التحكيم / اللجوء للتحكيم الإداري في العقود الإدارية في القانون / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / الأصول الإجرائية للتحكيم الإداري في سوريا
لم يطبِّق مجلس الدولة قانون التحكيم رقم /4/ لعام 2008م، تأسيساً على أنّ التحكيم في منازعات العقود الإدارية تبقى خاضعة لأحكام المادة /66/ من نظام العقود رقم /51/ دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ مواد قانون أصول المحاكمات التي تنص على التحكيم قد ألغيت بصدور قانون التحكيم الجديد وحلّت محلّه أحكام خاصة نظِّمت بموجب المادة /64/ من التحكيم وإجراءاته. وإنّ تطبيق التحكيم على العقود الإدارية لا يتعارض ونص المادة 2/2 من قانون التحكيم، ولقد تم تخصيص هذا المبحث لدراسة الأصول الإجرائية للتحكيم في سورية، نظراً لأهميته العملية التي دأب مجلس الدولة السوري في تطبيقها منذ عشرات السنين، كما تم فيه التطرق الى طرق المراجعة بقرار إعطاء الصيغة التنفيذية في القانون السوري.
ومن الواضح أنّ هناك فروقاً جوهرية بين التحكيم في القانون الخاص وبين التحكيم في القانون الإداري. ومن الطبيعي أنّ هذه الفروق لا بد من أن تجرّ معها فروقاً في الإجراءات، بحيث يمكن إنشاء نظرية عامة في التحكيم في القانون الإداري، لا غنى عن الإفصاح عنها وتحليل مضمونها لكي يأتي بحث الإجراءات بالشكل المُرضي.
الاستثناء الذي أوجدته الفقرة الثانية من المادة الثانية شكّل وضعاً شاذاً:
لا شك في أنّ ما تضمّنته الفقرة الثانية من المادة الثانية من قانون التحكيم الجديد التي نصّت على أن "يبقى التحكيم في منازعات العقود الإدارية خاضعاً لأحكام المادة /66/ من نظام العقود الصادر بالقانون رقم /51/ تاريخ 9/12/2004م" يخالف توجهات الدولة في جلب الاستثمارات العربية والأجنبية، إضافة إلى أنّ ذلك يتعارض ومفهوم التحكيم الاختياري ليقترب من التحكيم الإجباري، ولتوضيح الآثار السلبية لذلك لابد من التعرض لما نصّت عليه المادة /66/ من نظام العقود الصادر بالقانون رقم /51/ تاريخ 9/12/2004م.
تنص الفقرة /ت/ من المادة المذكورة على الآتي:
"يجوز أن ينص في دفاتر الشروط الخاصة والعقد على اللجوء إلى التحكيم وفقاً للأصول المتبعة أمام القضاء الإداري، وتتشكل لجنة التحكيم برئاسة مستشار من مجلس الدولة يسمّيه رئيس مجلس الدولة وعضوين تختار أحدهما الجهة العامة ويختار المتعهد العضو الآخر".
كما نصّت الفقرة /ج/ من المادة نفسها على أنه:
يمكن أن ينص في العقود الخارجية بموافقة الوزير المختص بالذات على جهة تحكيمية خاصة خلافاً لأحكام البند (ب).
وبما أنّ النظام الجديد أصبح مطبّقاً على كل الجهات العامة في الجمهورية العربية السورية، فإنه يمكن القول أنّ نظام التحكيم في العقود الإدارية أصبح واحداً بالنسبة لكل عقود الجهات العامة دون تفريق بين جهات ذات طابع إداري أو ذات طابع اقتصادي.
والواقع فإنّ المادة /66/ ميّزت بين هيئتين تحكميتين لبت الخلافات، الأولى أطلق عليها اسم "لجنة التحكيم"، ويمكن أن ينص على تشكيلها في كافة العقود سواء أكانت داخلية أو خارجية. والثانية سمّاها "لجنة التحكيم الخاصة" ولا يمكن أن ينص على تشكليها أمام القضاء الإداري .
وسواء أكان العقد الإداري داخلياً أو خارجياً فإنّ التشريع السوري هو المرجع الوحيد أمام المحكّمين لبت كل ما يتعلق بصحة العقد وبطلانه وفسخه وتفسير أحكامه وفي كل نزاع ينشأ نتيجة تنفيذه، ويأتي ضمن هذا التشريع قانون العقود رقم /51/ لعام 2004م، ودفتر الشروط العامة بالمرسوم رقم /450/ تاريخ /9/12/2004م، وصك إحداث الجهة العامة المتعاقدة والقانون الذي صدر بالاستناد إليه والسلطة الوصائية عليها ومراجع التصديق على العقود ...الخ.
- المشكلة القائمة في الفقرة الثانية من المادة الثانية:
إنّ هذا الاستثناء الوارد في قانون التحكيم السوري الجديد أوجد مشكلة حقيقية في توجهات الدولة للنهوض الاقتصادي على كافة المجالات من خلال تحقيق الإطار القانوني السليم في نمو الاستثمارات الوافدة.
- إنّ السلبيات الناشئة عن وجود هذا النص تتمثل في ما يأتي:
1- تعارض هذا النص مع التحكيم الاختياري، فالأسلوب الذي ورد فيه الاستثناء يصبغ على التحكيم في العقود الإدارية نوعاً من التحكيم الإلزامي.
2- ألزمت المادة /66/ أن تكون رئاسة لجنة التحكيم حصراً لمستشار من مجلس الدولة يسمّيه رئيس المجلس وعضوين آخرين تختار أحدهما الجهة العامة ويختار المتعهد العضو الآخر، إنّ ذلك يتعارض وخطة الدولة لاستقدام الاستثمارات الخارجية.
3- لقد ألغى المشرع المواد من (506-534) المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات، مما جعلها معدومة، وبالتالي فمن غير المستساغ العمل بموجبها في التحكيم الإداري.
4- ارتقى المشرع بالتحكيم في القضايا المدنية بموجب قانون التحكيم فليس من المنطق أن يبقى التحكيم في العقود الإدارية دون هذا الارتقاء، والمثال على ذلك أنّ إجراءات التحكيم كانت تتم أمام المحكمة المختصة في أصل النزاع والتحكيم على درجة مماثلة لها، فليس من المنطق أن تشرف على التحكيم ممّا جعل المشرّع يخضعها لمحكمة الاستئناف وهي أعلى درجة من المحكمة المختصة في أصل النزاع. وهذا ما يجب أن يتم أمام مجلس الدولة. أي أن تصبح المحكمة الإدارية العليا هي المرجع في قضايا التحكيم، بدل محكمة القضاء الإداري .
5- إنّ القانون الجديد هو أقرب لتحقيق العدالة من قانون أصول المحاكمات في مجال التحكيم، وهو مستمد من قواعد التحكيم التي أقرتها لجنة الأمم المتحدة، والتي أصبحت موحدة لدى أغلب دول العالم.
