الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم الإداري / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 27 / التحكيم في العقود الإدارية الدولية في المغرب

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 27
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    189

التفاصيل طباعة نسخ

    تبرم الإدارة، من أجل ممارسة نشاطها، مجموعة من العقود، وتختار بين طريقتين، إمـا أن تلجأ إلى التعاقد في إطار القانون العادي ، أو تلجأ إلى التعاقد في إطار القانون الإداري.

    والتفرقة بين العقود التي تبرمها الدولة، أمر ضروري ذلك أن العقود الادارية تخضع لقواعد القانون الاداري بينما تخضع العقود العادية لقواعد القانون المدني، وتكون الأولى من اختصاص القضاء الاداري بينما الثانية من اختصاص القضاء العادي، على الرغم من كون الادارة طرفاً فيها.

    والعقد كما هو معلوم هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث آثار قانونيـة، سـواء كانـت بمناسبة إنشاء التزامات أو تعديلها أو إنهائها، والعقود الادارية تتميز عن العقود المدنيـة بطـابع خاص مناطه احتياجات وضروريات المرفق العام، كما تتميز بتغليب المصلحة العامـة علـى المصلحة الخاصة، فإذا كان المتعاقدان في العقود المدنية يستهدفان تحقيق نفع مـادي ومـصلحة شخصية، فإن الأمر يختلف في العقود الادارية، ذلك أن الادارة، وهي أحد طرفي العقد، لا تهدف الى تحقيق مصلحة شخصية، بل تتعاقد لتحقيق المصلحة العامة، وهي المشرفة عليها والمختصة وحدها بتوجيهها وتحقيقها وتنظيمها، فهي تتعاقد لتكفل حـسـن سـير المرفـق العـام وانتظامـه واستمراره وانجاز الأعمال والخدمات المطلوبة على وجه سليم، وفي المواعيد المحددة.

    ولتحقيق ذلك تتمتع الإدارة بحقوق وسلطات واسعة، تستمدها من العقد الاداري، ومرد ذلـك الى فكرة أن العقد الاداري يستهدف تسيير مرفق عام عن طريق الاستعانة بالنشاط الفـردي الخاص، وهذه السلطات تتعلق بالنظام العام فلا يجوز للإدارة التنازل عـن ممارستها كليـاً أو جزئياً، ومن بين هذه السلطات:

   1- سلطة الادارة في الرقابة على تنفيذ العقد الاداري وإصدار أوامر وتعليمات إلى المتعاقد معها.

   2- سلطة الادارة في توقيع جزاءات على المتعاقد معها (غرامات مالية – فسخ العق تنفيذ العقد على حساب المتعاقد في حال النكول).

   3- سلطة الادارة في تعديل العقد بإرادتها المنفردة دون حاجة إلى استصدار حكم قضائي، فللإدارة الحق في تعديل بنود العقد وشروطه بما من شأنه أن يضمن المصلحة العامـة ويضمن حسن سير المرفق العمومي، على أن لا يتجاوز التعـديل الحـدود الطبيعيـة العادية أو أن يكون من شأنه تبديل موضوع العقد تبديلاً شاملاً، ولا يجوز للمتعاقد مع الادارة الدفع بعدم قيامها بتعهداتها للتوقف عن تنفيذ التزاماتها.

   وفي المقابل، فإن المتعاقد مع الادارة يتمتع بمجموعة من المزايـا لا توجـد فـي العقـود العادية، إذ له الحق في الوصول إلى التوازن المالي للعقد، أي الى تـوازن عـام بـيـن حقـوق الطرفين والتزاماتهما، خصوصاً في حالة استخدام الادارة سلطة التعديل الممنوحـة لهـا، اذ أن العدالة تفرض ضرورة اعادة التوازن المالي الذي أبرم العقد على أساسه، وذلك بمـنـح بمـنح المتعاقـد مع الادارة تعويضاً عن الأضرار التي تكون قد لحقت بمركزه التعاقدي إثر ممارسة الادارة حق التعديل.

