التحكيم / التحكيم الإداري / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / التحكيم في المنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها (في النظامين السعودي والمصري) / التحكيم في المنازعات غير التعاقدية في النظام المصري
التحكيم في المنازعات غير التعاقدية في النظام المصري
إن الفصل في المنازعات بشكل عام والمنازعات الإدارية على وجه الخصوص غالباً ما يستغرق وقتاً وجهداً ويستنزف طاقة المتقاضين في تتبع الإجراءات التي يمكن أن تتصف بالبطء، وتميز المناقشة فيها بالعلنية هذا الذي يمكن أن يهدد أحياناً مصالح المتنازعين ، لذلك أضحى التحكيم حالياً وسيلة فعالة في إنهاء الخلافات التي قد تنشأ عنها جميع أنواع النزاعات والمنازعات
إلا أن البعض يراها في مجال المنازعات الإدارية اعتداء وتدخلاً في الاختصاص الأصيل للقاضي الإداري ومخالفة لقواعد الاختصاص الأمرة التي تلزم المتعاقدين مع الإدارة باللجوء للقضاء الإداري في حال نشوب نزاع معها، ويجد مبدأ حظر لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم أساسه في مبدأ احترام قواعد الاختصاص القضائي بشكل عام .
وجدير بالذكر أن التحكيم قد حظي باهتمام كبير لدى معظم التشريعات، فمنحت له سلطة الفصل في المنازعات الإدارية، مخالفة بذلك ما سارت عليه بعض الدول في تشريعاتها الخاصة التي منعت اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية، لأنها قد تمس بسيادة الدولة .
نطاق التحكيم في المنازعات الإدارية غير العقدية
أن الطبيعة القانونية للمنازعات التي تنتمي إلى قضاء المشروعية تتنافى مع أحكام اللجوء إلى التحكيم لإنهاء هذه المنازعات وخروج دعاوى الإلغاء من نطاق التحكيم لتناقض الطبيعة الاتفاقية للتحكيم مع طبيعة تلك الدعوى.
وأهم صور هذه المنازعات هي التي تثور بصدد مشروعية القرارات الإدارية التي ترفع ضدها دعوى الإلغاء، لأنها تقوم على اختصام القرار الإداري ذاته، وهذا الاختصاص يتعلق بالنظام العام، فلا يجوز لأية جهة أخرى سواء أكانت قضائية أو غير قضائية، الفصل في مثل هذه الدعاوى لا تعلقها كما ذكرت بالنظام العام.
ومن أمثلة المنازعات التي تخضع لقضاء المشروعية، دعاوى التفسير وفحص المشروعية، والطعون الانتخابية التي يكون موضوعها النظر في صحة ومشروعية الانتخاب من عدمه، أيضاً المنازعات الضريبية التي تثور بسبب مشروعية قرارات ربط الضريبة.
خروج دعاوى المشروعية عن نطاق التحكيم
الهدف من دعوى المشروعية حماية مبدأ المشروعية: المتمثل في تطبيق مبدأ سيادة القانون، فهي لا تتعلق بحقوق مالية يجوز الصلح أو التصرف فيها وتتصل بالنظام العام.
وتأكيداً لذلك تقول المحكمة الإدارية في أحد أحكامها "الخصومة في دعوى الإلغاء تعتبر خصومة عينية توجه القرار الإداري ذاته بصرف النظر عن مصدره، ويكون للحكم الصادر فيها حجيته على الكافة، ومن ثم فإنه يتعين النظر إلى طبيعة القرار وقت صدوره، دون اعتداد بطبيعة مصدره قبل هذا التاريخ، أو بتنفيذ مصدره إذا ما وقع هذا التغيير في تاريخ لاحق على صدور القرار" .
