الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / مناط الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / التحكيم في المنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها (في النظامين السعودي والمصري) / مدى قابلية العقود الإدارية للتحكيم

  • الاسم

    محمود احمد عبدالسلام احمد نقي الدين
  • تاريخ النشر

    2019-01-01
  • اسم دار النشر

    جامعة عين شمس
  • عدد الصفحات

    466
  • رقم الصفحة

    396

التفاصيل طباعة نسخ

مدى قابلية العقود الإدارية للتحكيم

   القابلية الموضوعية للتحكيم محلها موضوع النزاع ذاته، فهناك موضوعات لا يجوز أن تكون محلا للتحكيم، فهناك قوانين بعض الدول تنص صراحة على عدم جواز التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام أو تعمل على ربط القابلية للتحكيم بالقابلية للصلح التي تتحدد بدورها بحد النظام العام.

القابلية الشخصية للتحكيم

   يقصد بالقابلية الشخصية للتحكيم في العقود الإدارية من الناحية الشخصية أن تتصل بمدى صلاحية أن يكون أحد أطراف اتفاق التحكيم الدولة أو أحد أشخاصها المعنوية العامة.

   وفي فرنسا اتجه الفقه إلى بحث موضوع القابلية الشخصية للتحكيم من زاوية شخص القانون العام الذي يعتبر طرفاً في النزاع وفي مصر يتم بحث موضوع القابلية الشخصية من ناحية جواز أو عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.

  ويثير هذا الموضوع مسألة أهلية الدولة وأشخاص القانون العام في إبرام اتفاق التحكيم.

   فهناك آراء تؤيد التحكيم في العقود الإدارية وآراء أخرى تعارض هذا الاتجاه، وقد تم عرضها سابقاً بالتفصيل، وموقف القضاء في هذا الشأن.

   على أساس أن الدولة هي التي تنشئ هذه الشخصيات الاعتبارية العامة وتحدد اختصاصاتها، وتمارس أيضاً نوع من الرقابة عليها عند أدائها لنشاطها.

   لذلك فالأصل بالنسبة لأشخاص القانون العام، هو ضرورة مراعاة القواعد الخاصة التي يتطلبها النظام القانوني المنشور بالنسبة لسلطة اتفاق التحكيم.

   ومسألة أهلية أو صلاحية الأشخاص المعنوية العامة لإبرام اتفاق التحكيم، تحكمها قوانين الدولة التي تتبعها.

   يثور التساؤل ما هو معيار القابلية الشخصية للتحكيم، الذي يحكم تصرفات أشخاص القانون العام؟

   من المسلم به أن الدولة والأشخاص المعنوية العامة، تتمتع بقدر من السلطة العامة حين تمارس نشاطها، وتلك السلطة قد تقل أو تزيد بحسب طبيعة المهمة المنوط بها أداؤها، حيث أن الأشخاص المعنوية العامة عموماً تخضع لمبدأ التخصص الذي يجعل لكل شخص معنوي عام اختصاص محدد. سواء على أساس جغرافي، كالشخصيات المعنوية العامة الإقليمية، أم على أساس موضوعي، كالأشخاص المعنوية أو المرفقية. ويحدد قانون إنشائها، نطاق اختصاصها. ومن ثم يمكن أن نعتمد على فكرة الاختصاص كمعيار للقابلية الشخصية للتحكيم، بحيث تصبح جميع الأعمال والتصرفات القانونية التي تصدر عن الشخص المعنوي العام في حدود اختصاصه، تصرفات سليمة قانونياً ونافذة في مواجهته، ومنها إبرام اتفاق التحكيم. بمعنى أن الاختصاص في مجال القانون العام، يقابل أهلية التصرف في القانون الخاص.