    كما أن للمتعاقد مع الادارة الحق في المطالبة بالتعويض حين تقع ظروف طارئـة تحملـه أعباء غير متوقعة، وتجعل تنفيذ العقد مرهقاً على وجه يتجاوز ما كان يقـدره الطرفـان وقـت ابرامه، وذلك نتيجة اجراء صادر عن الإدارة وهو ما يسمى نظرية فعل الأمير أو نتيجة ظروف اقتصادية طارئة أو بسبب الصعوبات المادية غير المتوقعة، وكل ذلك سنداً لنظرية قابلية العقـود الادارية للتغيير.

   غير أن تعاقد الإدارة مع الأشخاص العاديين لا يتوقف على المعاملات الداخلية، اذ يتجاوزه إلى المعاملات الدولية، فمنذ تسعينيات القرن الماضي بدأت غالبية الدول تـنهج سياسـة انفتـاح أسواقها الوطنية على الأسواق الدولية، لتتغير معه طبيعة العقود المبرمة من قبل الدولة من عقود إدارية داخلية خاضعة للقانون الوطني إلى عقود إدارية دولية تخضع للقانون الدولي.

   وقد سار المغرب على هذا النهج بمقتضى مجموعة من العقود التي أبرمهـا مـع الأغيـار يسعى من خلالها الى تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، على إعتبار أن هذه العقود تـؤدي دوراً أساسياً في تحقيق الخطط التنموية للدولة، إذ تمكنها من استغلال مواردها الطبيعيـة وتــساهم فـي تحسين بنيتها التحتية، وكذا تطوير مختلف القطاعات الإنتاجية لما تقدمه هـذه العقـود مـن رأس المال والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج وإمرار المعارف والخبرات، والتي نجـد مـن بينهـا عقـود الاستثمار.

   وإذا كانت العقود الادارية المبرمة في إطار القانون الداخلي لا تثير اشكالات كبيرة، خاصة على مستوى تسوية المنازعات الناتجة منها، سواء عن طريق القضاء الاداري أو عـن طـريـق التحكيم الداخلي، فإن تسوية المنازعات الناتجة من تنفيذ العقود الادارية المبرمة في إطار القانون الدولي، تثير مجموعة من الإشكالات نظرا لما يثيره وجود الدولة من اعتبارات متعلقـة بالـسيادة والمصلحة العامة الأمر الذي يستلزم توفير وسيلة محايدة وفعالة لتسوية المنازعات الناتجة من هذه العقود بما يتلاءم وطبيعتها الخاصة.

   إذ أن اللجوء إلى القضاء الوطني للدولة قد لا يكون الوسيلة المثلى لفض النزاعات الناتجة من العقود الدولية التي تكون الدولة طرفاً فيها، نظراً لافتقار المحاكم الوطنية الى الخبرة اللازمة لحل النزاعات الناشئة عن هذا النوع من العقود الدولية والمتميزة بطبيعتها المعقدة، وتطبيقها لقوانينهـا الوطنية التي لا تمنح المتعاقد الأجنبي الحماية نفسها التي يضمنها له القانون الدولي، إضافة إلى ما يؤخذ على القاضي الوطني من انعدام الحياد في مثل هذه الحالات، فأياً تكن المزايا التي يتمتع بهـا القضاء الوطني من استقلال وحياد، فإنه في نهاية الأمر سيكون غير محايد بالنسبة للمنازعات التي تكون دولته طرفا فيها مع متعاقد أجنبي، وتكون ناشئة عن عقـد مـتـصل بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية وبسيادة الدولة.

    وأمام هذه الوضعية، يعتبر من الضروري البحث عن وسائل بديلـة لتسوية المنازعـات الناشئة عن العقود الدولية التي تكون الدولة طرفاً فيها، ويعتبر التحكيم إحدى هذه الوسائل، نظراً لما يتميز به من مزايا مقارنة مع القضاء الوطني، لذلك غالباً ما تتـضمن هـذه العقـود شـرط تحكيم.

