يمكن تعريف التحكيم على أنه طريقة خـاصة لفض النزاعـات بإخراجها من نظر القضاء الـعــادي وتمكين محكمين من النظر فيهـا. والواضح من خلال هذا التعريف أن الهدف من التحكيم هو بالتحديد استبعاد القضاء الرسمي للفصل في النزاعات وتعهد أشخاص خاصة الفصل فيها وفق إرادة الأطراف. لكن بالتمعن في القوانين المنظمة للتحكيم في تونس وغيرهـا من الدول العربية أو الأوروبية يتضح ان دور القـاضي في النزاع التحكيمي يبقى دوراً محترمـاً خلال كـامل أطوار الخصومة التحكيمية ككل، دور في تعيين المحكمين ودور في مساعدتهم بهدف إنجاح عملية التحكيم، ودور في رقابة أعمال التحكيم...
رغم أن المبدأ في التحكيم يبقى حرية الأطراف في إستبعـاد القضاء وعرض النزاع على محكمين وإدارته بكـامل الحرية، إلا أنه يمكن أن نجد تبريراً لتدخل القـاضي على مستويين على الأقل. المستوى الأول يكمن في تبرير مـادي. فالمحكم وإن كـان قـاضيـا خـاصاً، وبالتـالي حـاملاً مسؤولية تحقيق العدالة، إلا أنه لا يملك سيفهـا. بمعنى أنه لا يملك القوة الإلزامية لتنفيذ قراراته على الأطراف وعلى الغير. ممـا يجعل من الإلتجـاء الى القـاضي أمراً ضرورياً إذا أردنا تنفيذ القرار التحكيمي.
ويكمن المستوى الثـاني في أن الأصل هو أن الدولة هي السـاهرة والضـامنة لحسن تطبيق القانون وأن هيـاكلها وسلطاتها، وبالتحديد السلطة القضائية، هي الضامنة للحقوق والحريــات، ومـا تمكين الأطراف من اللجوء إلى التحكيم إلا تفويض في مجـالات معينة، أي أن الأصل يبقى علوية القضاء ورقابته.
وهذه الدراسة تتنزل في هذا الإطار كمحاولة لتحديد المجالات التي يمكن فيها للقاضي أن يتدخل في مختلف أطوار العملية التحكيمية وبمنـاسبتهـا. وسوف نقتصر خلالها على دور القـاضي في التحكيم الداخلي دون الخوض في دور القضاء في التحكيم الدولي الذي تحكمه نصوص وإعتبارات مغايرة.
فما هي أوجه تدخل القـاضي التونسي في التحكيم الداخلي؟ ومـا هي حدوده؟ هذا هو التسـاؤل الذي سنحـاول الإجـابة عنه بالرجوع إلى أحكـام مجلة التحكيم وإلى فقه القضاء التونسي. وبالفعل، فبالتمعن يتضح لنا جليـاً أن مجلة التحكيم، وكذلك إتجـاه المحـاكم، تجاوز الدور التقليدي للقضاء والمتمثل في مراقبة قرار التحكيم من خلال إكسائه للقرارات التحكيمية بالصيغة التنفيذية أو نظره في الطعون فقط. ومكنه بالإضافة إلى ذلك من التدخل خلال سير التحكيم، وذلك كلما قرر الأطراف أو المحكمون الإلتجاء إليه كقاض مساعد.
هذا الإختيار بتجـاوز الدور التقليدي وتوسيع دور القاضي في التحكيم، نجده كذلك مكرسـاً بعديد القوانين المقارنة مثل قانون التحكيم الفرنسي وقانون التحكيم الفيدرالي السويسري، خاصة بعد أن عبر عديد الفقهاء عن ضرورة التعاون بين القضاء العادي والقضاء الخاص بهدف إزالة ما يشوب العلاقة من توتر وتنافس. إضافة إلى ذلك فلا يمكن أن نتجـاهل أن القاضي يبقى هو الحارس والمراقب الوحيد لمدى احترام قرارات المحكمين قواعد النظام العام.
ولكن لا يجوز كذلك تنـاسي أن الأصل في التحكيم يبقى ضرورة إحترام إرادة الأطراف. وبمـا أن هـاته الإرادة اتجهت صراحة إلى إختيـار التحكيم وسيلة لفض النزاع فلا ينبغي أن تهمش وتفرغ من محتواهـا بتمكين القضاء من التدخل بدون قيد أو شرط. فتكتسي إذن إرادة الأطراف نوعـاً من العلوية تكون معهـا بالضرورة تدخلات القضاء هي الإستثنـاء. وبالفعل اتجهت إرادة المشرع التونسي إلى إبراز دور الإرادة وتمكين القـاضي من التدخل مجرد تكملة ويهدف في الأسـاس إلى حماية التحكيم من تلاعب الأطراف والمحكمين المناورين.
ويمكن القول بأن تدخل القـاضي في التحكيم تحكمه ثلاثة مبـادئ أسـاسية. أولهما أن هذا التدخل هو تكميلي لا أسـاسي، بمعنى أن الأسـاس هو أن يتولى المحكمون تسيير الخصومة بحرية كاملة بمساعدة القضاء. وثـانيهمـا ان هذا التدخل يبقى تدخلاً فرعيـاً، بمعنى أن الأساس هو حرية المحكمين والفرع هو تدخل القاضي. وثـالثـهما ان القـاضي ملزم بالتدخل في حـالات أقرها المشرع وعددها حصريـاً وبصرامة، فلا يمكن لقاض رفض التدخل لأن في ذلك تجاهلا للقانون قد يفضي ليس فقط إلى تعطيل النزاع، بل كذلك إلى إنكـار العدالة.
لمحـاولة الوقوف على مختلف جوانب تدخل القاضي في نزاعات التحكيم الداخلي سوف نتولى بالدرس في فقرة أولى تدخل القـاضي كقـاضي إعـانة للهيئة التحكيمية (فقرة أولى) وفي فقرة ثـانية تدخله كقـاضي رقـابة.
