الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / الرأي القائل بعدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / مدى جواز التحكيم في العقود العقارية 

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 5
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    147

التفاصيل طباعة نسخ


  التحكيم في العقود العقارية موضوعه منازعة نشأت عن علاقة عقارية، ويكون محل هـذه العلاقة ـ وبالتالي المنازعة المعروضة على التحكيم ـ هو عقار أو حق عيني عقاري سواء كان حقاً أصلياً أم تبعياً. ويقابل الحق العيني العقاري الحق الشخصي، ومثال الأول حق الملكية (حق المالك في استعمال العقار الذي يملكه واستغلاله والتصرف فيه)، ومثال الثاني حق الانتفاع (حق المستأجر في الانتفاع بالعقار المؤجر له). 

   وللتحكيم العقاري مكونان رئيسيان أولهما في الوجود هو «العقار»، وهو قسم فـي أقـسـام الأشياء باعتبار ثباتها ، وقد نص القانون المدني على هذا التقسيم بالنص على أن: «كـل شـيء مستقر بحيزه، ثابت فيه، لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار، وكل ما عدا ذلك من شيء فهو منقول» (م 2/82 مدني). وتقسم العقارات إلى عقارات بطبيعتهـا (ومثالهـا الأرض والمبـاني المقامة عليها) وعقارات بالتخصيص (وهو ما خصصه مالك العقار من منقولات لخدمـة عقـار معين (م 2/82 القانون المدني)). 

   أما العنصـر الثانـي فهـو التحكيـم وهو يلـي العلاقـة العقاريـة نـشأة ووجـوداً... و«التحكيم» ـ على المستقر في قضاء محكمة النقض المصرية ـ هو طريق اسـتثنائي لفـض المنازعات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات التقاضي. لذلك، فهو مقصور على ما تنصرف إرادة الأطراف إلى عرضه على هيئة التحكيم، شريطة ألا يمنع القانونُ التحكيم فيه. 

   والتحكيم غير جائز في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح (م 11 من قانون التحكيم رقـم 27 لسنة 1994 في المواد المدنية والتجاريـة)، ولا يجـوز الصلـح فيما يتعلق بالنظام العام (م 551 من القانون المدني). 

   ولتحديد مدى جواز التحكيم في المنازعة الناشئة عن علاقة عقارية، يتعين البحث في طبيعة العلاقة نفسها وما استلزمه فيها المشرع من شروط قد تمنع عرضها على التحكيم، وكذلك فيمـا اتفق عليه الأطراف في معاملاتهم من شروط يجب استيفاؤها لينفتح أمامهم سبيل التحكيم.

    الأصل ـ في القراءة الظاهرة للنصوص ـ أن الصلح جائز" بين أطراف المنازعة العقارية أياً كان نوع التصرف الذي نشأت عنه المنازعة. إلا أنه من المحــتم، أمـام ثبـات العقـارات استقرارها، إخضاع التصرفات القانونية التي من شأنها إنشاء الحقوق العينية على العقـارات أو نقلها أو زوالها أو الاحتجاج بها على الغير لإجراءات شهر معينة، بحيث لا يتم شيء من ذلك إلا بإتمام هذه الإجراءات، وقواعد الشهر والتسجيل كلها من النظام العام، فلا يجوز الاتفـاق علـى و مخالفتها، وكل اتفاق يخالف أحكام الشهر التي قررها المشرع يكون باطلاً بطلانا مطلقا. 

   فقد نصت المادة التاسعة من القانون رقم 114 لسنة 1946 بتنظيم الشهر العقاري على أن: 

   «جميع التصرفات التي من شأنها إنشاء حق من الحقوق العينية الأصلية أو نقله أو تغييره أو زواله، وكذلك الأحكام النهائية المثبتة لشيء من ذلك يجب شهرها بطريق التـسجيل، ويترتب على عدم التسجيل أن الحقوق المشار إليها لا تنشأ ولا تنتقل ولا تزول لا بـين ذوي الـشأن ولا بالنسبة إلى غيرهم ولا يكون للتصرفات غير المسجلة من الأثر سوى الالتزامات الشخصية بـين ذوي الشأن...». 

   كما نصت المادة (15) من ذات القانون على وجوب: 

    «شهر دعاوى الطعن في التصرف واجب الشهر ودعاوى استحقاق حق عينـي عقـاري أصلي ودعاوى صحة التعاقد، ويكون شهر هذه الدعاوى بشهر صحيفتها بعد إعلانها للمـدعى عليه...». 

    فكانت نتيجة هذا التنظيم لشهر وتسجيل المعاملات على الحقوق العينيـة العقاريـة، ومـا استلزمه المشرع معه من سداد رسوم غير قليلة مع تسجيل كل تعامل على تلك الحقـوق، كـان نتيجة ذلك أن أحجم المتعاقدون عن شهر تصرفاتهم وتسجيلها، ولجـأوا ـ عوضًـا عـن ذلـك ولضمان حقوقهم ـ إلى رفع دعاوى صحة ونفاذ العقود التي أبرموها على تلك الحقوق واجبـة الشهر والتسجيل. وفشى في الناس هذا التهرب ـ والتحايل على القانون ـ من تسجيل معاملاتهم على الحقوق العينية العقارية باللجوء الى دعوى صحة ونفاذ التعاقد، مما أدى إلى ضياع الثـروة العقارية وزعزعة المعاملات عليها ـ وهي في الواقع جماع إقليم الدولة ـ ومنع خزانة الدولـة من استيفاء ما يستحق لها عن تسجيل هذه المعاملات من رسوم. 

   فلما تزايدت أعداد دعاوى صحة ونفاذ العقود حتى أثقلت كاهل المحاكم دون أن يكون هناك ثمة نزاع حقيقي بين أطراف العقد حول صحته ونفاذه، وإنما هي مجرد وسيلة للتهرب من رسوم تسجيل العقود وإجراءات شهرها وتحايل ـ من المتعاقدين ـ على النصوص القانونية الآمـرة فعندئذ تدخل المشرع بالنص على وجوب شهر وتسجيل صحيفة دعوى صحة ونفاذ العقد موجبـاً سداد 25% من الرسم النسبي المقرر على تسجيل العقد نفسه، مع شهر الصحيفة. 

