التحكيم / الإتجاه القضائي من عدم جواز اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / موقف القضاء الفرنسي الرافض خضوع منازعات العقود الإدارية للتحكيم .
موقف القضاء الفرنسي الرافض خضوع منازعات العقود الإدارية للتحكيم .
يلاحظ على الأحكام القضائية الصادرة من القضاء الفرنسي أنه كان المجلس الدولة في البداية موقفاً صلباً ومتشدداً في منح أشخاص القانون العام حق اللجوء إلى التحكيم، بينما حاول القضاء العادي التهدئة والتخفيف من محاولات التشدد حين اتجه في البداية إلى التفرقة بين التحكيم الداخلي والتحكيم في العقود الإدارية الدولية بهدف تشجيع الاستثمارات الأجنبية في دولة فرنسا.
موقف مجلس الدولة الفرنسي
منذ زمن طويل وبالتحديد منذ مطلع القرن التاسع عشر وقد استقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي على فكرة عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية حيث لا يجوز سلب اختصاص القضاء الإداري في شأن تلك المنازعات استنادا إلى فكرة النظام العام من ناحية أو طبقا لنص المادتين 83، 1004 من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي القديم، والتي بناء على نصهما تم إبطال اتفاق التحكيم في العديد من أحكامة إلا إذا ورد النص على التحكيم في العقد تنفيذا النص تشريعي يسمح به.
وفي الحكم الآخر الصادر في 13 ديسمبر سنة 1957، وهو يعد من أشهر الأحكام الصادرة في ذلك الوقت، حيث انعقدت جلسته بجمعيته العمومية مجتمعة بكامل هيئتها، في قضية الشركة الوطنية لبيع الفوائض أو المخلفات، والذي تم نشره في مجموعة قرارات مجلس الدولة Recueil Lebon، حيث تم الاتفاق بين الشركة المذكورة والشركة العامة للعبور والنقل على الالتجاء إلى التحكيم لحل النزاع القائم بينهما تطبيقا لنص المادة 10 من مرسوم 15 من أكتوبر عام 1946 والذي سمح لمجلس إدارة الشركة الوطنية لبيع المخلفات بأن يعطي لرئيس مجلس الإدارة السلطة في إبرام اتفاق تحكيم باسم الشركة وقضى المجلس بأن:
.......... وحيث إن الشركة الوطنية لبيع المخلفات قد أنشئت بموجب المادة الأولى من قانون 24 أغسطس عام 1946 تحت شكل المؤسسات العامة، وحيث أنه وفقا لنص المادتين 83 ، 1004 من قانون الإجراءات المدنية، فإنه لا يمكن للمؤسسات العامة اللجوء إلى التحكيم إلا بمقتضى نص قانوني يبيح ذلك. وحيث إنه لا القانون السابق ولا أي أحكام أخرى قد أعطت الحق للشركة الوطنية لبيع المخلفات بأن تلجأ إلى التحكيم، وإذا كانت هذه الشركة تأخذ شكل المؤسسات العامة ذات الطابع التجاري إلا أن ذلك لا يعني أنها تخرج من شكل المؤسسات العامة، وبالتالي يسري عليها ذات الحظر المقرر بالنسبة لهذه المؤسسات.
هذا مع ملاحظة أن المؤسسات العامة لم يرد ذكرها في نص المادتين 83، 1004 من قانون الإجراءات المدنية القديم ضمن الأشخاص المعنوية العامة التي يحظر عليهم اللجوء إلى التحكيم، مما يظهر معه التشدد الواضح من مجلس الدولة نحو حظر التحكيم على الأشخاص المعنوية العامة في ذلك الوقت.
وفي هذا الصدد ذهب مفوض الحكومة Le Commissoire du Gouvernement Gazier في مذكرته المعروضة على مجلس الدولة بأن مبدأ الحظر مستمد بشكل خاص من الحرص على تحاشي إهمال الأشخاص الاعتبارية العامة، وهي بصدد الدفاع عن المصالح العامة المكلفة بها إهمالاً للضمانات التي ينطوي عليها ويتضمنها ويكفلها القضاء الرسمي للدولة .