الفقرة الأولى: قاضي الإعـانـة:
يمكن للقضاء أن يتدخل في الخصومة التحكيمية لإعـانة الأطراف، إمـا على تعيين أو عزل محكميهم (1) أو لغاية إعانة المحكمين على إدارة النزاع (2).
1. تدخل القضاء لتعيين أو عزل المحكمين:
أقر القـانون التونسي إمكـانية تدخل القضـاء لتعيين أو عزل المحكمين في مرحلتين. المرحلة الأولى قبل تشكيل الهيئة التحكيمية (أ) والمرحلة الثانية بعد تشكيلهـا (ب) وجعل إجراءات مختلفة لكل مرحلة.
أ. تدخل القـاضي قبل بدء إجراءات التحكيم:
كمـا سبق وأشرنـا فإن دور القضـاء هو في الأسـاس دور تكميلي لإرادة الأطراف التي يمكن أن تكون، إمـا غـائبة تمـاماً أو غير واضحة المقاصد. وفي هـاته الحـالات فإن الصعوبـات يمكن أن تطرأ، ممـا قد يعرض التحكيم لخطر عدم تفعيله، وبالتـالي تهميش إرادة الأطراف وإتفـاقهم الواضح في اللجوء إليه. فقد يحدث أن يكون الشرط التحكيمي غير واضح المقاصد مثلاً، ممـا يجعل الحل الوحيد الإلتجـاء الى القضـاء حتى لا تغيب إرادة الأطراف في اللجوء إلى التحكيم وتفقد فاعليتها ويتعطل التحكيم.
كمـا أن تصرف أحد أطراف النزاع قد يبرر اللجوء إلى المحكمة لتعيين المحكم. فقد يحدث أن لا يعين أحد الأطراف محكمه لا لشيء إلا لغاية تعطيل تشكيل الهيئة التحكيمية. أو قد يتعذر على المحكمين تعيين ثـالثهمـا، أي رئيس الهيئة التحكيمية، وفي هـاته الحالة كذلك يكون اللجوء إلى القضاء الحل الوحيد لإستمرار التحكيم.
هذا التدخل من القضاء لتعيين المحكم جـاءت به عديد التشـاريع المقـارنة على غرار جل التشاريع العربية والغربية. كذلك كان موقف المشرع التونسي الذي نحا هذا المنحى وأقر صراحة تدخل القـاضي للحد من تعطل الخصومة، إذ ينص الفصل 18 من مجلة التحكيم على أنه: "... وعند تعذر الاتفاق بين الأطراف أو بين المحكمين فإن رئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرتها مقر التحكيم يتولى – بناء على طلب أحد الأطراف تعيين المحكم بقرار استعجالي غير قابل لأي وجـه من أوجه الطعن مراعياً في ذلك المؤهلات المطلوب توافرها في المحكم والإعتبارات الضامنة لاستقلاليته وحياده." -
هذا النص وإن أقر تدخل القاضي لتعيين المحكم، إلا أنه يطرح عديد النقـاط والإشكـاليـات التي وجب الوقوف عليهـا. فبالتمعن فيه يتضح أنه لم يتعرض لحـالة عدم تعيين طرف لمحكمه، بل تعرض فقط لحـالة عدم الإتفاق على تعيين رئيس الهيئة. وأمـام هذا الفراغ التشريعي اضطلع فقه القضاء التونسي بدوره في سد الفراغات وتأويل القوانين، وذلك بإعتبـار أن هذا النص ينطبق على جميع حـالات السكوت بالرجوع إلى قاعدة "من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل". فيكون بالتالي الإلتجـاء الى القضاء في جميع الحـالات التي يتعذر فيهـا على الأطراف تعيين المحكمين.
هذا النص أسند كذلك وعلى غرار عديد التشـاريع المقـارنة، الإختصـاص في تعيين المحكمين إلى المحكمة التي يقع فيهـا مقر التحكيم وبالتحديد إلى رئيس المحكمة الإبتدائية، ولم پسنده إلى رئيس محكمة الإستئنـاف، كمـا هو الشأن بالنسبة إلى عديد الأعمـال الأخرى؟. ويكمن هنا تفسير هذا الإختيـار في أن الهيئة التحكيمية مـا زالت لم تتشكل بعد، وبالتـالي فلا يمكن الحديث عن هيئة قضـائية سيتم الطعن في أعمـالـهـا، وعملاً بمبدأ توازي الإجراءات، فإن الطعن يكون لدى المحكمة الإبتدائية، أي لدى المحكمة ذات الولاية العامة.
كمـا تدخل القضاء التونسي لمحـاولة تقديم تعريف لعبـارة مقر التحكيم الواردة في الفصل 18 المذكور أعلاه. إلا أن موقفه بقي غير مستقر، إذ سبق للمحـاكم التونسية، وأن أقرت بأن مقر التحكيم هو مقر النزاع، وذلك في وجود تعيين صريح لمقر التحكيم من الهيئة التحكيمية في مكتب أحد المحكمين. في حين أن التيـار السائد في الفقه وفقه القضاء يرى أن مقر التحكيم هو مقر الهيئة التحكيمية.
ويجدر بالذكر في هذا السياق أن بعض التشـاريع المقارنة تقر إمكـانية أوسع لمعرفة المحكمة المختصة. فهي ليست بالضرورة المحكمة الكـائن بدائرة إختصاصهـا مقر التحكيم، فقد تكون المحكمة المختصة وبحسب الحـالات، المحكمة الكـائن بمقرها التحكيم أو المحكمة الكـائن بمقرهـا مكـان إقـامة أحد الأطراف، المدعى عليه بالأساس أو تلك الكـائن هي بدائرتها مقر المدعي في حـالة ما إذا كـان المدعى عليه مقيمـا خـارج التراب الوطني .