6-إنّ آلية التحكيم التي تتم في مجلس الدولة بواقعها الحالي غير موجودة في جميع الدول العربية التي تتبع النظام اللاتيني، ولابد من إعادة النظر فيها حتى تنسجم مع العدالة وتطورات قوانين التحكيم على الساحة الدولية.
المطلب الأول- الرؤية القانونية الخاصة لمجلس الدولة السوري بالنسبة للتحكيم:
لا ريب أن التحكيم ولاية قضائية بكل ما تعطي الكلمة من معنى، ولكن بينما الولاية القضائية العادية تقوم على إلزام المتقاضين إلزاماً يتناول عدم الالتفات إلى رضائهم بحكم القاضي أو عدم رضائهم به. كما تقوم على عصمة القاضي عن عزل المتقاضين له وامتداد الحكم على المتقاضي إلى ورثته في الدعوى التي حكم بها، إذا بالتحكيم في القانون الإداري يقوم على النقيض من ذلك تماماً، فالمحكّم لا عصمة له من العزل، وامتداد آثار الحكم إنما يسري في قسم من الحالات.
وفي المقابل فإنه بينما يمتد حكم القضاء إلى فروع الدعوى، يقتصر حكم المحكّمين على النزاع موضوع الصك. لهذا يصح القول بأن القضاء ولاية قضائية ممتدة أفقياً، وأن التحكيم ولاية قضائية ممتدة بصورة عمودية.
أولاً- الولاية القضائية ذات الامتداد العمودي:
تتجلى هذه الولاية القضائية الواضحة في صلاحية لجنة التحكيم في تجاوز قواعد الاختصاص النوعي، فهي قادرة على اتخاذ تدابير منوّعة لو أن القضاء العدلي كان ينظر في الدعوى لاستلزم الأمر أن تقوم أكثر من محكمة في اتخاذ هذه التدابير، كتجميد المال ووقف التنفيذ ووصف الحالة الراهنة كل هذا دفعة واحدة.
لهذا امتنعت اللجنة المختصة عن إبداء الرأي في هذه التدابير عندما تكون لجنة التحكيم واضعة اليد على القضية.
وإذا كانت اللجنة، بنص في شرط التحكيم معفاة من التقيد بضوابط الشكل والأساس، استطاعت أن تعتبر أحد الطرفين معفى من اتّباع تلك الطرق التي نصّ عليها قانون من القوانين الخاصة أو العامة أو مراعاة المهل التي نص عليها، مثال ذلك: لو أنّ العقد الإداري نص على شرط إلزام المتعهد لدى الإدارة العامة على تقديم طلب في حينه إذا أراد المطالبة بقيمة الأعمال الإضافية تحت طائلة اعتبارها غير جديرة بالاستجابة، لكان للجنة التحكيم الحق في عدم التقيد بهذا الشرط لحل النزاع، إلاّ أنّ هناك خلافاً في الآراء، فبعضهم يحصر حق الإعفاء في تقديم الطلبات إلى اللجنة من بعد أن تتولى التحكيم، والبعض الآخر يطلقه لكي يشمل الطلبات التي كـان على المتعهد أن يقدّمها الى الإدارة للتعويض عليه أثناء تنفيذ العقد، وقبل تولي لجنة التحكيم، ومنهم أيضاً من يفسِّر ضوابط الشكل والأساس هنا بالضوابط المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات مثل تبليغ الطرفين موعد الكشف الذي تزمع اللجنة إجراءه لوصف حالة راهنة مثلاً.
ورأينا في الموضوع أنّ المطلق يجري على إطلاقه، فيشمل عدم التقيّد بضوابط العقد الإداري وقواعد الأصول التي ليست من النظام العام فقط دون تلك التي تعتبر منه مثل تحليف اليمين.
ويرى الفقيه الدكتور عبد الإله الخاني أنّ ساحة التحكيم الأفقية ضيقة جداً، ذلك أنّ اللجنة لن تستطيع أن تنظر إلاّ في حدود النزاع التي فوِّضت بحله دون غيره، أما القضاء فينظر في النزاع برمته مع ملحقاته وفروعه والطلبات العارضة له. لهذا قيل إنه في مجال القانون الإداري لا تسري في التحكيم ما يسمّى قاعدة: قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
هنا يبدو فارق مميّز آخر بين التحكيم في ظل القانون الخاص وبين التحكيم في ظل القانون الإداري، ففي ظل الأول تقاس حدود النزاع بما اتفقت إرادة الطرفين على تفويضه لأمر المحكّمين، بينما في ظل الثاني، هناك رقيب على هذه الإرادة هو اللجنة المختصة في مجلس الدولة.
ثانياً- نقطة انطلاقة التحكيم:
ضمن أصول التحكيم يحسن أن نبحث كيف يبدأ التحكيم أو بالأحرى تحريك التحكيم، وبهذا الصدد فإنّ التحكيم ينقسم إلى إداري وقضائي:
أ- التحكيم الإداري: ويقصد به التحكيم الطوعي المتفق عليه بين الطرفين والمتفق بينهما على إجرائه بالرضى حيث يكون العقد أو دفتر الشروط بين المتعهد والإدارة قد تضمّن شرطاً صريحاً بالتحكيم. يتعهد كل من الطرفين بموجبه بأن يحل أي نزاع ينشأ بينه وبين الطرف الآخر عن طريق المحكّمين.
عندما ينشأ مثل هذا النزاع ويتعذر تسويته ودياً ورضائياً، يتقدم غالباً المتعهد إلى السيد رئيس مجلس الدولة بعريضة طالباً تسمية رئيس لجنة التحكيم، إذ غالباً ما ينص دفتر الشروط على صلاحية هذا المرجع لتعيين المحكّم الثالث، عندئذ يتعين على رئيس مجلس الدولة مهمة تبليغ الإدارة صورة عن هذه العريضة يطلب فيها منها بيان رأيها في الطلب حتى إذا كان إيجابياً يكلف الإدارة بأمرين: الأول أن تسمّي محكمها، والثاني أن توافيه بملف النزاع كاملاً بما فيه من عقد أو ملاحق عقد ودفتر شروط وكشوف مؤقتة وكشف نهائي وضبط استلام مؤقت ونهائي ... الخ إذا ما نفّذت الإدارة هذا التكليف يصدر رئيس المجلس قراراً بتسمية رئيس لجنة التحكيم يبلغه إلى الطرفين، وتبدأ أولى مراحل التحكيم الإداري، ثم المراحل الباقية بالتتابع بعد تسليم المحكّمين المهمة.
ب- التحكيم القضائي: إذا ما تبلّغت الإدارة تكليف رئيس مجلس الدولة بتسمية محكمها وامتنعت عن السير في طريق التحكيم لتسوية النزاع، يبلغ رئيس المجلس طالب التحكيم رفض الإدارة هذا ويكون معنى ذلك أنّ طريق التحكيم الإداري مغلق في وجهه، ويكون عليه إذا أراد متابعة طريق التحكيم أن يطرق باب القضاء لمداعاة الإدارة والاستحصال على حكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية بإلزامها بحل النزاع بطريق التحكيم، وغالباً ما تصدر الفقرة الحكمية في القضية بهذه الصورة:
1- قبول الدعوى شكلاً.