    ذهب قسم الراي بمجلس الدولة منذ بداية إنشائه، ففي فتواه بتاريخ ۱۸ مايو سنة 1950. قال: "... إن الاختصاص في القانون العام يقابل الأهلية في القانون الخاص، وكما يشترط لكي يكون التصرف الفردي صحيحاً منتجاً لآثاره القانونية أن يكون المتصرف متمتعاً بالأهلية القانونية لإبرامه، كذلك يشترط لصحة التصرف الإداري أن يكون الموظف الذي يصدر منه هذا التصرف مختصاً، وأن يكون موضوعه جائزاً ومشروعاً، وأن تراعى فيه الشروط الشكلية التي ينص عليها القانون. على أن الاختصاص في القانون العام أضيق نطاقاً من الأهلية في القانون الخاص، إذ الأصل في القانون الخاص أن الشخص ذو أهلية ما لم ينص القانون على عكس ذلك، أما في القانون العام، فالأصل أن الموظف غير مختص بها إلا بالنسبة إلى المسائل التي ينص على اختصاصه بها. وفي الحالة المعروضة لا اختصاص للسلطة التنفيذية في الترخيص باستغلال الثروة الطبيعية، فالتزامها باطل مطلقاً لعدم اختصاصها به، ومن ثم لا يترتب على هذا الالتزام الباطل أثر".

    ثم عاد قسم الرأي بمجلس الدولة، وأكد على هذا الاجتهاد، في فتواه بتاریخ ۱۰ فبراير سنة 1954، من أن التحكيم يعد من أعمال التصرف، والتي يلزم للاتفاق عليه أهلية التصرف كما تنص المادة (٨١٩) من قانون المرافعات رقم 77 لسنة ١٩٤٩ الملغي، والتي تقابل نص المادة (٢/٥٠١) من قانون المرافعات رقم 13 لسنة 1968. والتي ألغيت مواد التحكيم الواردة به بموجب قانون التحكيم رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤، الذي ورد به ذات الحكم بالمادة رقم رقم (۱۱) والتي تنص على أنه: "لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف في حقوقه..." وربط قسم الراي | بين أهلية التصرف في الحقوق، وبين فكرة الاختصاص في القانون العام. وقال قسم الرأي: "... إن المادة الأولى من القانون رقم 398 لسنة 1953 الخاص بفض المنازعات بين الدولة والغير عن طريق التحكيم تنص على أنه مع عدم الإخلال بحكم المادة (۸۱۹) من قانون المرافعات يجوز فضا المنازعات القائمة بين الدولة والغير عن طريق التحكيم. والواقع أن لفظ "الدولة" الوارد في هذا النص لا ينسحب على المجالس البلدية، ومن ثم فإن هذا القانون لا يسري على مشارطات التحكيم التي تكون المجالس البلدية طرفاً فيها؛ ذلك أن أحكام هذا القانون أخذاً المادة الثانية منه – لا تنظم سوى التحكيم في المنازعات التي يكون أحد أطرافها جهة إدارية يملك مجلس الوزراء التصرف في أموالها، والحال - فيما يتعلق بالمجالس البلدية – أن مجلس الوزراء ليس له اية ولاية بصدد التصرف في أموالها، لأن المادة الرابعة عشر (سادساً) من القانون رقم (145) لسنة 1944 الخاص بالمجالس البلدية والقروية قد جعلت التصرف بمقابل في أموال المجالس البلدية من اختصاص هذه المجالس، بشرط الحصول مقدماً على موافقة وزير الشئون البلدية، إذا كان هذا التصرف في عقار أو في منقول تزيد قيمته على مائة جنيه. وواضح من نص المادة الأولى من القانون رقم 398 لسنة 1953 أن التحكيم عمل من أعمال التصرف يلزم للاتفاق عليه أهلية التصرف، إذ أن تلك المادة تحيل إلى المادة ٨١٩ من قانون المرافعات، وهذه الأخيرة يقضي حكمها بأنه لا يصح التحكيم إلا لمن له التصرف في حقوقه".

   يتضح مما سبق، أن معيار القابلية الشخصية للتحكيم في مجال القانون العام؛ هو الاختصاص، فمتى كان الشخص المعنوي العام، مختصاً بإبرام عقود باسمه دون وصاية من سلطة أخرى، أو تصديق من جهة أعلى، يصح له إبرام اتفاق التحكيم.

   ومما يؤيد هذا، أن المشرع المصري عندما أراد أن يتدخل لحسم مسألة التحكيم في العقود الإدارية، نتيجة للانقسام في الفقه والقضاء حول المسألة عقب صدور القانون رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤، على تفصيل سابق، أصدر القانون رقم 9 لسنة 1997 بإضافة فقرة ثانية للمادة الأولى من القانون رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤، نصت على أنه: "وبالنسبة إلى منازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك".