وتعطي هذه التشـاريع نفسها دوراً هـامـاً لإرادة الأطراف، وذلك على عكس المشرع التونسي الذي يغلب القواعد العـامة للإجراءات على أي إتفـاق. ففي القـانون الفرنسي مثلاً يمكن للأطراف الإتفـاق على إسنـاد الإختصـاص إلى رئيس المحكمة الإبتدائية أو إلى رئيس محكمة التجـارة إذا مـا اتفق الطرفـان على ذلك. وهـاته الفرضية لم يتعرض لها المشرع التونسي الذي تبقى قواعد الإختصاص فيه آمرة ولا يمكن للأطراف مخالفتها.
كمـا أن بعض التشـاريع الأخرى أقرت حلولاً مغايرة في ظـاهرهـا، إلا أنهـا تفضي تقريبـاً إلى تطبيق نفس قواعد الإختصـاص، فقد أقر المشرع المصري مثلاً بأن المحكمة المختصة بطلب تعيين المحكم، هي المحكمة المختصة بالنظر في أصل النزاع أي أنه يحيل إلى القواعد العـادية للإجراءات فتكون بالتـالي المحكمة الكـائن بدائرتها مقر المطلوب أو مقره الإجتماعي هي المختصة دون غيرها.
يثير كذلك الفصل 18 من مجلة التحكيم مسألة أخرى تتعلق بطبيعة الدعوى وعدم إمكـانية الطعن فيهـا. فقد أقر هذا الفصل مبدأ تعيين المحكم بالطريقة الإستعجـالية وعدم قـابل الحكم للطعن بأي وجه. في الحقيقة فإن طبيعة التحكيم تفرض مثل هذا الخيـار. فعنصر السرعة يفرض أن لا تتعطل الخصومة التحكيمية في نزاعات أمـام المحـاكم في تعيين المحكمين فيكون تعطيل تسمية المحكمين عنصر تعطيل لا يمكن أن نضيف إليه إنتظـار صدور قرار قضائي في الأصل، وذلك لطول الإجراءات وتعقيدهـا، ولا يمكن كذلك أن يفتح بـاب الطعون أمـام قرارات التسمية لما في ذلك من إمكـانية تعطيل إضـافية. لذلك كـان موقف المشرع التونسي متمـــاشـيـاً مع مقتضيـات التحكيم، وذلك بالتنصيص على أن القرار القـاضي بتعيين محكم يجب أن يكتسي الصبغة الإستعجالية وأن لا يكون قـابلا للطعن حتى لا تتعطل الخصومة.
إذن يتدخل القاضي الإستعجـالي لتعيين المحكم كلمـا تبين أن أحد الأطراف لم يتول تعيين محكمه قبل تشكيل الهيئة التحكيمية، إلا أن القضاء يحق له كذلك أن يتدخل لتعيين أو عزل محكمين إثر تشكيل الهيئة.
ب. تدخل القـاضي بعد تشكيل الهيئة التحكيمية:
بعد تشكيل الهيئة التحكيمية يمكن أن تطرأ بعض الصعوبـات التي يتعذر على المحكمين حلهـا، إمـا لتقاعس الأطراف أو لوجود صعوبـات تستدعي تدخل القضـاء. ومن بين هـاته الحـالات، تلك التي يتوفى فيهـا أحد المحكمين ويستوجب تعويضه، أو الحـالة التي يتم فيـها عزل محكم لسبب من الأسبـاب إلخ... ففي كلتا الحالتين وفي صورة عدم توافق الأطراف على التوصل إلى حل توافقي، فلا بديل من الإلتجاء الى القضاء.
ب.1. التدخل القضائي للنظر في مطـالب عزل أحد المحكمين:
يمكن أن يتدخل القاضي التونسي في النزاع التحكيمي للنظر في مطـالب عزل المحكمين، وذلك في صورة مـا إذا لم يتوافق الأطراف على عزله، وهو مـا جـاءت به أحكـام الفقرة الثانية من الفصل 21 من مجلة التحكيم. فالتدخل القضائي هو هنـا فقط تدخل إستثنــائي في حـالة عدم توافق الاطراف على عزل المحكم الذي تحوم حوله شكوك أو يعترضه مـانع قانوني أو واقعي من الإضطلاع بدوره. فقط في هاته الحالة يمكن للقضاء التدخل.
ويتجلى هنـا وبوضوح خـيـار المشرع التونسي في تغليب إرادة الأطراف، وذلك بالخصوص من خلال تنصيص أحكـام الفصل 21 من مجلة التحكيم على الإمكـانية المتـاحة للأطراف في إختيـار المحكمة المختصة للنظر في مطـالب العزل. أي أن المشرع أقر صراحة إمكـــانية تعيين المحكمة المختصة للنظر في مسألة العزل وهو ما لم ينص عليه في صورة تعذر الإتفاق على المحكمين.
هذا التغليب لحرية الأطراف ولإرادتهم لم يمنع المشرع التونسي من إحـاطة هـاته العملية بالضمـانـات القانونية فلا يمكن طلب عزل المحكم قضائيـاً لأي سبب من الأسباب، بل يمكن طلب عزله فقط في حـالات ولأسبـاب معينة نصت عليها الفقرة الأولى من الفصـل 21 من مجلـة التحكيم، وهي الحالة التي يصبح فيها المحكم غير قادر على أداء مهمته أو تخلفه عن أدائهـا في أجـل ثلاثيـن يومـاً. فالمحكـم الذي لا يمكنه القيـام بمهمته لوجود مـانع يحول دون ذلك أو المحكم الذي لم ينجـز مهمتـه في أجل 30 يوماً يجب عليه التخلي، فإن لم يتخل تلقـائيـاً يجوز للأطراف عزله أو طلب عزله قضائياً.
وطلب عزل محكم يمكن أن يجد مـا يبرره في عديد المنـاسبـات التي يمكن أن تحدث للمحكم، إمـا عن قصد أو عن غير قصد. فيمكن أن يقدم المحكم مثلاً إستقـالته لأسبـاب عـائلية أو أن يتوفى المحكم ولكن يحدث كذلك أن يحـاول المحكم تعطيل النزاع فيهمل القيام بعمله.
