانون واجب التطبيق على إجراءات التحكيم في بلد مكان التحكيم. 

  12- وكما أسلفنا، فإن الغالبية العظمى من قوانين التحكيم تحصر طرق الطعن فـي أحكـام التحكيم في إطار دعوى البطلان استناداً الى أسباب إجرائية محدودة لا تتعلق بالموضوع. 

 13- بيد أنه في بعض الحالات قد يرغب الأطراف، ثقة منهم في جودة وكفاءة المحكمـين وحرصاً على سرعة وفاعلية العملية التحكيمية، في تحصين حكم التحكيم ضد الرقابة القضائية في بلد إصداره، وذلك إما عن طريق استبعاد جميع وسائل الطعن في حكم التحكيم ومنهـا الطعـن بالبطلان، أو عن طريق تضييق حالات البطلان الواردة في القانون واجب التطبيـق، وبالتـالي الاتفاق على عدم الاعتداد ببعضها. 

  14- أما عن استبعاد الحق في الطعن ببطلان حكم التحكيم، وهو يمثل أقصى وأشد صـورة من صور التعديل الاتفاقي للرقابة القضائية على أحكام التحكيم، فقد تفاوت موقف المشرع الوطني حياله بين الحظر المطلق للنزول المسبق عن الحق في الطعن بالبطلان وبين السماح للأطـراف بالاتفاق على استبعاد إمكانية إقامة هذا الطعن. 

  15- ويعد قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 من ضمن تلك القوانين التي تحظر الاتفاق المسبق على استبعاد الطعن بالبطلان ضد أحكام التحكيم، إذ نصت الفقرة الأولى من مادته (54) على أنه لا يحول دون قبول دعوى البطلان نزول مدعي البطلان عن حقه في رفعها قبـل صدور حكم التحكيم، أي أن قانون التحكيم المصري لا يجيز النزول عن دعوى الـبطلان قبـل ثبوت الحق في رفعها، أما النزول اللاحق على صدور حكم التحكيم، فهو جائز، فقد يتم هذا فـ صورة صلح تم بين الطرفين أو صفقة عقداها أو في إطار تنفيذ اختياري للحكم 

  16- وهذا هو ذات الموقف المتبع في سلطنة عمان، إذ تنص المـادة (1/54) مـن قـانون التحكيم العماني رقم 47 لسنة 1997 على أنه لا يحول دون قبول دعوى البطلان نزول مـدعي البطلان عن حقه في رفعها قبل صدور الحكم، كما نصت المادة (243) من قـانون المرافعـات المدنية البحريني على أنه لا يمنع من قبول طلب البطلان تنازل الخصم عن حقه قبل صدور حكم المحكمين. 

  17- وفي اليمن، استقر قضاء المحكمة العليا اليمنية على عدم جواز التنازل عن الحق فـي إقامة دعوى بطلان حكم المحكم قبل صدور هذا الحكم، لأنه في هذه الحالة يكون تنازلا عن شيء غير معلوم . 

  18- أما عن الدول التي تسمح للأطراف بالاتفاق على استبعاد إمكانية الطعن فـي أحكـام التحكيم، فتأتي بلجيكا في مقدمة تلك الدول، إذ تنص المادة (2/1717) مـن قـانون المرافعـات البلجيكي على أنه يجوز للأطراف بموجب نص صريح في اتفاق التحكيم أو فـي اتفـاق لاحـق استبعاد أي طلب لإبطال حكم التحكيم على ألا يكون أي من الطـرفين شخـصاً طبيعيـاً يتمتـع بالجنسية البلجيكية أو يقيم ببلجيكا أو شخصاً معنوياً له مقر رئيسي أو فرع بها'. 

  19- وقد تبنى المشرع السويسري الموقف ذاته، إذ تنص المادة (1/192) من القانون الدولي الخاص السويسري على جواز اتفاق الأطراف صراحة في اتفاق التحكيم أو في اتفاق لاحق على استبعاد كافة أوجه بطلان حكم التحكيم أو تضييق حالاته المنصوص عليها في المـادة (2/190) من ذات القانون بقصرها على واحدة أو أكثر من هذه الحالات، وذلك بشرط ألا يكـون أي مـن أطراف التحكيم الذي يجري في سويسرا مقيما في سويسرا أو له محل إقامة معتاد أو محل عمل بها. 