بينما أنه في 6 مارس سنة 1986 أصدر مجلس الدولة فتوى هامة حينما قررت فرنسا إنشاء مدينة ملاهي في بلدة Marne-La- Vallée واستغلال المنطقة المحيطة بها بناء على طلب وخطاب وزير الدولة المكلف برسم وتخطيط الأقاليم، والذي طلب فيه إبداء الرأي حول مدى إمكانية إدراج شرط تحكيم في العقد المبرم بين الدولة وبين إحدى الشركات الأمريكية لتنفيذ تلك المدينة، حين أصرت الشركة الأمريكية على تضمين العقد المبرم بينهما لشرط التحكيم كوسيلة لفض المنازعات التي يمكن أن تنشأ بينهما.
وأردف مجلس الدولة حكمه السابق بعدة مبادئ تساند هذا الحظر، وهي ما يلي:
1- أن اتفاقية واشنطن لعام 1965 التي تتعلق بتسوية المنازعات الناشئة عن الاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى لا تمنح أشخاص القانون العام في فرنسا حق اللجوء إلى التحكيم استنادا إلى أن هذه الاتفاقية معنية ببيان وسائل تسوية المنازعات التي يقرر الأطراف إخضاعها للمركز الدولي لتسوية المنازعات الناشئة عن الاستثمار.
2- أن الاتفاق على التحكيم في علاقات النظام القانوني الوطني يعتبر باطلا لمخالفته النظام العام ما لم تكن ثمة نصوص تشريعية صريحة أو اتفاقيات دولية اندرجت تحت مظلة النظام القانوني الداخلي تسمح بمثل هذا التحكيم.
3- أن مفهوم نص الفقرة الثانية من المادة 2060 من التقنين المدني الفرنسي لا ينطبق إلا على نزاع ناشئ عن العقد ولا يجيز شرط التحكيم في العقد.
4- أنه في حالة منح المؤسسات العامة حق اللجوء إلى التحكيم وفقاً لحكم الفقرة الثانية من المادة 2060 من التقنين المدني يشترط ألا يكون في مواجهة أحد أشخاص القانون العام أو بشان نزاع يخص التزامات أحد المؤسسات ذات الطابع التجاري أو الصناعي مع أحد أشخاص القانون العام الأخرى في مواجهة الغير.
موقف القضاء العادي
1- موقف محكمة النقض الفرنسية
نجد أن هناك حكما لها صادرا في 14 أبريل عام 1964 من أن:" التحريم الناتج عن المادتين 83، 1004 من قانون المرافعات المدنية يتعلق فقط بالنظام العام الداخلي ولا يتعلق بالنظام العام الدولي، وبالتالي فإن المؤسسات العامة تستطيع كأي متعاقد خاص أن تبرم اتفاق تحكيم، وعندها يأخذ العقد طابعا دولياً.
هذا وقد أردفت المحكمة حكمها بالمبادئ الآتية منها :
- إن القول بأن القانون الفرنسي وحده هو الذي يحدد أهلية المؤسسات العامة الفرنسية للتوقيع على شرط التحكيم المدرج في العقد سواء كان هذا العقد دولياً أم محلاً يمكن الرد عليه، حيث إن منع أشخاص القانون العام من الالتجاء إلى التحكيم طبقا للمادتين 83، 1004 من تقنين المرافعات المدنية الفرنسي القديم لا يثير مشكلة الأهلية بالمعنى الوارد بالفقرة الثالثة من المادة الثالثة من التقنين المدني الفرنسي.
- إن الحظر الوارد على العقود الإدارية الوطنية لا يجوز تطبيقه على العقود الدولية التي تخضع لقواعد القانون الخاص وتتفق وأحكام وقواعد التجارة الدولية إذ إن الأمر يتصل بقانون العقد لا القانون الشخصي الأطراف العقد. .
2- موقف محكمة استئناف باريس:
كان من أوائل الأحكام الصادرة من محاكم القضاء العادي حكم محكمة استئناف باريس بتاريخ 10 إبريل 1957 الصادر من الدائرة الأولى للمحكمة حين تم إبرام عقد إيجار سفينة بحرية بين البعثة الفرنسية للنقل البحري في لندن وشركة نقل بحري يونانية، حيث تضمن العقد شرطا تعهد بمقتضاه الطرفان بالجوء إلى التحكيم أمام هيئة تحكيم في لندن لحسم أية منازعات بينهم .
