الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تمييز التحكيم عن غيرة من النظم المشابهة / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 4 / المزج بين وسائل تسوية منازعات عقود الانشاءات

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 4
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    149

التفاصيل طباعة نسخ


مقدمة- الدور الإيجابي للمحكم

   افادت التجارب أن منازعات عقود الانشاءات، خصوصاً الضخمة والمتعددة الأطراف، هي بطبيعتها منازعات مركبة ومعقدة، وانها تتطلب لتسويتها تسوية مرضية اللجوء إلى وسائل غير الوسائل القضائية، تكفل حلولاً للمنازعات تتلاءم مع طبيعتها وخصائصها. ونظراً الى اهمية الخدمات التي تؤديها صناعة البناء والتشييد لأغراض التنمية، فإن اللجوء في تسوية منازعاتها الى الأساليب التقليدية، بما يرتبط بها من بطء وتكلفة، سوف يؤثر في مستوى وفائها بمتطلبات التنمية. لذلك اتجه النظر الى البحث عن وسائل تسوية غير تقليدية تتميز بمرونتها وقدرتها على التوصل إلى تسوية سريعة ومرضية لاطراف النزاع وذلك على يد كوادر مؤهلة تستطيع أن تستخدم في اداء مهمتها اساليب عديدة. وهذا هو الذي يفسر ازدياد اللجوء الى الوسائل البديلة لتسوية منازعات الانشاءات مثل الوساطة والتوفيق، إذ أن إنجازها لا يتطلب التقيد بالشكليات القانونية الصارمة الأمر الذي يترتب عليه اختصار وقت التوصل إلى تسوية النزاع وانخفاض تكاليفها. وعلى العكس من ذلك فقد أصبح التحكيم، بسبب استعارته العديد من اجراءات التقاضي امام المحاكم، مكلفة وتستغرق اجراءاته وقتاً طويلاً. من هنا برزت اتجاهات خصوصاً في دول قانون العموم (السرعة العامة Common Law)، إلى تطوير نظام التحكيم ليتخلص من آثار اجراءات التقاضي أمام المحاكم وليعتمد في تشغيله على فنون مختلفة مستخدماً مهارات متميزة في ادارة عملية التحكيم.

   وفي هذا السياق اتجهت التجارب العملية، في تسوية منازعات الانشاءات، إلى التعامل مع اساليب ادارة عملية التسوية كحزمة واحدة بحيث تستخدم كلها أو بعضها على التعاقب في تسوية النزاع أو بعض أجزائه، لينتهي أمر النزاع بتسوية يجري في التوصل اليها استخدام اكثر من اسلوب ، كل ذلك في اطار يكفل تمتع اطراف النزاع بالحقوق التي يمليها العدل الطبيعي. صحيح أن صناعة الانشاءات تعرف المنهج المتدرج في تسوية المنازعات بحيث يلجأ في مرحلة أولى الى استخدام الوسائل البديلة لتسوية (مثل الوساطة او التوفيق) ثم يصار، في حالة فشلها الى اتباع اجراءات التحكيم، إلا أن التطوير الذي شهدته مناهج التسوية اتجه الى الاستخدام المتعاقب وربما المتوازي لاساليب التسوية في نفس الوقت بحيث تستخدم الجهة القائمة على ادارة عملية التسوية هذه الأساليب موزعة على أجزاء النزاع، فإن فشل الأسلوب المتبع في مرحلة أولى في التوصل إلى تسوية النزاع فإنه يلجأ إلى اسلوب آخر. وهذا هو منهج الحزمة المركبة وايضاً المتكاملة للتسوية، وهو منهج غير تقليدي يتطلب لاعماله اجتماع عدة شروط وتقيده ببعض الضوابط التي تكفل لعملية التسوية اسباب صحتها القانونية. وفي هذا السياق أثير التساؤل عما اذا كان يجوز للمحكم، في اطار عملية تسوية نزاع معين اتفق على إجرائها بأسلوب التحكيم، أن يتخذ الوساطة اسلوبة للتسوية بحيث يتولى هو انجاز اجراءاتها. ويبرز هذا التساؤل في اطار ما يمكن أن يسمى الدور الايجابي للمحكم وهو يتطلب من المحكم الا يقتصر دوره على مجرد تطبيق قواعد القانون على ما ثبت لديه من وقائع، بل يمتد ليشمل اعمالا اخرى حتى ولو خرجت عن حدود دوره التقليدي ما دامت تساعد على التوصل إلى تسوية مرضي عنها من أطراف التحكيم.