  20- وبعد عدة أحكام قضائية لم يجد فيها القضاء السويسري اتفاقاً صريحاً علـى اسـتبعاد إمكانية الطعن، أصدرت المحكمة العليا السويسرية عام 2005 حكماً هاماً قامت بموجبه بتفعيـل نص المادة (1/192) آنفة البيان، إذ وجدت في عبارات اتفاق التحكيم ما يدل على وجود اتفـاق صريح على استبعاد أي طريق من طرق الطعن في حكم التحكيم. 

  21- وتجدر الإشارة إلى أن المشرع التونسي قد تبنى الموقف ذاتـه المتبـع فـي القـانون السويسري، إذ تنص المادة (6/78) من قانون التحكيم التونسي رقم 42 لسنة 1993 علـى أنـه يجوز للأطراف الذين ليس لهم بتونس مقر أو محل إقامة أصلي أو محل عمل أن يتفقـوا علـى استبعاد الطعن كلياً أو جزئياً فيما تصدره هيئة التحكيم. وهذا النص واضح في أنه يجيز الاتفـاق ليس فقط على استبعاد كافة سبل الطعن في أحكام التحكيم، بل أيضاً على تضييق نطاق الرقابـة القضائية على حكم التحكيم عن طريق استبعاد بعض أسباب الطعن. 

  22- ويخالف هذا الموقف المقرر في القضاء الفرنسي الذي عادة ما ينظـر إلـى التنظيم التشريعي لطرق الطعن في أحكام المحكمين باعتباره من النظام العام، وبالتالي لا يجيز للأطراف الاتفاق سواء على استبعاد هذه الطرق أو حتى تضييق حالاتها.  

  23- أما في المملكة المتحدة، فلا يتناول قانون التحكيم الإنجليزي الصادر عام 1996 مسألة إمكانية الاتفاق على استبعاد الطعن أو تضييق حالات البطلان مكتفياً بالنص في القـسم 73 (1) منه على زوال الحق في الاعتراض أو الطعن في حكم التحكـيـم بـصفة خاصـة إذا لـم يـتم الاعتراض على عدم اختصاص هيئة التحكيم أو على عدم احترام اتفاق التحكيم أو إذا اسـتمرت إجراءات التحكيم دون الاعتراض على أي خلل يعيب تشكيل هيئة التحكيم أو الإجراءات. وبنـاء عليه، فإنه قد يفهم ضمناً من هذا النص الخاص بالنزول عن الحق في الاعتراض أنه يشمل أيضاً إمكانية النزول عن حق الطعن في حكم التحكيم. 

  24- إذا كانت مسألة إمكانية الاتفاق على استبعاد أو تضييق نطاق الرقابة القضائية علـى أحكام المحكمين قد تميزت بمساهمات الفقه والقضاء الأوروبي والعربي، فإن القضاء الأمريكى كان سباقاً في تناول مسألة التوسيع الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم، وهو مـا سنتناوله في القسم الثاني من هذا البحث. 

القسم الثاني: توسيع نطاق دعوى البطلان

  25- يتناول هذا القسم مسألة إمكانية اتفاق الأطراف على توسيع النطاق التقليـدي الـضيق لرقابة القضاء على أحكام التحكيم من خلال دعاوى البطلان، وذلك عن طريق إضـافة أســباب أخرى غير تلك المنصوص عليها في قوانين التحكيم لإبطال الحكم، في محاولة لتقريب الرقابـة المذكورة من تلك التي يباشرها قاضي الاستئناف.  

  26- فإذا كانت السياسة التشريعية المضيقة لحالات إبطال أحكام التحكيم تساهم بلا جدال في جعل العملية التحكيمية أكثر فعالية من خلال تقليل الوقت اللازم للتوصل إلى نهائية الحكم الصادر فيها، إلا أنه في الحالات التي يصدر فيها المحكمون أحكاماً مخالفة للقانون أو للواقع بسبب تفسير خاطئ لشروط العقد أو لنصوص القانون أو نتيجة لسوء تحصيل الوقائع، يكون الحكم مع ذلـك محصناً وغير قابل للمراجعة في ظل الأسباب الإجرائية التقليديـة التـي تقـوم عليهـا دعـوى البطلان. 

  27- ولذلك، فقد لوحظ أن هذه النتيجة الحتمية تقف عائقاً أمام التجاء بعض الأطراف إلـى التحكيم لحسم خلافاتهم، وبالتالي يحاول هؤلاء إيجاد "شبكة أمان" تتمثل في الاتفاق علـى تـدخل أكبر وسلطات أوسع للقضاء الوطني في مجال الرقابة على أحكام المحكمين. 