2- قبول الدعوى موضوعاً وتسمية (فلان) محكماً عن الإدارة وتثبيت تسمية المتعهد لـ(فلان) محكماً عنه.
3- تسطير كتاب إلى السيد رئيس مجلس الدولة لتسمية رئيس لجنة التحكيم.
4- ترك الأمر، أمر بت النزاع إلى لجنة التحكيم المشكّلة لهذه الغاية.
5- إعادة ما أسلفه المدعي من رسوم وما تجشّمه من مصروفات إليه.
حتى إذا ما سمّى رئيس مجلس الدولة رئيساً للجنة التحكيم، سار هذا التحكيم سيره الطبيعي على يد لجنة التحكيم .
فإذا ما اتفقت إرادة الطرفين على تحديد النزاع، لم يصبح هذا التحديد نهائياً ما لم تجزه اللجنة المختصة في قسم الفتوى والتشريع . فقد تجيز جزءاً منه وقد لا تجيزه البتة.
ويجب على لجنة التحكيم أن تتقيد بما أجيز من قبل هذه اللجنة، فلا تتعدى في مهمتها ما قد رسمته، وإلاّ بطل حكمها كله .
ثالثاً- الحرية ضمن التقييد:
يقول الدكتور عبد الإله الخاني: (حقاً إنها لحرية ضمن حدود التقييد، حدود مقيّدة أن يكون للجنة التحكيم الحق في أن تتصرف بموضوع النزاع، من حيث الأساس، كما يحلو لها، وكما تراه متفقاً مع روح الإنصاف، دون أن يكون لأي طرف، حتى ولا للمحكمة التي تعطي صيغة التنفيذ أن تنعي عليها تقديرها هذا).
إذن فالطعن في حكم المحكِّمين ينصب على مخالفة الإجراءات فقط، فهو إلى حد ما طعن في الشكل . وهنا يكمن سر النظرية العامة في التحكيم الإداري.
ولعل الحرية تتجلى أكثر ما يكون في الصلح في التحكيم ويجب أن ينص في شرط التحكيم على أن المحكّمين يصبحون في مهمتهم معفيين من ضوابط الشكل والأساس بمجرد النص على تفويضهم بالصلح، كما يغدو الطرفان ملزمين بقبول قرار المحكّمين دون أن يكون لهما أي حق بالطعن في الحكم ولو لم ينص فيه على قطعية ما لهذه القرارات.
وهكذا يتميّز صك التحكيم عن عقد الصلح المحض، بأنّ الطرفين في الأول (خلاف الأمر في الثاني) لا يتنازلون عن حقوقهم كلياً ولا جزئياً. ولكنهم يكلّفون المحكّمين بتحديد هذه الحقوق، أما في الصلح في التحكيم، فإنهم يفوّضون المحكّمين بهذا التنازل.
إنّ عقد الصلح المحض غير قابل للتنفيذ بذاته، إلاّ إذا كان عقداً قضائياً أو سنداً تنفيذياً غير معترض عليه، بخلاف عقد التحكيم الذي يصدر حائزاً قوة الإبرام بعد إجازته من قبل اللجنة المختصة.
وأخيراً فإنّ حكم المحكّمين وحكم الصلح لا يقبلان الطعن إلاّ من ناحية الإجراءات.
المطلب الثاني- إجراءات التحكيم من منظور القضاء الإداري في سوريا:
لا شك في أن الإجراءات تعتبر العامل الأساسي والحاسم في نجاح التحكيم والوصول فيه إلى خط الأمان، لأنها تمثل في الواقع أصل التحكيم، لأنه متى جرت بشكل قانوني وسليم سلم التحكيم كله من البطلان.
أولاً- سير الدعوى التحكيمية:
متى وجد شرط التحكيم، ثم صك التحكيم، بدأ التحكيم عمله كالعادة مثل دعوى ترى أمام القضاء، إنّ أول نقطة فيه هي تدوين الجلسات والوقائع في محاضر، فليس هناك نص يعفي لجنة التحكيم من التدوين.
إنّ غالبية شروط التحكيم في العقود الإدارية تشترط على لجنة التحكيم أن تحدّد بقرار منها مهمتها شهراً فشهراً، ضمن حدود المدّة القصوى وهي ستة شهور، فلو أريد التقيد بهذا الشرط فإنّ حكم المحكّمين يعتبر باطلاً إذا لم يراعَ هذا الشرط. لكن المحكمة الإدارية العليا تساهلت في ذلك واعتبرت مجرد رضى الطرفين بمتابعة التحكيم دليلاً على عدم اهتمامها بالشرط ومجرد تأجيل الجلسات تمديداً ضمنياً للمهمة .
ومع أنّ بعض شروط التحكيم تغفل ذكر المدة القصوى لصدور الحكم، وأنّ المادة /520/ من قانون أصول المحاكمات قضت بأنّ المدة في حالة هذا الإغفال هي ثلاثة شهور، فقد اجتهدت المحكمة الإدارية العليا بأنّ تجاوز اللجنة هذه المدة عند عدم وجود ذكر للمدة القصوى في شرط التحكيم لا يفسده .
وفي الواقع فإنّنا نخالف هذا الاجتهاد لأنّ النص جازم ونأمل إعادة النظر فيه. ذلك أنّ من أهم وأبرز مزايا التحكيم هو سرعة بت النزاع، خاصة وأنّ النزاعات بمجملها تتصل بدواعي السرعة التجارية، وبالتالي فهي لا تحتمل إطالة الأمد، فإذا أسقطنا هذا الاعتبار لم يعد ثمة موجب لقيام مؤسسة التحكيم.
ومن الأمور الهامة أيضاً ضمن هذا الإطار ألا ينفرد محكّم واحد أو محكّمان بقرار، ولو كان إعدادياً إذا كان عدد المحكّمين ثلاثة، وإلاّ أضحى حكم المحكّمين في النهاية باطلاً ، وبدون أدنى شك فإننا نرى أن هذا الاعتبار واجب الرعاية ولو كان شرط التحكيم يعفي منه باعتبار أن أهم ركن في التحكيم هو اشتراك كل المحكّمين في كل إجراءاته.