ونفرق هنـا بين توصل الأطراف الى عزل المحكم، فيكون بالتـالي إتفـاقـهم كـافيـا في هـاته الحـالة ولا ضرورة لإثبـات وجود مبرر جدي وموضوعي وبين صورة عدم توصل الأطراف إلى إتفـاق فيكون العزل عندهـا بالضرورة باللجوء الى القضاء ويجب عندئذ إثبـات وجود سبب مشروع.
كمـا ان إتفـاق الأطراف على عزل محكم يمكن أن يحصل عند حصول السبب المفضي إلى العزل، ولكنه قد يكون حاصلاً قبل إنطلاق التحكيم، وذلك إذا كـانت إتفاقية التحكيم تنص على حـالات العزل وإجراءاته.
ب.2. التدخل القضـائي للنظر في مطـالب التجريح في المحكمين:
عند وجود أسباب من شأنها إثـارة شكوك مبررة حول حيـاد أو إستقلالية المحكم أو في صورة عدم توافر المؤهلات الكـافية التي اتفق عليها الأطراف فيه، فإنه يجوز للأطراف التجريح فيه. وإستنــاداً إلى مبدأ النزاهة وحسن النية فقد أقر المشرع التونسي إجراء وقـائياً يتمثل في وجوب التصريح من قبل المحكم بجميع الأسبـاب التي يمكن أن تثير شكوكـاً حول نزاهته وإستقلاليته عن الأطراف، وذلك سواء تعلق الأمر بعلاقـات قرابة أو مصـاهرة أو علاقـات مهنية سـابقة او غيرها.
ولكن واجب التصريح المنصوص عليه أعلاه لا يعفي من اتخـاذ الإحتياطات الضرورية ومن التجريح في المحكم إن تبينت عدم إستقلاليته، وهو مـا جـاءت به أحكـام الفصل 22 من مجلة التحكيم التي تنص على أنه "لا يجوز التجريح في المحكم، إلا إذا وجدت أسباب من شأنها أن تثير شكوكاً لها ما يبررهـا حـول حياده أو استقلاليته أو إذا لم تتوافر فيه المـؤهلات التي اتفق عليها الأطراف. ولا يجوز لأي من أطراف النزاع التجريح في محكم عينه أو اشترك في تعيينه، إلا لأسباب تبينها بعد أن تم التعيين.
ويجرح أيضاً في المحكم بمثل ما يجرح به في القاضي...".
أقر المشرع التونسي إذن من خلال هذا الفصل إختصـاص القضاء في التدخل للنظر في مطـالب التجريح في الحكام. وجعل لهـاته الإمكانية ميدانـاً واسعـاً فذلك ممكن في عديد الحـالات التي لم يعددها المشرع حصراً ويتضح ذلك من خلال إستعمـال المشرع لعبـارة عـامة: "وجود شكوك لهـا ما يبررها حول حياده واستقلاله". فالحـالات التي تثير الشك غير محددة، أي أن جميع الأمور التي من شأنها إثـارة الشك في الحيـاد والإستقلالية يمكن أن تكون موضع تجريح.
كمـا أن المشرع التونسي حدد كذلك بعض الحـالات الأخرى التي يمكن فيها التجريح في المحكم بصرف النظر عن الحـالات التي سبق إثـارتهـا ألا وهي الحـالات التي يجرح فيها في القاضي. وقد قننت مجلة المرافعـات المدنية والتجـارية بصفة حصرية الحـالات التي يحجر فيها على القاضي، وهي:
"أولا – في النوازل التي هم فيها خصوم أو لهم مشاركة مع الخصوم أو مشاركة فـي التـــزام لأحـد الخصوم أو كان عليهم فيها مرجع الدرك.
ثانيا – في نوازل نسائهم ولو بعد انفصال الزواج.
ثالثا – في نوازل أقاربهم أو مصاهريهم بدون نهاية بسلسلة النسب المستقيم وحواشيهم إلى الدرجة السادسة بالنسبة للأقارب، وإلى الدرجة الرابعة بالنسبة للأصهار.
رابعاً – في النوازل التي لزمهم القيام فيها بصفة نائب قانوني عن أحد الخصوم.
خامساً – في النوازل التي وقع سماعهم فيها بصفة شهود أو التي باشروها بصفة حكام أو محكمين أو سبق منهم إعطاء رأي فيها.
سادساً – إذا كانوا دائنين أو مدينين لأحد الخصوم.
سابعاً – إذا كان أحد الخصوم مستخدماً عندهم.
ثامناً – إذا سبق خصام بينهم وبين أحد الخصوم."
أي أن المحكم شبه بالقـاضي وتم تطبيق الأسبـاب نفسها عليه فتكون بذلك القرابة أو العداوة الواضحة موجبـة للتجريح. ولعل تفسير اللجوء الى القضاء يجد تبريره في وجوب ضمـان التحكيم. فالمحكمة هي الضامنة لحسن تطبيق القـانون وضمـان الحيـاد والنزاهة اللازمين لحسن سير مرفق العدالة الذي يمثل التحكيم أحد وسـائله. فمن المستبعد أن تتـاح الإمكانية للمحكمين للنظر في مطالب التجريح التي تشملهم.
2. تدخل القضـاء لإعـانة المحكمين على حسن إدارة النزاع:
لا يقتصر دور القـاضي على تعيين المحكمين، أو النظر في مطـالب عزلهم أو التجريح فيهم، بل يتجـاوزه ليلعب دوراً رئيسيـاً غير مبـاشر، ألا وهو إعـانة الأطراف على حسن إدارة النزاع. وهـاته الولاية المتزامنة على حسب العبـارة المستعملة، تعني أن يكون للقـاضي دور هـام في إتخاذ الوسـائل الوقتية والتحفظية. فلا يتدخل القاضي إلا إذا كـان ذلك ضروريـاً. وقد أفرز الواقع بالفعل وجود حالات عديدة تتطلب إتخاذ وسائل وقرارات مستعجلة، وذلك خاصة خوفاً من تلاشي الحق أو ضياع المنفعة. ويجب أن نذكر بأن هـاته الإمكـانية لم تكن دائمـاً متـاحة للمحكمين فقد كـانت بعض القوانين المقارنة لا تمكنهم من إتخاذ مثل هاته الوسائل التي كانت حكرا على القضاء.
