الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم الإداري / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / مدى جواز التحكيم في المنازعة الإدارية غير العقدية

  • الاسم

    محمد عبدالتواب عبدالحسيب
  • تاريخ النشر

    2021-01-01
  • عدد الصفحات

    732
  • رقم الصفحة

    328

التفاصيل طباعة نسخ

مدى جواز التحكيم في المنازعة الإدارية غير العقدية

    مما لاشك فيه أن جدلاً فقهياً قد ثار في كل من مصر وفرنسا حول موضوع مدى جواز اللجوء للتحكيم لحسم صور أخرى من المنازعات الإدارية، بخلاف تلك المتعلقة بالعقود الإدارية، ويرجع السبب في هذا الجدال إلى حقيقة أن المشرع في هذه الدول لم يصدر تشريعاً يقضي بنص صريح بجواز اللجوء للتحكيم في المنازعات الإدارية - بوجه عام - أو حتى في المنازعات الإدارية غير العقدية - بوجه خاص - أو يضع معياراً للتحكيم يخص هذه المنازعات بالذات ، بحيث يمكن من خلاله أن نهتدي به لحسم المنازعات الإدارية - عموماً - أو اللجوء إلى التحكيم لحسم المنازعات الإدارية غير العقدية على - وجه الخصوص ، حيث إن المنازعات الإدارية العقدية كان المشرع المصري قد تدخل بموجب القانون رقم 9 لسنة 1997 ، ليؤكد على جواز تسوية منازعات العقود الإدارية باللجوء إلى التحكيم من خلال قيامه بتعديل الفقرة الأولى من قانون التحكيم رقم ۲۷ لسنة 1994.

   وبالتالي حسم المشرع المصرى الخلاف الذي كان قد ثار في الفقه والقضاء حول مدى إمكانية حسم المنازعات الإدارية العقدية بطريق التحكيم.

   وفي فرنسا فإن المبدأ العام كان حظر لجوء الدولة وغيرها من أشخاص القانون العام للتحكيم باستثناء الحالات التي يوجد فيها نص تشریعی صریح يجيز اللجوء إلى التحكيم، لحسم نوع معين من أنواع هذه المنازعات مستندا إلى وجود نصوص تشريعية تقرر ذلك سواء الواردة في المادتين 83، 1004 من قانون الإجراءات المدنية أو المادة 2060 من القانون المدني المعدل بالقانون الصادر في 9 يوليو 1975.

    إلا أن المشرع الفرنسي - وكما سبق أن أوضحنا - نظراً إلى ضغط الاحتياجات العامة، وحالات الضرورة في التطبيق العملي في مجابهة تشجيع الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية، تدخل المشرع عدة مرات بمقتضى قوانين خاصة، أجازت بنصوص صريحة اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية، كما تطور موقف كل من الفقه والقضاء الفرنسي تدريجيا نحو الاعتراف الأشخاص القانون العام اللجوء إلى التحكيم لحسم بعض منازعاتها.

    أما المنازعات الإدارية غير العقدية فلم يتطرق لها المشرع الفرنسي أو المصري بشأن مدى جواز اللجوء إلى التحكيم لحسم بعض صور المنازعات التي تتعلق بها. 

    ويرى الباحث أن حل هذه الاشكالية يتمثل في ضرورة الرجوع إلى النصوص التشريعية الصادرة من المشرع ذاته، والتي تناولت التحكيم والصلح - عموماً - باعتبارها أحد الوسائل البديلة للقضاء في حل المنازعة الإدارية سواء الواردة في نصوص قانون التحكيم أم الواردة في القانون المدني أم قانون المرافعات المدنية والتجارية.

 أولا: بالنسبة لقانون المرافعات: 

   نجد أن المادة 501 من قانون المرافعات، كانت تنص على أنه: "يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين بوثيقة تحكيم خاصة، كما يجوز الاتفاق على التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ من عقد معين... ولا يثبت التحكيم إلا بالكتابة، ويجب أن يحدد موضوع النزاع في وثيقة التحكيم أو أثناء المرافعة، ولو كان المحكمون مفوضين بالصلح، وإلا كان التحكيم باطلاً، ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، ولا يصح التحكيم إلا لمن له التصرف في حقوقه".

ثانيا : بالنسبة للقانون المدني:

     فقد تناول الصلح في مادته 551 حيث نص على أنه: "لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، ولكن يجوز الصلح على المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم".

 ثالثا: قانون التحكيم رقم 27 لسنه 1994: -

    نص قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 في الفقرة الأولى من مادته الأولى على أنه: "تسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع إذا كان هذا التحكيم يجري في مصر أو كان تحكيما تجاريا دوليا يجري في الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه لأحكام هذا القانون".

