التحكيم / التحكيم الإداري / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / المنازعات المتعلقة بمشروعية القرار الإداري
تعتبر المنازعات التي تثور بصدد مشروعية القرارات الإدارية التي ترفع بناء عليها دعوى إلغاء تلك القرارات من أهم صور المنازعات التي تنتمي إلى قضاء المشروعية. ويعرف القرار الإداري قضاء بأنه: " " تصرف قانوني يصدر عن الإدارة بما لها من سلطة عامة ملزمة لينشئ مركزاً قانونياً جديداً أو يؤثر في مركز قانوني قديم، لفرد محدد أو لعدد من الأفراد، محددين أو موصوفين. أو هو قرار تفصح به الإدارة عن إرادتها الملزمة للأفراد بناء على سلطتها العامة بمقتضى القوانين واللوائح، حيث تتجه تلك الإرادة نحو إنشاء مركز قانوني - يلزم في القرار الإداري أن يكون محله هو المركز القانوني الذي تتجه إرادة مصدر القرار إلى إحداثه إلزاما وحتما بإرادته المنفردة، والأثر القانوني الذي يترتب عليه حالاً ومباشرة، وهذا الأثر هو إنشاء حالة قانونية معينة أو تعديلها أو إلغاؤها بالإرادة المنفردة الملزمة للسلطة الإدارية ".
ويرى البعض - وبحق – أن القرارات الإدارية دائما ما تعدل المراكز القانونية القائمة أو تنشئ هي بذاتها مراكز قانونية لم تكن موجودة من قبل، أما الأعمال المادية فتكون دائما وقائع مادية لا يقصد بها إحداث أية آثار قانونية .
وسوف نتناول الوضع في كل من مصر وفرنسا فيما يتعلق بمسألة المنازعات المتعلقة بمشروعية القرار الإداري، وموقف كل منهما بشأن دعوی الإلغاء، ومن ثم بحث مدى توافق طبيعة هذه الدعوى مع إمكانية اللجوء إلى التحكيم للفصل فيها لفض المنازعات الناشئة عنها باعتبارها أهم الدعاوى التي تنتمي إلى قضاء المشروعية وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الوضع في مصر:
ترتبط نشأة دعوى الإلغاء في مصر ارتباطاً وثيقاً بإنشاء مجلس الدولة بالقانون رقم 112 لسنة 1946. حيث لم تكن معروفة قبل إنشاء مجلس الدولة، فكانت محكمة القضاء الإداري تختص دون غيرها بدعوى إلغاء القرارات الإدارية. وظل الوضع كذلك حتى إنشاء المحاكم الإدارية والتأديبية التي شاركت محكمة القضاء الإداري في نظر دعوى الإلغاء كل بحسب اختصاصه، ويقوم القاضي الإداري بفحص مشروعية القرار الإداري دون أن يكون له سلطة القضاء بالآثار الناشئة عن إلغاء القرار الإداري بالنسبة للحقوق والالتزامات.
كما أن دعوى الإلغاء دعوی موضوعية أو كما تسمى دعوى عينية. أي تقوم على خصومة عينية موجهة إلى القرار الإداري ذاته الذي تأثر به المركز القانوني لرافع الدعوى، للوقوف على مشروعيته من عدمه؛ فلا يشترط لإقامتها المطالبة بحق معين، وإنما يكفي بأن يكون هناك مصلحة شخصية ومباشرة لرافعها، وإن كان يترتب على إلغاء القرار في بعض الأحيان تقرير حق لرافع الدعوى، حيث يكون للحكم الصادر فيها حجية مطلقة في مواجهة الكافة بمجرد أن يصبح الحكم نهائياً بهدف حماية القواعد القانونية وعدم مخالفتها.
وبما أنها دعوى عينية، فيشترط لقبولها أن يكون ثمة قرار إداري نهائي موجود ومنتج لآثاره عند إقامة الدعوى سواء كان بالسلب أم بالإيجاب. وتطبيقاً لذلك رفضت المحكمة الإدارية العليا في حكم لها الطعن على قرار وزير الداخلية برفض إقامة كنيسة واعتبرت أن موافقته أو عدم موافقته على إقامتها هو مجرد إبداء رأي للسلطة المختصة المتمثلة في رئيس الجمهورية باعتباره المنوط من قبل المشرع بسلطة إصدار قرار الموافقة على إقامة الكنائس، حيث قضت بأن: "ومن حيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن دعوى الإلغاء هي خصومة عينية مناطها اختصام القرار الإداري ذاته استهدافاً لرقابة مشروعيته، فيشترط لقبولها أن يكون ثمة قرار إداري نهائي موجود وقائم ومنتج لآثاره عند إقامة الدعوى، فإذا تخلف هذا الشرط كانت الدعوى غير مقبولة شكلاً. والقرار الإداري السلبي لا يقوم طبقاً لنص الفقرة الأخيرة من المادة (10) المذكورة من قانون مجلس الدولة إلا إذا رفضت الجهة الإدارية أو امتنعت عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليها اتخاذه وفقا للقوانين واللوائح.