وقد تبيّن من بعض العقود الإدارية، مثل العقد الأبيض لوزارة الأشغال العامة، أنّ الإدارة احتفظت لنفسها بحق الرجوع عن التحكيم واللجوء إلى القضاء، ولهذا حكمت المحكمة الإدارية العليا بأنه: "ليس للإدارة أن تتمسّك بشرط التحكيم بعد أن تصرفت على أساس أنه غير ذي موضوع وأحلّت نفسها منه" ، ولكن المحكمة ذاتها، في حكم آخر لها، بموضوع طعن مقدم من أحد المتعهدين، حكمت بعدم اختصاصها للنظر في النزاع، لأن دفتر الشروط العامة المطبّق على عقود وزارة الدفاع جعلت هي نفسها النظر في مثل هذا النزاع من اختصاص لجنة التحكيم، ويستنتج من كل ذلك أنّ الرجوع عن شرط التحكيم للأفراد غير جائز، وفي هذا يتفق مع القضاء الإداري والعدلي، بينما رجوع الإدارة عن التمسّك بهذا الشرط يعيد اختصاص القضاء الإداري إلى سيرته الأولى... للنظر في النزاع. وهذا كله مستقى من فكرة تغليب مصلحة المرفق العام على المصالح الفردية، ولا سيما إذا كانت الإدارة وجدت من الأصلح لهذا المرفق عدم التمسّك بشرط التحكيم، بل طرح النزاع على القضاء للنظر فيه.
وأرى أنّه لا يحقّ للإدارة التراجع عن شرط التحكيم إذا تمّ الاتفاق على شرط التحكيم وفق الأسس الصحيحة وتلاقت إرادتا الطرفين على ذلك، وبالتالي لا يحقّ لأيّ من طرفي العقد إلغاء هذا الشرط بشكلٍ منفرد.
وضمن هذا الإطار يطرح السؤال الآتي:
إذا امتنع أحد الطرفين وقبل الدعوى التحكيمية عن تسمية محكمه، فهل يسوّغ للقضاء أن يتولى هذا الأمر؟
ليس ثمة ما يسعف في تسمية محكّم الممتنع سوى المادة /512/ من قانون أصول المحاكمات، ولكن أسباب الحكم بالتسمية الواردة في هذه المادة ليس بينها هذه الحالة، إلاّ أنّ القضاء الإداري وسّع مفهوم المادة وجعل الامتناع أحد هذه الأسباب .
ومن نتائج مبدأ تغليب المصلحة العامة في هذا المضمار أنّ الدفع بعدم الاختصاص المبدى من الإدارات العامة في قضايا اشتراط التحكيم أن تطرح أولاً على هيئة محكمين، يمكن أن يثار في أية حالة كانت عليها الدعوى، وهو الدفع الذي تقول فيه الإدارة بعدم اختصاص لجنة التحكيم للنظر في النزاع بسبب كون القضاء هو المختص .
وبالمقابل، إذا صحّ أنّ احتج أحد الطرفين في دعوى تُرى أمام محكمة القضاء الإداري بأن النزاع من اختصاص لجنة التحكيم لا القضاء الإداري وفقاً لشرط التحكيم، فإنّ مثل هذا الدفع إذا صح ينزع يد كل قضاء عن النظر في النزاع.
وطبيعي أنّ لجنة التحكيم المعنية هنا هي لجنة التحكيم بالمعنى القانوني، فليست كل لجنة تحكيم، وخاصة إذا لم تقترن بشرط تحكيم يسمّيها بهذه التسمية ويرسم مهمتها وكيفية تأليفها، فإذا لم تكن كل هذا ولم تتوافر فيها المساواة والحرية في انتقاء الأطراف محكميهم مثل اللجنة المسمّاة التحكيمية في قانون وزارة الدفاع. (أي المرسوم التشريعي رقم 80) اعتبرت لجنة إدارية لا إلزام في أحكامها .
ومن الطبيعي أن يثير مثل هذا الدفع مسألة قضائية غاية في الأهمية: هل هو دفع بعدم الاختصاص أم دفع بعدم قبول الدعوى؟
في الواقع تبدو أهمية هذه الزاوية من البحث في أمرين:
الأول- أنّ الدفع بعدم الاختصاص إذا ما أريد به أو إذا أرادت المحكمة إصدار حكمها بالدعوى يأتي قبل أي دفع في الشكل أو في الأساس، ما لم يكن متصلاً بالنظام العام، بينما الدفع بعدم قبول الدعوى ممكن في أية حالة تكون فيها الدعوى.
الثاني- إنّ الحكم بعدم القبول في بعض الأحوال يزيل الخصومة ويجعلها كأن لم تكن دون أن يعتبر رفع الدعوى قاطعاً لمدة السقوط، سقوط الحقوق بالتقادم. فلقد نصّت المادة /380/ من القانون المدني على أنه: «ينقطع التقادم بالمطالبة القضائية، ولو رفعت الدعوى إلى محكمة غير مختصة، وبالتنبيه والحجز والطلب... الخ».
ممّا تقدّم نستنتج أنّ المطالبة القضائية التي تقطع التقادم هي المطالبة القضائية الجديدة بهذه التسمية لا المطالبة الباطلة أي الدعوى غير المقبولة، أمّا رفع الدعوى أمام محكمة غير مختصة... فهي قاطعة للتقادم بصريح نص القانون .
والآن للجواب عن التساؤل الذي سبق أن أثبتناه، نرجع إلى طبيعة كل من الدفعين، فمخالفة قواعد الاختصاص، أي القواعد التي توزِّع الاختصاص على المحاكم المختلفة، هي وحدها التي تنشئ دفعاً بعدم الاختصاص، بينما إنكار سلطة الخصم في الالتجاء إلى القضاء. أياً كانت المحكمة المرفوع إليها الخلاف، هو وحده الذي ينشئ دفعاً بعدم القبول، إنّ المحكمة –محكمة القضاء الإداري- متخصصة أصلاً في المادة /8/ من قانون مجلس الدولة بنظر التزام ناشئ بمناسبة تنفيذ هذا العقد الإداري المتفق على التحكيم فيه، وإنمّا هي تفقد سلطة الفصل فيه لوجود حائل هو شرط التحكيم .
وهكذا يكون الاحتجاج بصك التحكيم هو دفع بعدم القبول لنزول الخصوم بإرادتهم عن الالتجاء إلى القضاء. وتكون الدعوى فاقدة لشرط من شروطها الأساسية للقبول، وقد يعود هذا الشرط إلى التوافر والوجود بزوال البطلان النسبي مثلاً أو لأسباب أخرى.
ثانياً- قرارات وأحكام المحكّمين:
ضمن هذا الإطار يطرح السؤال الآتي: إذا ما قدّرت هيئة التحكيم أنها استوفت أسباب إصدار قرار إعدادي، فما هي الطبيعة القانونية لهذا القرار؟
تستمد طبيعة هذا القرار، مثل إجراء الكشف أو ما شابه ذلك من نهائية حكم المحكّمين ذاته، فمادام لا تعقيب على أحكامها إلاّ بالطعن في الإجراءات، فهذه القرارات ليست إلاّ جملة من الإجراءات التي يترتّب على عدم قانونيتها إبطال حكم المحكّمين وليس لها هي بمضي الوقت أي حصانة. ولكن بما أنها تتخذ وتدور في محيط مغلق هو محيط التحكيم فإنّ لها صفة النفاذ منذ صدورها ولو صدرت هي بالأكثرية أو بامتناع أحد المحكّمين عن التوقيع .