  28- وقد كان القضاء الأمريكي سباقاً في التعرض لهذه المسألة، إلا أن بعض دوائر محكمة الاستئناف الاتحادية قد تبنت مواقف متعارضة فيما يتعلق بمدى جواز إعمـال وتفعيـل اتفـاق الأطراف على توسيع نطاق الرقابة القضائية على حكم التحكيم ، ويرجع هذا التعارض في الواقع إلى صعوبة الاتفاق على اعتماد تفسير واحد لنصوص قانون التحكيم الاتحادي الأمريكي الخاصة بالطعن في أحكام المحكمين. 

  29- ففي عام 1997 أصدرت الدائرة التاسعة بمحكمة الاستئناف الاتحادية حكماً شهيراً في قضية Kyocera أكدت فيه سلطة الأطراف في تعديل نطاق الرقابة القضائية على حكم التحكـيم من خلال الاتفاق على توسيع حالات الطعن بالبطلان. وتجدر الإشارة إلى أن الأطراف في هذه القضية قد اتفقوا صراحة في شرط التحكيم على وجوب تسبيب الحكم فيما يتعلق بالواقع والقانون وأوضحوا أنه يجوز للقضاء الوطني إبطال الحكم إذا كانت الوقائع التي استند إليهـا المحكمـون غير مؤكدة بأي دليل أو إذا أخطأ الحكم في التسبيب القانوني. 

  30- وبعد إصدار الحكم طعن فيه أمام محكمة أول درجة التي رفض قـضاتها بـشكل قاطع التعرض لأسباب الحكم وفهمه للواقع والقانون معتبرين أن أسباب الطعن فـي أحكـام التحكيم واردة على سبيل الحصر في قانون التحكيم الاتحادي ولا يجـوز الاتفـاق علـى توسيعها بموجب نص تعاقدي. بيد أن محكمة الاستئنــاف لم تؤيد هـذا القـضاء وأعـادت الدعوى الى محكمة أول درجة لإعادة النظر في حكم التحكيم في ضوء النصوص التعاقدية"، وبالتالي اعتمدت حرية الأطراف في الاتفاق على توسيع حـالات الطعـن بـبطلان أحكـام التحكيم.

  31- وقد اختلف الفقه اختلافاً كبيراً حول هذا الموقف القضائي المؤيـد للتعـديل الاتفـاقي للرقابة القضائية على أحكام التحكيم، فبينما يؤيد البعض ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف الأمريكية انتصاراً لاعتبارات سلطان الإرادة التي يقوم عليها التحكيم وتسمح بالتالي للأطراف بتنظيم نطاق إجراءات التحكيم بما يتواءم مع حاجاتهم وظروفهم الشخصية ، يعارض البعض الآخر الـسماح للأطراف بالتوسيع الاتفاقي لأسباب البطلان بحيث تشمل الخطأ في فهم الواقع والخطأ في تطبيق القانون أو تأويله، معتقدين أنه من شأن هذا تفريغ التفرقة بين القضاء والتحكيم مـن مـضمونها وبالتالي القضاء على أهم ميزة من مزايا التحكيم، ألا وهي توفير وسيلة سريعة وفعالـة لـحـسم المنازعات على أساس درجة واحدة من درجات التقاضي 

  32- ويبدو أن هذا الاعتراض كان سبباً في تبني دوائر أخرى لمحكمة الاستئناف الاتحاديـة الأمريكية موقفاً معارضاً للتعديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام المحكمين عن طريق توسيع حالات البطلان، وذلك استناداً إلى أن الغرض من تشريع قانون التحكيم الاتحادي وكـذلك المبادئ المستقرة في العديد من أحكام المحكمة العليا لا يؤيد السماح للأطراف بالاتفاق على ذلك في العقد. 

  33- وقد كانت الدائرة العاشرة لمحكمة الاستئناف الاتحادية أول دائرة تبنت هـذا الموقـف المعارض في حكم Bowen الصادر عام 2001 .

  34- وقد أوضحت هذه الدائرة أن أياً من أحكام المحكمة العليا الصادرة بخصوص التحكـيم لم تقرر حرية الأطراف في التدخل في العملية القضائية وانتهت إلى أن قانون التحكيم الاتحـادي لا يعد مجرد قانون تكميلي يسري فقط في حالة ما إذا لم يتفق الأطراف على خلافه، مؤكـدة أن اتفاق الأطراف على توسيع نطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم يعتبر قاعدة بديلة تتعارض مع السياسات المتبعة في قانون التحكيم الاتحادي الأمريكي، والتي تهدف، مـن خـلال تـضييق حالات بطلان حكم التحكيم، إلى تشجيع التحكيم والحفاظ على استقلالية العملية التحكيمية. 