ومن حيث إن الترخيص - أي ترخيص - هو قرار إداري نهائي تفصح بموجبه الجهة الإدارية عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطات بمقتضی القوانين واللوائح بقصد تحقيق المصلحة العامة، وسواء كان إيجابيا أي بالموافقة، أم سلبيا بالامتناع عن إصداره.
فضلاً على أن ما أفصحت عنه الأوراق من عدم موافقة وزير الداخلية على إقامة هذه الكنيسة هو مجرد رأي باعتباره المسئول عن المحافظة على الأمن العام والسكينة يبديه لسلطة اتخاذ القرار لدى نظرها في طلب الترخيص بإقامة الكنيسة، ولا يعد هذا الرأي والحال كذلك من قبيل القرارات الإدارية النهائية، حيث إن وزير الداخلية ليس هو المنوط به إصدار القرار بالترخيص بإقامتها، ولا يختص بإصداره ولا يمكن اعتبار هذا الرأي قراراً إدارياً أو إحدى المراحل المركبة - حسبما ذهب الحكم المطعون فيه - القرار الترخيص، مما يجوز الطعن عليه على استقلال؛ حيث إنه لا يمثل قراراً إدارياً نهائياً بالمفهوم الفني الدقيق، وبالتالي و إزاء انتفاء وجود مثل هذا القرار الإداري النهائي السلبي أو الإيجابي، ومع خلو الأوراق من أي نص في قانون أو لائحة يلزم الجهة الإدارية بإصدار القرار المطلوب إصداره بالموافقة على الترخيص ببناء هذه الكنيسة، فإن الدعوى تكون غير مقبولة شكلاً لانتفاء القرار الإداري مما يتعين معه القضاء بذلك.
ولا محالة هنا للقول بأن قرار وزير الداخلية بعدم الموافقة على إقامة الكنيسة هو القرار المطعون فيه باعتباره يحول دون عرض الأمر على السلطة المختصة بإصدار الترخيص أو باعتباره يشكل إحدى حلقات القرار المركب بهذا الترخيص.
ومن خلال العرض السابق لتعريف دعوى الإلغاء وبيان طبيعتها القانونية يثار التساؤل الآتي: هل تتوافق طبيعة دعوى الإلغاء مع إمكانية اللجوء إلى التحكيم للفصل فيها أم تتناقض معها مما يصعب معه اللجوء إلى التحكيم للفصل في المنازعات المتعلقة بمشروعية القرار الإداري ؟
يتضح من خلال بيان طبيعة دعوى الإلغاء مدى التناقض بين طبيعتها واللجوء إلى التحكيم لحسم المنازعات المتعلقة بمشروعية القرار الإداري باعتبارها أهم صور المنازعات التي تنتمي إلى قضاء المشروعية، ففي حين تقوم دعوى الإلغاء على حماية مركز قانوني أضر بصاحب المصلحة في الدعوى فهي دعوى تخاصم القرار الإداري ذاته. فالخصومة في دعوى الإلغاء ليست بين جهة الإدارة من ناحية وأطراف آخرين من ناحية أخرى ولكن هي موجهة نحو القرار الإداري ذاته وبالتالي من حق كل ذي مصلحة شخصية ومباشرة أن يقوم برفعها دون أن يمس هذا القرار مصلحته أما التحكيم فهو يقوم على حماية حقوق مالية تقبل الصلح والتنازل، كما أن الخصومة في التحكيم تكون بين طرفين قد اتفقا فيما بينهما على اللجوء إلى التحكيم للمطالبة بحق شخصي ذو طابع مالي قابل للتصرف.
ومن ناحية ثانية نجد أن التحكيم يقوم على تراضي أطراف المنازعة على عرضها على محكم يختاره الأطراف بأنفسهم ويقبلون بحكمه. بخلاف دعوى الإلغاء حيث يختص بها القضاء الإداري وحده، ولا يجوز الاتفاق على غير ذلك، وإلا كان هذا الاتفاق باطلا لأنه متعلق بالنظام العام، ولا يجوز الاتفاق على مخالفته.