إذا ما قدرت هيئة التحكيم أنها استوفت أسباب إصدار حكمها النهائي، فما هي طبيعة هذا الحكم؟
في الواقع، كثرت الآراء، كما تناقضت حول الطبيعة الحقوقية للقرارات التي يصدرها المحكمون، سواء في الفقه أو في القضاء.
ثالثاً- الحكم التحكيمي في القانون الخاص:
بعض الفقهاء يرى أنّ لقرار المحكّمين طبيعة التحكيم التعاقدية، وآخرون من الفقهاء ذهبوا إلى أنّ له إضافة الى ذلك قابلية التنفيذ، أي التنفيذ الجبري.
ويقول الدكتور عبد الإله الخاني إنّ كلاً من هذين القولين يحالفه الصواب، ذلك إن كل القوانين تقريباً اعتبرت الحكم صالحاً للتنفيذ، ولو لم يعطَ صيغة التنفيذ، إذا ما تواضع الطرفان على تنفيذه طوعاً. وما إكساء هذا الحكم صيغة التنفيذ إلاّ وسيلة لإجبار الممتنع عنه على الإذعان له.
إلاّ أنّ هناك فقهاء يرون أنه بمثابة حكم قضائي تماماً، ويعزو هؤلاء هذا الرأي إلى استقصاء حكم القانون سواء في فرنسا أو بلجيكا أو مصر أو سورية، مع أنه لا شيء في هذه القوانين يعطي حكم المحكّمين هذه الخصوصية، والأرجح على ما نرى، هو الرأي الأول.
ويرى برنارد ، أنّ لهذا القرار صفة الحكم من تاريخ اكتسابه صيغة التنفيذ، أمّا قبل ذلك فتكون له صفة التعاقدية، وهو رأي ليس فيه تناقض مع الرأي الأول، إلاّ أنّ جمهرة من الفقهاء الفرنسيين ينضمون إلى الرأي الثاني القائل بأن حكم المحكّمين حكم قضائي ، وعلى كل حال، لا خلاف بين أي فقيه وفقيه في أنّ تنفيذ الحكم ينسحب من تاريخ صدروه، لأنه بهذا التاريخ يكتسب الصفة القطعية، وما صيغة التنفيذ إلاّ إجراء ينقله في حالة النفاذ إلى حالة التنفيذ. ويتفرع عن ذلك أنّ هذه القرارات لا تقبل إثبات العكس، بل هي قابلة للطعن بالتزوير فقط. ويستوي في ذلك أن يكون القرار قد صدر من خلال الميعاد المتفق عليه بين الخصوم أم صدر خلال الميعاد الذي كان مقرراً لذلك في القانون.
كما أنّ بطلانها لا يمنع من الاستناد إلى الحجية التي اقترنت بها البيانات الصادرة عن الخصوم أمام المحكّم أو المحكّمين. كما ينجم عن ذلك أن المحكّم لا يستطيع تعديل حكمه، ولو لم يكتسب التنفيذ. كما لا يستطيع محكمون آخرون ندبوا لكي يحكموا في نواحٍ أخرى من النزاع، ممارسة هذا التعديل ما لم يكن قرار المحكّم الأول تحضيرياً أو إعدادياً.
أما في ما يتعلق بتفسير القرار، فلا يملكه المحكّم إلاّ في حالتين:
الحالة الأولى- أن لا يكون ميعاد التقاضي قد انقضى، لأنه إذا فات هذا الميعاد تعود سلطة التفسير إلى القضاء، ما لم يتفق من جديد على التحكيم بقصد تفسير القرار ذاته.
الحالة الثانية- أن لا يكون قد تم إيداع القرار الموضوعي قلم كتاب المحكمة (كما هو محتوم قانوناً إيداع الحكم قلم المحكمة التي كان من اختصاصها النظر في النزاع لو لم تنظر فيه هيئة التحكيم).
وضمن هذا الإطار لا بد من التنويه بأنّ التفسير كالحكم المفسر، خاضع لإعطاء صيغة التنفيذ لكي يكون نافذاً.
رابعاً- الحكم التحكيمي:
في الواقع كان القضاء الإداري السوري يعتبر حتى عام 1962 أنّ قرار إعطاء صيغة التنفيذ ليس سوى إجراء عادي ينقل الحكم الصادر عن المحكّمين من صفة النفاذ إلى التنفيذ، فلو تواضع الطرفان على تنفيذه لما منعهما منه عدم اقترانه بصيغة التنفيذ. إلاّ أنه ما لبث هذا الاتجاه أن تكشّف عن الخطأ الكامن فيه، ذلك أنه بالنسبة للإدارات العامة، لا تستطيع تنفيذ حكم محكمين إلاّ بعد استيفاء شرط قضائي وشرط استشاري هما:
1- إعطاء صيغة التنفيذ من قبل رئيس محكمة القضاء الإداري.
2- إقرار حكم المحكّمين من قبل اللجنة المختصة في القسم الاستشاري في مجلس الدولة.
إنّ ذلك ما تمليه أحكام المادة /44/ من قانون المجلس، وعلى الأقل فإنّ أحدهما إجباري حتماً هو رأي اللجنة المختصة.
مما تقدّم نستنتج أنّ حكم المحكّمين ليس في القانون الإداري سوى عنصر من عناصر جسم الحكم التحكيمي بين عناصره العديدة، حتى لقد ثار الجدل أول الأمر مفاده إنكار البعض سلطة رئيس محكمة القضاء الإداري في إعطاء سلطة التنفيذ على اعتبار أنّ اللجنة المختصة هي صاحبة الاختصاص حصراً دون غيرها، إذ لا نصّ في قانون مجلس الدولة إلاّ على هذا الطريق (المادة 44)، وزاد بعضهم، فأعطى اللجنة المختصة حق مراقبة الشروط الموضوعية في الحكم وعدم الاكتفاء بمراقبة أي من الإجراءات.
والحقيقة أنّ المبالغة التي مفادها إعطاء اللجنة رقابة موضوع (أي رقابة موضوعية) مبالغة خطرة جداً، فهي تنشئ مرجع طعن بأحكام المحكّمين هي في الحقيقة والواقع دعوى إبطال، في حين أنّ المشرّع استبعد دعوى الإبطال عمداً في قانون أصول المحاكمات، ولم يبقَ سوى الاستئناف بعكس المشرّع المصري الذي أقر الطريقتين معاً. ومن جهة أخرى، يمكن حل الإشكال على الشكل الآتي:
إنّ حل هذه المسألة كامن في المادة /44/ ذاتها، فإنها وردت ناظمة لتنفيذ قرارات المحكّمين حين يكون هذا التنفيذ طوعياً بين الإدارة والفرد المواطن ذي الشأن. ومعنى ذلك أنّ رأي اللجنة في القسم الاستشاري من مجلس الدولة شرط ضروري لنفاذ قرارات صادرة عن المحكّمين، لا شرط لتنفيذها. ولو أراد المشرّع أن يكون شرطاً لتنفيذه لأضاف إليها تنفيذ قرارات المحكّمين الحائزة الدرجة القطعية، إلاّ أنّ حكمة المشرع اقتضت أن يكون رأي اللجنة المختصة مقترناً بقرار المحكّمين، يشكِّل معه كلاً لا يتجزأ، يعرض ككل هكذا على رئيس محكمة القضاء الإداري لإكسائه صيغة التنفيذ إذا أريد به التنفيذ الجبري، ولا يعرض إذا أريد التنفيذ الطوعي. ولا تناقض بين اختصاص رئيس المحكمة وبين اختصاص اللجنة المختصة.