   فنص في المادة (65) من قانون المرافعات، المستبدلة بالقرار بقانون رقم 18 لسنة 1999 على أن: 

   «لا تقبل دعوى صحة التعاقد على حق من الحقوق العينية العقارية إلا إذا أشهرت صحيفتها». 

   وإذ كان هذا النص خاصاً بالدعاوى أمام المحاكم إلا أن محكمة استئناف القاهرة قد تواترت في قضائها ـ منذ 2005/11/29 ـ على: 

   «بطلان الاتفاق على التحكيم بشأن صحة ونفاذ عقد بيع العقار لعـدم مـشروعية سـببه، لانطوائه على إحدى حالات الغش نحو القانون والتحايل عليه، وذلك بالاتفـاق علـى اسـتبعاد دعوى صحة ونفاذ عقد البيع من اختصاص المحاكم النظامية للدولة وعرض التحكيم لتقضي لهم بصحة العقد ونفاذه» .

    وقد أسست محكمة الاستئناف هذا القضاء على ما نص عليه في قانون المرافعـات م (65)، سالفة الإيراد، وعلى أنه قد نص في المادة (24) مكرراً من القانون رقم (6) لسنة 1991 علـى أن :

    «يحصل مؤقتاً عند شهر صحيفة طلب عارض أو طلب تدخل أو طلب إثبات اتفاق يتضمن صحة التعاقد على حق من هذه الحقوق أمانة قضائية تورد لخزانة المحكمة المختصة على ذمـة شهر الحكم الذي يصدر في الدعوى أو الطلب مقدارها 25% من قيمة الرسم النسبي الذي يستحق على شهر الحكم طبقا للقواعد الواردة بالمادة 21 من هذا القانون». 

   وأكدت المحكمة في قضائها هذا على أن لجوء الخصوم إلى التحكيم في شأن دعاوى صحة ونفاذ العقود المتعلقة بالحقوق العينية العقارية ما هو إلا إمعان من الأطراف في الهـروب مـن الالتزام بمقتضيات الأحكام الخاصة بوجوب شهر وتسجيل جميع التصرفات وصحف الـدعاوى التي محلها حقوق عينية عقارية أصلية أو تبعية (المواد 9 إلى 15 من القانون رقــم 114 لـسنة 1964 بتنظيم شؤون الشهر العقاري و المادة 65 من قانون المرافعات). 

   إذ إن المتعاقدين على الحقوق العينية العقارية لجأوا إلى التحكيم في دعاوى صـحة ونفـاذ العقود، لأن القانون لم يوجب شهر بيان الدعوى التحكيمية، ولا سداد رسم خـاص بنـاء علـى موضوع الحكم التحكيمي، عند طلب وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم الذي نص القانون على حجيته وحيازته قوة الأمر المقضي (م 55 تحكيم)، ولم يكن لجؤوهم إلـى التحكـيم لفـض منازعة حقيقية بينهم. 

   وإذ تنبهت محاكم الدولة ـ وتأكد لها ـ أن تواتر سلوك المتقاضين سبيل التحكيم بديلاً مـن القضاء غايته الهروب من أحكام الشهر والتسجيل التي هي من النظام العام، فقد قضت بـبطلان الاتفاق على التحكيم وبطلان حكم التحكيم الصادر في دعاوى صحة ونفاذ عقود البيع الـصادرة في شأن الحقوق العقارية لمخالفة ذلك للنظام العام، باعتبار اللجوء الى التحكيم في هـذا الـصدد غشاً نحو القانون وتحايلاً عليه يستوجب قضاء المحكمة ولو من تلقاء نفسها ببطلان هذه الأحكام لمخالفتها النظام العام. 

   وتأييداً لهذا الرأي، وتضييقاً على المتحايلين على القانون، فقد صـدر مـن وزارة العـدل (مصلحة الشهر العقاري والتوثيق) المنشور الفني رقم (13) المؤرخ 2008/11/11 الموجه إلى مكاتب الشهر العقاري، ومأمورياته ومكاتب التوثيق وفروعهـا والإدارات العامـة بالمـصلحة متضمناً في مادته الرابعة النص على أن:  

   «يصدر المكتب الفني للتحكيم بوزارة العدل قراره كتابة بقبول أو عدم قبول طلب إيـداع حكم التحكيم بعد التحقق مما يأتي: أولاً: أن الحكم المطلوب إيداعه: (أ) لا يتضمن مـا يخـالف النظام العام أو الآداب، (ب) لا يتعلق بأي حق عيني على عقار أو بحيازته أو تسليمه أو تثبيت ملكيته أو قسمته وأنه لا يتعلق بعقار بأي صورة من الصور... (هـ) لا يتضمن القضاء بإثبات الصلح في إحدى المسائل المشار إليها في البنود السابقة». 

   وبناء على ما سبق نص المنشور على أنه: 

   «أولاً: يتعين الامتناع عن قبول أحكام التحكيم التي تتعلق بعمل أو موضوع من الأعمـال والموضوعات المحظور التحكيم فيها والمشار إليها (بالمادة رابعاً بند أولاً مـن قـرار الـسيد المستشار وزير العدل رقم 8310 لسنة 2008 سالف الذكر) وذلك في أي عمل من أعمال التوثيق أو الشهر أو القيد في السجل العيني». 

   وعلى الرغم من حجة محكمة الاستئناف التي لا خلاف على قوتها ولا على صحة الهـدف الذي من أجله انتهت المحكمة إلى قضائها سالف الذكر، فإن هذا القضاء ـ على نبل غايته ـ قد صحیح القانون وتنكب المستقر من قضاء محكمتنا العليا، وخالف مـا جـرى عليـه فقـه خالف المرافعات. 