    ويتضح من النصوص السابقة أنه لا يوجد أية موانع من اللجوء إلى التحكيم لحسم منازعات تتعلق بصور أخرى غير المنازعات ذات الطبيعة التعاقدية بشرط أن تتفق مع المعيار العام للتحكيم، وهو تعلق المنازعة وارتباطها بحقوق مالية تقبل الصلح والتصرف، وهو المستفاد من عبارة: "أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع"، تلك الواردة في نص المادة الأولى من قانون التحكيم المشار إليه، وأيضا عبارة: "نزاع معين"، والتي وردت في نص المادة 501 من قانون المرافعات الملغاة، ومن المقرر أن أي نزاع قد يدور حول علاقة قانونية عقدية أو غير عقدية، وبالتالي فهي دلالة - وإن كانت غير مباشرة - على السماح باللجوء إلى التحكيم لحسم بعض صور المنازعات الإدارية غير العقدية، لكن هذا السماح مشروط بما هو مستفاد من نص المادة 501 السابقة - بألا يتعلق التحكيم بمسألة من المسائل التي يجوز فيها الصلح، والتي وضحتها المادة 551 من القانون المدني بالمسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو النظام العام.

   كما أن عبارة: "لا يصح التحكيم إلا لمن له التصرف في حقوقه الواردة في نص المادة 501 من قانون المرافعات المشار إليه، وكذا عبارة: " يجوز الصلح على المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم"، والتي ذكرت ضمن المادة 551 من القانون المدني يتضح منهما أن المشرع قد وضع معياراً عاماً للمنازعة التي تقبل التحكيم بشأنها بصرف النظر عن طبيعة هذه المنازعة وارتباطهما بالقانون الإداري أم بالقانون الخاص، هذا المعيار هو: "أن تتعلق المنازعة بحقوق مالية تقبل الصلح والتصرف".

     كما يتضح من هذه النصوص سواء النصوص القانونية المنظمة للتحكيم أو الواردة في القانون المدني أو قانون المرافعات المدنية والتجارية أن المشرع قد أقر معیاراً عاماً للمنازعة التي تقبل التحكيم بشأنها ألا وهو: "وجود حقوق مالية تقبل الصلح والتصرف"، وذلك للقول بجواز اللجوء إلى التحكيم الحسم المنازعات الإدارية على اعتبار أن هذه الحقوق تعتبر من الحقوق الشخصية التي تقبل الصلح والتنازل، وذلك بصرف النظر عن طبيعة هذه المنازعة، وهل تنتمي إلى القانون الإداري أم إلى القانون الخاص ، وما إذا كانت منازعة عقدية أو غير عقدية.

    كما أن المبدأ السابق كان - وما يزال - من المبادئ المقررة قضاء وهو الواضح بمناسبة دعوى كانت قد أقامتها هيئة ميناء دمياط ضد شركة دمياط الدولية للموانئ "ديبكو" حيث قضت محكمة استئناف القاهرة في أحد أحكامها القريبة جداً برفض دعوى بطلان الحكم التحكيمي المرفوعة من الهيئة ضد شركة دمياط الدولية للموانئ.

    وذهبت المحكمة في حكمها إلى أن ".... وحيث إن المادة الحادية عشرة من قانون التحكيم تشترط أن يكون موضوع التحكيم حقاً قابلا للتصالح بشأنه، ويجيز القانون ذاته لأشخاص القانون العام اللجوء للتحكيم في أي علاقة قانونية يدور حولها النزاع، عقدية أو غير عقدية. وذلك بوجه خاص فإنه يجوز التحكيم في منازعات العقود الادارية ( المادة الأولي تحكيم). فطالما تولدت عن القاعدة القانونية. أيا كانت طبيعتها، حقوقاً مالية تقبل الصلح والتنازل، فهي تصلح أن تكون موضوعاً. هذا هو المبدأ العام أو المعيار الذي اعتنقه المشرع للمنازعة التي قبل التحكيم الاختياري بشأنها، بغض النظر عن أشخاصها القانونية أو صفة أو هوية أطرافها".

    وإنطلاقاً مما تقدم يمكن القول بأن اللجوء إلى التحكيم لحسم المنازعات الإدارية غير العقدية جائز بل إنه جائز لأية منازعة إدارية، طالما كانت تتعلق بحق مالي يقبل الصلح والتنازل، حتى في ظل وجود القواعد الآمرة التي تتعلق بالنظام العام، والتي تمنح القضاء الإداري الاختصاص بنظرها، فهذه القواعد وإن كانت تمنح لجهة القضاء الإداري الاختصاص دون غيرها بالمنازعات الإدارية، وتحكم من ناحية أخرى العلاقات القانونية التي تكون الجهات الإدارية طرفاً فيها ؛ فإنها لا يمكن الاعتماد على ذلك القول بأن المنازعات الإدارية تعتبر جميعها وبدون استثناءات من المنازعات التي تتعلق بالنظام العام، وبالتالي فإنها تتنافى مع إمكانية حسمها عن طريق التحكيم، لأن هيئات التحكيم غالبا بل دائما ما تلتزم بتطبيق القواعد القانونية التي لها صلة بالنظام العام على الروابط القانونية التي تخضع لهذه القواعد؛ فهيئات التحكيم دائما ما تجد نفسها مجبرة على ذلك باعتبارها نوعا من القضاء الخاص، وإلا كان البطلان هو مصير الحكم الصادر منها ، كما أن المشرع نفسه في كل من مصر وفرنسا أخرج عددا من المنازعات بمقتضى نصوص تشريعية صريحة من اختصاص مجلس الدولة وأخضعها لمحاكم أخرى.