  35- ولم تكتف الدائرة المذكورة بهذه الحجج، فذكرت أنه لا يجوز للأطراف أن يفرضـوا على المحاكم الوطنية تطبيق قواعد وإجراءات غير متعارف عليها، كما أضافت أنه فـي حالـة إجازة التوسيع الاتفاقي لنظام الرقابة القضائية على أحكام المحكمين، فإن ذلك من شأنه أن المحكمين على تسبيب أحكامهم بشكل مشابه لأحكام القضاء الوطني، مما قد يؤدي إلى التضحية ببساطة عة التحكيم، ومن ثم تحوله إلى "درجة أخرى من درجات السلم القضائي". 

  36- أما في فرنسا، فمن المقرر فقهاً وقضاء أن حالات بطلان أحكام التحكـيم الأجنبيـة أو الدولية المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية الفرنسية هي حـالات واردة علـى سـبيل الحصر بحيث لا يجوز للأطراف الاتفاق في العقد على توسيعها عن طريـق إضـافة حـالات أخرى، وهذا ما أكدته محكمة استئناف باريس في أحكامها، إذ أكدت أن تحديد وسائل الطعن فـي حكم التحكيم يجب ألا يعتمد فقط على إرادة الأطراف' ، كما أنه وفقاً لذات المحكمـة لا يجـوز للأطراف الاتفاق على جواز استئناف أحكام التحكيم أمام القضاء الفرنسي وإلا أدى ذلـك إلـى بطلان مثل هذا الاتفاق واعتباره غير مكتوب. 

  37- وفي مصر، تنص المادة (53) من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 علـى أنه لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية (...)". وهذه المـادة قاطعـة فـي طابعها الحصري مما يعني عدم جواز الطعن بالبطلان لأي سبب آخر سوى الأسباب الـواردة حصراً في المادة المذكورة. وهذا ما أكدته محكمة النقض المصرية، إذ قضت بأن أسباب البطلان وردت على سبيل الحصر، وبالتالي يكون خطأ إبطال حكم التحكيم تأسيساً على الغلط في احتساب مدة التقادم لأنه لا يعد سبباً للبطلان. 

  38- كما أكدت محكمة استئناف القاهرة في العديد من أحكامها المتواترة أن الخطأ في تطبيق القانون ليس سببا للبطلان نظرا الى الطابع الحصري لحالات البطلان الواردة في المادة (53) من قانون التحكيم المصري'. 

  39- وبناء على ما تقدم، فإنه طبقاً للقانون المصري لا يجوز طلب البطلان تأسيساً علـى خطأ المحكمين في تفسير شروط العقد أو نصوص القانون واجب التطبيـق، أو سـوء تحـصيل الواقع، وبالتالي فإنه نظراً الى إلغاء إمكانية الطعن بالتماس إعادة النظر، فـإن حكـم التحكـيم الصادر في مصر يكون محصناً حتى لو ثبت وجود غش أو صدوره بناء على مستندات مـزورة أو شهادة قضي بتزويرها. 

  40- وقد أثار هذا الطابع الحصري لأسباب البطلان حفيظة بعض الفقهاء المؤيدين لاعتمـاد التفسير الواسع لأسباب البطلان بعد أن أوصد المشرع كل الأبواب وجعل لأحكام المحكمين شأناً لا تبلغه أحكام القضاء، إذ يرى البعض أن دعوى البطلان تعد نظاماً خاصاً وأسلوباً جامعـاً لمراجعة حكم التحكيم، فلا يجوز تفسير أسبابها تفسيراً ضيقاً أو تخصيصها أو تقييدها بغير نص، باعتبارها السبيل الوحيد لإلغاء حكم التحكيم المعيب ، كما قيل بأن تعداد أسباب الـبطلان التـي ساقها قانون التحكيم لا يقف مانعا دون الاستناد إلى سبب آخر لم يرد في هذا القانون، بل تحكمه القواعد العامة في بطلان الأحكام. وقد اقترح البعض تعديل المادة (53) من قانون التحكـيم بحيث تمتد لتشمل حالات مخالفة القانون الموضوعي والخطأ في تفسيره وتطبيقه إذا كان التحكيم وفقاً للقانون. 