   ويعتبر شرط التحكيم من أكثر الشروط تضميناً في العقود الدولية التي تكون الدولة أو أحـد أشخاص القانون العام طرفاً فيها، اذ أن اللجوء الى التحكيم لتسوية المنازعات الناشئة عن هـذه العقود يعد من بين ضمانات تشجيع الاستثمار الأجنبي، الأمر الذي انعكس على قوانين الاستثمار، وأصبحت هذه الأخيرة تتضمن نصوصاً صريحة تقضي بإمكانية عرض النزاعات المتعلقة بالعقود المبرمة بين الدولة والمستثمرين الأجانب على التحكيم.

    وموضوع "التحكيم في العقود الإدارية الدولية في المغرب" يفرض التطرق بداية إلى الإطار القانوني الذي ينظم التحكيم في العقود الإدارية الدولية في القانون المغربي (المبحث الأول)، ثـم نتناول في مبحث ثان الإشكالية التي يثيرها تدخل قضاء الدولة في التحكيم، خاصة في ما يتعلـق بتحديد الجهة القضائية المختصة في التحكيم في العقود الإدارية الدولية (المبحث الثاني).

   وستتم دراسة هذا الموضوع من خلال عرض موقف القانون المغربي والقوانين المقارنـة، وكذا عرض أهم القضايا التحكيمية التي كانت الدولة المغربية طرفاً فيها، وكذا موقـف القـضاء المغربي والمقارن.

المبحث الأول: الإطار القانوني للتحكيم في العقود الإدارية الدولية في المغرب:

   إن الأصل في الجهة المختصة في تسوية المنازعات الناتجة من العقود التي تكون الدولة أو أحد أشخاص القانون العام طرفاً فيها، في التشريعات التي تأخذ بازدواجية النظام القانوني، هـو القضاء الإداري لما يوفره هذا الأخير للأطراف من ضمانات أكثر من القضاء العادي، ولما يتميز به من نظريات خاصة بالقانون الإداري لا مثيل لها في القانون المدني، كنظرية الظروف الطارئة ونظرية فعل الأمير. .

   لكن ونظراً لأهمية التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات الناتجة من العقود الإدارية، ومسايرة للتطور القانوني الذي عرفته التشريعات المقارنة، أدخل المشرع المغربي مجموعة من التعديلات على قوانينه تسمح باللجوء الى التحكيم لتسوية المنازعات الناتجة من هذه العقود، بعـد أن كـان محظوراً على الدولة أو أحد أشخاص القانون العام اللجوء إليه، وذلك بمقتضى الفصل 306 مـن قانون المسطرة المدنية قبل تعديله.

   وفي هذا الإطار، فقد صدر قانون تحت عدد 05-08 تعدل بمقتضاه المقتضيات القانونيـة المنظمة للتحكيم الواردة في قانون المسطرة المدنية.

   ومن خلال قراءة محتويات هذا القانون نلاحظ أن المشرع المغربي رفع الحظر الذي كـان مفروضاً على الدولة أو أحد أشخاص القانون العام من اللجوء إلى التحكيم الداخلي، إلا أنـه لـم يتخذ الموقف نفسه بالنسبة للتحكيم الدولي (المطلب الأول)، لنتساءل عن أساس لجوء الدولة الـى التحكيم الدولي في العقود الإدارية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الاطار القانوني للتحكيم في العقود الإدارية:

    نظم المشرع المغربي من خلال قانون رقم 05-08 التحكيم بصفة عامة، كما نظم التحك في العقود الإدارية.

    وقبل التطرق الى التحكيم الدولي في العقود الإدارية، نرى من الضروري التطـرق الـى التحكيم الداخلي في هذا النوع من العقود، (الفقرة الأولى)، ثم نتطرق في فقرة ثانية الى موقـف المشرع المغربي من التحكيم الدولي في العقود الادارية.