والإتجـاه السـائد في قوانين التحكيم المعـاصرة هو أن تكون للمحكمين أولوية النظر في النزاع وفي إتخـاذ القرارات الوقتية فلا يكون تدخل القاضي، إلا إستثنـائياً لإعـانتهم. فقد نص مثلا القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في مادته الـ 17 على أنه: " يجوز لهيئة التحكيم أن تأمر أيا من الطرفين، بناءً على طلب أحدهما د باتخاذ تدبير وقائي تراه ضروريا لموضوع النزاع ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك ."
وقد أقر المشرع التونسي على غرار عديد التشـاريع المقـارنة إمكـانية تدخل القاضي لمساعدة الأطراف أو المحكمين على حسن إدارة النزاع. فمكنه من التدخل لإتخـاذ الوسـائل الوقتية (أ) أو للإذن بإتخاذ وسائل الإثبات (ب) أو لبت المسائل التوقيفية (ج).
أ. إتخاذ الوسـائل الوقتية:
أقر المشرع التونسي التوجه الحديث الذي يقر الإمكـانية للمحكمين بمجرد تعهدهم بالنزاع باتخاذ التدابير المؤقتة أو التحفظية، وبذلك يكون قد ساير التوجهات الحديثة في مادة التحكيم. ولكنه فرق بين حـالتين، الأولى أسند فيها الإختصـاص لإتخاذ الوسـائل الوقتية والتحفظية إلى المحـاكم العادية والثانية أسند فيها الإختصـاص إلى هيئة التحكيم دون غيرهـا إذ ينص الفصل 19 من مجلة التحكيم على أنه " ... ويمكن للقاضي الإستعجالي إتخاذ أية وسيلة في حدود اختصاصه ما دامت هيئة التحكيم لم تباشر أعمالها.
وإذا باشرت هيئة التحكيم أعمالها يصبح اتخاذ أية وسيلة وقتية من اختصاصها ."
فمـا دامت هيئة التحكيم لم تبـاشر أعمـالـهـا يمكن للقضاء التدخل، أمـا إذا مـا بــاشرت أعمـالـهـا فتصبح هي المختصة بالنظر. ويمكن انطلاقاً من مفهوم الوسائل الوقتية والتحفظية أن نبين مبررات هذا الفصل بين الحالتين.
فقد تعترض مثلاً تشكيل هيئة التحكيم بعض الصعوبات التي تحول دون إمكانية تعهدها بالنظر في النزاع، وبالتالي عدم التعهد بالنظر في الوسائل الوقتية أو التحفظية في الوقت المناسب، وهو مـا يتطلب تدخل القضـاء. ويبرز هنـا دور القضاء العادي في مساعدة القضاء التحكيمي على القيام بدوره على أحسن وجه، خصوصاً أن عدم اتخاذ هذه الوسائل الوقتية قد يعدم الفائدة المرجوة من التحكيم.
أمـا إذا مـا باشرت الهيئة أعمـالها فإن الإختصـاص يصبح مطلقـا لهـا، وذلك ما نستشفه من عدم إستعمـال المشرع لنفس عبـارات الفقرة الأولى. إلا أنه يبدو أن هذا التمشي لا يستقيم في الواقع، ذلك أن الهيئة التحكيمية ولو كـانت صـاحبة الإختصـاص المطلق، إلا أنه يمكن لهـا أن تحتـاج إلى تدخل القضـاء. فكم من وسيلة وقتية أو تحفظية لا يمكن للمحكمين الأمر بها بدون القضاء صاحب السلطة الإلزامية.
ويجدر التساؤل في هذا السياق عن طبيعة الوسـائل التي يمكن إتخـاذها سواء من طرف المحكم أو القـاضي المختص أي قـاضي الأمور المستعجلة. بالرجوع إلى مجلة التحكيم يتضح لنـا أنها لم تتعرض للمسألة، وإنمـا يتجه الرجوع إلى الفصل القانوني المنظم للقضاء الإستعجـالي للوقوف على طبيعة هـاته الوسـائل، إذ ينص الفصل 201 من مجلة المرافعات المدنية والتجـارية التي تعرف تنص على أنه "يقع النظر استعجالياً وبصفة مؤقتة في جميع الحالات المتأكدة بدون مساس بالأصل.
على أنه يجوز القضاء للطالب بضمان أو بدونه بتسبقة، إما لمجابهة مصاريف عـلاج ضـرورية أو مصاريف ذات صبغة معاشية، وإما لحفظ حقوق ومصالح متأكدة، بشرط أن يكون الطلب مؤسساً علـى ديـن غير متنازع فيه بصفة جدية، وأن يكون الطالب قد رفع دعوى في الأصل في شأن ذلك الـدين نفسه. ويرفـع الطلب إلى رئيس المحكمة المتعهدة بالقضية الأصلية لدى محكمة الدرجة الأولى ويقع بـت المطلـب والطعن في الحكم الصادر في شأنه وفق القواعد المتعلقة بالقضاء الإستعجالي."
يتضح إذن بالرجوع إلى الفصل القـانوني المنظم للقضاء الإستعجـالي أن القـانون التونسي يشترط توافر شرطين متلازمين للجوء الى القاضي الإستعجـالي، وهمـا شرط التأكد، وشرط عدم المساس بالأصل. فتكون بالتـالي الوسـائل الوقتية بالضرورة وسـائل لا تمس أصل الحق مثل تعيين الخبراء أو الإذن بدفع مبلغ مـالي أو تأمينه بالخزينة العـامة للبلاد التونسية.