خامساً- التنفيذ وطرق المراجعة:
كان القضاء الإداري السوري يسير على أساس طرح أحكامه في دائرة التنفيذ لتنفيذها، ويتبع ذلك أنّ أحكام المحكّمين تتبع في تنفيذها الطريق ذاته.
ولكن مجلس الدولة وجد هذه الطريقة مضيعة للوقت فدائرة التنفيذ إنما يستنجد بها حين تكون الدعوى بين الأفراد، لأنها سلطة عامة تعلوهم جميعاً وتكرههم، أما في الدعوى التي تكون هذه السلطة العامة أو غيرها من الإدارات العامة طرفاً فيها، وأخيراً صدر القانون رقم /13/ تاريخ 7/4/2010م وبموجبه أصبحت الأحكام الصادرة لصالح إحدى الجهات العامة أو لصالح الغير يتمّ تنفيذها بواسطة دوائر التنفيذ القضائية، فعليها هي أن تنفّذ، إذ تصبح هي دائرة تنفيذ، وهذا هو الرأي الصحيح.
أمّا المراجعة ضد حكم المحكّمين، فقد كان المجلس يسير على أساس أنه لا يتخصص بالنظر في الطعون الموجّهة ضد أحكام المحكّمين، وفي الوقت ذاته، لما كان المجلس يميل إلى تبني نظرة القضاء العدلي باعتبار قرارات رئيس محكمة القضاء الإداري مجرد إجراء تنفيذي فهو قد جرى على عدم الاعتداد بقابليته للطعن.
ولكن التفكير أسفر عن خطأ هذا السلوك، إذ أصبحت أخطاء المحكّم أو المحكّمين ذات حصانة، وربما هي غير جديرة بها، لهذا فقد اتخذ اتجاهاً جديداً مفاده:
1- تعتبر أحكام المحكّمين قابلة للطعن أمام المحكمة، أي المحكمة الإدارية العليا إذا كان شرط التحكيم قد سلبها القطعية ولم يعتبرها غير قابلة لطريق من طرق المراجعة. أما إذا نصّ على أنها قابلة لذلك فإنّ المحكمة الإدارية تتخصّص بالنظر في الطعون الموجهة إليها. وكذلك الأمر إذا سكت الصك عن قابليتها للطعن .
2- تعتبر قرارات رئيس محكمة القضاء الإداري، استناداً الى ما سبق ذكره من خضوع الأحكام لرقابة اللجنة المختصة في القسم الاستشاري بمجلس الدولة، قرارات قضائية خاضعة للطعن أمام المحكمة الإدارية العليا .
أمّا مهلة الطعن، فإنه حرصاً من المجلس على إعمال الأصول التي هي نافذة لديه، اعتبرها ستين يوماً، وضرب صفحاً عن مهلة الاستئناف (بهذا الموضوع) الماثلة في قانون أصول المحاكمات .
على كل حال لا تتوقف قوة الأمر المقضي لحكم المحكّمين على أن يعطى الحكم المذكور صيغة التنفيذ، ذلك أنّ إكساء حكم المحكّمين ليس درجة من درجات التقاضي أو الطعن، فلا يسوغ القول بأنّ النزاع ما زال قائماً طالما لم يعطَ حكم المحكّمين صيغة التنفيذ، لأنّ هذه الصيغة، إجراء قصد به إلباس حكم المحكّمين الصفة الرسمية تسهيلاً لتنفيذه لا أكثر .
إنّ مؤدى النص في مشارطة التحكيم على أن تكون قرارات لجنة التحكيم ملزمة ونافذة غير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة أو دعوى الإبطال، هو أنّ الطرفين تنازلا صراحة عن حقهما في الطعن في القرارات التي تصدرها لجنة التحكيم بخصوص خلافاتها وارتضيا الالتزام والتقيد بمضمونها والمبادرة إلى تنفيذها دون تعليق ذلك على نتيجة الطعن فيها، مما يستوجب عدم قبول الطعن .
وفي هذه الحالة أيضاً، إذا لم يكن في الإجراءات التي اتّبعتها لجنة التحكيم أو الأمور التي ناقشتها وفصلت فيها ما يخالف النظام العام أو ما يخرج عن دائرة النزاع المطلوب فضّه عن طريق التحكيم أو ما يجاوز المدة الضرورية لإنجاز مهمة التحكيم بشكل فاضح فيعتبر باب الطعن مغلقاً في وجه الطرفين .
ومن جهة أخرى، يعتبر حكم المحكّمين قرينة قضائية لا تدفع بخصوص الوقائع من كل نوع، التي أقرّها هذا الحكم ، ذلك أنّ هذه الأحكام بعد إكسائها صيغ التنفيذ يصبح من شأنها شأن الأحكام القضائية التي لها قوة الأمر المقضي في كل شيء حتى في الأتعاب التي تقرّرها عادة .
على أنّ اختصاص المحكمة الإدارية العليا في النظر في أحكام المحكّمين الخاضعة للطعن هو اختصاص مطلق، بمعنى أنه ليس اختصاص نقض فقط، ومن ثم كان لها أن تنشر الوقائع أي النزاع على أنها محكمة أساس مثل أي محكمة أساس أيضاً.
وقد اعتبر القضاء الإداري قرارات لجنة التحكيم بخصوص الأتعاب المقرّرة للمحكمين قراراً ولائياً، لا قراراً قضائياً، وليس له أي تأثير، فلا يعيب الحكم الفاصل في النزاع، وللمحكّم الذي تنكبت الإدارة عن النهج الذي يتبع في هذه الوصية، فحرمته النصاب الوارد فيه كلاً أو جزءاً، أن يسلك الطريق القانوني للحفاظ على ما يعتبر حقاً مجزياً له. كما اعتبر مجلس الدولة السوري تنفيذ حكم محكمين قبل استفتائه المجلس باطلاً.
ومن جهة ثانية، امتنع عن اعتبار الدعوى المرفوعة على المتعهد عن أعمال جرمية أو شبه جرمية، مستأخرة لصدور حكم لجنة التحكيم، نظراً لأنّ الإدارة تستطيع بملء الحق تنفيذ الحكم الجزائي بفرض أنه صدر بالالتزامات المدنية على ما حكمت به لجنة التحكيم .