الفقرة الأولى: التحكيم الداخلي في العقود الإدارية:

   إذا كان قانون المسطرة المدنية قبل التعديل يمنع التحكيم في النزاعات المتعلقـة بعقـود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام، فإن التعديل الأخير أجاز التحكيم الداخلي في العقـود الإدارية بمقتضى مجموعة من الفصول، نورد من بينها الفصل 310 الذي جاء فيه ما يلي:

   "لا يجوز أن تكون محل تحكيم النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة أو الجماعـات المحلية أو غيرها من الهيئات المتمتعة باختصاصات السلطة العمومية.

    غير أن النزاعات المالية الناتجة منها، يمكن أن تكون محل عقد تحكيم مـا عـدا المتعلقـة بتطبيق قانون جبائي.

    بالرغم من أحكام الفقرة الثانية من الفصل 317 أدناه، يمكن أن تكون النزاعـات المتعلقـة بالعقود التي تبرمها الدولة أو الجماعات المحلية محل اتفاق تحكيم في دائرة التقيـد بالمقتضيات الخاصة بالمراقبة أو الوصاية المنصوص عليهما في النصوص التشريعية أو التنظيمية الجـاري بها العمل في ما يخص العقود المعنية.

   يرجع اختصاص النظر في طلب تذييل الحكم التحكيمي الصادر في نطاق هذا الفصل إلـى المحكمة الإدارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الإداريـة بالربـاط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني".

   وإذا كان هذا الفصل أجاز التحكيم في العقود التي تكون الدولة أو الجماعات المحلية طرفـاً فيها، فإن الفصل الموالي أجاز التحكيم في العقود التي تبرمها المؤسسات العامة التابعة للدولة، إذ جاء في الفقرة الثانية من الفصل 311 من ذات القانون ما يلي:

   "رغماً من مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 317 بعده، يجوز للمؤسسات العامـة إبـرام عقود تحكيم وفق الإجراءات والشروط المحددة من لدن مجـالس إدارتهـا، وتكـون الاتفاقـات المتضمنة شروط تحكيم محل مداولة خاصة يجريها مجلس الإدارة".

   واذا كان المشرع المغربي قد أجاز التحكيم الداخلي في العقود التي تكون الدولـة أو أحـد مؤسساتها العمومية طرفا فيها بمقتضى نصوص قانونية صريحة، فإن التساؤل يطرح، في ظـل غياب نص قانوني، حول جواز التحكيم الدولي في العقود التي تكون الدولـة أو أحـد أشـخاص القانون العام طرفا فيها.

الفقرة الثانية: التحكيم في العقود الإدارية الدولية:

   على خلاف الأمر بالنسبة للعقود الإدارية الداخلية التي نص المشرع المغربي صراحة على إمكانية تسوية المنازعات الناتجة منها عن طريق التحكيم، فإنه لم ينص على هذه الامكانية عندما نظم التحكيم الدولي، وهو الموقف نفسه لبعض التشريعات المقارنة.

أولاً- التحكيم في العقود الادارية الدولية في المغرب:

   لم ينظم المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية التحكيم في العقود الإداريـة الدوليـة، غير أنه وفي ظل عولمة الاقتصاد وانتشار المعاملات التجارية والاستثمارات الأجنبية، سبق وأن أجاز التحكيم الدولي في العقود التي تكون الدولة طرفاً فيها، وذلك بواسـطة مجموعـة مـن النصوص القانونية الخاصة.

    ويعتبر أول نص تشريعي صدر ليحد من نطاق مبدأ منع تحكيم الدولة والمؤسسات العمومية الأخرى هو الفصل 39 من ظهير 21 يوليو 1958 المتعلق بالتنقيب عن المحروقات واستغلالها، والذي ينص على أن العقود المبرمة بين الدولة من جهة، والشركات النفطية الأجنبية مـن جهـة أخرى، يمكنها أن تتضمن شروطاً تحكيمية.

