بينما انتصر جانب من الفقه لرأي آخر مفاده جواز التحكيم في العقود الإدارية ، مستندا في ذلك إلى نص المادة الأولي من قانون التحكيم المصري ، والتي تنص على انه " مع عدم الإخلال بإحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية تسري أحكام هذا القانون علي كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أيا كان طبيعة العلاقات القانونية التي يدور حولها النزاع إذا كان هذا التحكيم، يجري في مصر أو إذا كان تحكيما تجاريا الدوليا يجري في الخارج واتفق أطرافه علي إخضاعه لأحكام هذا القانون "... :
ولقد ذهبت محكمة استئناف القاهرة في حكمها الرائد الصادر في 19 مارس ۱۹۹۷ إلي تبني الاتجاه الأخير .
ويتعلق النزاع الذي صدر فيه هذا الحكم بدعوي البطلان المقامة من رئيس المجلس الأعلى للآثار ضد شركة سيلجستر نايب الانجليزية بشان حكم التحكيم الصادر لصالح الثانية ضد الأولي .... إذ انه بتاريخ ۱۹۹۳/۱۱/۱۰
تعاقد المجلس الأعلي للآثار مع الشركة الأنجليزية المشار إليها الانجاز عملية تنسيق الموقع الخارجي لمتحف أثار البوية بأسوان .ولما كان البندان رقما ۲، 4
الخاصبات بإعمال الطبقة العازلة متطابقين في كل شيء ما عدا السعر الخاص بكل منهما . إذ بلغ :سعر المتر بالنسبة لأولهما ۹۰۰ جنيه و 4۱۸ مليما بينما جاء سعر المتر بالنسبة للأخيرة ۹۶۲ جنيها و 75 مليما الأمر الذي دعا المجلس الأعلي للآثار المطالبة الشركة الانجليزية بمحاسبته علي أعمال الطبقة العازلة بسعر البند رقم ۲.
لكن الشركة الأنجليزية رفضت ذلك وطلبت استطلاع رأي مجلس الدولة بشأن ذلك الموضوع . ولما ... جاعت. فتوي مجلفن بالدولة في غير صالحها قامت بإغمال شزط التحكيم الوارد في العقد المبرم باشر بينها وبين المجلس الأعلي للآثار والذي عقد تحت مظلة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي . ولقد انتهت هيئة التحكيم بإصدار حكم بإلزام المجلس الأعلى للآثار بدفع مبالغ متنوعة للشركة - الانجليزية ، وهو الحكم الذي طعن عليه المجلس الأعلى للآثار بالبطلان أمام محكمة استئناف القاهرة . ولقد تمسك المجلس الأعلى للآثار ، وهو ما يعنينا في هذا الصدد ببطلان شرط التحكيم لان العقد محل النزاع هو عقد إداري مما لا يجوز التحكيم فيه .
ولقد ذهبت محكمة استئناف القاهرة ف ي ردها على هذا الدفع إلى الاستناد إلي مجموعة من الأسباب تتساند فيما بينها .
ويتعلق السبب الأول بمبدأ مستقر من مبادئ التفسير القانوني وفقا له إذا كان النص واضحا فإنه لا يجوز تفسيره أو تأويله لأنه لا اجتهاد مع النص . ولقد عبرت المحكمة عن هذا المعني بالإشارة إلي أنه :"وحيث انه عن السبب الثاني وهو الادعاء ببطلان شرط التحكيم لان العقد محل النزاع هو عقد إداري مما لا يجوز التحكيم فيه ، فانه غير سديد . فقذ جرت المادة الأولي من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية رقم ۲۷ لسنة ۱۹۷4. علي أن : "... تسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أيا كانت طبيعة العلاقات القانونية التي يدور حولها النزاع ". وهذا الذي استندت إليه محكمة استئناف القاهرة في هذا المقام فهو يتعلق بتنفيذ ما يتمسك به . المنادون بعدم جواز التحكيم في العقود الإدارية من القول بالاختصاص الأستثاري والقاصر المجلس الدولة المصري بنظر المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية ، استنادا إلي نص المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة والتي تنص على أن " تختص محاکم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المنازعات الخاضة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد إداري أخر .. فالمقصود من هذا النص ، وهو ما يذهب إليه الفقه المؤيد لجواز التحكيم في العقود الإدارية وهو ما انتصرت له أيضا محكمة استئناف القاهرة ،" هو بيان الحد الفاصل بين الاختصاص المقرر .. المحاكم مجلس الدولة ومحاكم القضاء العادي وليس القول بحظر الالتجاء إلى التحكيم في منازعات . العقود الإدارية ".