   فمن ناحية القانون... أولاً: ليس فيما أوردته أحكام محكمة استئناف القاهرة مـن أحكـام ونصوص قانونية ما ينص على عدم جواز التحكيم في الحقوق العينية العقارية، ولا على تعلـق تلك الحقوق بالنظام العام. وإنما نظام شهر وتسجيل تلك الحقوق وصحف الدعاوى الخاصة بهـا هو ما يتعلق بالنظام العام في شأن الحقوق العينية العقارية. وعلى ذلك فلا يكـون للمحكمـة أن تقضي ببطلان شرط التحكيم والحكم الصادر بناء عليه دون نص، فالمستقر في القانون أنـه «لا بطلان إلا بنص». 

   وثانياً: إن الجزاء الذي انتهت إليه محكمة الاستئناف من بطلان شرط التحكيم، ومن بعـده حكم التحكيم في منازعات صحة ونفاذ العقود الواردة على الحقوق العينية العقارية، قـد جـاوز الجزاء الذي نص عليه المشرع في المادة (65) سالفة الإيراد وهو «عدم قبول الـدعوى» عنـد عدم شهر صحيفتها. فتكون المحكمة بذلك قد قررت جزاء غير الذي قرره المشرع لهذه المخالفة، فيكون حكمها مخالفا للقانون. 

   وإنما كان الجمع بين النصوص الخاصة بجواز التحكيم في جميع المنازعات التي يجوز فيها الصلح ولا تتعلق بالنظام العام وتلك الموجبة لشهر صحف الدعوى المتعلقة بدعوى صحة ونفـاذ العقود الواردة على الحقوق العينية العقارية، كان هذا الجمع يقتضي أن تنتهي المحاكم إلى عـدم قبول الدعوى ـ سواء دعوى البطلان، أو طلب وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم ـ لعدم ـ إشهار بيان دعوى التحكيم. 

   فبيان الدعوى التحكيمية هو المحرر الذي يقابل صحيفة الدعوى التي تقدم لمحاكم الدولـة والتي تطلب المشرع شهرها لقبول دعاوى صحة ونفاذ العقود الواردة على الحقـوق العينيـة العقارية، فإذا جرى شهر هذا المحرر ـ وليس ثمة مانع من ذلك قانوناً ـ تكـون المتطلبـات القانونية للتحكيم فيه قد استوفيـت ولا يعـود ثمة مجال للحكـم بـالبطلان ولا بعـدم قبـول الدعوى. 

   ولا يرد على ذلك بأن المشرع أراد تنظيم الملكية العقارية والحقوق المتعلقة بها على نحـو يضمن ويحمي حقوق الكافة، وليس فقط مصلحة المتنازعين، فجعل قواعد شهرها مـن النظـام العام، فلا تصح إجازة التحكيم فيها لمنع التلاعب والتواطؤ، في الحقوق العينية العقاريـة، عـن طريق التحكيم. فإن تطبيق نظام التسجيل والشهر في الواقع العملي يجعل أسبقية القيد حاكمة. فلا يستطيع المتنازعون على حق عيني عقاري أمام التحكيم، شهر بيان الدعوى التحكيمية إن كـان هناك أي حق آخر قد سبق قيده على ذات العقار ويلزم لشهر بيان الدعوى ـ عندئذ ـ التأكد من خلو سجل العقار من قيد أسبقية أي حق آخر عليه، أو تنازل صاحب الحق المشهر أولاً عن قيده في السجل العقاري. 

   فبذلك تنطبق على شهر بيان الدعوى التحكيمية في الحقوق العينية العقاريـة ذات القواعـد الخاصة بأسبقية القيد ـ التسجيل ـ المطبقة على باقي التصرفات والدعاوى واجبة الـشهر فـلا يكون التحكيم طريقا للتلاعب بالحقوق العقارية. 

   ولا يرد ـ كذلك ـ على نظرنا السابق بأن التحكيم قضاء خاص، فلا يجوز إجبار الأغيـار بالنسبة الى المنازعة العقارية المعروضة على التحكيم أن يتدخلوا في المنازعة التحكيمية ليحموا مصالحهم ـ وهو تدخل على الأغلب لن تقبله هيئة التحكيم للقاعدة المستقرة من أن شرط التحكيم لا يلزم إلا أطرافه ـ أو أن يصدر حكم التحكيم فيكون حجة عليهم. إذ إن محكمـة اسـتئناف القاهرة قد قضت بأن: 

   «المشرع إنما قصر الحق في رفع دعوى بطلان حكم التحكـم علـى أطـراف خـصومة التحكيم... وهذا يتفق مع المبادئ القانونية التي تسري على الأحكام القضائية وأحكام المحكمـين التي تقضي بنسبية أثر الحكم فلا يضار به ولا يفيد منه إلا أطرافه... إذ يكفيه عند الاحتجاج عليه بحكم لم يكن طرفا فيه أن يتمسك بقاعدة نسبية أثر الأحكام» . 

   إن مقتضى هذا القضاء أن الذين صدر لهم حكم تحكيم لا يستطيعون الاحتجاج به على مـن لم يكن طرفاً في الدعوى التحكيمية، فلا يتأتى لهم ـ إن كانوا متواطئين ـ أن يحتجـوا بـالحكم . التحكيمي على أصحاب الحقوق المتعلقة بذات العقار ولا أن يضيعوا حقوق من لم يكن طرفا في المنازعة التحكيمية بسلوكهم طريق التحكيم تهرباً من اللجوء إلى قضاء الدولة الرسمي. 