   في ضوء هذه المعطيات نعرض فيما يلي اولاً لنماذج أو تجارب الدور الإيجابي للمحكم وثانياً لمتطلبات نجاح هذا الدور

أولاً- نماذج الدور الإيجابي للمحكم

    برز الدور الايجابي الذي يمكن أن يؤديه المحكمون، خارج الاطار التقليدي لعملهم، بصفة خاصة في مجال تضييق نطاق النزاع ومحاولة تسويته تسوية معقولة وذلك من خلال اتباع عناصر حزمة اساليب التسوية، وهو ما نحاول أن نعرض في شأنه أولاً لكيفية جريانه وثانياً لجوانبه السلبية التي يتعين تفادي نتائجها الضارة.

 

1- ادارة المحكمين لمهمة الخبراء

   يتعين التمييز بين اسلوبين لتدخل الخبراء في حسم النزاع، ففي اسلوب اول يعهد اطراف النزاع الى الخبير بمهمة تحديد نقاط النزاع وتقييم وضعه وابداء اقتراحاته في شأن حسمه. ويكون للإطراف الاتفاق على مدى القوة الالزامية لتقرير الخبير، فقد يتفقا على أنه غير ملزم ولكنه يتخذ أساسية للتسوية على الأقل في جانبه المتعلق بتحديد نقاط النزاع. أما الأسلوب الآخر العمل الخبراء فهو يبرز باعتباره عنصراً من عناصر الاثبات في نزاع معروض على التحكيم وحيث يجرى تعيين الخبير أو الخبراء بمعرفة هيئة التحكيم لتقديم تقرير مكتوب بشأن المسائل التي تحددها هيئة التحكيم. وفضلاً عن قيام هيئة التحكيم بتحديد نقاط المهمة المسندة إلى الخبير فإنها تتولى ادارة جلسة سماع أقواله وتتيح لطرفي التحكيم مناقشته فيما ورد في تقريره. ويظهر الدور الإيجابي لهيئة التحكيم في ادارة عملية الاثبات عن طريق الخبراء المستقلين الذين تعينهم عندما تطلب منهم تقريراً مشتركاً تراجعه في حضورهم وتستمع الى ملاحظات كل واحد منهم وتوجههم إلى ما ينبغي إستيفاؤه في التقرير. كما يظهر هذا الدور ايضاً حين تقرر هيئة التحكيم عقد اجتماعات مع الخبراء وبحضور ممثلي طرفي التحكيم لمحاولة التوصل الى تصفية النزاع في نقاط محددة ينحصر فيها البحث عن تسوية، على أن يجري تسجيل ما يتوصل اليه في هذا الشأن والتوقيع عليه من جميع الحضور. ومن الجائز أن تكلف هيئة التحكيم لجنة الخبراء بوضع تقرير مشترك يتضمن نقاط الاتفاق والاختلاف بينهم مع بيان أسباب ذلك، كما تطلب في نفس الوقت من أطراف النزاع اعداد حوافظ مستندات مجمعة بالنسبة إلى الوقائع التي لا خلاف عليها. ومن الواضح أن الأعمال التي تقوم بها هيئة التحكيم، في شأن اعداد الادلة التي يتمخض عنها تقرير الخبراء المستقلين، سوف يكون عاملا حاسماً في حسم النزاع.