سادساً- إكساء حكم المحكّمين صيغة التنفيذ وفق قانون مجلس الدولة السوري:
إنّ مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري هو المختص دون غيره بالفصل في المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة، والتوريد، أو بأي عقد إداري آخر وفق المادة /10/ من قانون مجلس الدولة، وعليه فإنّ محكمة القضاء الإداري هي المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع حول تلك العقود لاختصاصها الموضوعي .
وحيث أنّ المادة /534/ من قانون أصول المحاكمات تنص على أنّ المحكمة المختصة بإكساء حكم المحكّمين صيغة التنفيذ هي المختصة أصلاً بنظر النزاع، بالتالي فإنّ محكمة القضاء الإداري هي المرجع المختص بالنظر في إكساء حكم المحكّمين الصادر حول العقود الإدارية صيغة التنفيذ.
لذلك فإنّ رئيس محكمة القضاء الإداري ينظر في طلب إكساء حكم المحكّمين صيغة التنفيذ بوصفه قاضياً للأمور المستعجلة، وفي جلسة علنية يدعو إليها الخصوم. وفي الواقع فإنّ سلطته تنحصر في حدود الرقابة الشكلية لحكم المحكّمين، وعدم مخالفة النظام العام دون التطرق للموضوع، مما يجعل الرقابة تتعلق بالشكل .
وضمن هذا الإطار لابد من التنويه بأنّ الإجراء المتبّع في القضاء الإداري أن يرسل ملف التحكيم مع الحكم إلى ديوان محكمة القضاء الإداري من قبل رئيس لجنة التحكيم للإيداع ويثبت ذلك بمحضر إيداع.
ولا شك في أنّ المشرِّع عندما منح رئيس المحكمة المختصة عند إعطائه صيغة التنفيذ لقرار المحكّمين مناقشة هذا القرار أو إبطاله له لعيب في الشكل، إنما منحه السلطة لوقف تنفيذ الحكم المشوب بالبطلان المتعلق بالنظام العام.
وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية العليا في قراراتها حتى استقر الاجتهاد على أنه: «ولاية قاضي الأمور المستعجلة عند إصداره القرار بإعطاء حكم المحكّمين الصيغة التنفيذية تتحدّد بمراقبة الشكل الذي يوجبه القانون لإصدار حكم المحكّمين والتحقق من توافر أهلية الخصوم والاستيثاق من كون الحكم المذكور لا يخالف النظام العام في شيء بحسب ما يتراءى له من تدقيق ملف التحكيم، ومن ثم لا يدخل في ولاية قاضي الأمور المستعجلة أن يتحقق في عدالة الحكم أو ينظر في سلامة أو صحة قضاء الحكم لأنه ليس مرجعاً استثنائياً في هذا الصدد».
وفي ما يتعلق بالمحكمة المختصة محلياً فإنّ القاعدة في إكساء أحكام المحكّمين الصادرة في منازعات العقود الإدارية، يحصر هذه الوظيفة بمحكمة القضاء الإداري في دمشق تبعاً لاختصاصها الموضوعي في تلك المنازعات، عملاً بأحكام قانوني مجلس الدولة والأصول المدنية، في حين أن إكساء أحكام المحكّمين الصادرة في القضايا المدنية يكون من اختصاص المحكمة المختصة محلياً في أصل النزاع.
وتتحدد هذه المحكمة وفق معايير قانونية منصوص عليها في قواعد الاختصاص المحلي للمحاكم القضائية .
هذا وإن حكم المحكّمين وقرار رئيس محكمة القضاء الإداري بإعطائه أو عدم إعطائه صيغة التنفيذ يقبلان الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا، والتعليل في ذلك مستند إلى أحكام المادة /227/ أصول محاكمات بجواز الاستئناف للأحكام الصادرة في المواد المستعجلة أياً كانت المحكمة التي أصدرتها.
كذلك فإنّ حكم التحكيم الأجنبي ذا الطبيعة الإدارية على النطاق الوطني إذا أريد تنفيذه في سورية لا بدّ من إيداعه وفقاً للشروط التي حدّدتها المادة /529/ من قانون أصول المحاكمات المدنية، ويتم الإيداع في ديوان محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة باعتبارها المرجع القضائي الذي كان من اختصاصه أصلاً النظر في المنازعة المتولدة عن العقد الإداري الدولي.
وقد استقر الاجتهاد القضائي في مجلس الدولة على أنّ رئيس محكمة القضاء الإداري هو الذي يتولى إكساء أحكام المحكّمين الأجنبية التي يراد تنفيذها في سورية إذا كانت متولدة من عقد دولي ذي طبيعة وطنية إدارية، وليس محكمة القضاء الإداري بالهيئة الكاملة. وإنّ القرار الذي يصدر عنه يخضع للطعن بطلب الإلغاء أمام المحكمة الإدارية العليا ضمن مهلة ستين يوماً من تاريخ صدوره.
أمّا إذا كان حكم المحكّمين متولداً من عقد دولي ذي طبيعة تجارية، فقد أفرد له المشرع حكماً خاصاً تناولته المادة /309/ بدلالة المادة /307/ أصول محاكمات .
ولا بدّ من الإشارة الى أنه وبشكل عام ضرورة الإكساء بالتنفيذ توجد حتى عندما يكون المحكمون معفيين من إتّباع الإجراءات الأصولية القضائية أو كانوا مفوضين بالصلح فنصّ المادة /529 و534/ صريح وشامل في هذا الشأن، إضافة إلى ذلك فإنّ الإعفاء الصريح أو الضمني من مراعاة قواعد القانون وقانون المرافعات لا يستهدف إلاّ أعمال المحكّمين ذاتهم ولا يمس بحق الدفاع ضد إجراء التنفيذ الجبري بموجب صكوك لم تُكسَ صيغة التنفيذ .
وقد استقر الاجتهاد القضائي لدى المحكمة الإدارية العليا السورية على أنّ: »سلوك سبيل التنفيذ قبل بت مسألة إكساء قرار لجنة التحكيم صيغة التنفيذ يعتبر تجاوزاً للأصول الواجبة الإتباع في هذا الصدد«.
كذلك فإنّ شرط التحكيم في العقود الإدارية هو كغيره من الشروط العقدية الأخرى التي تعتبر ملزمة للطرفين المتعاقدين تأسيساً على أنّ العقد الإداري لا يخرج عن كونه عقداً بالمعنى القانوني الدقيق أي أنه توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني وليس في خصائص العقد الإداري ما يمكن أن يؤدي إلى إهدار الفقرة الملزمة لأي من شروطه القانونية .
سابعاً- قواعد تشكيل المحكمة التحكيمية وأصول المحاكمات في التحكيم الجاري خارج سورية:
عندما يصدر حكم تحكيمي خارج سورية ويطلب إكساءه صيغة التنفيذ في سورية، يطبق عندئذ القاضي السوري قواعد تختلف تماماً عن القواعد التي يطبقها عندما يطلب إليه تنفيذ حكم تحكيمي صدر في سورية ، سواء في ما يتعلق بقواعد تشكيل المحكمة التحكيمية أو في ما يتعلق بأصول المحاكمة في التحكيم. ذلك لأنه لا تطبّق عندئذ قواعد التحكيم في القانون السوري، وإنما تطبّق القواعد الواردة في اتفاقية نيويورك الدولية لعام 1958م.