  أما من حيث قضاء محكمة النقض... فإن محكمتنا العليا قد قضت بأنه: 

   «كما أن مشارطة التحكيم لا تعد من قبيل التصرفات المنشئة أو الكاشفة لحق عيني عقاري أصلي أو من قبيل صحف الدعاوى، وإنما هي مجرد اتفاق على عرض نزاع معين على محكمين والنزول على حكمهم ولا يتضمن مطالبة بالحق أو تكليفاً للخصوم بالحضور أمام هيئة التحكيم، مما مفاده أن مشارطة التحكيم لا تكون من قبيل التصرفات أو الدعاوى الواجب شـهرها... وإن سجلت أو أشر بها لا يترتب على ذلك أن الحق المدعى به إذا تقرر بحكم المحكم وتأشر بـه أن يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل مشارطة التحكيم، لأن هـذا الأثر يتعلق بالدعاوى فقط... لما كان ذلك وكان الثابت بالحكم الابتدائي الـذي تأيـد بـالحكم المطعون فيه أن المطعون عليه الأول... قد أشهر حق اختصاصه بأن قيده في 1964/6/10 على العقارات المنفذ عليها، وكانت الطاعنة قد سجلت عقد شرائها... والحكم الصادر من المحكمـين بصحة ونفاذ عقد البيع في 1964/7/15... أي أن المطعون عليه الأول قيـد حـق اختـصاصه بتاريخ سابق على تسجيل الحكم بصحة ونفاذ عقد البيع المشار إليه...» 

   فالنظر إلى هذا القضاء المتقدم، وبمفهوم المخالفة، فإذا لم تجز محكمة النقض شـهر اتفـاق التحكيم، لأنها «لا تتضمن مطالبة بالحق أو تكليفاً للخصوم بالحضور أمام هيئة التحكيم» و«أنها ليست من قبيل صحف الدعوى» فإن بيان الدعوى التحكيمية، الذي يتعين على المحتكم إرسـاله إلى المدعى عليه (المحتكم ضده)، في الموعد الذي تحدده هيئة التحكيم يجب أن يشتمل على اسم وعنوان واسم المدعى عليه وشرح لوقائع الدعوى وتحديدا للمسائل محل النزاع وطلبات المحتكم فيها (م 1/30 تحكيم). 

   ولما كانت «صحيفة الدعوى تفتتح خصومة قضائية فيتعين أن تشتمل على بيان بوقـائـع الدعوى وطلبات المدعي وأسانيده بشأنها. وهذا البيان هو في الواقع جوهر صحيفة الـدعوى ذلك أنها تفتتح خصومة قضائية بادعاء من قبل شخص معين، فيجب أن تكشف الصحيفة عـن سبب هذه الخصومة ببيان موضوع هذا الادعاء وأدلته»، فإن بيان الدعوى، في نظام التحكيم، يقوم مقام صحيفة الدعوى في قضاء الدولة، فيعد من قبيل صحف الدعاوي، فيجوز شـهره لو تعلق بحق عيني عقاري. (م 15 القانون رقم 84 لسنة 1946 بتنظيم الشهر العقاري). 

   أما من ناحية فقه المرافعات... فإن المستقر فيه أن: «قانون المرافعات مقصور على بيـان الإجراءات التي تتبع أمام المحاكم» ومع ذلك «فإنه من المسلم به ذلك «فإنه من المسلم به أنه يعتبر القانون الأساسي فـي مسائل الإجراءات على العموم... ولكن يلاحظ أنه لا يعمل بنصوص قـانون المرافعـات إلا إذا تضمن قواعد عامة، لا أحكاماً شاذة: لأن ما ورد على سبيل الاستثناء لا يقاس عليه». 

   وإذ كان النص على وجوب إشهار صحيفة دعوى صحة ونفاذ العقود الواردة على الحقـوق العينية العقارية قد جاء على سبيل الاستثناء من عدم وجوب شهر صحف الدعاوى على إطلاقها، فيكون القياس على نص المادة 65 مرافعات قياساً على ما جاء على خلاف القياس، وهـو غيـر جائز للقاعدة المسلمة فقهاً وقانوناً «ما جاء على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس». فلايصح ما انتهت إليه محكمة الاستئناف من بطلان حكم التحكيم الصادر في نزاع حول صحة ونفاذ العقد الوارد على حقوق عينية عقارية المبني على هذا القياس غير الصحيح. 

   وقد يكون من الأوفق أن يتدخل المشرع بتعديل تشريعي يلزم فيه بشهر بيان الدعوى فـي المنازعات التحكيمية التي محلها الحقوق العينية العقارية ـ التي يجب شهر صحيفة دعـواها بموجب أحكام قانون المرافعات وقانون تنظيم الشهر العقاري سالفة الإيراد ـ مع إلزام هيئـة التحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى التحكيمية ويكون قاضي التنفيذ ملزماً، عند نظر طلب وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم، أن يتحقق من شهر بيان الدعوى باعتبـاره شـرطاً مـن شروط وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم. 

   فيكون في مثل هذا التعديل تحديد لأثر نصوص قواعد الشهر التي هي من النظـام العـام الخاصة بالحقوق العينية العقارية على جواز التحكيم في تلك الحقوق، وهو تحديد يمكن الدولة من الحفاظ على الثروة العقارية وعلى حق الدولة في رسوم التسجيل والشهر، هذا من ناحية، وهـو تحديد يسمح للأطراف، من ناحية أخرى، بالتمتع بالمزايا العديدة ـ التي لا محل لذكرها هنـا ـ لنظام التحكيم. ويكون في هذا التعديل تحديد لنطاق أسباب قبول دعوى بطلان حكـم التحكـيم التي تقضي المحاكم بورودها على سبيل الحصر ـ وشرائط قبول طلب وضع الصيغة التنفيذيـة حكم التحكيم. 

   وعلى رغم قضاء محكمة الاستئناف بعدم جواز التحكيم في المنازعات المتعلقـة بـالحقوق العينية العقارية وبطلان ما يصدر فيها من أحكام تحكيم، فإن التحكيم جائز بحسب الأصـل ـ في طائفة أخرى متنوعة من العلاقات العقارية، ومن أمثلتها منازعات الانتفاع بالمرافق المشتركة في العقارات (الكراجات والمصاعد والحدائق وغيرها كثير)، وأيضاً المنازعات بـيـن المـؤجر والمستأجر، ومنازعات اقتسام الريع بين الملاك المتعددين، وتلك الناشـئـة عـن عقـد الـرهن الحيازي، والتعويض عن الأضرار التي يسببها العقار للغير. 