   وقد افادت التجارب، كما يدل عليه قضاء التحكيم، أن نجاح الدور الايجابي للمحكمين في ادارة عملية الاثبات عن طريق الخبراء يتطلب أن يجري تحديد نطاق المهمة المسندة اليهم بحيث يبقى الفصل في النزاع لهيئة التحكيم. ذلك انه اذا كان يجوز للمحكمين الاستعانة بخبراء للبحث في واقع النزاع، خصوصاً في عناصره الفنية التي لا يتوافر لأعضاء هيئة التحكيم التخصص المطلوب بشأنها، إلا أنه لا يجوز لهيئة التحكيم أن تفوض الخبراء في حسم النزاع لأن اطرافه اسندوا مهمة الفصل فيه لهيئة التحكيم لا لغيرها. لذلك يتعين الحرص على تحديد مهمة الخبراء بوضوح وايضاً الحذر في الاعتماد على التقرير الذي يضعونه، فهو ليس أكثر من دليل اثبات يدخل تقديره في سلطة هيئة التحكيم. وقد قضى في هذا الشأن انه يتعين مراعاة أن تطبيق القانون على مقاطع النزاع يدخل في مهمة المحكمين ومن ثم لا يجوز اعتماد تقرير الخبراء بشأن الجوانب القانونية إلا بعد مراجعته من قبل هيئة التحكيم واتاحة الفرصة لأطراف النزاع لمناقشته.

 

2- تدخل المحكم في التسوية الودية

   قد يحدث أن ينتهي النزاع بين اطرافه صلحاً، لكن هل يجوز أن يكون للمحكم دور في هذا الشأن؟ هل يجوز للمحكم أن يشجع اطراف النزاع على التوصل الى صلح او يقوم هو بمستلزمات التوصل إلى تسوية ودية للنزاع ام يجب عليه أن يمتنع عن التدخل لهذه الغاية؟ كما هو واضح فان مثل هذه التساؤلات تتعلق بمهمة المحكم وهي تتمثل في الأساس بتسوية النزاع بقرار ملزم ويبدو بالتالي منطقة القول بأنه لا يدخل في مهمة المحكم تشجيع التوصل إلى الصلح. وفي المقابل قد يقال انه وان كان يجب على المحكم تسوية النزاع فان قيامه بدور لتحقيق هذه الغاية يدخل في مهمته.

   وقد لوحظ أن هناك صلة واضحة بين الخلفية القانونية للمحكم وبين موقفه من المساهمة في التوصل إلى تسوية ودية للنزاع. وقد ابانت دراسة احصائية في الأحكام الصادرة تحت لواء غرفة التجارة الدولية، والتي تتضمن تكريس التسوية الودية التي تم التوصل اليها، أنه بينما يميل المحكمون الألمان والسويسريون إلى تشجيع التوصل إلى تسوية ودية فإن المحكم الانجليزي والأمريكي يمتنع عن ذلك.

   ونبحث فيما يلي مظاهر تدخل المحكمين لنقف على الدور الذي يمكن أن يؤديه المحكم بالنسبة لانجاز الوساطة او التوفيق بين طرفي النزاع.

 

(أ) نطاق تدخل المحكمين

   يبين من فحص أحكام التحكيم المشار اليها أن هناك ثلاثة مظاهر لتدخل المحكمين في التسوية الودية تتمثل في أولاً: مجرد اثبات التسوية، وثانياً: تهذيبها، وثالثاً: التوسط بين الطرفين.

   ففيما يتعلق باثبات التسوية يقوم المحكمون بتحرير الحكم في ضوئها، ولكن قد يحدث أن يتدخل المحكمون لتذلیل عقبات التسوية دون أن يظهر ذلك في الحكم. أما فيما يتعلق بالدور الذي يؤديه المحكمون بشأن تصحيح التسوية فهو يتمثل في تهذيبها اما بتوضيحها او ضبطها او حتی تعديلها وذلك بعد التشاور مع الاطراف .