وفي حكم آخر للمحكمة الإدارية العليا "ومن حيث أنه من المقرر قانوناً أن الخصومة في دعوى الإلغاء هي خصومة عينية مناطها اختصام القرار الإداري في ذاته استهدافاً لمراقبة مشروعيته، وإذا كان القرار الإداري على هذا النحو هو موضوع الخصومة ومحلها في دعوى الإلغاء فإنه يتعين لقبول الدعوى أن يكون القرار قائماً ومنتجاً لآثاره عند إقامة الدعوى، بمعنى أنه إذا زال القرار الإداري بعد رفع الدعوى، أو كان القرار الإداري النهائي الذي يجوز الطعن فيه بالإلغاء لم يصدر بعد، فإن الدعوى تكون غير مقبولة.
بجانب دعوى الإلغاء، هناك بعض المنازعات الإدارية تعتبر من دعاوى المشروعية، وبالتالي لا يصلح التحكيم سبيلاً لتسويتها، مثل الدعاوي التأديبية والطعون الانتخابية والتي يدور موضوعها حول صحة ومشروعية إجراء العملية الانتخابية بجانب المنازعات الضريبية متى كان موضوعها مشروعية قرارات ربط الضريبة .
وتعد دعوى إلغاء القرار الإداري أهم دعاوى المشروعية من الناحية التطبيقية لأنها تتضمن جميع خصائص تلك الدعاوي، باعتبارها جوهر قضاء المشروعية بما تتسم به صفة عينية وتعلقها بالنظام العام .
اسباب عدم خضوع المنازعات موضوع دعوى الإلغاء للتحكيم
تخرج المنازعات التي تتصل بالنظام العام والتي ليست لها صلة بالطابع المالي من هذا النطاق باعتبارها غير الجائز الصلح أو التصرف في أيهما، الأمر يخرج المنازعات محل دعوى الإلغاء من نطاق التحكيم، بجانب تناقض الطبيعة الاتفاقية للتحكيم مع طبيعة تلك الدعوى، حيث يستند التحكيم إلى أساس اتفاقي مما يجعله يتناقض مع طبيعة دعوى الإلغاء، التي تعتبر وسيلة قضائية نظمها القانون لحماية مبدأ المشروعية والتي تقوم على حماية مركز قانوني مس به القرار المطعون فيه، بينما يقوم التحكيم على حماية حقوق مالية تقبل الصلح والتنازل.
وطبقاً لنص المادة (11) من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 لا يجوز التحكيم فيما لا يجوز الصلح فيه.
وقد حددت المادة 501 من القانون المدني المسائل التي لا يجوز الصلح فيها، ذهبت إلى إنهاء كافة المسائل المتعلقة بالنظام العام
ودعوى الإلغاء تعتبر من النظام العام لارتباطها بتنظيم المشرع لمباشرة السلطات العامة في الدولة لاختصاصاتها، حيث يختص القضاء الإداري دون سواه بنظر تلك الدعوى الأمر الذي لا يجوز معه الصلح فيها، وبالتالي لا يجوز أن تكون المنازعات الخاصة بتلك الدعوى مجالاً للتحكيم .
وقد ذهبت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة إلى عدم جواز الصلح في دعوى الإلغاء .
وسبب عدم جواز الصلح في المنازعات محل دعوى الإلغاء بجانب اتصالها بالنظام العام، أن الخصومة فيها لا توجه على الإدارة حيث يختصر فيها القرار الإداري محل الطعن في مشروعيته الأمر الذي لا تكون معه هناك خصومة ما بين الإدارة ورافع دعوى الإلغاء، حتى يتصور قيام الصلح بشأنها.
2. المنازعة محل دعوى الإلغاء لا تتضمن طابعاً مالياً :
لا شك أن المنازعة محل دعوى الإلغاء ليست من المنازعات الحقوقية (1) ذات الطابع المالي، ولذا فهي لا تخضع للتسوية التحكيمية التي يقتصر نطاقها على المنازعات الحقوقية ذات الطابع المالي، وذلك لكون هذه المنازعات مما قد جرت العادة بالصلح فيه والتصالح عليه .