كمـا يمكن أن يكون تعيين المحكم نفسه وسيلة وقتية، إذ سبق وان طبقت المحاكم التونسية هذا الفصل لتبرير إمكـانية تعيين المحكم مباشرة من طرف القاضي الاستعجـالي كوسيلة وقتية، بالقول بأن اللجوء إلى القضاء المستعجل لا يعد بمثابة التخلي عن اللجوء إلى التحكيم باعتبار أن الفصل 19 من مجلة التحكيم ينص على أن للقاضي الاستعجالي إمكانية اتخاذ أية وسيلة في حدود اختصاصه ما دامت هيئة التحكيم لم تباشر أعمالها.
ب. الإذن بوسـائل الإثبـات:
تقتضي مهمة المحكم إدارة النزاع المتعهد به وتسييره على الوجه الأمثل لضمان سلامة الإجراءات والحيلولة دون قيام أطراف النزاع بمناورات بهدف المماطلة، وضمان احترام جملة من المبادئ الأساسية لحقوق الدفاع. إلى جانب هذا يتعهد المحكم بالبحث عن الحقيقة، وذلك لا يتأتى إلا إذا تمكن من الوقوف على واقع ومعطيات النزاع، ولذلك جاء قانون التحكيم متوخياً هذا المنهج بتمكين المحكم من الإذن بالأعمـال الإستقرائية الكـاشفة للحقيقة.
ولكن، ونظراً لإفتقـار المحكم إلى السلطة المادية لإلزام الغير على التقيد بقراراته في غياب سلطة الجبر بالتنفيذ، فقد مكنت مجلة التحكيم التونسية المحكم من طلب المساعدة القضائية قصد تنفيذ قراراته. وهو ما جاءت به أحكام الفصل 28 من المجلة التي تنص على أنه:
"تتولى هيئة التحكيم جميع الأبحاث من تلقي الشهادات وإجراء الاختبارات إلى غير ذلك من الأعمال الكاشفة للحقيقة.
وإذا كان أحد الأطراف ماسكا لوسيلة من وسائل الإثبات فلها مطالبته بتقديمها.
ولها أيضاً سماع كل من ترى فائدة في سماعه لتقدير النزاع.
ولهيئة التحكيم أن تعين كتابة أحد أعضائها للقيام بعمل معين.
ويجوز لها الإستنجاد بالقضاء لاستصدار أي قرار يمكنها من تحقيق الأغراض الواردة بهذا الفصل ."
اذا أجاز القـانون التونسي لهيئة التحكيم "الإستنجـاد بالقضـاء"، وطلب المساعدة منه، لكنه لم يفسر مـا المقصود من عبـارة الإستنجـاد بالقضاء. وقد رأى بعض الفقهـاء التونسيين في إستعمـال عبـارة عـامة تفتقر إلى الدقة وإلى تعداد أوجه الإعـانة إعترافـاً ضمنيـاً من المشرع بأن القـاضي نفسه يفتقر إلى الوسائل الكفيلة لتحقيق الهدف أي حمل الطرف الذي توجد لديه حجة إلى تقديمهـا. ويبدو أن الحل الوحيد لإلزام الأطراف على تقديم المؤيدات هو تسليط غرامة يومية تهديدية عليهم. فيكون بذلك التخوف المـادي من دفع غرامة دافعـا إلى التعاون.
ج. تدخل القضـاء لبت المسـائل التوقيفية:
يمكن كذلك للقضاء التدخل للنظر في المسـائل التوقيفية وهو مـا جـاءت به أحكـام الفصل 27 من مجلة التحكيم التي تنص على أنه "إذا أثيرت مسألة توقيفية تخرج عن اختصاص هيئة التحكيم ولها علاقة بالتحكيم أوقفت هيئة التحكيم النظر إلى أن تقضي المحكمة في الموضوع، ويتوقف بموجب ذلك الأجل المحدد للحكم إلى أن يقع إعلام هيئة التحكيم بصدور الحكم البات في المسألة التوقيفية المثارة".
المشرع التونسي اذا يشترط قبل إسنـاد الإختصـاص للقضاء للنظر في المسائل التوقيفية توافر شرطين. يتمثل الشرط الأول في وجوب المسألة أن تخرج عن إختصـاص هيئة التحكيم، ويتمثل الشرط الثـاني في ضرورة أن تكون لهـاته المسألة علاقة بالتحكيم. فقط بتوافر هذين الشرطين المتلازمين يصبح الإختصاص بالنظر في المسألة التوقيفية من إختصاص القضاء.
كمـا أنه من الملاحظ أن مجلة التحكيم التونسية لم تحدد المسائل التوقيفية التي يكون معها المحكم ملزمـاً بإنتظار تصريح المحكمة فيها. ويمكن القول في هذا الصدد بأن الطعن بعدم الإختصـاص لا يمكن أن يكون مسألة توقيفية تعلق النظر. ضرورة أن المبدأ في التحكيم هو ان المحكم ينظر في إختصـاصه وهو مـا أقرته الفصول 26 من مجلة التحكيم الذي ينص على أنه: "إذا أثيرت أمام هيئة التحكيم مسألة تتعلق باختصاصها في النزاع المعروض عليها فإن البت فيها يكون من أنظارها بقرار غير قابل للطعن إلا مع الأصل.
أما إذا قضت بعدم الاختصاص فإن هذا القرار يكون معللاً وقابلاً للإستئناف."
فالمبدأ يتمثل في أن الأصل يبقى ان النظر فـي الإختـصـاص مـن مـشمولات الهيئـة التحكيمية.
ولكن من بين المسـائل التوقيفية التي يمكن أن تطرح على المحكمين مثلا وجود إرتبـاط بقضية منشورة لدى القضاء أو إرتبـاط النزاع التحكيمي بقضية جزائية منشورة، فيكون بالتـالي في هاته الحـالة على الهيئة إيقـاف النظر وإنتظـار بت القضاء في المسألة، وإلا كـان قرارهـا عرضة للتعـارض مع أحكـام قضائية.