    الى جانب هذا النص هناك الفصل 39 من ظهير 17 يناير 1983 حـول الاستثمارات الصناعية الذي ينص على ما يلي:

   "تطبق الاتفاقات الآتي بيانها على النزاعات بين المستثمرين والإدارة وفق الشروط، وحسب الحالات المحددة فيها:

   - الاتفاقات المتعلقة بحماية الاستثمارات المبرمة بين المملكة المغربية والدولة التي ينتم إليها المستثمر،

   - الاتفاق المتعلق بالهيئة العربية لضمان الاستثمارات وملحقه المتعلق بتـسوية النزاعـات المصادق عليهما بتاريخ 30 غشت 1975،

   - اتفاقية تسوية النزاعات المتعلقة بالاستثمارات بين دول ورعايا دول أخـرى المـصـادق عليها بتاريخ 31 أكتوبر 1966".

    بالإضافة إلى أن بعض القروض التي استفاد منها المغرب من البنوك العالمية في الـسنوات الأخيرة قد تمت بموجب عقود تتضمن شروطاً تحكيمية.

    وفي سنة 1995، أصدر المشرع المغربـي قـانون إطـار بمثابـة ميثـاق الاستثمار، تضمن مجموعـة مـن التـدابير والإجـراءات القانونيـة تهـدف إلـى حمايـة وتـشجيع الاستثمار.

    وقد منح هذا القانون المغرب إمكانية اللجوء الى التحكيم لتسوية المنازعـات الناتجـة مـن العقود المبرمة مع المستثمر الأجنبي، وفقاً للاتفاقيات التي صادق عليها المغرب، اذ جـاء فـى الفقرة الأخيرة من المادة 17 ما يلي:

    "يمكن أن تتضمن العقود المشار اليها أعلاه بنوداً تقضي بفض كل نزاع قد ينشأ بين الدولـة المغربية والمستثمر الأجنبي بخصوص الاستثمار، وفقاً للاتفاقيات الدولية التـي صـادق عليهـا المغرب في ميدان التحكيم الدولي".

   إن هذه النصوص وغيرها تؤكد لا محالة، إمكانية اعتماد اللجـوء إلـى التحكـيم كوسيلة لتسوية النزاعات التي قد تنشأ بين الدولة المغربية والمتعاقد الأجنبي فـي مجـال الاستثمارات الأجنبية.

    ويعتبر القرار الصادر أخيراً عن محكمة النقض نقطة تحول كبرى في مادة التحكيم الدولي، خاصة في قابلية العقود المبرمة بين الدولة أو أحد أشخاص القانون العام من جهة، ومـن جهـة أخرى أشخاص أجنبية للتحكيم.

   إذ أن هذا القرار سمح، بطريقة ضمنية، للدولة باللجوء إلى التحكيم الدولي في العقود التـى تبرمها مع أشخاص أجنبية، خاصة تلك المتعلقة بالصفقات العمومية.

ثانياً- التحكيم في العقود الإدارية الدولية في فرنسا:

   إن المبدأ العام في التشريع الفرنسي هو منع اللجوء إلى التحكيم الداخلي في العقود الإدارية، وذلك على أساس المادتين 2060 و 2061 من القانون المدني، وهو الموقف نفسه الذي كـان يتبناه القضاء الفرنسي خاصة مجلس الدولة.

    إلا أن موقف القضاء الفرنسي بدأ يتغير نحو إمكانية لجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيم في العقود الدولية، فقد اعتبرت محكمة الاستئناف بباريس في القرار الصادر عنها بتاريخ 10 أبريل 1957، إن المنع المفروض على أشخاص القانون العام من اللجـوء إلـى التحكـيم الداخلي لا يمكن التمسك به في المنازعات المتعلقة بتطبيق اتفاقات القانون المـدني ذات الطـابع الدولي، وبالتالي فإن الدولة الفرنسية ومؤسساتها العمومية لا يجوز لها الدفع بـالمنع الـوارد ف القانون الداخلي الفرنسي، مادام أن الأمر يتعلق بتطبيق اتفاقية دولية تجيز لأشخاص القانون العام اللجوء إلى التحكيم.