ومن ناحية ثالثة نجد الاختلاف الواضح بين موضوع وأثر كل من التحكيم ودعوى الإلغاء، حيث إن موضوع الأخيرة، إما أن تكون منازعة في مشروعية القرار الإداري أو منازعة في تعويض عن أضرار ناتجة عن صدور قرار إداري غير مشروع، أما في التحكيم؛ فنجد أن موضوعه دائما يتعلق بحق مالي قابل للصلح والتصرف والتنازل، ومن حيث آثار كل منهما نجد أيضاً أن الأصل في اتفاق التحكيم ألا تتعدى آثاره أطرافه فلا يتعدى أثر الأحكام الصادرة من هيئة التحكيم إلى غير المحتكمين، بينما تكون الأحكام الصادرة من القضاء الإداري بالإلغاء حجة على الكافة. وهو من بين المبادئ المهمة التي أرستها الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، وقد أكدت هذا المبدأ في أكثر من موضع لها، حيث ذهبت إلى أنه: "لا تقتصر حجية الأحكام الصادرة بالإلغاء على أطراف الدعوى مثل: باقي الأحكام، وإنما يحتج بها على الكافة، كما يحتج بها من الكافة نظرا لأن حجية الأحكام الصادرة بالإلغاء حجية عينية كنتيجة طبيعية لانعدام القرار الإداري في دعوى هي في حقيقتها اختصام له في ذاته".
ونظراً لأهمية تأكيد المبدأ السابق والذي يقر بأن الحكم الصادر بإلغاء القرار الإداري يكون حجة على الكافة وبالتالي يختلف أثر الحكم الصادر في دعوى الإلغاء عنه في التحكيم فقد أقرت المحكمة الإدارية العليا المبدأ ذاته في كثير من أحكامها حين أقرت بأن " الحكم الصادر بإلغاء القرار الإداري حجة على الجميع، من صدر القرار لمصلحته أو ضده، من طعن عليه ومن لم يطعن، من كان طرفاً في دعوى إلغائه ومن لم يكن - يحق لكل ذي الشأن أن يتمسك بحجيته ويخاصم الإدارة لتنفيذه- لا يتجاوز المنازعة في القرار المقضي بإلغائه مرة أخرى ".
ثانيا: الوضع في فرنسا:
لا شك أن القضاء الفرنسي له السبق في إنشاء دعوى الإلغاء حيث ابتدعها مجلس الدولة الفرنسي منذ حصوله على ولاية القضاء المفوض عام ۱۸۷۲م، وظلت دعوى الإلغاء من اختصاص مجلس الدولة وحده إلى أن جاء الإصلاح التشريعي، وأصدر مرسوم 30 سبتمبر عام 1953 الذي جعل مجلس الدولة صاحب الولاية العامة بنظر الدعاوى الإدارية التي لم يمنح القانون اختصاص النظر فيها إلى محاكم إدارية أخرى.
ومما هو جدير بالذكر أن المشرع والقضاء الفرنسيين كان موقفهما حاسما في هذا الشأن فقرر کلاهما استبعاد التحكيم في النظر في المنازعات المتعلقة بمشروعية القرار الإداري حيث قرر مجلس الدولة الفرنسي أن: " اختصاصه بنظر دعوى إلغاء القرارات الإدارية يستند إلى مبدأ عام من المبادئ القانونية العامة التي تطبق دون حاجة إلى نص قانوني بذلك.
كما قرر أنه: "لا يجوز استبعاد أي طعن بالإلغاء من نطاق اختصاصه إلا بمقتضى نص قانوني صريح بذلك .
كما حرص المجلس الدستوري الفرنسي على أن يقتصر الاختصاص بنظر دعاوى الإلغاء على القضاء الإداري وحده دون غيره عن طريق إسناد هذا الاختصاص إلى المبادئ الدستورية التي تقصر الاختصاص بنظر هذه الدعاوى على القضاء الإداري وحده باعتبار أن هذه الدعاوی توجه ضد القرارات الإدارية ذاتها والتي تصدر عن السلطة الإدارية بمقتضى ما تتمتع به من سلطة عامة " وعبر عن ذلك بقوله " باستثناء المسائل التي تكون بطبيعتها من اختصاص القضاء العادي، فإن إلغاء أو تعديل القرارات التي تصدر عن السلطة الإدارية أثناء ممارساتها الامتيازات السلطة العامة يختص بنظرها فقط القضاء الإداري.
ويتضح من خلال ذلك أن المجلس الدستوري الفرنسي قد قرر أن يجعل اختصاص القضاء الإداري الفرنسي بنظر منازعات القرارات الإدارية اختصاصا ذا قيمة دستورية، ولا يسمح للمشرع بإخراج تلك المنازعات من اختصاص القضاء الإداري و إسنادها إلى جهات أخرى.
كما حرص المشرع الفرنسي كذلك على التأكيد على المبدأ ذاته حيث جعل من النظام العام قيداً على حرية الأطراف المتنازعة في اللجوء إلى التحكيم؛ وبناء عليه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم لحسم تلك المنازعات وذلك في نطاق المسائل التي أجاز المشرع اللجوء إلى التحكيم لحسمها.
وبذكر النظام العام نجد أن الفقه الفرنسي قد أكد أنه لا يجوز التنازل عن حق التقاضي بدعوى الإلغاء، نظراً لتعلق هذا الحق بالنظام العام، فإذا تم هذا التنازل فإنه يعتبر تنازلاً باطلاً، ويجوز لمن صدر عنه الرجوع فيه، كما تقضي المحكمة ببطلانه من تلقاء نفسها.