الفقرة الثالثة: قاضي الرقابة: رقابة القضاء على القرارات التحكيمية الداخلية:
إن الرقابة المقصودة في مجلة التحكيم لا تعني البتة أن يتدخل القـاضي لمراجعة القرارات التحكيمية، بل هي فقط رقـابة شكلية. وهي رقابة على مستويين. رقـابة عند إكسـاء القرارات التحكيمية بالصيغة التنفيذية (1) ورقـابة عند طلب إبطـال القرار من أحد الأطراف (2).
1. قـاضي الإكسـاء:
على خلاف تدخل القضاء في مختلف أطوار النزاع التحكيمي الذي هو تدخل ثـانوي ومتزامن مع اختصاص المحكمين في غالب الأحيان، فإن النظر في مطـالب إكسـاء القرارات التحكيمية بالصبغة التنفيذية اختصاص مطلق للقضاء. إذ ينص الفصل 33 من مجلة التحكيم على انه "يكون حكم هيئة التحكيم قابلا للتنفيذ تلقائياً من قبل الأطراف أو بصفة إجبارية بـإذن مـن رئيس المحكمة الابتدائية التي صدر بدائرتها الحكم، أو قاضي الناحية،
كل في حدود نظره، إلا إذا كان التحكـيم يتعلق بخلاف منشور لدى محكمة استئناف عند إبرام الاتفاق على التحكيـم، فان رئيس هذه المحكمـة هـو الذي له وحده الحق في إصدار الإذن...".
فيكون بالتـالي تنفيذ القرار التحكيمي الداخلي، إمـا بالتنفيذ التلقـائي من قبل الأطراف أو على إثر تدخل القضاء لإكسـائه بصيغة التنفيذ. بمـا معنـاه أن هذا القرار يصبح بمثـابة الحكم القضائي التونسي فينفذ طبق أحكـام القانون التونسي وإجراءاته. والملاحظ في هذا السياق أن تدخل القضاء في مجـال الإكسـاء لا ينحصر في القرارات النهـائية، بل يشمل كذلك إكسـاء القرارات الوقتية التي يتخذها المحكمون أثنـاء سير القضية، إذ ينص الفصل 19 من مجلة التحكيم على أنه "ويتولى رئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد في دائرتها مقر التحكـيم إكساء القرارات الوقتيـة أو التمهيدية التي تصدرها هيئة التحكيم الصيغة التنفيذية "
تدخل القضاء إذا لزومي إذا مـا طلب الأطراف إكسـاء القرار بالصيغة التنفيذية، ولكن رقابة القاضي هي فقط رقـابة شكلية، فقد استقرت المحاكم التونسية على إعتبـار أن هذا الإجراء يهدف فقط إلى التأكد من إحترام بعض المقتضيـات، وأن رفض الإكسـاء يبقى حـالة إستثنائية.
. 2. قـاضي الطعون:
علاوة على الدور الذي يضطلع به القضاء في السهر على حسن سير إجراءات التحكيم والعمل على عدم تعطلهـا، فإنه يضطلع بدور آخر يتمثل في الرقابة التي يفرضها على الأحكـام التحكيمية. ولئن كـان هذا الدور الرقـابي هـامشي عند تعلق الأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي، فإنه يكتسي أهمية قصوى عند الطعن في القرار التحكيمي.
وقد أتـاح القانون التونسي إمكانية الطعن في القرارات التحكيمية الداخلية للأطراف، وذلك إمـا بطلب الإبطـال (أ) أو في بعض الحـالات بالطعن بالإستئنـاف (ب) إذا اتفق الطرفـان صراحة على أن القرار قـابل للإستئنـاف. وفي كلتـا الحـالتين يسترجع القضاء دوره "التقليدي" في مراقبة النظـام العـــام وحمـاية مصـالح الأطراف وحقوقهم. كمـا ان الطعن يمكن أن يتسلط على القرار التحكيمي من طرف غير أجنبي عن النزاع، إذا مـا مست حقوقه. في هاته الحالة يمكن لكل من تضرر الطعن بالإعتراض (ج).
أ. قـاضي الإبطـال:
أتـاح القـانون التونسي للقضاء التدخل كذلك في النزاع التحكيمي، وذلك لمراقبة القرارات التحكيمية الداخلية من خلال النظر في مطـالب الإبطـال. إذ أقر المشرع التونسي مبدأ إمكـانية الطعن بالإبطـال في القرارات التحكيمية الداخلية، وذلك كلمـا تبين وجود خروقـات جوهرية في العملية التحكيمية وإجراءاتهـا. ويجدر التذكير بأن الطعن بالإبطـال ليس طريقة طبيعية للطعن في الأعمـال القضائية، وإنمـا طريقة طبيعية للطعن في بعض الأعمـال القـانونية مثل العقود والتصرفات القانونية 35.
أقر كذلك المشرع التونسي مبدأ أحــادية الطعن بالإبطـال. فإذا اتفق الأطراف على قـابلية القرار التحكيمي للإستئنـاف، فإن ذلك يعني أن القرار لا يمكن الطعن فيه بالإبطـال وهو مـا جـاءت به أحكـام الفصل 40 من مجلة التحكيم " أحكام هيئة التحكيم القابلة للاستئناف لا يجوز الطعن فيها بالإبطال."
وقد عرفت مجلة المرافعـات المدنية والتجـارية، الإجراء البـاطل على انه "يكون الإجراء باطلاً إذا نص القانون على بطلانه أو حصل بموجبه مساس بقواعد النظـام العـام أو أحكام الإجراءات الأساسية وعلى المحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها.
أما مخالفة القواعد التي لا تهم غير مصالح الخصوم الشخصية فلا يترتب عليها بطـلان الإجراء، إلا متى نتج منها ضرر للمتمسك بالبطلان وبشرط أن يثيره قبل الخوض في الأصل."
وقد نصت مجلة التحكيم على ستة حـالات حصرية يمكن الطعن فيهـا بالإبطـال وهي الحالات المحددة بالفصل 42 من مجلة التحكيم الذي ينص على أنه:
يجوز طلب إبطال حكم هيئة التحكيم الصادر نهائياً – ولو اشترط الأطراف خلاف ذلك- في الأحوال التالية:
أولا – إذا كان قد صدر دون اعتماد على اتفاقية تحكيم أو خارج نطاقها.