   ويبدو واضحاً أن المشرع تبنى فكرة الاختصاص معياراً للقابلية الشخصية للتحكيم في العقود الإدارية، وأعطى هذا الاختصاص للوزير المختص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة الني لا تتبع وزيراً بعينة كالجهاز المركزي للمحاسبات، على اعتبار أن الوزير أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، هو من يمثل الدولة في الوزارة التي يرأسها، وذات الأمر بالنسبة للشخص الاعتباري العام الذي لا يتبع وزيراً بعينه. ويبدو هذا الاتجاه جاء أيضاً لما استشعره المشرع من إفراط أشخاص القانون العام في إدراج شرط التحكيم في عقودها الإدارية، خاصة أشخاص خاصة أجنبية، مما تسبب في إهدار للمال العام، نتيجة لتكاليف التحكيم الباهظة. فضلاً عن خسارة كثير من هذه القضايا أمام هيئات التحكيم الدولية.

  والمبدأ العام هو حظر اللجوء إلى التحكيم في منازعات الدولة والأشخاص القانونية العامة في فرنسا.

   وقد تبنى المشرع الفرنسي وقنن مبدأ حظر التحكيم في منازعات الشخصيات المعنوية العامة وأجازت التحكيم في بعض الحالات الخاصة.

   وبالنسبة لموقف القضاء حدث خلاف بين موقف القضاء العادي والإداري من مسألة التحكيم في المنازعات العقدية، التي أحد أطرافها شخص معنوي عام وشخص خاص أجنبي منذ منتصف القرن العشرين فظل مجلس الدولة متمسكاً بمبدأ حظر التحكيم في منازعات الشخصيات المعنوية العامة مطلقاً، منذ القرن التاسع عشر، ولا يزال الحظر قائماً حتى الآن، في حين ذهب القضاء العادي إلى جواز اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود المبرمة شخص أجنبي خاص وفقاً لحاجة التجارة الدولية ومتطلباتها.

   وقد أخذت الاتفاقيات الدولية، سواء الثنائية أو الجماعية مكاناً متميزاً في النظم القانونية الوطنية وتدرج أحكام كل منهما في القوة أمام القضاء الوطني وهيئات التحكيم.

   والاتفاقيات الدولية لها أهمية كبيرة في مصر في مجال التحكيم خاصة بعد صدور القانون الخاص التحكيم رقم ٢٤ لسنة 1994 وقد نصت المادة الأولى منه على أنه: "مع عدم الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية...".

القابلية الموضوعية للتحكيم

   وقد أثبت التطور في القانون المقارن، أن مسألة القابلية للتحكيم من عدمه، تتوقف على مدى الثقة التي تضوع في نظام التحكيم بوصفها وسيلة لحل المنازعات، الذي أدى بدوره إلى انعكاس ذلك على تحديد ما المقصود بالنظام العام الذي يؤدي إلى تعلق مسألة ما به، مما يخرجها من نطاق التحكيم أو عدم قابليتها للتحكيم.

أولا. تطور القابلية للتحكيم وفكرة النظام العام:

   النظام العام يتدخل في جميع مراحل عملية التحكيم، سواء الداخلي أو الدولي، فقد يحدث مخالفة أو انتهاك للنظام العام عند الاتفاق على التحكيم، لاسيما فيما يتعلق بقابلية النزاع للتحكيم، وعند تشكيل هيئة التحكيم، وحال  تداول إجراءات التحكيم، خاصة فيما يتعلق بحقوق الدفاع، وفي الحكم التحكيمي ذاته، سواء منطوقه أم اسبابه، وشروطه الشكلية، والحل الموضوعي الذي حسم به النزاع.

