التحكيم / الإتجاه الفقهي من جواز اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / الفقه المؤيد
ذهب جانب من الفقه المصري إلى التسليم بجواز التحكيم في منازعات العقود الإدارية واستند أنصار هذا الرأي إلى أسباب مختلفة؛ منها ما هو راجع إلى نصوص مواد لقوانين وتشريعات صادرة سواء كانت تنتمي إلى قانون المرافعات الصادر 1998 أم قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 ، وحتى داخل نصوص قانون مجلس الدولة المصري نفسه - مع أنه هو صاحب الاختصاص الأصيل في تلك المنازعات - توجد مواد تجيز التحكيم في منازعات العقود الإدارية وأسباب أخرى أوردها يمكن تناولها على النحو الآتي: أولا: بالنسبة لجانب الفقه المؤيد للتحكيم استنادا إلى نصوص قانون المرافعات رقم 13 لسنة 1998.
حيث كان يرى هذا الجانب من الفقه جواز التحكيم في المنازعات الإدارية، ومنها منازعات العقود الإدارية معتمدا على نص المادة 501 من هذا القانون - والتي ألغيت فيما بعد - حيث نصت تلك المادة على أنه: " يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين بوثيقة تحكيم خاصة، كما يجوز الاتفاق على التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ من تنفيذ عقد معين... ولا يثبت التحكيم إلا بالكتابة، ويجب أن يحدد موضوع النزاع في وثيقة التحكيم أو أثناء المرافعة، ولو كان المحكمون مفوضين بالصلح، وإلا كان التحكيم باطلا ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ولا يصح التحكيم إلا لمن له التصرف في حقوقه."
كذلك تمسك أنصار هذا الرأي بعبارة: "لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح"، بما يعني أن موضوعات التحكيم بنص المادة هي ذاتها موضوعات الصلح. وعليه فإن التحكيم شأنه شأن الصلح لا يشكل مساساً باختصاص المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع.
ثانيا: بالنسبة لجانب الفقه المؤيد للتحكيم استنادا إلى نصوص قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972.
حيث يستندون لنص المادة 58 منه الذي نص على أن: "...... ولا يجوز لأية وزارة أو هيئة عامة أو مصلحة من مصالح الدولة أن تبرم أو تجيز أي عقد أو صلح أو تحكيم أو تنفي قرار محكمين في مادة تزيد قيمتها على خمسة آلاف جنية بغير استفتاء إدارة الفتوى المختصة ۰۰۰"
ويستفاد من ظاهر هذا النص أنه أجاز التحكيم في منازعات العقود الإدارية، ولكن بشرط أخذ رأي إدارة الفتوى المختصة.
ومن المواد الأخرى التي يحتويها قانون مجلس الدولة والتي تمسك بها أنصار الرأي المؤيد للتحكيم في منازعات العقود الإدارية قبل صدور قوانین التحكيم هي المادة 10 منه، حيث نصت على أن: "تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المسائل الآتية"، وجاء في البند الحادي عشر "المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو أي عقد إداري آخر"؛ فهي مادة الغرض منها وفقا لأنصار هذا الرأي وضع حد فاصل بين اختصاصات القضائين الإداري والعادي، واستبعاد اختصاص محاكم القضاء العادي بالفصل في هذه المنازعات، وهذا هو الغرض الوحيد الوضع هذا البند، ولا يجوز أن يتعدى هذا الغرض إلى القول بأن هذا النص يحظر اللجوء إلى التحكيم الاختياري، وإلا حملنا النص أكثر مما يحتمل، ولو أراد المشرع تقرير هذا النص عليه صراحة. فهو نص قصيد به بیان حدود اختصاص القضاء الإداري في مواجهة القضاء العادي، ولم يقصد به حظر لجوء الجهات الإدارية للتحكيم لحسم منازعات العقود الإدارية .
توثيق هذا الباحث
يتبين مما سبق عدم سلامة المبررات السابقة، حيث إن قوانين مجلس الدولة لا تجيز التحكيم صراحة، بل هي إجازة مشروطة بأخذ رأي الإدارات المختصة التي يتكون منها قسم الفتوى بمجلس الدولة، حيث نصت المادة 58 من قانون 47 لسنة ۱۹۷۲ والخاص بمجلس الدولة على أن: "يتكون قسم الفتوى من إدارات مختصة لرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء والوزارات والهيئات العامة، ويرأس كل إدارة منها مستشار أو مستشار مساعد، ويعين عدد الإدارات وتحدد دوائر اختصاصها بقرار من الجمعية العمومية للمجلس، وتختص الإدارات المذكورة بإبداء الرأي في المسائل التي يطلب الرأي فيها من الجهات المبينة في الفقرة الأولى وبفحص التظلمات الإدارية، ولا يجوز لأية وزارة أو هيئة عامة أو مصلحة من مصالح الدولة أن تبرم أو تقبل أو تجيز أي عقد أو صلح أو تحكيم أو تنفيذ قرار محكمين في مادة تزيد قيمتها على خمسة آلاف جنيه بغير استفتاء الإدارة المختصة ".