1-قواعد تشكيل المحكمة التحكيمية في التحكيم الجاري خارج سورية: من المعلوم أن المادة /5/ من اتفاقية نيويورك لعام 1958م، الخاصة بالاعتراف بالأحكام التحكيمية الأجنبية وتنفيذها، قد عدّدت الحالات التي يرفض فيها الاعتراف بالحكم التحكيمي الأجنبي وتنفيذه، ومن هذه الحالات الحالة التي نصّت عليها المادة 5/1 (د) التي جاء فيها »أنّ الاعتراف بالحكم التحكيمي الأجنبي وتنفيذه يرفضان إذا أثبتت الجهة المطلوب الاعتراف بالحكم المذكور أو تنفيذه أن تشكيل المحكمة التحكيمية لم يكن مطابقاً لقانون البلد الذي جرى فيه التحكيم«.
ومن هنا يتضح أنّ القاضي السوري الناظر في طلب إكساء الحكم التحكيمي الأجنبي صيغة التنفيذ، عندما يثار أمامه دفع يتعلق بصحة تشكيل المحكمة التحكيمية، لا يطبّق عندئذ القانون السوري، بل يطبّق اتفاق الطرفين على تشكليها، فإن لم يوجد يطبِّق قانون البلد الذي صدر فيه الحكم التحكيمي، وهكذا تستبعد في هذه الحالة كافة النصوص السورية المتعلقة بتشكيل المحكمة التحكمية، بما في ذلك نصوص قانون أصول المحاكمات السوري الخاصة بالتحكيم، وتطبّق على تشكيل المحكمة التحكيمية القواعد التي اتفق عليها الطرفان، وإن لم يوجد مثل هذا الاتفاق تطبّق قواعد أصول المحاكمات النافذة في البلد الذي جرى فيه التحكيم.
2- قواعد أصول المحاكمات في التحكيم الجاري خارج سورية: تنص المادة 5/1(د) نفسها من اتفاقية نيويورك على أن الاعتراف بالحكم التحكيمي الأجنبي وتنفيذه يرفضان إذا أثبتت الجهة المطلوب التنفيذ ضدها أن أصول المحاكمات المطبقة في التحكيم الجاري لم تكن مطابقة لقواعد أصول المحاكمات المتفق عليها بين الطرفين، وإن لم يوجد مثل هذا الاتفاق، إن لم تكن مطابقة لقانون أصول المحاكمات النافذ في البلد الذي جرى فيه التحكيم.
وقد قدمنا أنّ القاضي السوري ملزم بتطبيق اتفاقية نيويورك الدولية وباستبعاد تطبيق القانون الداخلي السوري عند التعارض بين هذا الأخير وبين الاتفاقية الدولية، وذلك حسب المادة /27/ من اتفاقية فيينا المؤرخة في 23/5/1969 حول المعاهدات الدولية والمادة/311/ من قانون
أصول المحاكمات السوري، اللتين توجبان تغليب الاتفاقية الدولية عند تعارضها مع النصوص الداخلية.
ويحدث أن تغيب هذه الحقائق عن ذهن القضاء السوري، فعلى سبيل المثال، قضت إحدى محاكم البداية في سورية بأن إحدى الشركات العامة السورية ذات الطابع الاقتصادي، وهي طرف في تحكيم دولي مركزه في باريس، يجب أن تمثّل في هذا التحكيم من قبل إدارة قضايا الدولة السورية بمقولة أنّ التمثيل من النظام العام، وأن الحكم التحكيمي الذي سيصدر في باريس سينفّذ في سورية.
وهذا بلا شك يخالف اتفاقية نيويورك التي توجب تطبيق قواعد الأصول النافذة في بلد التحكيم إن لم يتفق الطرفان على قواعد أخرى، بحيث تستبعد في مطلق الأحوال قواعد القانون السوري .
ثامناً- دعوى البطلان:
إنّ دعوى البطلان في قضايا التحكيم (القانون الجديد الإداري) غير مسموعة في التشريع السوري، وقد أيد هذا الرأي الفقه والاجتهاد السوريين .
فقد حكمت محكمة النقض السورية بأنّه »لما كانت المادة /534/ من قانون أصول المحاكمات نصّت على أنّ حكم المحكّمين لا يصير واجب التنفيذ إلاّ بقرار يصدره رئيس المحكمة التي أودع لديها ذلك الحكم بوصفه قاضياً للأمور المستعجلة بناءً على طلب أحد ذوي
الشأن. وكان هذا النص يفيد أن حكم المحكّمين لا مفعول له قبل صدور القرار المذكور،
وكان الادعاء بطلب إبطال حكم المحكّمين من المحكوم عليه لا محل له ما دام هذا الحكم لا ينفذ بحقه قبل عرضه على القاضي ودعوته لسماع أقواله بشأنه، وهناك يستطيع أن يدلي بمطالبه بشأن حكم المحكّمين وأنه قابل للاستئناف بموجب المادة /532/ من قانون أصول المحاكمات... «.
كما جاء في حكم آخر للمحكمة نفسها »لمّا كان قانون أصول المحاكمات لم يأتِ في بحث التحكيم على ذكر للادعاء ببطلان حكم المحكّمين رغم وجود ذلك في قانون المرافعات المصري الذي أخذ منه أكثر مواده، ممّا يدل على قصد استبعاد هذا المبدأ في القانون السوري والاكتفاء بعرض الأمر من جميع وجوهه على قاضي الأمور المستعجلة، إذ لا يكون حكم المحكّمين قابلاً للتنفيذ إلاّ بإعطائه صيغة التنفيذ من قبل هذا القاضي بعد جمع الطرفين وإصدار قرار علني قابل للطعن، كما يفهم من المادة /534/ من القانون السوري التي عدلت صيغتها عن صيغة المادة المماثلة لها في القانون المصري لإفادة المعنى المذكور« .
وجاء في قرار آخر للمحكمة ذاتها أيضاً »بما أنّ غاية المشرع قد استبانت من إيجاد هذه المؤسسة (مؤسسة التحكيم) فإنّه يتعيّن التقيد بطرق المراجعة التي نصّ عليها قانون الأصول بصورة لا يسوّغ معها سلوك طرق أخرى لم يرد عليها النص، وهذه النظرة معزّزة بما نصّت عليه المادة /533/ من قانون أصول المحاكمات التي أجازت الطعن في أحكام المحكّمين عن طريق إعادة المحاكمة فأخضعتها للطعن بهذه الطريقة الاستثنائية في الحالات التي يجوز سلوكها ضد الأحكام المبرمة باستثناء حالة الحكم بما لم يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه، مما يفيد استبعاد الادعاء بالإبطال بدعوى جديدة« .