- حيث وجود البعثة هناك - فأصدرت الحكومة الفرنسية قراراً بفسخ العقد قبل نهاية مدته فرفعت الشركة المالكة للسفينة المؤجرة للحكومة الفرنسية دعوى للمطالبة بالتعويض أمام المحكم الذي عينه نظرا لأن الحكومة الفرنسية رفضت تعيين محكم لها فأصدر المحكم حكمه بإلزام الحكومة الفرنسية بتعويض الشركة عن الضرر الذي أصابها نتيجة لفسخ العقد قبل نهاية مدته، فطعنت وزارة البحرية الفرنسية ببطلان الحكم لمخالفته لمبدأ حظر لجوء الدولة وأشخاص القانون العام للتحكيم؛ فقضت المحكمة ببطلان حكم التحكيم، فطعنت الشركة المحكوم ضدها بالاستئناف في ذلك الحكم أمام محكمة استئناف باريس التي قضت بمشروعية شرط التحكيم الوارد في العقد
وذهبت المحكمة في حكمها إلى أن: " تحريم التحكيم يقتصر على عقود التحكيم الداخلي ولا ينطبق على العقود ذات الطابع الدولي، وأنه يستفاد من عبارات المادة 1004 من قانون المرافعات المدنية أن تحريم التحكيم يستند فقط على الحصانة الخاصة التي يستفيد منها لدى القضاء الفرنسي وأن الدولة تستطيع أن تتنازل مقدما عن هذه الحصانة، وذلك بقبول اختصاص القضاء الأجنبي وعليه فإن التحريم المستفاد من نص المادة 1004 لا يتعلق بالنظام العام الدولي".
وقد أرست المحكمة عدة مبادئ تساند هذا التوجه تتمثل في الآتي :
إذا كان العقد الذي يبرمه أحد أشخاص القانون العام ينطبق عليه وصف العقد الدولي، فإن الحظر الوارد في نصوص القانون الفرنسي ليس له ثمة حاجة لتطبيقية، حيث إن هذا الحظر وإن كان يتعلق بالنظام العام في فرنسا، فإن المقصود به هو النظام العام الداخلي الذي تقتصر أعماله على العقود الوطنية وحدها غالبا ما ينص على شرط التحكيم في العقود الإدارية التي لا تحتوي على شرط من شروط القانون العام أو شروط غير مألوفة في إطار القواعد العامة للقانون، وبالتالي فإن الأخذ بشرط التحكيم في هذا العقد يدل دلالة واضحة وقاطعة على توافر إرادة أطراف ذلك العقد نحو وضع اتفاقهم في إطار قواعد القانون الخاص.
- تبني فكرة التركيز الموضوعي للعقد لتحديد العنصر المهم في العلاقة القانونية المتنازع حولها التي يترتب عليها تحديد القانون الواجب التطبيق من جانب، ومن جانب آخر لإثبات فكرة مفادها أن وجود شخص من أشخاص القانون العام كطرف في العقد لا يعني بالقطع أن هذا العقد يخضع بالضرورة لقواعد القانون الوطني بل يجوز للدولة وهيئاتها التنازل عن حق الحصانة المقرر لها والخضوع لاختصاص قضاء وقانون أجنبيين.
وبهذا تكون المحكمة قد استندت في تكييفها لهذا العقد وفي تحديد طبيعته وما إذا كان عقد قانون خاص أم عقد إداري إلى المعايير التقليدية المأخوذ بها في القضاء الإداري، وهي أن يتعلق العقد بتنفيذ مرفق عام، وأن يتضمن العقد بنوداً غير مألوفة بالنسبة لعقود القانون الخاص، وبالتالي فإنه لو تم تكييف هذا العقد من قبل المحكمة بأنه عقد إداري فإن تقدير مدى صحة شرط التحكيم أو مدى صحة الاتفاق على التحكيم فيه يخضع لاختصاص القاضي الإداري، وبالتالي سوف يقوم القاضي بالحكم ببطلان ذلك الشرط لأن المبدأ المستقر لدى القضاء الإداري الفرنسي هو حظر لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم إلا لو أن هناك نصا صريحا بذلك.