فلو أن مجلس الدولة أقر بإجازته للتحكيم في منازعات العقود الإدارية لأفرد مادة خاصة بذلك بالموافقة على اللجوء إلى التحكيم، كما أن الغرض من وضع المادة 58 فقط هو تحديد مهام واختصاصات الإدارات التي يتكون منها قسم الفتوى وهذه الاختصاصات هي: إبداء الرأي في المسائل التي يطلب الرأي فيها، وبفحص التظلمات الإدارية، وإن من ضمن هذه الاختصاصات استفتاء هذه الإدارات قبل إبرام أو قبول أو إجازة أي تحكيم طالما كان هذا التحكيم في مادة تزيد قيمتها على خمسة آلاف جنيه، وليس الغرض منها هو الموافقة على إجازة التحكيم صراحة.
ثالثا: بالنسبة لبعض الفقه المؤيد للتحكيم استنادا لقانون السلطة القضائية الصادر بالقانون رقم 46 لسنة 1972م.
وفقاً لأنصار الفقه المؤيد للتحكيم في منازعات العقود الإدارية، فإنهم يرون أن هذا القانون لا يوجد به أيضا ما ينص على حظر التحكيم سواء في المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية التي تختص بها محاكم مجلس الدولة بالفصل فيها أم في غيرها من المنازعات التي تدخل في اختصاص المحاكم العادية، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة 15 على أنه: " فيما عدا المنازعات الإدارية التي يختص بها مجلس الدولة تختص المحاكم بالفصل في جميع المنازعات والجرائم إلا ما استثني بنص خاص". وبالتالي فإن تلك المادة أيضا تضع الاختصاص القضائي المحاكم القضاء العادي دون أن تتعدى ذلك إلى حظر التحكيم.
كما استند جانب من الفقه إلى مبررات أخرى للقول بجواز التحكيم في العقود الإدارية في ذلك الوقت منها ما يلي:
1- إن مبدأ حسن سير المرافق العامة باطراد وانتظام يتطلب أن ينتهي القضاء من القضايا التي بحوزته بالفصل فيها بشكل أسرع بعكس ما هو موجود بالواقع بسبب تكدس وتراكم القضايا، وبالتالي تطول المدة التي يستغرقها القاضي الإداري للفصل في تلك المنازعات مما يضر بمصلحة المتقاضين، وبالتالي يجب الاعتراف بالتحكيم بوصفه أسلوباً لحسم المنازعات التي قد تثور بصدد العقود الإدارية.
2- أن اصلاح العقود الإدارية الذي تعرفه مصر نقلا عن فرنسا لا يوجد في كثير من دول العالم، فالتشريعات الأنجلوسكسونية تعامل فيها العقود الإدارية والعقود المدنية على قدم المساواة وكلاهما يخضع للأحكام نفسها.
3- أن العقود ذات الطابع الدولي، وهي التي تبرم مع الأشخاص الخاصة الأجنبية، وللإدارة فيها مصالح عديدة يجب أن تشتمل على شرط التحكيم، إذ يتمسك به المتعاقد الأجنبي حتى لا تكون الإدارة خصماً وحكماً في نفس الوقت، وإلا يتم التضحية بمصالح الإدارة في هذه الحالة لمجرد رفض شرط التحكيم.، وحتى تستطيع اقتضاء حقوقها بصورة مرضية دون افتئات عليها، خصوصا في المسائل الاقتصادية والتجارية.
وعلى الرغم من اتفاق أنصار هذا الرأي من الفقه على جواز التحكيم في منازعات العقود الإدارية قبل صدور قانون التحكيم المصري، وبالتالي يكون الأصل في القانون المصري هو جوازه بوصفه قاعدة عامة في المنازعات الإدارية على خلاف ما يجري عليه النظام القانوني في فرنسا، إلا أنهم يرون وجوب أن يقتصر الالتجاء للتحكيم على منازعات عقود الإدارة سواء التي تخضع للقانون الخاص أم العقود الإدارية، وذلك وفقا للقواعد الواردة في قانون المرافعات، والتي لا تتعارض مع طبيعة العقود الإدارية .