   وبالنسبة للمظهر الثالث لتدخل المحكمين لانجاز التسوية الودية عن طريق التوسط او التوفيق بين أطراف النزاع فهو يحدث من جانب المحكمين انفسهم او يأتي لاستكمال محاولة الاطراف للتسوية. وحيث تصدر المبادرة إلى التوفيق من المحكمين فقد يقوم بها المحكمون انفسهم او شخص من الغيرة. وحين تصدر المبادرة من أطراف النزاع فقد يطلبون من المحكمين مساعدتهم للتوصل إلى تسوية ودية عن طريق التوسط بينهم أو وضع اجراءات الوساطة .

 

(ب) قيام المحكم بدور الوسيط او الموفق:

   ثار التساؤل عما اذا كان من الجائز أن يقوم المحكم بالوساطة في تسوية النزاع الذي جرى تعيينه فيه كمحكم. يبدو الجانب السلبي في اجازة قيام المحكم بدور الوسيط في أنه في حالة فشل الوساطة، ومن ثم استرجاع المحكم لمهمته الأصلية، أن الحكم الذي يصدره بهذه الصفة يحتمل أن يكون عرضة للطعن فيه استناداً إلى اسباب تتصل بتأثر المحكم في اصدار الحكم باعماله التي قام بها كوسيط، كأن يستخدم المعلومات التي تحصل عليها بهذه الصفة الأخيرة، وهي يفترض أن تكون سرية اعطيت له لغرض قيامه بدوره كوسيط، فان ثبت انه استخدمها في اصدار حكمه كمحكم فانه يكون قد فقد أحد متطلبات التحكيم وهي الاستقلال والحياد. يضاف الى ذلك انه بافتراض قيام احتمالات تأثر المحكم بأعماله كوسيط فإنها تنال من طبيعة الدور المطلوب من المحكم القيام به وهي تقتضي التزامه في حسم النزاع بتطبيق قواعد قانونية بحتة على ما ثبت لديه من وقائع، هذا في حين ان اعماله المتعلقة بالوساطة، التي فشلت في تسوية النزاع، لا تتقيد بالضرورة باعتبارات قانونية واجبة الاتباع. لذلك يسود اتجاه يرفض انصاره قیام ذات الشخص بدور المحكم والوسيط .

   رغم أن بعض قوانين وأنظمة التحكيم تجيز لأعضاء هيئة التحكيم، بموافقة الخصوم، استخدام الوساطة او التوفيق أو ما يشابههما لتشجيع الخصوم على التوصل إلى تسوية النزاع، الا أن هذا لايمنع الخصم صاحب المصلحة من الطعن في الحكم استناداً إلى عدم حياد المحكم حتی ولو ثبت أن الخصوم اتفقوا على قيام المحكم باستخدام المعلومات التي حصل عليها خلال الوساطة في تسوية النزاع.