ولعل مما يؤيد هذا الكلام ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا ـ في تحديدها للطبيعة الموضوعية أو العينية لدعوى الإلغاء ـ إلى أن تلك الدعوى تهدف إلى طلب إلغاء القرار الذي تم الطعن فيه، وذلك إعمالاً لمبدأ المشروعية، وبناء عليه فإن دور القاضي ينحصر في إلغاء القرار غير المشروع، دون أن تمتد سلطته إلى تعويض المضرور .
ثالثاً : التناقض بين دعوى الإلغاء وطبيعة التحكيم :
لعل مما لا يكاد يخضع للشك أن التحكيم لا يتفق الإلغاء ، بل ولا حتى مع قضاء المشروعية بوجه عام ، ولعل السر في ذلك يكمن في أن أسلوب التحكيم يقوم على تراضي أطراف المنازعة على عرضها على محكم يكون موضع ثقة لدى أطراف الخصومة التحكيمية ويقبلون حكمه، ويستند التحكيم إلى أساس اتفاقي مما يجعله يتناقض مع طبيعة دعوى الإلغاء.
ولعل مما لا يكاد يخفي أن طبيعة التحكيم طبيعة اتفاقية تستند إلى تراض الخصوم ـ كما أسلفنا ـ مما يجعل من التحكيم وسيلة قضائية تهدف لحماية مبدأ المشروعية والتي تقوم على حماية مركز قانوني مس به القرار مع طبيعة دعوى - المطعون فيه
سلطة هيئة التحكيم في النظر في مشروعية القرار الإداري كمسألة أولية
أنه إذا كان هذا الفحص في مشروعية القرار الإداري كمسألة أولية لازماً للفصل في التحكيم، وصدور الحكم في التحكيم، كما لو كان موضوع النزاع يتمثل على سبيل المثال في المطالبة بتعويض عن قرار إداري بادعاء عدم مشروعيته ، فإنه يتعين ـ والحال هكذا ـ على هيئة التحكيم إحالة القرار المطعون في مشروعيته إلى المحكمة ـ ذات الاختصاص الولائي بنظره ـ مع إيقاف إجراءات التحكيم لحين صدور حكم نهائي في هذه المسألة الأولية المتعلقة بمشروعية القرار الإداري .
المستقر عليه في الفقه والقضاء أن القاضي العادي يلتزم في حالة تعرضه لمسألة مشروعية عمل إداري ، إحالة هذه المسألة للقضاء الإداري للفصل فيها باعتباره صاحب الاختصاص بنظرها .
ولا شك أن اشتراط حسم مسألة مشروعية القرار الإداري إذا كانت أمراً لازماً لخوض غمار الفصل في التحكيم إذا ما أثيرت أمام هيئة التحكيم تلك المسألة بواسطة المحكمة ذات الاختصاص الولائي بنظره لإصدار حكم نهائي ، وهذا هو ما أثار خشية كثير من أرباب الفكر والقانون ، وذلك لما يتسم به التحكيم من تحقيق العدالة الناجزة ، حيث أن ذلك يعني استطالة أمد إصدار الحكم التحكيمي إلى حين إصدار حكم فاصل في هذه المسألة الأولية ، وهذا من شأنه أن يستغرق وقتاً طويلاً قد لا يتناسب مع طبيعة الدعوى ـ محل التحكيم ، بل ربما يصل الأمر إلى أن يكون الحكم التحكيمي عديم الجدوى ، حال استغراقه وقتاً طويلاً ، لصدوره ، وهذا ـ بلا شك ـ يتنافى مع ما يشنده طرفا الخصومة من تحقيق للعدالة الناجزة ، وهو ما دفعهم إلى اللجوء للتحكيم وتفضيله على القضاء العادي (الوطني) .
ولعل هذا هو ما دفع الكثير من رجال الفقه والقانون إلى المناداة بضرورة أن يضع القاضي في اعتباره - حال فصلة في موضوع المسألة الأولية ـ طبيعة النزاع التحكيمي الذي تتصل به من حيث ضرورة الفصل فيه على وجه السرعة ـ والتي لأجلها ولج أطراف الخصومة سبيل التحكيم لتسوية هذا النزاع .