الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / الحجج والمبررات على عدم جواز اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / مبررات مبدأ عدم جواز لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم

  • الاسم

    محمد عبدالتواب عبدالحسيب
  • تاريخ النشر

    2021-01-01
  • عدد الصفحات

    732
  • رقم الصفحة

    104

التفاصيل طباعة نسخ

مبررات مبدأ عدم جواز لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم

     أجمع الفقه والقضاء الفرنسيين في بادئ الأمر على عدم جواز الاتفاق على التحكيم بالنسبة لأشخاص القانون العام إلا بنص تشريعي صريح، واستندوا في ذلك إلى نص قانون الإجراءات المدنية الفرنسي في المادة 83 والمادة 1004، واللتين عدلتا فيما بعد بالمادة 2060 من القانون المدني الحديث الصادر في 5 يوليو (اب) 1972 - والمعدل في 9 يوليو عام 1975 - على حظر التحكيم في المنازعات التي تتصل بالدولة أو الأشخاص العامة، ويجد الحظر مسوغاً له في الخشية من عدم حماية مصالح الشخص العام في التحكيم بخلاف اللجوء إلى القضاء، وكذلك في منع الأشخاص العامة في أن تظهر كأنها تتحدى القضاء، كما أن هناك العديد من المبررات نتناولها فيما يلي :

المساس بسيادة الدولة

    تتمتع الإدارة عند إبرامها للعقود الإدارية بحقوق وسلطات واسعة، تستمدها من العقد الإداري، ومنها الرقابة على تنفيذ العقد أو إصدار أوامر وتعليمات إلى المتعاقد معها، وكذلك سلطة الإدارة في توقيع جزاءات على المتعاقد معها مثل: الغرامات المالية، فسخ العقد وتنفيذه على حساب المتعاقد في حال النكول.

   ومن هذه السلطات الواسعة أيضاً سلطة الإدارة في تعديل العقد بإرادتها المنفردة دون الحاجة لاستصدار حكم قضائي. وقد تضطر الدولة وأشخاص القانون العام إلى إبرام عقود التجارة الدولية أو الإشراف على عقود التنمية الاقتصادية، مما يجعل التحكيم هو الوسيلة الدائمة لتسوية المنازعات التي تتأزم بمناسبة تنفيذ هذه العقود التي تمثل الشركات الأجنبية طرفا ثانياً فيها، وعلى ضوء ذلك فقد يرى البعض أنه يصعب خضوع الدولة أو أشخاص القانون العام لقضاء دولة أجنبية، وهذا خلاف ما يحدث في التحكيم حيث إن الدولة تشارك فيه باختيار المحكمين واختيار القانون واجب التطبيق؛ فالمحكمون قد يكونوا أفرادا عاديين أو هيئات خاصة، ومن الممكن أن يتضمن احتمال تطبيق قانون أجنبي، وما يترتب على ذلك من إبعاد القضاء الوطني الذي يعد مظهرا من مظاهر السيادة.

   وبسبب هذا الخلاف يقول العلامه Laferriere إنه من المسلم به أن الدولة لا تخضع قضاياها لمحكمين سواء بسبب النتائج المشكوك فيها للتحكيم على حد قوله أم بسبب اعتبارات النظام العام التي تقضي بأن الدولة لا يمكن أن تكون موضوعا للقضاء إلا بواسطة جهات القضاء المنشأة بالقانون.

    وفي حقيقة الأمر يرى الباحث أن الواقع العملى يدحض هذه الحجة تماماً كمبرر لعدم جواز لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية في فرنسا؛ فالملاحظ للواقع العملي الحديث يجد أن القوانين المحلية اتجهت إلى حماية سيادتها داخل دولها من خلال النص على نقض أو عدم تنفيذ الأحكام الصادرة من المحكمين إذا كانت تمس سيادتها في حال ما إذا كانت مخالفة للقواعد القانونية العامة فيها، أو ما يسمى بالنظام العام، مع التزامها بعدم مناقشة موضوع التحكيم الذي يطلب تنفيذه في سلطانها، حيث نصت المادة (1488) من قانون التحكيم الفرنسي رقم 48 السنة 2011 على أنه "لا يجوز منح الأمر بالتنفيذ إذا كان الحكم يخالف النظام العام. يجب أن يكون الأمر برفض الأمر بالتنفيذ مسبب"، وبالمثل لا يتم الإعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها اذا كانت تخالف النظام العام الدولي، وهو ما قررته المادة 1415 من ذات القانون حيث نصت على أن " يتم الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها في فرنسا إذا كانت صادرة من قبل الأشخاص المنصوص عليهم وإذا كانت لا تخالف النظام الدولي العام .