مراحل تطور مسألة القابلية للتحكيم وفكرة النظام العام:

1- هناك اتجاه يرى استبعاد أي مسالة تتعلق بالنظام العام، أي يحكمها قواعد أمرة من نطاق التحكيم فالتحكيم لا يجوز في أي نزاع متى كان يثير تطبيق قاعدة أو أكثر من القواعد القانونية الأمرة. وقد ربط هذا الاتجاه بين عدم القابلية للتحكيم، وبين وجود القواعد القانونية الأمرة، على أساس أن وجود هذه القواعد، هو مظهر وجود النظام العام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد تأثر هذا الاتجاه بفكرة الربط بين المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وبين المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم، بمعنى أنه يؤخذ النظام العام في التحكيم بمفهوم النظام العام في الصلح. ولقد عانى النظام العام في التحكيم من هذا الربط ووحدة المفهوم، بالرغم من اختلاف معطيات المشكلة. فالصلح يقتضي النزول عن جزء من الحق، ولهذا فإن الاتفاق على الصلح هو اتفاق بالنزول والتصرف في جزء من الحق، ولهذا من المنطقي الا يجوز الصلح إلا حيث يكون للأطراف حرية الاتفاق. وتلك الحرية لا تتوافر إذا ما وجدت قاعدة آمرة متعلقة بالنظام العام لأن ذلك يعني تقييد حرية الاتفاق. بينما الاتفاق على التحكيم، لا يتضمن في حد ذاته على الإطلاق النزول عن الحق أو الاتفاق المخالف لقاعدة آمرة.

   وقد أخذ على هذا الاتجاه، أنه لا يقدم تفسيراً مقنعاً للصلة بين القاعدة القانونية الآمرة المتعلقة بالنظام العام، وعدم القابلية للتحكيم، كما أن الأخذ بظاهرة النصوص التشريعية على النحو سالف الإشارة، سيؤدي إلى نتيجة غير مقبولة، فحواها عدم قابلية المنازعات التي تفرزها معاملات الناس للتحكيم في الأعم الغالب من الحالات، لأن القواعد القانونية الآمرة تنوعت ما بين آمرة مرتبطة بالمصلحة العامة، وأمرة متعلقة بالنظام العام الاجتماعي، وباتت تغشى كافة الفروع حتى ما كان يبدو منها بعيداً عن متناولها، كما هو الحال في القانون المدني، أو التجاري على نحو لا يكاد يوجد معه نزاع لا يثير الفصل فيه؛ تطبيق قاعدة من القواعد الآمرة، بمعنى آخر، لم يعد من السهل وجود نزاع ينأى برمته عن القواعد القانونية الآمرة.

2-وهناك محاولات ترمي إلى الحد من إطلاق، الربط بين فكرة النظام العام في مجال القابلية للتحكيم، وبين وجود القواعد الآمرة، في الفقه والقضاء. فنحا بعض الفقهاء وأحكام القضاء إلى أم مجرد قيام صلة بين محل التحكيم، وقاعدة آمرة متعلقة بالنظام العام، لا يكفي للقول بعدم قابليته للتحكيم، وإنما يجب أن يتوافر أمر آخر إضافي هو أن يستهدف اتفاق التحكيم بالفعل التعدي على النظام العام بطريقة مباشرة، كما لو كان التحكيم متعلقاً بتنفيذ عقد مسعرة، وكان الثمن متجاوزاً بالفعل للتسعيرة، وفي حكم لمحكمة استئناف القاهرة صادر في 5 فبراير ۲۰۰٨، ذهبت إلى أن: "مفهوم النظام العام باعتباره الأساس الاقتصادي ولاجتماعي والسياسي في الدولة، هو ما يتعلق بالمصلحة العامة العليا للمجتمع مما لا يكفي معه مجرد سلعة بيع التعارض مع نص قانون آمر.

ثانياً: النظام العام والقابلية الموضوعية للتحكيم في العقود الإدارية:

   القواعد التي تحكم الروابط القانونية التي تكون الدولة وسائر أشخاصها المعنوية العام الأخرى طرفاً فيها، ومن بينها العقود الإدارية فمن ثم فإن هذه القواعد تتعلق بالنظام العام هي الأخرى، ومن ثم فلا يجوز اللجوء إلى التحكيم في شأنها، لكون مفهوم النظام العام باعتباره مجموع المصالح العليا للمجتمع، التي تسمو على المصالح الفردية، التي تبرر للإدارة استخدام مظاهر السلطة العامة في عقودها الإدارية، مما يترتب عليه أن المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية تتعلق بالنظام العام، ومن ثم لا يجوز حسمها بطريق التحكيم، لأن التحكيم غير جائز في الموضوعات المتصلة بالنظام العام.