  41- أما في اليمن، فإن قانون التحكيم اليمني رقم 22 لعام 1992 لا يجيز الطعن في أحكام التحكيم بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجاريـة، كما أنه لا يجيز اتفاق أطراف التحكيم على جعل حكم التحكيم قابلاً للطعن فيه بطريق غير طريق دعوى البطلان. 

 42- وفي السودان تنص المادة (40) من قانون التحكيم السوداني الجديـد لـسنة 2005 الصادر بتاريخ 2005/6/25 على أن قرار هيئة التحكيم لا يقبل الطعن فيه إلا عن طريق دعوى البطلان، وذلك إستناداً إلى أسباب أوردها المشرع في المادة (1/41) على سبيل الحصر.

  43- وفي سوريا، حيث صدر أخيراً قانون التحكيم السوري الجديـد رقـم 4 لعـام 2008 بتاريخ 2008/3/25، فقد ألغى المشرع السوري النصوص التي كانت تسمح بالطعن في الحكـم التحكيمي بالاستئناف أو بإعادة المحاكمة، ونص صراحة على صدور أحكام التحكيم مبرمة غير خاضعة لأي طريق من طرق الطعن (المادة 49)، متبعاً في ذلك منهج قانون التحكيم المـصري والقانون النموذجي، وقصر إمكانية الطعن في الحكم التحكيمي على دعوى البطلان أجـاز رفعها في حالات محددة ولأسباب حصرية (المادة 50). 

خاتمة

  44- في ختام هذا البحث الموجز عن التعديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم، يمكننا أن نلاحظ أنه لا يوجد في القوانين الوطنية أو الفقه أو القضاء المقـارن موقـف موحد تجاه أي من صور هذا التعديل سواء عن طريق الاستبعاد أو التضييق أو التوسيع.

  45- فبالنسبة الى استبعاد طرق الطعن ضد أحكام التحكيم، فإن المبدأ السائد هو عدم جـواز الاتفاق على ذلك، إذ أن هذا الاتفاق قد يعد مخالفاً للنظام العام، وذلك ما لم يسمح قانون التحكيم واجب التطبيق صراحة بذلك.

  46- ونرى أنه حتى لو كان قانون التحكيم واجب التطبيق يسمح للأطـراف بالاتفـاق على استبعاد الحق في الطعن في حكم التحكيم، فإنه قد يكون من الأفضل ألا يتفق الأطراف على ذلـك، إذ أن هذا الاتفاق إذا تم في إطار التحكيمات الدولية، قد يؤدي إلى عدم الاعتراف أو تنفيـذ حكـم التحكيم في ظل اتفاقية نيويورك إذا كان قانون البلد التي يطلب فيها التنفيذ لا يسمح بمثـل هـذ الاتفاق .

  47- وهذا أيضاً ما يدعونا إلى تبني موقف حذر حيال الصورة الأخرى من صور التعـديل الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم عن طريق توسيع حالات بطلان هذه الأحكام، نظراً الى التعارض الواضح لمواقف قضاء الدولة الواحدة تجاه هذه المسألة، بـيـن مـن يؤيـدها تدعيماً لمبدأ سلطان الإرادة والطبيعة الرضائية للتحكيم وبين من يعارضها تفضيلاً لاستقلالية التحكيم عن المحاكم، وكذلك نظرا الى عدم التأكد من الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبيـة التي خضعت لرقابة قضائية موسعة في دول إصدارها شملت فهم المحكمين للواقـع والقـانون، وجميعها عوامل تجعل من التوسيع الاتفاقي لنطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم خياراً غير عملي للأطراف في التحكيمات الدولية، على الأقل في الوقت الحالي.

  48- في ضوء ما تقدم، يمكننا أن نخلص إلى أن أطراف العملية التحكيمية يملكـون عـدة خيارات فيما يتعلق بالرقابة القضائية على أحكام التحكيم الصادرة حسماً لمنازعاتهم. فهم يملكون إما استبعاد هذه الرقابة أو تضييق أو توسيع نطاقها. بيد أن سلطان إرادة الأطـراف فـي هـذه الحالة، كغيرها من الحالات، ليس مطلقاً بل هو مقيد إما احتراماً لنصوص قانونية آمرة أو تفادياً لمواقف قضائية معارضة أو مراعاة لاعتبارات عملية يقتضيها الحرص على الاعتراف وتنفيـذ أحكام التحكيم.