ولقد أضافت محكمة استئناف القاهرة إلى ما تقدم سيبا ثالثا ذا طابع قانوني أيضا ويخص مسالة . تنازع القوانين من حيث الزمان : إذ أنه من المعروف أن قانون التحكيم الحالي رقم ۲۷ لسنة ۱۹۹۶ نص في المادة الثالثة منه على انه " يلغي أي حكم مخالف لأحكام هذا القانون ". وترتيبا على ذلك فان نص المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة . أيا كان وجه الرأي في تفسيره. وهو ما حرصت المحكمة علي إبرازه لا مجال لإعماله .
والى جانب هذه الأسباب ذات الطابع القانوني البحت ، فان محكمة استئناف القاهرة ذهبت من اجل رفض القضاء ببطلان هيئة التحكيم إلى إثارة سبب إضافي يختلط فيه القانون بالغاية من جواز التحكيم في العقود الإدارية .
اذ قدرت محكمة استئناف القاهرة إن إجازة المشرع المصري للتحكيم في العقود الإدارية تهدف إلى جذب الاستثمار وذلك على اعتبار ان التحكيم يشكل ضمانة إجرائية لتشجيع الاستثمار لا تتواني في تقديمه كوسيلة لتحفيز الاستثمار علي أرضها .
حيث ذهبت المحكمة إلي إن إجازة التحكيم حتى لو كان احد أطرافه من أشخاص القانون العام وايا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع " يتفق مع الحكمة التي شرع من اجلها قانون التحكيم وهي مواكبة الجهود التي تبذلها الدولة من اجل تهيئة مناخ صالح للاستثمار وجذب رؤوسن الأموال المستثمرة واعادة الثقة إلي رجال الأعمال والمستثمرين - عربا كانوا أو أجانب - بتنظيم أحكام التحكيم على نحو يتلاءم مع طبيعة المنازعات التجارية الدولية ومتطلبات فضها ، خصوصا بعد أن تبين أن القوانين التي وضعت في مجال الاستثمار لا تكفي وحدها لتحقيق هدف زيادة الاستثمارات ".
ولقد أضافت محكمة استئناف القاهرة إلي ما تقدم من أسباب ذات طابع قانوني بحت أو سبب يختلط فيه الطابع القانوني بالغاية من جواز التحكيم في العقود الإدارية سنبيا أخر ، جعل من هذا القضاء الصادر عنها قضاء يتوافق مع ما صدر عن القضاء الفرنسي في ظروف مماثلة ، ويتفق أيضا مع ما قتنه المشرع السويسري .
بشأن عدم جواز تمسك الدولة بالقيود التشريعية الواردة في قانونها ، وان كانت حقيقية ، من اجل التحلل من شرط التحكيم .
فمثل هذا المسلك " يتنافي مع مبدأ وجوب تنفيذ الالتزامات بحسن نية ، وهو لا يميز بين عقد مدني وعقد إداري ، كما انه يتناقص مع المستقر عليه في فقه وقضاء التحكيم التجاري من عدم جواز تنصل. الدولة من شروط التحكيم التي أدرجتها في عقودها استنادا إلي أية قيود تشريعية حتى وان كانت حقيقية.
ولقد حرصت محكمة استئناف القاهرة علي التذكير بأن ذلك من شأنه " فتح الباب أمام ال العامة للتحلل من شرط التحكيم – الذي أدرجته في العقد المبرم مع طرف أجنبي - قولا منهان جواز التحكيم في العقود الإدارية - من شانه أن يهز ثقة المتعاملين مع تلك الجهات في مصداق ويجلب أوخم الأضرار بفرص الاستثمارات الأجنبية ومشروعات التنمية ".
ولعله مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد انه عندما عرض موضوع التحكيم في العقود الإدارية علي الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمناسبة المنازعة بين المجلس الأعلي للآثار والشركة الانجليزية والتي اتفقا على تسويتها عن طريق التحكيم تحت رعاية المركز الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ، انتهت الجمعية العمومية إلي عدم صحة شرط التحكيم في منازعات العقود الإدارية .