    والموقف نفسه تبنته الغرفة المدنية الأولى لمحكمة النقض في القرار الصادر عنهـا بتـاريخ 2 ماي 1966 في القضية المعروفة بقضية غلاكيس Galakis، إذ كرست مبدأ جواز لجـوء أشـخاص القانون العام إلى التحكيم في العقود الدولية بشكل أساسي، حيث اعتمدت على قاعدة مادية، ذات أبعـاد مهمة، مفادها أن القيود والموانع المنصوص عليها في القوانين الداخلية لدولة معينة لا تطبق في المجال الدولي، أي أن المنع من التحكيم الداخلي يرتبط بالنظام العام الوطني ولا يتعلق بالنظام العام الدولي.

   وعلى خلاف موقف القضاء العادي، فإن القضاء الإداري تبنى موقفاً متشدداً في مسألة أهليـة الدولة والمؤسسات العمومية التابعة لها في اللجوء إلى التحكيم، سواء كان تحكيماً داخلياً أم دولياً، وظهر هذا التشدد بتاريخ 6 مارس 1986، وذلك بمناسبة الطلب الذي تقدمت به الحكومة الفرنسية إلى مجلس الدولة لإبداء رأيه في مدى إمكانية إدراج شرط تحكيم في العقد المراد إبرامه بينها وبين الشركة الأمريكيـة Walt Disney Productions (القضية معروفـة اختـصاراً بقـضية Eurodisneyland)، حيث قررت الجمعية العمومية لمجلـس الدولـة الفرنسي أن المبـادئ الأساسية للقانون العام الفرنسي، وكذا الفقرة الأولى من المادة 2060 من القانون المـدني، تمنـع أشخاص القانون العام من اللجوء إلى التحكيم في المنازعات التي تكون طرفاً فيها، ما لـم تـكـن هناك نصوص تشريعية خاصة تسمح بذلك، أو اتفاقيات دولية مندمجة في النظام القانوني الوطني.

وقد جاء في رأي مجلس الدولة الفرنسي ما يلي:

 «  -  Les principes généraux de droit public français, confirmés par les dispositions du premier alinéa de l'article 2060 du code civil interdisant l'arbitrage aux personnes morales de droit public pour les litiges auxquels elles sont parties se rattachant à des rapports relevant de l'ordre interne, de telle sorte que tout compromis ou toute clause compromissoire est attente en pareil cas d'une nullité d'ordre public sauf dispositions législatives expresses et, le cas échéant, de conventions internationales incorporées dans l'ordre juridique interne ...

   - Ces principes rappelés, le conseil d'Etat considérait que le contrat envisagé entre différentes personnes de droit public français et la société Walt Disney Productions sur l'aménagement d'un parc de loisirs à Marne-la-vallée, relevait de l'ordre juridique interne français et n'entrait dans les champs d'aucune disposition législative autorisant exceptionnellement le recours à la clause compromissoire. Il soulignait que ce contrat ne relève pas des principes applicables en matière de commerce international et que la convention de Washington qui se borne à organiser les modalités de règlement que les parties ont décidé de soumettre au « Centre International pour le règlement des différends relatifs aux investissements » n'emporte aucune conséquence quant à la possibilité de compromettre d'une personne publique française.

    - De ce qui précède le conseil d'Etat concluait que le projet de contrat considéré ne pouvait valablement contenir une clause compromissoire qui serait entachée d'une nullité d'ordre ,même dans l'hypothèse où il serait prévu que la sentence arbitrale serait susceptible d'appel, qui est ouvert de plein droit et ne peut être écarté que d'une disposition législative expresse».

   لكن على الرغم من هذا التشدد، فإن مجلس الدولة الفرنسي تبنى مبـدأ مهمـاً فـي التحكـيم التجاري الدولي، مفاده أن المعاهدات والاتفاقيات الدولية يمكن أن تشكل استثناء عـن مبـدأ منـع التحكيم في العقود الإدارية، كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية واشنطن لتسوية منازعـات الاستثمار، وبالتالي فإن الدولة الفرنسية لا يمكنها التذرع بانعدام أهليتها للإفلات من مبدأ المنع الـذي كرســته المادة 2060 من القانون المدني، ليصبح بالتالي التحكيم جائزاً في العقود التي تبرمهـا الدولـة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات المحلية مع شركات أجنبية بغية تنفيذ مشاريع استثمارية.