   وإذا كانت موافقة الخصوم على ازدواج دور المحكم بحيث يسمح له بالقيام بدور الوسيط يمثل مخاطرة بالنسبة لهم، فان للقائمين بمهمة الدفاع ايضاً عدة مخاوف من هذا الازدواج تستمد من اختلاف طبيعة كل من التحكيم و الوساطة من ناحية ومن تأثير الازدواج على متطلبات العدل الطبيعي والحياد من ناحية أخرى ففي الوساطة تتغلب الاعتبارات التي تمليها المصلحة الآنية للاطراف على متطلبات القانون بشأن حقوقهم والتزاماتهم. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن نتيجة الوساطة تتأثر الى حد كبير بشخصية الوسيط وبالتالي بالدور الذي يؤديه وطريقته في توجيه سلوك المتنازعين، الأمر الذي يجعل طريقته في حسم النزاع مرتبطة باعتبارات شخصية، وهو ما يخشى أن يكون له تأثير على الشخص حين يعود الى مهمته الأصلية كمحكم، وحيث لا يجوز أن يكون للاعتبارات الشخصية دور في تحديد الاتجاهات القانونية للفصل في النزاع. اكثر من ذلك فان اسلوب الوساطة يؤثر بدرجة أو أخرى على حقوق الدفاع، إذ أن اجراءات الوساطة تفترض حضور الخصوم بأنفسهم ومشاركتهم في اجراءاتها مما يدفعهم إلى الافصاح بحرية عن معلومات هامة وبالتالي التخلي عن الحرص الذي يلتزمه المحامون في الدفاع. ومما يزيد مخاطر الانحياز لأحد الطرفين ان الوسيط يجتمع مع الخصوم عادة كل على انفراد، وهو ما قد يرى فيه مخالفة لحقوق الدفاع التي تتطلب أن يقف كل خصم على أقوال الخصم الآخر، وفي مثل هذه الظروف يخشى أن يبدي الوسيط وجهة نظر لصالح طرف دون آخر مما يكون له تأثير نفسي عليه حين تفشل الوساطة ويعود الوسيط الى مهمته كمحكم.

   ورغم وجود المحاذير المذكورة أعلاه، حين يجتمع دور المحكم والوسيط في شخص واحد، الا إنه لوحظ انه يمكن تفادي هذه المحاذير باتباع اسلوب مناسب في ادارة المهام المزدوجة مما يجري النص عليه في وثيقة الاتفاق المبرمة بين الشخص المكلف بادارة تسوية النزاع وبين الخصوم في حضور وكلائهم من المحامين، وبحيث يكون لاطراف هذه الوثيقة الاتفاق علی تعديل بنودها من وقت لآخر لمواجهة ما يبرز من صعوبات في مزاولة مهام التحكيم والوساطة. ويندرج في هذا السياق اتجاه بعض المحاكم في كندا إلى اقرار ما ينتهي اليه اسلوب تسوية النزاع متى كان اطرافه قد وافقوا على الإجراءات باعتبار انهم باتفاقهم على هذا الأسلوب يكونون قد تنازلوا ضمناً على ما تقتضيه متطلبات العدل الطبيعي. ومن الواضح أن اقرار هذه النتيجة، يقتضي فضلاً عن موافقة الخصوم كتابة على اجراءات التسوية، أن تصدر هذه الموافقة وهم على بينة من أمرهم. ولهذا فإنه لا يكفي أن يوافق اطراف النزاع على الأسلوب المزدوج للتسوية عند ابرام عقد الأساس وقبل حصول النزاع، وانما يجب فضلاً عن ذلك أن يحصل الاتفاق بعد نشوب النزاع ليصدر هكذا رضاء كل خصم على اسلوب التسوية وهو على بينة من نتائج رضائه على تسوية النزاع القائم.

 

ج) تكريس سلطة المحكمين تشريعية

    يملك المحكمون سلطات واسعة بموجب القانون المحلي او النظام المؤسسي الذي يحكم اجراءات التحكيم. وقد لوحظ أن هناك ثمة علاقة بين اتجاه المحكمين في استخدام سلطاتهم وبين تكوينهم القانوني او مهنتهم خصوصاً المحامين والقضاة. فعلى سبيل المثال ينص قانون الاجراءات المدنية الألماني على امكانية قيام القاضي بمساعدة الأطراف في التوصل إلى تسوية ودية سواء من تلقاء نفسه أو بناء على طلب احد اطراف النزاع، وينطلق هذا النص من مبدأ قوامه ان الصلح أفضل في خدمة ادارة العدالة من حسم النزاع بحكم. وفي نفس الاتجاه يتطلب قانون الإجراءات المدنية في بعض مقاطعات سويسرا (زيوريخ) عقد جلسة لتنظيم الاجراءات وحيث يحصل في بعض الأحيان الصلح بين أطراف النزاع، ويجوز للقاضي في كل وقت أن يدعوهم إلى جلسة توفيق. ويذهب القضاء السويسري الى أن مساهمة القاضي في التوفيق لا يشكل خرقا لحياده حتى ولو اضطر، في مرحلة لاحقة، إلى الفصل في النزاع بحكم .