ولقد سارعت الحكومة بعد صدور هذا الفتوى إلي تقديم مشروع قانون بتعديل المادة الأولي من القانون رقم ۲۷ / ۱۹۹۶ بشان التحكيم في المواد المدنية والتجارية ، وصدر به قانون رقم 9 لسنة ۱۹۹۷ وجاءت المادة الأولي منه علي الوجه التالي :
تضاف إلي المادة (1) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم ۲۷ لسنة 1994 فقرة ثانية نصها كالآتي :" وبالنسبة إلى منازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولي اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة ، ولا يجوز التفويض في ذلك .
ويتضح من نص هذه المادة المشار إليها انه يشترط لصحة الاتفاق على التحكيم في العقود الإدارية ضرورة موافقة الوزير المختص أو من يتولي اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة .
وعلي الرغم مما قد نراه من تشدد قانون التحكيم في هذا الصدد حيث اشترط ضرورة موافقة الوزير أو من يتولي اختصاصه ، فإننا نري مع ذلك أن القانون الفرنسي والذي اشترط بموجب القانون الصادر في 19 أغسطس ۱۹۸۷ ضرورة صدور مرسوم من مجلس الوزراء الفرنسي موقع عليه من وزير المالية والوزير المختص يقر التحكيم في العقود الدولية ذات النفع القومي خلافا للقانون المصري الذي لايشترط موافقة اي منهم وهو الامر الذي يوضح تشدد القانون الفرنسي عن نظيرة المصري.
وأيا ما كان موقف الفقه من تقييم هذا النص الجديد للفقرة الثانية من المادة الأولي من القانون رقم ۲۷ لسنة 1994 ، وعدم الحصول على موافقة الوزير المختص أو من يتولي اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة المصرية ، لن يؤثر على صحة الاتفاق علي التحكيم بشأن العقود الإدارية الدولية في حالة تمسك الطرف المصري ببطلان هذا الاتفاق بسبب عدم مراعاة هذا القيد المتمثل في الحصول على موافقة الجهة المختصة في مصر . إذ أن هذه المسالة تعد قيدا تشريعيا داخليا لا يجوز للطرف المصري أن يتمسك به من أجل التنصل من الاتفاق على التحكيم الذي قبله ، والقول بغير ذلك يمس مبدأ حسبن النية في تنفيذ الالتزامات التعاقدية ويتعارض الآن منع قاعدة مستقرة في التحكيم التجاري قننتها بعض التشريعات ويسير عليها قضاء دول أخري من عدم جواز التحايل على الاتفاق على التحكيم بإثارة دفوع مستمدة من القانون الوطني للطرف المتعاقد.
ولقد كانت المحكمة الدستورية رأي في بعض النصوص القانونية الواردة في قانون التحكيم حيث تعرضت المحكمة الدستورية العليا في مصر لطعنين يتعلقان بعدم دستورية نصين من نصوص قانون التحكيم المصري .
النص الأول هو نص المادة ۱۹ بند 1 من قانون التحكيم والتي كانت تنص قبل تعديلها ، بناء على الحكم بعدم دستوريتها ، على ما يلي : " يقدم طلب الرد كتابة إلى هيئة التحكيم مبينا فيه أسباب الرد خلال خمسة عشر يوما من تاريخ علم طالب الرد بتشكيل هذه الهيئة أو بالظروف المبررة للرد ، فإذا لم يتنح المحكم المطلوب رده فصلت هيئة التحكيم في الطلب ". ولقد أسست المحكمة الدستورية العليا قضاءها بعدم دستورية نص المادة المشار إليها علي مجموعة من الأسباب أهمها : أن نص المادة ۱۹ بند (۱) يتعارض مع أحكام المواد 40، 65 ، ۹۷، ۹۸ ، 14 من الدستور المصري وهي المواد التي تعالج السلطة القضائية واستقلالها وحيادها ، وتقرر أيضا مبدأ خضوع الدولة للقانون ، وحق الأفراد في اللجوء إلى قاضيهم الطبيعي " ولما كان الطعين قد خول هيئة التحكيم الفصل في طلب ردها لتقول كلمتها في شان يتعلق بذاتها ون على حيادها ، وكان ذلك مما ينافي قيم العدل ومبادئه وينقض مبدأ خضوع الدولة القانون وينترای ضمان الجيدة التي يقتضيها العمل القضائي بالنسبة إلي فريق من المتقاضين ، فانه يكون بذلك قد خالف أحكام المواد المذكورة ".