   وأهم العلاقات العقارية كافة ـ في مجال التحكيم ـ هي «عقد المقاولة»، وهو عقد عرفـه القانون بأنه: 

   «عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئا أو أن يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد بـه المتعاقد الآخر» (م 646 مدني). 

   ويشمل هذا التعريف عقود الإنشاءات بأنواعها كافة، من إنشاء المباني وترميمها وهدمها إلى عقود تصميم المعدات الميكانيكية والإلكترونية وتصنيعها وتركيبها، وكذلك عقود المقاولـة مـن الباطن، سواء كان أطراف العقد من أشخاص القانون الخاص أم كانوا ـ بعضهم أو كلهم ـ من أشخاص القانون العام (العقود الإدارية).  

   والمنازعات التي قد تنشأ عن عقود الإنشاءات تمتنع على الحصر، فمنها المنازعات حـول خطابات الضمان وتسليم الموقع والأوامر التغييرية ومواصفات الأعمال ومواعيـد التـسليم، ولا يخلو عقد من عقود المقاولات من الخلاف بين أطرافه الذي يبلغ في أحيان كثيـرة حـد النـزاع بمفهومه القانوني، فيلجأ العاقدان إلى قضاء الدولة أو التحكيم ـ وهو الأكثر شيوعا فـي عقـود المقاولات وطنياً ودولياً ـ للفصل في ما شجر بينهم من خلاف. 

قواعد فض منازعات عقد المقاولة

   أما من حيث موضوع النزاع... فتحكم المنازعات في عقود المقاولات النصوص الخاصـة بعقد المقاولة في القانون المدني (المواد 646 – 667). فما كان من الأحكام المتضمنة في هـذه المواد مكملاً جاز للأطراف الاتفاق على ما يخالفه، وما كان منها أمراً لم يجز للأطراف الاتفاق على ما يخالفه، وإن فعلوا كان اتفاقهم باطلاً. 

   كما تطبق على عقد المقاولة الشروط التي تعاقد عليها الأطراف، إلا ما كان منهـا مخالفـاً للنظام العام، فهذه تكون شروطاً باطلة لا تعتد بها المحاكم أو هيئات التحكيم، ولو اعتدت بها تلك الأخيرة فجاء حكمها مخالفاً للنظام العام كان حكمها باطلاً، وتقضي ببطلانـه محكمـة دعـوى البطلان من تلقاء نفسها (م 2/53 قانون التحكيم). 

   وقد شاعت في الاستخدام المحلي والدولي تلك الشروط النمطية في عقود مقاولات الإنشاءات وما يتصل بها من عقود أخرى (عقد المالك مع المهندس الاستشاري). ومن هذه الشروط النمطية ما اصطلح في الاستخدام على تسميته «عقد الفيديك» FIDIC الـذي أعـده اتحـاد المهندسـين الاستشاريين بفرنسا وشروط ICE المعدة بواسطة عدد من مؤسسات المهندسين الاستشاريين والمهندسين المدنيين في المملكة المتحدة، وشروط NEC المعدة بواسـطة مؤسسة المهندسـين المدنيين في المملكة المتحدة، وأكثرها انتشاراً في الواقع هو عقد الفيديك معدلة شروطه أو مدرجة كما في عقود الإنشاءات. 

    وكل هذه العقود النمطية يتضمن شرطاً مطولاً لفض المنازعات يتدرج في أكثر من مرحلة، ينتهي أكثرها باللجوء إلى التحكيم، وإن أمسك واضعو بعض هذه العقود عن ذكر التحكيم باعتباره السبيل الأخير لفض المنازعات في الطبعات الحديثة من هذه العقود النمطية (عقد NEC، الطبعة الثانية والثالثة). ويكون سلوك كل مرحلة مذكورة في شرط فض المنازعات شرطاً لازماً لينفتح أمام الخصوم سبيل سلوك المرحلة التالية. 

   أما من حيث إجراءات فض المنازعات... فيحكمها ابتداء ما اتفق عليه الأطراف في هـذا الصدد، فإن لم يتفقوا بقي الاختصاص ـ بحسب الأصل ـ للقضاء الوطني. وإذا اتفق الأطراف على التحكيم استثنيت من اختصاص محاكم الدولة تلك المنازعات التي اتفقوا على التحكيم شأنها. وإذا رفع أحد أطراف اتفاق التحكيم دعوى أمام قضاء الدولة، ودفع الطرف الآخر بوجود اتفاق على التحكيم، قبل الكلام في الموضوع، وجب على المحكمة أن تحكم «بعدم قبول الدعوى» لسبق الاتفاق على التحكيم في شأن المنازعة المعروضة عليها (م 1/13 تحكيم). 

   فإن وجد الاتفاق على التحكيم، كان ما تضمنه هذا الاتفاق من شروط واجب التطبيق علـى إجراءات فض النزاع، وأكثر وأهم ما يدرج في الاتفاق على التحكيم هو أولاً: الاتفاق الواضـح والخالي من الغموض والإبهام، على اللجوء إلى التحكيم في شأن نزاع أو منازعات معينة، ذلـك أن قضاء الدولة سيحكم بعدم وجود شرط تحكيم أو بطلان حكم التحكيم عند عدم وضـوح نيـة الأطراف في اللجوء إلى التحكيم، وثانياً: النص على استثناء نزاع معين أو طائفة معينـة مـن المنازعات من اختصاص قضاء الدولة والعهد بها إلى التحكيم، أي تحديد النطـاق الموضـوعى لشرط التحكيم، وثالثاً: نوع التحكيم؛ هل هو تحكيم خاص أم يعهد أطرافه بتنظيمه إلى مؤسـسة تحكيمية. 

   فإذا اختار الأطراف اللجوء الى التحكيم المؤسسي، كانت الإجراءات المنصوص عليها فـي قواعد التحكيم الخاصة بالمؤسسة التحكيمية واجبة الإعمال في التحكيم وإن خالفت ما نص عليـه في المواد المكملة في قانون التحكيم، ومن هذه الشروط المكملة كيفية تعيين المحكمين وعـددهم ولغة التحكيم ومدته ومكان التحكيم. 