 رأي الباحث 

    يتفق الباحث مع الرأي السابق بأن اللجوء إلى التحكيم لحسم المنازعات الإدارية جائز لأية منازعة إدارية، طالما توافر فيها المعيار العام للتحكيم، وهو تعلق المنازعة وارتباطها بحقوق مالية تقبل الصلح والتصرف، ولكن يجب أن يقتصر تطبيق هذا المعيار على المنازعة الإدارية غير العقدية دون المنازعة الإدارية العقدية حيث إن كثيرا من العقود الإدارية التي يدرج فيها شرط التحكيم، أو تبرم بشأنها مشارطة تحكيم، ترد على مال عام وهو لا يجوز التصرف فيه لأننا لو سلمنا بذلك سنصطدم بتعارض واضح بين مسألة القابلية للتصرف، وبين مسألة القابلية الموضوعية للتحكيم في مجالات المنازعات الإدارية عموما، وفي منازعات العقود الإدارية بصفة خاصة، كما أن اللجوء إلى التحكيم لحسم منازعات العقود الإدارية لا يحتاج له معيار عام يستند إليه لحسم هذه الصور من المنازعات حيث إن المشرع المصري قد حسم هذه المسألة بإصدار القانون رقم 9 لسنة 1997 وهو ما انتهينا إليه عند الحديث عن التحكيم في المنازعات الإدارية العقدية في الباب الأول من هذه الدراسة.

   كذلك الأمر في فرنسا حيث يجوز اللجوء إلى التحكيم فقط في الحقوق التي تقبل التصرف، كما هو واضح من نص المادة 2059 من التقنين المدني الفرنسي، ولا يجوز في بعض المسائل الأخرى من المنصوص عليها في المادة 2060، حيث نصت تلك المادة على أنه: "لا يجوز اللجوء إلى التحكيم في مسائل الحالة المدنية وأهلية الأشخاص وما يتعلق بالطلاق والانفصال الجسدي ومنازعات الجماعات العامة والمؤسسات العامة، وبوجه عام كل الموضوعات المتعلقة بالنظام العام، ويستفاد من نص المادتين السابقتين أن المشرع الفرنسي قبل أن يقرر عدم جواز التحكيم في المسائل المنصوص عليها في المادة 2060 من التقنين المدني الفرنسي في المادة التي تسبقها، وهي المادة 2059 من القانون ذاته قرر هو الآخر - كالمشرع المصرى - معیاراً عاماً للمنازعة التي تقبل التحكيم بشأنها، وهو تعلق المنازعة بحقوق تقبل التصرف.

    وأكد فقهاء آخرون أن أسلوب التحكيم لا يتلاءم سوى مع المنازعات المتعلقة بولاية القضاء الكامل، وأنه لا يقبل التطبيق بالنسبة للمنازعات بشأن مشروعية الأعمال الإدارية. حيث إن النظام القانوني الفرنسي كان قد أفرد نوعين من المراكز القانونية: أولا: مراکز موضوعية أو عامة: وتدخل حمايتها في نطاق القضاء الموضوعي أو قضاء المشروعية التي تمثل دعاوى الإلغاء والطعون الانتخابية أهم تطبيقاته، ولا يشترط فيمن يرفعها توافر حق شخصي، وإنما يكفي توافر مصلحة شخصية مباشرة لديه نتيجة لمساس العمل الإداري المطعون فيه بمركزه الموضوعي، ويتمتع الحكم الصادر فيها بحجية مطلقة تسري في مواجهة الكافة. 

ثانيا: مراكز شخصية أو ذاتية: تتعلق حمايتها بنطاق القضاء الشخصي أو الذاتي الذي يقوم على حماية حق شخصي لرافع الدعوى يقبل الصلح والتنازل.

    لهذا فإن المشرع الفرنسي جسد على استحياء- شرعية اللجوء إلى التحكيم لحسم منازعات القانون العام، حيث تدخل في كثير من الدول ليجسد شرعية اللجوء للتحكيم لحسم منازعات عقود الإدارة، فقد أجاز المشرع الفرنسي لأشخاص القانون العام اللجوء للتحكيم لحسم بعض منازعاتها استثناء من الأصل العام الذي أوردته المادة 2060 من تقنين القانون المدني، والذي يحظر على هذه الأشخاص اللجوء للتحكيم لفض المنازعات التي تكون طرفا فيها .

الخلاصة

    إن المشرعين الفرنسي والمصري، وإن كانا لم يتناولا بنص صريح جواز اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات الإدارية غير العقدية بوجه خاص معتمدين في هذا الشأن على النصوص التشريعية الواردة في القوانين السابق الإشارة إليها سواء في مصر أو في فرنسا، التي يتضح منها أنه لا يوجد أية موانع تمنع اللجوء إلى التحكيم لحسم صور أخرى من المنازعات الإدارية، بخلاف المنازعات ذات الطبيعة التعاقدية بشرط أن تتعلق المنازعة بحقوق مالية تقبل الصلح والتصرف.