    وسنة 2007 تم تكوين لجنة عمل حول التحكيم برئاسـة Daniel LABETOUL، وقـد اقترحت هذه اللجنة في التوصيات المتمخضة عنها توسيع المجالات التي يسمح فيهـا لأشـخاص القانون العام باللجوء إلى التحكيم في الميدان التعاقدي (باستثناء العقود المتعلقة بكراء الخـدمات contrats de louage de services) وكذا وضع قانون عام للتحكيم الذي يكون فيـه القاض الاداري هو الضامن.

     ورغم أن الفقه والقضاء، وكذا اقتراحات لجنة العمل السالفة الذكر أجمعـت علـى جـواز التحكيم في العقود الدولية التي تكون الدولة الفرنسية أو أحد مؤسساتها العامة طرفاً فيهـا، فـإن المشرع الفرنسي لم ينص على جواز لجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيم الـدولي، وذلك بمناسبة إدخاله التعديلات الأخيرة على النصوص القانونية المنظمة للتحكيم .

ثالثاً- التحكيم في العقود الادارية الدولية في مصر:

   إن المشرع المصري كان بدوره يمنع التحكيم في العقود الادارية إلى أن أضيفت فقرة ثانية الى المادة التاسعة من قانون رقم 27 لسنة 1994، والتي جاء فيها ما يلي: 

    "مع عدم الاخلال بأحكام الاتفاقات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية تـسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أياً تكن طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع، اذا كان هذا التحكيم يجـري فـي مصر، أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجري في الخارج واتفق الأطراف على إخضاعه لأحكام هذا القانون.

   وبالنسبة إلى منازعات العقود الادارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المخـتص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجـوز التفويض فـي ذلك".

   واذا كان التشريع المغربي ومعه بعض التشريعات المقارنة لم تنظم التحكـيم فـي العقـود الادارية الدولية، فإن بعض التشريعات نصت صراحة على امكانية لجوء الدولة إلـى التحكـيم الدولي، ومن بينها نجد التشريع اللبناني، اذ جاء في المادة 809 من قانون أصـول المحاكمـات المدنية ما يلي:

    "يعتبر دولياً التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية. يحق للدولة ولسائر الأشخاص المعنويين العامين اللجوء إلى التحكيم الدولي".

    بالاضافة الى القوانين والتشريعات الخاصة التي تمنح الدولة امكانية اللجوء الـى التحكـيم لتسوية المنازعات الناتجة من تنفيذ العقود الادارية الدولية، فإن المغرب صادق على مجموعـة من الاتفاقيات الدولية، كما أبرم اتفاقيات ثنائية تنص على تسوية المنازعات الناتجة مـن العقـود الادارية الدولية عن طريق التحكيم.

المطلب الثاني: الاطار الاتفاقي للتحكيم الدولي في العقود الإدارية:

    لم ينظم المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية التحكيم في العقود الادارية الدولية، لكن في المقابل سمح للدولة أو أحد أشخاص القانون العام في بعض النصوص القانونيـة الخاصـة باللجوء إلى التحكيم الدولي، كما أن هذا النوع من التحكيم يجد أساسه في مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب.

    وهكذا فقد أدى انفتاح السوق الوطنية على التجارة الدولية إلى إبرام مجموعة من الاتفاقيات الدولية التي تهدف إلى تشجيع وحماية الاستثمار الأجنبي، وقد تضمنت هذه الاتفاقيات بنوداً تتعلق بكيفية تسوية المنازعات الناشئة عن عقود الاستثمار المبرمة بين الدولة المستضيفة والمـستثمر الأجنبي، والذي يعتبر التحكيم أحد هذه الوسائل.