كذلك فان المحكمة الدستورية العليا حرصت علي أن تشير بأنه إذا كان المشرع المصري قد استبد أحكام النص المطعون فيه من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي فان ذلك لا يجعل هذا . التص بمنأى عن رقابة الدستورية . ذلك أن " الرقابة القضائية على دستورية التشريع مناطها عدم تعارض النصوص التشريعات - الأصلية التي تصدرها السلطة التشريعية أو تنظمها التشريعات الفرعية التي تصدرها السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها التي أناطها الدستور نها، ومن ثم تمتد تلك الرقابة إلي النص المطعون فيه بعد أن أقرته السلطة التشريعية ولو كان قد استعار قواعذه أو بعضها من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي .
ونحن من جانبنا نرى أن ما حرصت المحكمة الدستورية علي تأكيده في هذا الصدد جدير بالتأيد ليس فقط لما بنت عليه المحكمة قضاءها من ممارسة الرقابة القضائية الدستورية ، ولكن لسبب أخر نم تتعرض له المحكمة الدستورية ، ويتعلق بأن القانون النموذجي للتحكيم ليس معاهدة دونية أبرمتها مصر فتحترم قواعدها باعتبارها اتفاقية تعلو علي الدستور المصري وإنما يعد مجرد قواعد قانونية لكل دولة الحرية في أن تتبني ما تراه منها: ملائما لها ويترتب على ذلك التبني أن تصبح هذه القواعد مجرد قواعد وطنية يتعين خضوعها للرقابة الدستورية في الدولة دون أن تشكل هذه الرقابة أدني مساس بالقانون النموذجي للتحكيم لأنه ليس إلا مجرد مجموعة قواعد وليس معاهدة .. . دولية .
ورغم تعديل نص المادة ۱۹ وفقا لحكم المحكمة الدستورية العليا فان طلب الرد لا يقدم مباشرة أمام المحكمة المنصوص عليها بالمادة التاسعة من القانون ، وهي محكمة استئناف القاهرة كأصل عام، وانما يقدم طلب الرد إلى هيئة التحكيم خلال مدة الخمسة عشر يوما التالية لعلم طالب الرد بتشكيل هيئة التحكيم، أو بالظروف المنيررة للرد ، فإذا لم يتنح المحكم المطلوب رده من تلقاء نفسه خلال الخمسة عشر يوما التالية لتقديم الطلب ، فان الهيئة تحيله بغير رسوم إلى المحكمة المشار إليها في المادة التاسعة من القانون الفصل فيه بحكم غير قابل للطعن.
أما النص الآخر الذي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريته فهو نص البند ۳ من المادة 58 من قانون التحكيم المصري وتتضن المادة 58 في فقرتها الثالثة علي أنه لا يجوز التظلم من الأمر الصادر بتنفيذ حكم التحكيم ، أما الأمر الصادر برفض التنفيذ فيجوز التظلم منه إلى المحكمة المختصة وفقا للمادة (1) من هذا القانون خلال ثلاثين يوما من تاريخ صدوره ".
ولقد أسست المحكمة الدستورية العليا قضائها بإلغاء المادة 58 فقرة 3 من قانون التحكيم المصري علي مخالفة النص المذكور لمبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور.
إذ أن المادة المذكورة بمنحها الطرف الذي يتقدم " بطلب تنفيذ حكم المحكمين الحق في التظلم من الأمر الصادر برفض التنفيذ ليثبت توافر طلب الأمر بتنفيذ حكم التحكيم علي الضوابط الثلاثة التي تضمنها البند (۲) ، وحرمانها في نفس الوقت الطرف الأخر من خصومة التحكيم مكنة التظلم من الأمر الصادر بالتنفيذ لينف في المقابل توافر طلب الأمر بالتنفيذ علي الضوابط عينها ، يكون قد مايز - في مجال ممارسة حق التقاضي - بين المواطنين المتكافئة مراكزهم القانونية دون أن يستند هذا التمييز إلي أسس موضوعية تقتضيه "
ولقد أشارت المحكمة الدستورية إلى أن النصر الطعين لا مجال للدفاع عنه استنادا إلى الطبيعة الخاصة بنظام التحكيم وما يتسم به من تيسير الإجراءات وتحقيق السرعة في حسم المنازعة.