     ففي تطور حديث لموقف القضاء العادي في فرنسا نجد أن هناك حكماً حديثاً قد صدر من محكمة استئناف باريس ، بين أن الحكم التحكيمي الذي يصدر مبنياً على فساد فهو حكم يتعارض مع المفهوم الفرنسي للنظام العام الدولي، وبالتالي يكون هذا الحكم متعين البطلان . فجاء في أسباب حكمها:

   "إن احترام المفهوم الفرنسي للنظام العام الدولي يعني أن قاضي الدولة المسؤول عن الرقابة يمكنه تقييم الدفع المستمد من الإخلال بالنظام العام الدولي حتى إن لم يتم طرحه أمام المحكمين ولو أن هيئة التحكيم لم تضعه موضع النقاش. وبالتالي، فإن ما تذرعت به شركة سوريليك من أن الدفع المتعلق بوجود أفعال فساد جديد في حين أنه كان من الممكن لدولة ليبيا طرحه على هيئة التحكيم، لا يمنع القاضي من النظر فيما إذا كان الحكم الجزئي الذي صادق على البروتوكول ليس من شأنه التغطية على مثل هذه الأفعال الفاسدة، وأنه ما كان ليتم إبرامه من دونها".

   وجاء حكم محكمة استئناف باريس بمنطوق أنه: "وتبعاً لذلك فإن حكم التحكيم الجزئي الصادر في 20 ديسمبر 2017 ، والذي يتعارض مع المفهوم الفرنسي للنظام العام الدولي متعين الإبطال."

    وهو ما يعني أن محكمة استئناف باريس لم تأخذ بحكم محكمة التحكيم المبني على وجود فساد أدى إلى صدوره من خلال تحصل المسئولين على رشاوی، لتسهيل حصول شركة سوريليك على أموال لا تستحقها.

    هذا وقد أردف المشرع الفرنسي شروطاً خاصة للطعن بالبطلان في المادة (1492) من ذات القانون، من ضمنها أن يصدر الحكم مخالفاً للنظام العام، وقد تكون هذه السياسة مرحلية ؛ أي أنه ربما يتطور الأمر إلى التزام القوانين المحلية بإمضاء أحكام المحكمين وتنفيذها متى اتفقت مع القانون الإجرائي والموضوعي الذي اختاره طرفا التحكيم بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها للنظام العام في الدولة التي يعرض أمامها النزاع أو يطلب تنفيذ الحكم داخل سلطانها.

   وإذا ألقينا نظرة سريعة إلى الأحكام المهمة التي صدرت من مراكز التحكيم الكبرى، نجد أن المحكمين الذين يصدرون هذه الأحكام كانوا دائماً من كبار فقهاء القانون ومن كبار رجال القضاء في محاكم الدول المختلفة، وهذا أمر طبيعي كما يلاحظ الراحل الأستاذ الفرنسي الكبير قوشار، لأن المنازعات التي تعرض على التحكيم تبدأ وتنتهي بتفسير نصوص ذات طبيعة قانونية «شروط العقد»، ثم إنه كثيراً ما تلجأ هيئات التحكيم إلى الخبراء المعنيين للاستعانة بهم في المسائل ذات الطبيعة الفنية التي تعرض لها، وتنظم كذلك لوائح مراكز التحكيم الدولي الكبرى عملية الاستعانة بالخبراء في مجال التحكيم، الأمر الذي قلل من مسألة مساس اللجوء الى التحكيم بسيادة الدولة في الوقت الذي صار فيه إمتثال الدولة والأشخاص العموميين للقضاء الإداري منه، والعادي كل في حدود إختصاصه أمراً مسلماً.

الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات

     إن مبدأ الفصل بين السلطات الإدارية والقضائية قديم، ومن المبادئ المستقرة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي والتشريعات الفرنسية، حيث تم وضعه ابتداء بمقتضى المادة 13 من الباب الثاني من قانون 16-24 أغسطس

عام 1790 إبان الثورة الفرنسية، وتم التأكيد عليه في مرسوم 16 فريكتيدور للسنة الثالثة، وهو يحول دون خضوع الإدارة في قضاياها لقضاء خاص، حيث إنه يقوم على ضرورة التمييز والفصل بين السلطة الإدارية والسلطة القضائية ومنع تدخل القضاء العادي في أعمال الإدارة، ولكن إجازة التحكيم ستسمح للقاضي العادي بأن يمارس رقابته على قرار المحكمين في حالة الطعن عليه أو عند بطلان اتفاق التحكيم، وبالتالي يخرج النزاع من الاختصاص القضائي الذي يتبعه أصلا وتعرض المنازعات الإدارية على القضاء العادي، وبالتالي يتطلب تطبيق هذا المبدأ ضرورة وجود قضاء يختص بنظر المسائل التي تكون الإدارة طرفا فيها.

   ومبدأ الفصل بين السلطات الإدارية والقضائية كأحد مبررات مبدأ حظر لجوء الدولة وسائر أشخاص القانون العام إلى التحكيم قد استند إليه غالبية فقهاء القانون العام الفرنسي.

   ونذهب إلى أنه من الممكن لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم في العقود الإدارية دون أن يعد ذلك إخلالاً مبدأ الفصل بين السلطتين الإدارية والقضائية، حيث إنه من الممكن عند الطعن في أحكام وقرارات المحكمين أو عند بطلان اتفاق التحكيم أن يكون الاختصاص بنظر هذه القرارات والأحكام منعقداً للجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع؛ فإن كان النزاع ذا طبيعة إدارية يكون القضاء الإداري هو المختص بنظر تلك المنازعة، وإذا كان النزاع ذا طبيعة مدنية تكون المحاكم العادية هي المختصة.

 

اللجوء الى التحكيم يعد خروجاً على مبادئ التفويض

   ويرى البعض أنه "تطبيقا لقاعدة أن التفويض لا يرد على تفويض، فإن العقد الإداري يرد في نطاق الاختصاص المعين للجهة العامة المتعاقدة، فلا يجاوز هذا الاختصاص، ومن ثم فليس لجهة عامة أن تفوض غيرها في شأن لم يجز لها التفويض فيه صراحة، إذ أن جهة الإدارة العامة مقيدة في تعاقداتها.

   والواقع أنه يعاب على هذا المبرر أن لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم لا يتعارض مع مبادئ التفويض لأن الوزارء أنفسهم كممثلين لحكوماتهم لا يملكون تفويض سلطاتهم للمحكمين وهيئات التحكيم حتى يمكن القول بتعارض لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم مع مبادئ التفويض في القانون الفرنسي.

 

 تعارض التحكيم مع أسس ومبادئ نظرية العقد الإداري

    مع بداية القرن العشرين وفي السنوات الأولى له بدأ مجلس الدولة الفرنسي في بناء وتكوين نظرية عامة للعقود الإدارية من خلال وضع قانون فعلي له واستعان في ذلك بالعديد من الفقهاء الفرنسين أمثال الفقيه "جاستون جيز" الأب الروحي لنظرية العقود الإدارية - كما أسماه الفقيه "العميد فيدل" - وكذلك "جورج بيكينو" و"أندريه دي لوبادير" الذين ساهموا بكتاباتهم في بناء تلك النظرية، والتأكيد على استقلالها ووضع إطار عام يميزها عن القواعد المطبقة على عقود القانون الخاص.

   ولهذا فإن نظرية العقد الإداري تقوم على أسس ومبادئ جوهرية تختلف عن المبادئ والقواعد والأحكام التي تنطبق على عقود القانون الخاص، وأهم هذه المبادئ مبدأ المساواة بين المتعاقدين ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين.