   وأخيراً يطبق على إجراءات التحكيم قانون التحكيم في البلد التي يجري فيه التحكيم وتختص بدعوى بطلانه اختصاصاً مانعاً المحاكم الوطنية لبلد التحكيم. والقـانـون الـذي يـنظم التحكـيم الاختياري في مصر هو قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 27 لسنة .1994 

شرط فض المنازعات في العقود النمطية 

   يتضمن شرط فض المنازعات مراحل عدة، ليس فقط في العقود النمطية ـ كما أسلفنا ولكن أيضاً في قواعد التحكيم لعدد من مؤسساته، ومنها المؤسسة الأمريكيـة للتحكـيم AAA ومحكمة تحكيم لندن LCIA، ومنها رأي المهندس الاستشاري واللجوء للتسوية الودية ومجالس فض المنازعات والتحكيم في عقود الفيديك. ويغلب أن يكون اللجوء إلى التحكيم هـو المرحلـة الأخيرة في هذا الشرط، بحيث لا يجوز اللجوء إليه إلا بعد استنفاد المراحل السابقة كافة، ليكـون التحكيم الملاذ الأخير لأطراف النزاع. 

   وعلى رغم انتقاد الفقه الأجنبي لجعل التسوية الودية سابقة على التحكيم، نقداً حرياً بإنعـام النظر فيه؛ فقد شاع في الفقه الرأي القائل بوجوب استنفاد تلك المرحلة من التسوية الودية قبل أن ينفتح أمام الأطراف سبيل اللجوء إلى التحكيم . 

   وقد اتخذ القضاء الأجنبي مواقف متباينة بين مؤيد لوجوب استنفاد مرحلة التسوية الوديـة أولاً أو اللجوء إلى المهندس الاستشاري أو لجنة الخبراء ليصدروا قراراً لفض النـزاع قبـل أن يلجأ الطرف المتضرر للتحكيم ، وبين رافض لإلزام الأطراف بشرط ينص على التسوية الوديـة دون تحديد لمقتضيات هذا المصطلح من نطاق زمني وإجرائي. 

   أما محكمة الاستئناف المصرية فقد رفضت الدفع ببطلان حكم التحكيم لـعـدم اللجـوء إلـى التسوية الودية أولاً كما هو منصوص عليه في شرط فض المنازعات في العقد محل المنازعـة. فقضت الدائرة (91)، محكمة استئناف القاهرة في 2005/07/27، بأن: 

   «خطأ هيئة التحكيم في القضاء في مسألة مخالفة الالتـزام بــاللجوء أولاً إلـى وسـيلة التوفيق لحل النزاع قبل سلوك طريق التحكيم... لا يعد من أحوال البطلان المنصوص عليها في المادة (53)... والقول بغير ذلك يتضمن إنشاء سبب جديد لبطلان حكم المحكمين لـم يقـرره المشرع أو يقصد إليه، وغني عن البيان أنه في ما يتعلق باتفاق التحكيم فقد حصر القانون أسباب البطلان بشأنه في أحوال وجوده وبطلانه وقابليته للإبطال وسقوطه بانتهاء مدته والفـصل ف مسائل لا يشملها أو تجاوزه لحدوده... أياً كان وجه الرأي في حقيقة التكييف القانوني للـدفع بعدم قبول طلب التحكيم لعدم استنفاد وسيلة التوفيق أولا، فإن حق الشركة المدعية (المحـتكم ضدها) في التمسك بهذا الدفع قد سقط لعدم إبدائه في وقت معقول وفقا لنص المـادة (8) مـن قانون التحكيم... إذ أبدت اعتراضها على المخالفة أمام هيئة التحكيم في مذكرتها الختامية.. وهو ما يعتبر نزولاً منها عن حقها في الاعتراض». 

   وقضت ذات الدائرة، كذلك، بأن: 

   «الاتفاق على استنفاد وسيلة التوفيق كإجراء أو مرحلة يجب أن تـسبق اللجـوء إلـى التحكيم كوسيلة اتفاقية ورضائية لحسم النزاع بينهما، مقتضاه التزامهما بعدم سلوك سبيل التحكيم إلا بعد استنفاد مرحلة التوفيق... وهذا الاتفاق ملزم لهيئة التحكيم... فيتعين عليها متى تحققـت من وجود الاتفاق المعترض على مخالفته والتأكد من شروط صحته ومن وقوع إخلال بـالالتزام الناشئ عنه أن تقضي بعدم قبول التحكيم لعدم استيفاء ما أوجبه اتفاق الطرفين قبل اللجـوء إلـى التحكيم، وقرار هيئة التحكيم في هذا الشق من النزاع... يعد قضاء في مسألة تتعلق بالموضوع وليس بالشكل، ذلك أن الفصل في هذه المسألة لا يتأتى إلا بالبحث عن النية الحقيقية لطرفـي النزاع للتعرف إلى حقيقة الوسيلة أو الوسائل التي اتفقا على اللجوء إليها لحل النزاع. التأكـد مما إذا كان المحتكم قد أخل بهذا الاتفاق من عدمه، وكل ذلك يستلزم التعرض لوقـائـع النـزاع والبحـث في موضوعه... [و] يعتبر فصلاً في مسألة موضوعية فإن رقابة قاضي الـبطلان لا تتسع لتقدير مدى سلامة أو صحة الأسباب التي استند إليها المحكمون فـي قـضـائهم بـشأن الاعتراض المذكور... لما كان ذلك وكان حكم التحكيم الطعين قد تناول الدفع بعدم قبـول طلـب التحكيم لإغفال اللجوء أولا إلى وسيلة التوفيق ـ بالبحث وقضى برفضه، ثم تصدى للفـصل في الطلبات الموضوعية للشركة المحتكمة ـ وأيا كان وجه الرأي في صحة هـذه الأسـباب أو سلامتها ـ فإن رقابة هذه المحكمة في نطاق التداعي الحالي لا تمتد إلى إعادة بحثهـا أو تقـدير صواب أو خطأ اجتهاد المحكمين بشأنها» . 