   وقد لوحظ أن تخويل القاضي أو المحكم سلطة التدخل لتسوية النزاع بطريق التوفيق تتوافق مع الاتجاه السائد في بلاد مدرسة قانون العموم (Common Law) مثل أمريكا وانجلترا حيث يوافق القضاة على تسوية النزاع بطريق الوساطة او التوفيق قبل حسمه بحکم ملزم .

   يبين مما تقدم أنه ولئن كان الاتجاه السائد هو اقتصار سلطة المحكم، في شأن تسوية النزاع، على حسمه بقرار ملزم الا انه لوحظ بزوغ اتجاه آخر، يجد أساسه في بعض النصوص التشريعية وما جرى عليه العمل القضائي والتحكيمي، يسمح للمحكم بالمساهمة في تسوية النزاع ودية بداية من تشجيع الأطراف على انجازها وانتهاء بالقيام بها من تلقاء نفسه، وذلك بالطبع بموافقة اطراف النزاع. ومن المتصور حين يستخدم المحكم سلطة تسوية النزاع بطريق التوفيق بموجب اتفاق اطرافه أن يحصل هذا الاتفاق اثناء جریان اجراءات التحكيم او من باب اولي حين يقع هذا الاتفاق قبل بداية هذه الاجراءات. ومن الممكن أن تحصل صورة هذا الاتفاق الاخير عند تحرير وثيقة مهمة المحكمين طبقاً للائحة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية وحيث يجرى النص فيها على سلطة هيئة التحكيم في اقتراح ما تراه مناسبة من اجراءات تسوية النزاع ودياً.

   واذ تشكل موافقة اطراف النزاع على اسلوب التسوية المزدوج أحد متطلبات انجازه فانه يبقى أن نحدد بالتفصيل مفرادتها.

 

ثانياً - متطلبات ادارة التسوية

   يستمد استخدام المنهج المزدوج او المركب لادارة التسوية أساسه من رضاء اطراف النزاع به، كما يشترط لنجاحه ان يكون الشخص المكلف بالادارة (المحكم والوسيط) على دراية بحدود مهمته وضوابط انتقاله من صفة الى أخرى. وبناء عليه يمكن أن نحدد شروط استخدام المنهج المزدوج او المركب للتسوية فيما يلي:

  1 - موافقة اطراف النزاع على استخدام هذا المنهج وهم على بينة من أمرهم بأن يحاطوا علم بمخاطر انتقال الشخص (أو الهيئة المكلف بتسوية النزاع من التحكيم الى الوساطه او العكس. ذلك أن اختيار اطراف النزاع للوساطة او التحكيم كأسلوب للتسوية يقوم على أساس الوظيفة التقليدية لكل من الوسيط او المحكم، لذلك فان الجمع بين الدورين ومن ثم الانتقال من دور الى آخر يتطلب رضاء الأطراف. وإلا فإن قيام المحكم باعمال تتجاوز مهمته التقليدية، كما هي منصوص عليها في اتفاق التحكيم او في قواعد التحكيم واجبة التطبيق، سوف يقابل من الأطراف ببعض الشكوك أو التردد مما قد يؤثر في صحة اعمال المحكم. واذا كان مطلوباً من المحكمين أن يكون لهم دور ايجابي في تسوية النزاع، إلا أن تجاوز حدود مهمتهم الأصلية يقتضي منهم اقناع اطراف النزاع بمزايا الأسلوب المركب للتسوية من حيث توفير الوقت والتكلفة ومن ثم يجری طلب موافقة الأطراف أو ممثليهم على هذا الأسلوب والحصول عليها فعلا، بحيث يثبت ذلك كتابة في محضر الجلسة الاجرائية مثلا. ومن المتصور ان يطلب المحكم من الأطراف تجربة الاسلوب المركب على بعض أجزاء النزاع بحيث يمتد تطبيقه إلى باقي اجزاء النزاع في حالة نجاح المسعى الأول.