    ومن منطلق ذلك فإن اللجوء إلى التحكيم - وفقا لهذا الرأي - يتعارض مع تلك الأسس والمبادئ، حيث إن التحكيم أساسه المساواة بين طرفي النزاع مساواة تامة دون تمييز إحداهما على الآخر، حتى وإن كان أحد الأطراف الدولة أو أحد أشخاصها أو سلطاتها، ولا يوجد لها أي تمييز في مواجهة الطرف الآخر، فهم سواء أمام المحكمين الذين لا يستطيعون الاعتراف للدولة في الإشراف على تنفيذ العقد، وإذا استدعت الظروف والمصلحة العامة تدخلها لإجراء تعديلات على العقد فلن تستطيع ولا يكون لها الحق في فسخ العقد من جانبها أو حتى توقيع جزاءات إذا أخل المتعاقد معها بأحد التزاماته .

    كما أن هذا المبرر يعاب عليه أنه وإن كان مقبولاً بتلك الفترة إلا أن ثمة تحولاً طرأ على النظرية العامة للعقود الإدارية في فرنسا منذ بداية عام 1990 بإفراد بعض أنواع العقود الإدارية بنظام قانوني استثنائي يختلف عن القواعد العامة التي تحكم تلك النظرية مما أدى إلى تراجعها وإضعافها.

 

اصطدام التحكيم في العقود الإدارية بفكرة النظام العام

   إذا كانت فكرة النظام العام في القانون الفرنسي هي فكرة مرنة، ومتغيرة من زمان لآخر ومن مكان لآخر، إلا أن ذلك لا يقف مانعاً من تحديد إطارها القانوني، كونها فكرة قانونية ترتب نتائج مباشرة تجاه الإدارة والأفراد على حد سواء وفقاً لما أجمع عليه الفقه الفرنسي من إضفاء الصفة القانونية على فكرة النظام العام ، لاسيما وأن هناك علاقة وارتباطاً وثيقاً بين العقود الإدارية وفكرة النظام العام، ويتضح ذلك جلياً عند التعرض لمفهوم النظام العام في القانون الإداري الفرنسي بأنه تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتحقيق مصلحة عليا على المصالح الفردية، ولهذا فإن اللجوء إلى التحكيم قد يؤدي إلى إهدار ضمانات المصلحة العامة، تلك الضمانات التي لا تتحقق إلا أمام القضاء المختص بالمنازعات الإدارية. وبالتالي ووفقاً لهذا الرأي فلا يجوز اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية لأن هدف الأخيرة دائما هو تحقيق المصلحة العامة من خلال اشباع الحاجات العامة للمواطنين .

   كما يؤكد الفقيه Foussard إلى أن : "مبدأ حظر اللجوء إلى التحكيم يمكن تحليله - على ما يبدو لنا - بأنه قاعدة الهدف منها إخراج فئة من الأشخاص، وهم الدولة والجماعات العامة من الشريعة العامة التحكيم (.......) على اعتبار أنهم مكلفون بالعمل على تحقيق المصلحة العامة، مما يلزم إبعادهم عن مواجهة الأخطار الناجمة عن لجوئهم إلى التحكيم ".

كما يرى البعض من فقهاء القانون العام أنه لا يمكن لفكرة النظام العام أن تقف عائقا أمام إمكانية التحكيم في منازعات العقود الإدارية متى توافر معیار قابلية المنازعة للتحكيم حيث إن وجود قواعد قانونية تتصل بالنظام العام وتولى بها المشرع تنظيم الروابط القانونية التي نشأت بمناسبتها هذه المنازعات يمنع المحكمين فقط من مخالفة تلك القواعد في الحكم الذي يصدر عنهم. وإلا فإن الطرف الذي صدر الحكم لصالحه لن يستطيع الحصول على سند تنفيذي يتيح له تنفيذ ذلك الحكم.

   ويبدو أنه يمكن اللجوء إلى التحكيم في حالة عدم استعمال أشخاص القانون العام لمظاهر السلطة العامة عند التعاقد، ويجب على المحكم أن يراعي ذلك عند بدء التعاقد، كما يجب عليه أن يراعي ما إذا كانت هناك قواعد قانونية آمرة منظمة للمسألة محل اتفاق التحكيم حيث لا يجوز الإتفاق على مخالفة تلك القواعد كونها أصبحت غير قابلة للفصل فيها بطريق التحكيم.