    كما طرح الدفع ببطلان حكم التحكيم لعدم اللجوء الى التسوية الودية قبل اللجوء الى التحكيم على محكمة الاستئناف في عدد آخر من الطعون، يلاحظ فيها ابتداء ومن حيث الواقع أن هيئـة التحكيم كانت قد تناولت الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية بالرد في أسباب حكمها وانتهت إلى رفضه. 

    أما الأساس القانوني، الذي ابتنت عليه محكمة الاستئناف رفضها للـدفـع بـالبطلان لعـدم اللجوء إلى التسوية الودية أولاً، فينتهي إلى مسائل ثلاث؛ أولاها: أن أسباب البطلان وردت قانون التحكيم على سبيل الحصر (م 53 تحكيم)، وقبول طلب البطلان المبني على الـدفع بعـدم اللجوء الى التسوية الودية قبل اللجوء الى التحكيم ينشئ سببا جديدا للـبطلان لـم يقـصـد إليـه المشرع، وثانيتها: أن هذا الدفع ينتهي دفعاً موضوعياً تختص به هيئة التحكيم، ومراجعة قضائها فيه يخرج عن نطاق دعوى البطلان، وثالثتها: أن الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الوديـة يـسقط بعدم إبدائه في وقت معقول (م 8 تحكيم). وبغض النظر عن صحة مـا انتهـت إليـه محكمـة الاستئناف من رفض الدفع الخاص بالبطلان لعدم التقيد بالشرط الخاص بالتسوية الوديـة، فـإن السند القانوني لهذا الرفض محل نظر. 

   فمن حيث إن أسباب البطلان واردة على سبيل الحصر، فهذا القـول، وإن رددتـه أحكـام القضاء، فإنه غير مسلم به كلية، فقها وقضاء. فأما الفقه، فإنه يتردد في الكتابات الحديثة ـ بعـد مضي أكثر من خمس عشرة سنة على العمل بقانون التحكيم 27 لسنة 1994 ـ أنه: 

   «في تقديرنا أن المشرع المصري لم يحصر دعوى بطلان حكم التحكيم في حالات محددة، بل أجازها في كل حالـة يكون فيها حكـم التحكيم ـ باعتباره عملاً إجرائياً ـ باطلاً. ذلـك أن المادة 53... أضافت حالة إذا وقع بطلان في حكم التحكيم أو كانت إجـراءات التحكـيم باطلـة بطلاناً أثر في الحكم... وهذه الحالة حالة عامة تشمل كل أسباب البطلان. ولهذا فـإن دعـوى البطلان تقبل إذا كان الحكم باطلاً أيا كان سبب هذا البطلان سواء كان ضمن الحالات المحـددة التي أوردتها المادة 53 أو لم يكن من بينها» . 

   وأما من حيث القضاء، فإن محكمة الاستئناف المصرية قد قضت بإبطال شرط التحكيم وحكم التحكيم الصادر بناء عليه، لأنه قد استخدم الغش في إبرامه، وقضت برفض الطلـب المقـدم لوضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم لاستخدام مقدم الطلب الغش نحو خـصمه. إن هـذا القضاء، ببطلان حكم التحكيم وبرفض وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم، قد بنـي علـى قاعدة الغش يفسد كل التصرفات، وهي قاعدة وإن لم ينص عليها القانون، فإنها مستقرة في النظام القانوني المصري، وقد أعملتها المحاكم المصرية على ما تقدم ـ في غيـر مناسـبة تتعلـق بالتحكيم وإبطال أحكامه، على الرغم من أن المشرع لم ينص على أن الغش أحد أسـباب قبـول دعوى البطلان في قانون التحكيم. 

   ولا يرد على هذا النظر السابق ـ في حكم محكمة الاستئناف ـ بأن قاعدة «الغـش يبطـل التصرفات» قاعدة أصولية فيكون للمحكمة إعمالها من غير نص عليها. ذلك أن النظام القـانوني الوطني يتضمن قواعد أصولية كثيرة، وليست كلها تطبق في مجال التحكيم لما خصته به المشرع من قواعد متمايزة من حيث الإجراءات والرقابة على عمل المحكمين. ولا أدل على ذلك مـن أن قواعد تسبيب الأحكام وجوداً وكيفية ليست فقط قواعد أصولية، بل هي قواعد من النظام العـام، وعلى الرغم من ذلك فقد أجاز المشرع للأطراف الاتفاق على عدم تسبيب حكم التحكيم ولو كان حكماً وطنياً خالصاً، هذا من ناحية، ولم يجز القانون إبطال حكم التحكيم لعدم كفايـة أسبابه أو الخطأ فيها، بل المستقر قضاء وفقها أنه لا يتطلب في حكم التحكيم من حيث التسبيب وجه الدقة والترتيب المتطلبة في حكم القضاء. فإن القانون بذلك قد تخلى بوضوح عن تطبيق بعض قواعـد تسبيب الأحكام في مجال التحكيم على الرغم من أنها قواعد من النظام العام. 

   فلا يسوغ بذلك القول بأن إعمال قاعدة «الغش يبطل التصرفات» كان باعتبارهـا قاعـدة أصولية، بل الصحيح هو أن المذهب القائل بأن أسباب قبول دعوى البطلان جاءت علـى سـبيل الحصر مذهب يقصر عن الإحاطة بالواقع القانوني؛ وبالمستقر من قواعد العدالة القضائية فـي الممارسة المطردة لقضائنا الوطني. 

   وإذ كان ذلك كذلك، فإن تأسيس محكمة الاستئناف رفضها للدفع بعدم اللجوء الـى التـسوية الودية قبل اللجوء الى التحكيم على أن هذا الدفع لم يرد في أسباب البطلان المنصوص عليها في القانون، يكون محلا لإعادة النظر والتقدير. 