و كانت تتعلق بعقد أشغال عامة كان قد أبرم عام 1981 بين الحكومة التونسية والشركة الفرنسية إخوان بيك التي كانت تتولى إدارة مجموعة مشروعات في ذلك الوقت، ويتمثل هذا العقد في نقل بعض المواد عبر الحدود ونقل المعرفة، وكانت دولة الكويت هي الممولة للمشروع، والدفع في جزء منه بالفرنك الفرنسي، وكان قد اتفق في العقد على شرط تحكيم لحل المنازعات التي تنشأ عنه وعندما قام نزاع بين الطرفين أحالته الشركة إلى محكمة التحكيم المتفق عليها في العقد للفصل فيه، فدفعت الحكومة التونسية ببطلان شرط التحكيم وبعدم اختصاص محكمة التحكيم استناداً إلى المبدأ المعمول به في القانون الداخلي التونسي بل والفرنسي أيضا بعدم جواز لجوء أشخاص القانون العام للتحكيم في العقود الإدارية وببطلان الاتفاق على التحكيم إن وجد سواء في شكل شرط تحكيم أم مشارطة تحكيم، وتمسكت الحكومة التونسية ببطلان هذا الشرط وعدم اختصاص محكمة التحكيم أمام جميع المحاكم التي عرضت عليها القضية سواء في تونس أم في فرنسا، مثل: محكمة أول درجة في تونس في 17 أكتوبر 1987، ومحكمة استئناف تونس في أول فبراير 1988، وأمام القضاء العادي والإداري أو حتى أمام محكمة التحكيم ذاتها.
وقد أصدرت جميع جهات القضاء العليا في تونس أحكامها ببطلان شرط التحكيم في القضية من ذلك حكم الاستئناف الصادر من المحكمة الإدارية في تونس في أول فبراير 1991، وحكم محكمة النقض التونسية بتاريخ 27 أكتوبر 1993، وقد استندت كل هذه المحاكم في أحكامها على القانون التونسي والأحكام التي يقضي بها تقنين التحكيم التونسي والمعدل بالقانون الصادر في 24 إبريل 1993 والذي يقضي بعدم جواز لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم إلا بناء على اتفاق دولي أو نص قانوني أما محكمة التحكيم، فكانت قد أصدرت حكمها الأساسي في 8 فبراير عام 1990، ثم أعقبته بحكم تصحیحی في 13 سبتمبر 1990 لتصحيح الأخطاء المادية، وكان الحكم قد حكم على الحكومة التونسية بدفع مبلغ للمشروعات المختلفة وبتحمل مصاريف التحكيم، وبتاريخ 15 أبريل 1991 كان قد صدر أمران من المفوض من قبل رئيس المحكمة الابتدائية في باريس أعطى المفوض بناء على هذين الأمرين الحكمين الصادرين من محكمة التحكيم القوة التنفيذية في فرنسا، فقام وزير المرافق التونسي بالطعن على هذين القرارين أمام محكمة استئناف باريس، فأصدرت حكمها في هذا الطعن بقبوله شكلاً وفي الموضوع برفضه وتأييد القرارين المطعون عليهما، وفي حيثيات هذا الحكم الشهير قالت المحكمة:
حيث إنه يعتبر - دولي - التحكيم الذي يتناول مصالح التجارة الدولية، وإن الصفة الداخلية أو الدولية للتحكيم لا تعتمد على القانون الواجب التطبيق على الموضوع أو بالنسبة للإجراءات ولا على إرادة الأطراف، ولكن تعتمد على طبيعة العملية الاقتصادية أساس النزاع، وحيث إنه يكفي حتى يكون التحكيم دوليا أن تتضمن العملية الاقتصادية المقصودة حركة أموال أو خدمات أو سداد عبر الحدود".
وانتهت المحكمة إلى بيان المبدأ في هذا الموضوع وهو:
"إن الحظر بالنسبة لدولة ما بعدم جواز الاتفاق على التحكيم مقصور على العقود المتعلقة بالنظام الداخلي أو المحلي، وهذا الحظر ليس له أي نتيجة أو أثر علي النظام الدولي العام، ويكفي لصحة شرط التحكيم إثبات وجود عقد دولي مبرم للوفاء باحتياجات وبالشروط التي تتفق مع أطراف التجارة الدولية".