   وقد ذهبت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصري، إلى عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام، لأن المشرع قد استهدف: "... بعدم إجازة التحكيم في تلك المسائل أن تخضع لرقابة وإشراف السلطة العامة.

   ومما لا شك فيه أن المصالح المرتبطة بالإجراء الإداري، تؤدي إلى الاعتراف بصفة النظام العام. إلا أنه يجب عدم الخلط بين مسألتين – وهو ما وقع فيه الراي السابق -، المسألة الأولى والتي تستعمل فيها فكرة النظام العام في مجال الاختصاص القضائي أو الإجراء الإداري، وهي مجموعة قواعد تتعلق بتوزيع الاختصاص بين القضاءين العادي والإداري، والإجراءات الحاكمة للعمل الإداري، وجميعها قواعد من النظام العام، لأنها تطبيق لمبدأ الفصل بين الجهات القضائية، أو تنظيم العمل الإداري، وهي مما يخرج تماماً عن إرادة الأفراد، والإدارة معاً.

      فالنظام العام يعد هو الباب أو المنفذ الرئيسي الذي تجد فيه التيارات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني، لتبث فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة، لذلك فهو ليس نظاماً سكونياً أو جامداً، ينحصر في التطبيق الآلي للقواعد المختلفة، ولكنه قد يكون مصدراً لقواعد القانون التي سنت من أجل حفظ النظام، وتلك الوظيفة المنشئة للقاعدة القانونية التي يحظى بها النظام العام.

    إن عدم القابلية للتحكيم لمخالفته للنظام العام، إنما تعني على وجه التحديد أن النظام العام يقتضي بالضرورة، الفصل في النزاع عن طريق قضاء الدولة وحده، دون مشاركة من قضاء آخر خاص ينصبه طرفا النزاع للفصل فيه. وهذا ما يختلف تمام الاختلاف عما يقتضيه النظام العام في شأن تنظيم العلاقة محل النزاع. فما يقتضيه النظام العام في هذه الحالة الأخيرة، هو التزام طرفي العلاقة، القواعد الآمرة التي يضعها النظام العام بشأنها، بحيث يكون اتفاقهم على ما يخالفها باطلاً لا ينتج أثره. وأما ما يفرضه النظام العام في الحالة الأولى فهو أمر آخر زائد على تنظيم العلاقة محل النزاع وتال له، يتمثل في وجوب عرض الخلاف الناشئ عن هذه العلاقة على القضاء وحده دون التحكيم. وبمعنى آخر أكثر تحديداً، فإن منشأ عدم القابلية للتحكيم لمخالفة النظام العام، ليس وحده فقط وجود قواعد منظمة للعلاقة محل النزاع تتعلق بالنظام العام، وإنما هو على وجه التحديد، مخالفة قاعدة معينة بذاتها – أو مبدأ معيناً بذاته – تلزم طرفي النزاع بعرض خلافهما على قضاء الدولة وحده، وتحظر عليهما الاتفاق على التحكيم بشأنه. وهذه القاعدة أو المبدأ – في حال وجودها بالفعل - إنما توجد خارج القواعد الموضوعية المنظمة للعلاقة محل النزاع، واستقلالاً عنها، ومن ثم فهي لابد أن تأتي في إطار القانون الذي ينظم أداء الوظيفة القضائية، سواء كان قانون المرافعات ذاته، أو كان لتنظيم التحكيم، ومن ثم لا تنتمي للقوانين الموضوعية المنظمة للعلاقات المباشرة بين الاشخاص، مثل القانون المدني أو القانون التجاري"، أو القانون الإداري.

   ومن ثم فلا حاجة إلى فكرة النظام العام في مجال القابلية الموضوعية للتحكيم في العقود الإدارية، نظراً لكونه ذا مفهوم متحرك وغير مؤكد، فضلاً عن كونه متغير في شكله ومضمونه ووظيفته.

   وترتيباً على ما سبق لابد من سرد بعض الملاحظات الهامة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة النظام العام في مجال القابلية الموضوعية للتحكيم بصفة عامة.