   ومن حيث إن الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية ينتهي دفعاً موضوعياً تختص به هيئة التحكيم، ومراجعة قضائها فيه يخرج عن نطاق دعوى البطلان، فإنها نتيجة غير سـائغة ممـا تقدمها من أسباب، وتناقض ما تلاها من قضاء المحكمة نفسها في الحكم نفسه، وفي أحكام أخرى عرضت للدفع ذاته. 

   فإن المحكمة قالت تقدمة لقضائها : « ولذا فإن الاتفاق على استنفاد وســــــيلة التوفيـق كإجراء...»، فاعتبار وسيلة التوفيق (= التسوية الودية) من قبيل الإجراءات يدخل فـي سـلطة محكمة البطلان التحقق من التزام هيئة التحكيم اتفاق الأطراف في شأنها، للتحقق من خلو حكـ التحكيم من عوار البطلان الإجرائي، بموجب نص المادة (1/53/ز) من قانون التحكيم. 

   كما أن اعتبار الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية دفعاً موضوعياً، يناقض الأساس الثالث لقضاء المحكمة برفض الدفع ذاته باعتباره دفعاً إجرائياً يسقط بعدم إبدائه في وقت معقول طبقـاً لمقتضى المادة (8) من قانون التحكيم التي تنص على أنه: 

   «إذا استمر أحد طرفي النزاع في إجراءات التحكيم مع علمه بوقوع مخالفة لشرط في اتفاق التحكيم، أو لحكم من أحكام هذا القانون مما يجوز الاتفاق على مخالفته ولم يقدم اعتراضا علـ هذه المخالفة في الميعاد المتفق عليه أو في وقت معقول عند عدم الاتفاق اعتبر ذلك نزولاً منـه عن حقه في الاعتراض». 

   فقصد النص في المادة (8)، سالفة الإيراد، واضح في أن التنازل يقـع ـــــــ بـعـدم إبـداء الاعتراض في وقت معقول ـ على المسائل الإجرائية المتضمنة في شرط التحكـيم أو القواعـد الإجرائية المكملة في القانون ذاته، لا على الدفوع الموضوعية في دعوى التحكيم. 

   ولما كان ما سبق، فإن تكييف محكمة الاستئناف للدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية علـى دفع موضوعي، يناقض ما انتهت إليه المحكمة في أسبابها، ويستتبع ذلك التناقض وجـوب إعادة النظر في هذا التكييف. 

   أما من حيث إن الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية يسقط بعدم إبدائه في وقت معقـول إعمالاً لنص المادة الثامنة من قانون التحكيم، فإنه يناقض ما انتهت إليه دائرة أخرى من محكمة استئناف القاهرة، في أسباب رفضها للدفع نفسه في طعن آخر، من أن: وء 

   «جهود التسوية الودية هي ما تتم بين الطرفين قبل اللجوء إلى التحكيم وفشلها يعني إلى التحكيم بنهاية مرحلة التسوية الودية وبدء مرحلة الالتجاء إلى التحكيم فلا يعـد مـن ضـمن إجراءات التحكيم إجراء تسوية ودية». 

   فإذا كانت المحكمة قد ارتأت أن إجراء التسوية الودية لا يعد من إجراءات التحكيم، فيترتب على ذلك أن يمتنع تطبيق نص المادة (8) سالفة الإيراد عليه باعتباره ليس من إجراءات التحكيم ولا من شروط شرط التحكيم، ولا يكون من قبيل الدفوع الإجرائية التي يسقط الحق فيهـا بعـدم إبدائها في وقت معقول، ويكون ـ بذلك المبنى الأخير لقضائها برفض الدفع بعدم اللجوء الى التسوية الودية في غير محله. ولا ينال من ذلك أن الحكم الأخير صادر عن دائـرة غيـر التـي أصدرت الحكم الأول، لأن محكمة الاستئناف في دائرة اختصاصها (القاهرة مثلاً) محكمة واحدة وإن تعددت دوائرها، واتساق الأحكام وخلوها من التناقض من قواعد النظام العام التي لا يجـوز الخروج عنها. 

  وتلح الحاجة إلى إعادة النظر في قضاء محكمة الاستئناف، برفض الدفع بعدم استنفاد سبيل التسوية الودية، في ظل ما تواترت عليه أحكام التحكيم الوطنية والمحلية من أنه من غير المقبول أن يلجأ خصم إلى التحكيم دون اللجوء إلى التسوية الودية، وأن حسم المنازعات ـ عند الاتفـاق على اللجوء الى التسوية الودية قبل اللجوء الى التحكيم – يتم على مرحلتين متتاليتين تلي إحداهما الأخرى وتستنفد الأولى قبل أن ينفتح أمام الخصوم سبيل الوسيلة الأخرى (= التحكيم)، ولا تغني إحداهما عن الأخرى، إلا في حالة النزاع في المرحلة الأولى وهي التسوية الودية. 

   إن منتهى ما تقدم من نظر في أحكام محكمة استئناف القاهرة في شأن الدفع ببطلان حكـم التحكيم لعدم اللجوء إلى التسوية الودية قبل اللجوء الى التحكيم، لا يقصد منه تخطئة مـا انتـهـت إليه من رفضها لهذا الدفع ـ خاصة مع ما ذكرنا سلفاً من أن هيئة التحكيم قد كانت، في كل مرة، قد نظرت في الدفع ذاته وردت عليه ورفضته ـ ولكننا نقصد منه لفت الأنظار إلى مـاق يسوغ من أسباب بنت عليها المحكمة الموقرة قضاءها برفض الدفع بالتسوية الودية والتنبيه إلـى ما في أسباب أحكام القضاء من تناقض واختلاف في ردها القانوني على ذات الـدفع، آملين أن يكون فيما سبق من قول ما تستهدي به محكمتنا العليا في نظرها الطعون المرفوعة على بعـض أحكام الاستئناف التي تناولتها هذه الورقة.