   2- يجب أن تحدد اتفاقية الاسلوب المزدوج أو المركب حقوق والتزامات اطرافها بمن فيهم الشخص المكلف بمهام التسوية مع بيان ضوابط انتقال مهمة هذا الشخص من صفة الى اخرى، وأيضاً حفظ حقوق اطراف النزاع في الاعتراض على أسلوب القائم بالادارة. ويجب في جميع الأحوال استيفاء متطلبات النظام القانوني الذي تخضع له اتفاقية التسوية سواء وجد هذا النظام في قانون وطني او في لوائح مؤسسات التحكيم، مع الاعتناء بصفة خاصة بالقواعد المتعلقة بحقوق الدفاع.

  3- يجب أن يكون الشخص المكلف بإدارة حزمة التسوية (المحكم أو هيئة التحكيم) مؤهلا الانجاز مهمته المركبة وبالتالي على دراية بمتطلبات قيامه بادوار عديدة خصوصاً عدم تأثره بما يقف عليه من معلومات، خارج نطاق التحكيم، عندما يفصل في النزاع بصفته محكم.

 

(4) الخلاصة:

   افادت التجارب أن اتباع اسلوب التحكيم التقليدي في تسوية منازعات عقود الانشاءات، خصوصاً الضخمة منها والتي تنشب خلال تنفيذها منازعات معقدة، لا يخلو من مثالب تتعلق بالوقت والتكلفة وايضاً باقتناع الخصوم بصحة الحكم و عدالته. ولما كان دور المحكم يقتصر تقليدياً على تطبيق القواعد القانونية ذات الصلة على ما ثبت لديه من وقائع، إلا أن طبيعة منازعات الانشاءات أملت على اطرافها التفكير في تطوير الدور التقليدي للمحكمين بحيث يكون هذا الدور ايجابياً يسمح لهم باقناع اطراف النزاع بمزايا تكليف المحكمين بالقيام بادوار اخرى غیر دورهم التقليدي سواء في تحديد نقاط النزاع او اعداد ادلة الإثبات أو حتى اسلوب ادارة عملية تسوية النزاع. غير انه يتعين لقيام المحكمين بأدوار أخرى، بجوار دورهم التقليدي، أن يوجد له سند قانوني في القوانين والنظم المتعلقة بالتحكيم اضافة الى صدور رضاء متبصر من اطراف النزاع بالأسلوب المركب في تسوية النزاع، كما يجب في جميع الأحوال عدم المساس بحقوق الدفاع التي يمليها العدل الطبيعي. ويجب أن يكون واضحا أن ادارة الأسلوب المركب للتسوية بمعرفة المحكمين يتطلب، فضلاً عن اقتناع اطراف النزاع بجدواه، بذل جهد مضاعف من المحكمين مقارنة بالجهد المبذول في التحكيم التقليدي. ولعل الاستجابة لحاجة منازعات عقود الانشاءات الى اساليب متطورة، يراعي في ادارتها عدم المساس بالعلاقة التجارية المستمرة بين اطرافها، هو الذي يبرر تجربة الجمع بين نظامي التحكيم والوساطة، وربما ايضاً اساليب اخرى للتسوية، من حيث أن هذا المنهج المركب يقدم حلولاً جديدة لجريان الاجراءات على نحو يؤدي الى التوصل إلى تسوية سريعة غير مكلفة يشترك في وضعها اطراف النزاع أنفسهم، وهو ما لا يتأتى حين تجرى الاجراءات بنفس الاسلوب المتبع أمام المحاكم أو حتى في اطار التحكيم التقليدي.