التحكيم / الإتجاه الفقهي من عدم جواز اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / الفقه الرافض
ذهب جانب آخر من الفقه المصري إلى عدم جواز التحكيم في منازعات العقود الإدارية في ذلك الوقت، واستندوا في ذلك لبعض الحجج والأسباب؛ منها حجج معارضة للجانب المؤيد للتحكيم، ومنها حجج أخرى مشابهة في المضمون لأراء وأسانيد الجانب الفرنسي المعارض للتحكيم، والذي تم عرضه في المبحث السابق، ومنها كذلك حجج أخرى تؤدي - في النهاية - إلى القول بعدم إمكانية اللجوء إلى التحكيم لفض منازعات العقود الإدارية، وهو ما يمكن بيانه على النحو الآتي:
أولاً: بالنسبة للجانب الرافض للتحكيم لمجرد معارضته للرأي السابق المؤيد.
تستند حجج هذا الرأي إلى ما يلي:
1- فيما يتعلق بتمسك أنصار الرأي المؤيد للتحكيم بالمادة 501 من قانون المرافعات - الملغي -:
يذهب هذا الجانب الرافض للتحكيم إلى أن تمسك أصحاب هذا الرأي بهذا النص يعد تجاوزها لحدود النص نفسه؛ لأن التحكيم ما هو إلا طريق استثنائي لفض المنازعات بصفة عامة، وهو في حقيقته يعتبر عدوانا على اختصاص القضاء، حيث يتم نزع اختصاصه بنظر بعض المنازعات التي تخضع له بحسب الأصل، وبالتالي فإن إقرار التحكيم يتطلب نصاً قانونياً صريحاً كما هو الحال في فرنسا.
كما أن استثنائية نظام التحكيم تقتضي النص على التصريح الأطراف التعاقد بالاتفاق على تسوية نزاعاته من خلاله، ومن ثم فلا يفسر سكوت المشرع عن ذلك بأنه إجازة للتحكيم، حيث إن غياب النص في هذه الحالة يعني أن إرادة المشرع لم تتجه للموافقة على إجازة هذا النظام التسوية منازعات العقود الإدارية.
ثانياً : بالنسبة للجانب الرافض للتحكيم استناداً إلى مبررات أخرى تتفق في طبيعتها وأسباب رفض التحكيم في منازعات العقود الإدارية في فرنسا كمبدأ عام نجد أن أغلبها كانت تذهب إلى أن التحكيم في تلك المنازعات يتعارض مع بعض المبادئ والثوابت المستقرة في مصر في هذا الشأن:
1- حيث ذهب بعض من الفقه إلى القول بتعارض التحكيم مع مبدأ سيادة الدولة بسبب سلب التحكيم الاختصاص القضاء الوطني من مظهر سيادته، حيث يتم استبعاد القانون الوطني من التطبيق على النزاع محل اتفاق التحكيم؛ فبموجب اتفاق التحكيم تتجه إرادة طرفيه إلى تسوية نزاعهم بعيداً عن قضاء الدولة، وذلك بواسطة محكم يفصل فيه طبقاً لقواعد يتفق عليها الخصوم، أو دون التقيد بأية قواعد وضعية، كما هو الحال بالنسبة للتحكيم بالصلح.
بيد أن هناك جانباً من الفقه المصري وجه انتقاداته إلى الرأي السابق على أساس أن مسألة سلب اختصاص القضاء الوطني لا يكون إلا بموجب قانون يسمح به ويجيزه لأن التحكيم لا يتوقف على إرادة الأطراف وحدها، وإنما يلزم صدور قانون يسمح به بالإضافة إلى أنه قد يكون هناك نوع من المسائل الفنية في الموضوع محل النزاع، والذي قد يستعصي على القضاة، الذين هم غير متخصصين في تلك المسائل، وهو الأمر الذي أجاز بموجبه المشرع للقاضي أن يستعين بخبير، ويتم وقف الفصل في الدعوى انتظارا لرأيه، وبالتالي يكون من الأفضل اللجوء إلى الخبير مباشرة باعتباره محكما في الدعوى، وهذا لا يعني أن تشل يد القضاء الوطني في نظر تلك المنازعات أو أن تنقطع العلاقة بينه وبين التحكيم حيث يحرص المشرع على لإعطاء القضاء الوطني سلطة التدخل في أعمال المحكمين بالرقابة والإشراف.
كما أن الدولة هي التي قد تختار التحكيم بمحض إرادتها وسيلة لحسم هذه المنازعات، وكذلك يتم اختيار القواعد التي تسري على الإجراءات وتسري على الموضوع وتعين المحكمة لغة التحكيم، وهي إحدى المسائل المتفق عليها، ومما يؤكد وجهة نظرنا هذه أن التحكيم جائز في التشريعات التي أفردت له سابقا بابا خاصا في قانون المرافعات المختلط الصادر 1883 ، وقانون المرافعات الحالي 1998، ولم تظهر معارضة له أو اعتدائه على اختصاص القضاء العادي وذلك قبل أن يصدر قانون خاص بالتحكيم وهو قانون التحكيم الحالي رقم ۲۷ لسنة 1994
2 - كما ذهب البعض إلى تعارض التحكيم مع فكرة النظام العام لأن مفهوم النظام العام في مجال القانون الإداري هو تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة حيث تتواجد فكرة تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة بشكل أكبر في مجال العقود الإدارية فعند إبرام أي عقد إداري يكون الهدف الأسمى من إبرامه هو إشباع الحاجات العامة للمجتمع، ومما يؤكد ذلك نص المادة 501 من القانون المدني المصري والتي تنص على عدم جواز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام .
وقد ذكرت رأياً للخروج من هذه الإشكالية عند التعرض للحجة ذاتها في فرنسا كي لا يصطدم المحكم في النهاية يتعارض حكمه مع النظام العام، وهو أنه يمكن اللجوء إلى التحكيم في حالة عدم استعمال أشخاص القانون العام المظاهر السلطة العامة عند التعاقد، ويجب على المحكم أن يراعي ذلك عند بدء التعاقد، كما يجب عليه أن يراعي ما إذا كان هناك قواعد قانونية أمرة منظمة للمسألة محل اتفاق التحكيم، حيث لا يجوز الاتفاق على مخالفة تلك القواعد لكونها أصبحت غير قابلة للفصل فيها بطريق التحكيم.
كما يرى البعض أن تعديل قواعد الاختصاص لا يمكن أن يتم إلا بأداة قانونية مساوية في القوة والمرتبة للأداة التي نظمت اختصاص محاكم مجلس الدولة. فطبقاً للمبادئ العامة للتحكيم سواء في نطاق القانون الخاص أم القانون العام - فإنه من المسلم به أن المشرع إذا لم ينص على جواز التحكيم وجواز تنفيذ حكم المحكمين ما كانت إرادة الخصوم وحدها بكافية لخلقه، لأن من أخص واجبات الدولة إقامة العدل بين الأشخاص، والفصل في المنازعات التي تنشأ بينهم، والدولة من ناحية أخرى لها وحدها حق فرض هذه العدالة، فلا يملك أحد أن يرفض تدخلها أو أن يتحرر من سلطانها؛ لأن القضاء هو مظهر سيادتها، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن التحكيم الاختياري يقوم على أساسين يتعين توافرهما معا لمشروعيته هما: إرادة الخصوم من ناحية، وإقرار المشرع لهذه الإرداة من ناحية أخرى، بحيث إذا تخلف أي من هذين الأساسين أضحى الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم الاختياري مفتقداً لشرعيته.