   وذات الأمر في مسائل التجريم والعقاب. وهذا بعكس الحال فيما يتعلق بمقتضيات النظام العام في مقام الصفة الآمرة لقواعد القانون، حيث يختلف باختلاف النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي المكان والزمان في آن واحد. وهذا يثير التساؤل حول جدوى فكرة النظام العام في مجال القابلية الموضوعية للتحكيم، على أساس أنه لا يوجد مفهوم عام موحد لدولة ما في العصر الحديث.

   من الناحية الثانية، فإن الاعتبارات التي تبرر إخراج المجموعات السابقة من مجال القابلية الموضوعية للتحكيم، تختلف قوة وضعفاً من مجموعة لأخرى. فهي اعتبارات قد تصل إلى حد الضرورة المنطقية في الحالة الأولى، ثم تخف بالتدريج حتى تصل إلى مجرد التفضيل، والمناسبة في المجموعة الثالثة. مما يطرح تساؤل مرة أخرى عن مدى جدوى استخدام فكرة النظام العام في مقام القابلية الموضوعية للتحكيم، ما دام أن الأمر يتعلق في النهاية، إما بضرورة منطقية، وإما باختيار تشريعي أساسه اعتبارات الملائمة التي يقدرها المشرع.

   ومن ناحية أخرى، فإن مجرد وجود قواعد أمرة تحكم العلاقة محل النزاع، لا يمنع بذاته الاتفاق على التحكيم في المنازعات الناشئة عنها، ما لم يتعلق الأمر بمجموعة من مجموعات المسائل غير القابلة للتحكيم. وفي هذه الحالة - حالة وجود القواعد الآمرة – يكون المحكم ملزماً بإعمال هذه القواعد الآمرة على النزاع المطروح عليه. فإن لم يعملها، كان حكمه باطلاً لمخالفته لمقتضيات النظام العام.

   إلا أنه يوجد حدود لمعيار القابلية الموضوعية للتحكيم، ومدى توافقه مع منازعات العقود الإدارية. فمحصلة النصوص التشريعية في مصر تجعل مناط القابلية الموضوعية للتحكيم، هو أن يكون محل التحكيم حقاً مالياً من ناحية، ومن ناحية ثانية أن يكون قابلا للتصرف فيه.

    ويتضح مما سبق، أنه لا يوجد خلاف حول، وجوب أن يكون محل التحكيم  حقاً مالياً، بغض النظر عن مصدرها، سواء كان تصرفاً قانونياً، كالعقد، أو واقعة قانونية، كواقعة الفعل الضار، أو الفعل النافع، بقطع النظر عن محلها، وما إذا كان عقاراً أم منقولاً، وبصرف النظر عما إذا كانت علاقة عينية ترد على عين معينة بالذات، كما هو الحال في الملكية والحقوق المتفرعة عنها، وفي الحقوق العينية التبعية كالرهن والامتياز، أو كانت حقوقاً شخصية ترد على ذمة المدين بها.

   لعل أهم مسألة ومثال لهذا الفرض، حالة التعويض عن أعمال الإدارة، ولو كان مترتباً عن عمل مما لا يجوز التحكيم فيه كقرار إداري غير مشروع مثلاً. فمن المسلم به أن هذا التعويض يخضع للتحكيم في مصر حتى وإن كان مترتباً على عمل مما لا يجوز التحكيم فيه، كقرار إداري غير مشروع. وهذا هو المعنى الذي تؤكده المادة الأولى من القانون بتقريرها خضوع الاتفاق على التحكيم بين أشخاص القانون العام، وأشخاص القانون الخاص، أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي تولد عنها النزاع.

   بيد أن الأمر يدق كثيراً في حالة قيام الدولة الطرف في عقد من عقود الاستثمار، بنزع ملكية المشروع الاستثماري محل الاتفاق، أو تأميمه للصالح العام، أو في إطار برنامج اقتصادي ذي نفع عام.