ثانياً – إذا صدر بناء على اتفاقية تحكيم باطلة أو خارج آجال التحكيم.
ثالثاً – إذا شمل أموراً لم يقع طلبها.
رابعاً – إذا خرق قاعدة من قواعد النظام العام.
خامساً – إذا لم تكن هيئة التحكيم متركبة بصفة قانونية.
سادساً – إذا لم تراع القواعد الأساسية للإجراءات. "
ويجدر التذكير أن الرقـابة التي يفرضها القـاضي من خلال الطعن بالإبطـال هي رقـابة إجرائية فقط، فهو ليس قـاضي الأصل ولا يكتسي الطعن بالإبطـال مرتبة التقـاضي على درجتين حتى يخول للمحكمة النظر مجدداً في النزاع. فدور القـاضي يقتصر على التثبت من إحترام بعض المبـادئ الأسـاسية لا غير.
والإبطـال لا يمكن أن يتسلط إلا على القرار التحكيمي بمعنى انه لا يمكن أن يشمل القرارات الوقتية وهو مـا قصده المشرع من خلال إستعمـال عبـارة "يجوز طلب إبطال حكم هيئة التحكيم الصادر نهائيا". فالقرارات التحكيمية الوقتية المتخذة في إطـار إجراءات التحكيم كالقرارات المتعلقة بتكليف خبراء وغيرها لا يمكن الطعن فيهـا لدى القضاء، وإنمـا يمكن فقط مناقشتها أمام الهيئة التحكيمية.
كمـا أنه لا يمكن للأطراف الإتفـاق على استثنـاء الطعن بالإبطـال وهو مـا نستشفه من عبـارات الفصل 42 الذي ينص على أنه "يجوز طلب إبطال حكم هيئة التحكيم الصادر نهائياً -ولو اشترط الأطراف خلاف ذلك- في الأحوال التالية ..." وقد استقر فقه القضاء على هذا المنهج، معتبراً أنه متى توافرت شروط الفصل 42 من مجلة التحكيم، فإنه يمكن الإلتجـاء إلى المحكمة لطلب إبطال القرار التحكيمي، ولو كان إتفـاق الأطراف على خلاف ذلك.
ب. الطعن بالإستئنـاف:
حرصـاً من المشرع التونسي على إقرار مبدأ حرية الأطراف والرفع من مكـانة التحكيم في المعاملات الإقتصـادية لهدف دفع نسق التنمية فقد أقر مبدأ التقـاضي على درجة واحدة التحكيم الداخلي، وذلك على عكس المبدأ المعمول به في الإجراءات المدنية العـادية، حيث أنه من أول حقوق المتقاضين حقهم في التقـاضي على درجتين. وقد أقر المشرع إن القرارات التحكيمية لا تقبل الطعن بالإستئنـاف، إلا إذا اشترط الأطراف ذلك، واستثنى تمــاماً استئناف أحكام المصالحين" .
تدخل القضاء إذا للنظر في إستئنـاف القرارات التحكيمية تدخل استثنــائي. لكن الطعن بالإستئنـاف يختلف عن الطعن بالإبطـال الذي سبق التعرض له. فالقـاضي هنـا يستعيد جميع صلاحيـاته ويتدخل لإعـادة النظر من جديد في النزاع موضوع القرار التحكيمي وهو ما نستشفه من أحكـام مجلة المرافعـات المدنية والتجارية التونسية التي تنص على ان الإستئنـاف ينقل الدعوى بحـالتها التي كـانت عليها قبل صدور الحكم المستأنف.
ج. الطعن بالإعتراض:
مكن القـانون التونسي كذلك القضاء من النظر في النزاع التحكيمي من خلال مراقبته للقرارات التحكيمية، وذلك في إطـار القضايا الإعتراضية. إذ ينص القانون التونسي على أن الطعن بالإعتراض على القرارات التحكيمية ممكن، ويكون لدى محكمة الإستئنـاف الكـائن بدائرة إختصـاصها مقر التحكيم. وهو مـا جاءت به أحكـام الفصل من مجلة التحكيم التي نصت على أنه "يجوز الطعن في أحكام هيئة التحكيم بالإعتراض من الغير على أن يرفع إلى محكمة الاستئناف التي صدر بدائرتها الحكم".
والإعتراض هو حق مخول لا للأطراف، وإنمـا للغير المتضرر مـن القـرار التحكيمـي والذي لم يسبق ان استدعي للنزاع. وهنـا يتضح حرص المشرع التونسي على تمكين القـضاء العدلي من بسط رقـابته على أعمـال المحكمين وتمكين كل من تضررت حقوقه من الإلتجـاء إليه. فقضاء الدولة يبقى الملجأ والضامن للنظام العام ولإحترام حقوق الأفراد.
يتضح لنـا من كل مـا سبق أن التحكيم هو فعلاً وسيلة خـاصة لفض النزاعـات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البت فيها بموجب اتفاقية تحكيم. إلا أن هذا التعريف الوارد في الفصل الأول من مجلة التحكيم يبقى مجرداً في تطبيقه. فالقواعد القانونية تمكن القـاضي من التدخل في سير التحكيم في عديد الحـالات. وهذا التدخل يكون إمـا لتعيين الحكام أو لمد يد المساعدة لهم أو لمراقبة القرار التحكيمي وإكسائه الصيغة التنفيذية.
فالتحكيم يبقى أولاً واخيراً مؤسسة خاصة يجب أن تتماشى مع مؤسسـات الدولة وبالأخص المؤسسة القضائية التي تبقى صـاحبة الحق في تطبيق القانون والسـاهرة عليه. ولكن الواضح من خلال مجلة التحكيم التونسية أنهـا مجلة معـاصرة تحـاول أن تحصر تدخل القاضي في حـالات معينة وإستثنـائية تـاركة المجـال أمـام الأطراف في مرحلة اولى والمحكمين في مرحلة ثانية لتسيير الخصومة.