   وأياً كان الرأي في شرعية الإجراءات التي تتخذها الدولة في ذاتها، سواء تم اتخاذ إجراء من إجراءات نزع الملكية للمشروع الاستثماري، أو تأميمه إذا تم ذلك وفقاً للقانون أو الدستور. فاعتبارات السيادة التي دفعت إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء، لا تحول بحال دون الاتفاق على التحكيم بشأن التعويض العادل الذي يستحق في هذه الحالة، لأن الأمر هنا يتعلق بمسئولية تعاقدية للدولة، يكفي لقيامها الإخلال بالالتزامات التي يلقيها العقد على عاتق أحد الطرفين أو الآخر. وحقيقة الأمر أن مثل هذه الإجراءات تتضمن إخلالاً بالالتزامات التي أخذتها الدولة على عاتقها في عقود الاستثمار. وهذا الإخلال من جانب الدولة، الذي قد يستحق التعويض؛ يصبح قابلاً للتحكيم. بيد أنه لا يجوز للمحكم أن يعرض لشرعية الإجراء الذي اتخذته الدولة في ذاته، بقصد محو أثره، وتقف ولايته عند حد الحكم بالتعويض الملائم جزاء الإخلال بالالتزام العقدي.

2- أن يكون الحق قابلاً للتصرف فيه:

   طبقاً للقانون المصري لا يكفي لكي يكون النزاع قابلاً للتحكيم أن يكون الحق المتنازع عليه حقاً مالياً، وإنما يلزم أيضاً أن يكون من يدعي هذا الحق له سلطة التصرف فيه، وبهذا المعنى تنص المادة (۱۱) من قانون التحكيم المصري على أنه: "لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو المعنوي الذي يملك التصرف في حقوقه ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح". وتنص المادة (550) مدني على أنه: "يشترط فيمن يعقد صلحاً أن يكون أهلاً للتصرف بعوض في الحقوق التي يشملها عقد الصلح".

   في ففي حالة المنع من التصرف، بقصد حماية المصلحة العامة؛ يكون المنع مطلقاً الزمان، ويؤدي إلى عدم القابلية، وأوضح مثال لذلك حالة الأموال العامة. فهذه الأموال تخضع لنظام خاص بها، ولا يجوز التصرف فيها، أو النزول عنها، يكون التصرف أو النزول الوارد عليها باطلاً بطلاناً مطلقاً. ووفقاً لهذه النظرة للمال العام، فليس من المتصور بحال الاتفاق على التحكيم بشأن تعيين حدود الملكية العامة. بيد أنه يتعين مراعاة التمييز في هذا الصدد بين الأموال العامة بالمعنى الدقيق، وبين الأموال الخاصة المملوكة للدولة. فالأولى وحدها هي التي لا يجوز التصرف فيها، أو النزول عنها، بينما حكمها ملكية الأفراد في الحالة الثانية، ويجوز بالتالي التصرف فيها والنزول عنها.

    باختصار ووفقاً للنصوص التشريعية الواردة في قانون التحكيم المصر مري رقم ۲۷ لسنة ١٩٩٤ (المادة ١١) سالفة الإشارة، والمادة (550) من القانون المدني المصري، نلاحظ وجود تلازم بين القابلية للتحكيم، وبين القابلية للتصرف وتأكد هذا التلازم في الفقرة الثانية من المادة (۱۱) تحكيم، عندما قررت عدم جواز التحكيم فيما لا يجوز الصلح، وقد نصت المادة (550) مدني على أنه لا يجوز الصلح إلا لمن يملك حق التصرف بعوض في حقوقه، وأيضاً قرن المشرع الفرنسي بين القابلية للتحكيم والقابلية للتصرف وفقاً لنص المادة (٢٠٥٩) سالفة الإشارة.

   وهنا يصح أن نتساءل حول مدى ملائمة فكرة الحقوق القابلة للتصرف، مسألة القابلية الموضوعية للتحكيم في المنازعات الإدارية بصفة عامة. وفي منازعات العقود الإدارية خاصة؟

   من المقرر أن الدولة تقوم بإنشاء مرافق عامة، بقصد إشباع الحاجات مع العامة أي تحقيق نفع عام، وهي في الغالب تكون مشروعات، وتلك المشروعات تحتاج إلى أموال عقارية ومنقولة لتتمكن من أداء خدماتها  لجمهور المنتفعين.