    واذا كانت الاتفاقيات الدولية لا تنظم قواعد التحكيم وأحكامه، وإنمـا تهـدف الـى حمايـة وتشجيع الاستثمار الأجنبي في المغرب، فإنها تنص على أن العقود التي يمكـن أن تبـرم فـي إطارها، بين الدولة المغربية والمستثمر الأجنبي، يمكن أن تحسم عن طريق التحكـيم. وبمـا أن الاتفاقيات الدولية تتمتع بقوة الزامية وتسمو على النصوص القانونية الداخلية، فـإن المقتـضيات الخاصة بالتحكيم الواردة في هذه الاتفاقيات ترجح على مقتضيات قانون المسطرة المدنية.

    وإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية الدولية المتعلقة بالاستثمار، صادق المغرب علـى مجموعـة من المعاهدات الدولية المتعددة الأطراف المتعلقة بالتحكيم، والتي يمكـن أن نـذكـر مـن بينهـا ما يلي: .

   - اتفاقية واشنطن الموقعة بتاريخ 18 مارس 1965 المتعلقة بتسوية منازعات الاستثمار بين دولة ورعايا دولة أخرى، والذي أنشئ بمقتضاها المركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار والمسمى اختصارا (CIRDI).

   - معاهدة الكويت الموقعة بتاريخ 27 ماي 1971 والمنـشئة للمنظمـة العربيـة لـضمان الاستثمار،

   وبمصادقة المغرب على هذه الاتفاقيات وغيرها من المعاهدات يكون قد عبر بمـا لا يـدع مجالاً للشك عن إرادته القوية في السماح للدولة أو أحد أشخاص القانون العـام بـاللجوء الـى مسطرة التحكيم، لتسوية المنازعات الناتجة من تنفيذ وتطبيق العقود الادارية الدولية بما فيها عقود الاستثمار.

    وباستقراء هذه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية يتبين أنها تتضمن بنوداً تنظم كيفيـة تـسـوية المنازعات الناتجة من عقود الاستثمار المبرمة في إطارها، إلا أن صياغة هذه البنود تختلف من اتفاقية إلى أخرى.

   بعض الاتفاقيات يشترط اللجوء إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، واتفاقيـات أخرى تشترط اللجوء الى هيئة تحكيم حرة مشكلة وفقاً لقواعد اليونسترال، وأخرى تشترط اللجوء الى محكمة الاستثمار المحددة وفقاً للاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الـدول العربية لسنة 1980.

   وغالباً ما يلجأ المستثمر الأجنبي عند المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقتـه نتيجـة أعمال وتصرفات الدولة إلى إثارة مسؤوليتها في الحالات الثلاث:

    1- عند مخالفة الدولة البنود الواردة في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها (المسؤولية الدولية للدولة)،

    2- وإما عند مخالفتها بنود العقد الذي تكون طرفا فيه، والذي بمقتضاه يتم تحقيق الاستثمار (المسؤولية العقدية للدولة)،

    3- وإما عند مخالفتها في الوقت نفسه كلاً من الاتفاقية الدولية والعقد المبرم مع المستثمر الأجنبي.

    ويختلف موقع الدولة في هذه الحالات، بين اعتبارها شخصاً من أشخاص القـانـون الـدولي عندما تثار مسؤوليتها الدولية، اذ يعود الاختصاص والحالة هاته إلى هيئـات التحكـيم، وبـين اعتبارها طرفاً في العقد، وفي هذه الحالة تثار مسؤوليتها العقدية، وينعقد الاختصاص فـي هـذه الحالة للقضاء الوطني ما لم يتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم الدولي.

   ويثير شرط التحكيم الوارد في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتشجيع وحماية الاستثمار (شـرط الاتفاقية)  مجموعة من الاشكالات، خاصة تلك المتعلقة بعلاقته ومدى ارتباطه بـشرط إســاد الاختصاص المضمن في العقود الادارية الدولية التي بمقتضاها تحقق الاستثمار (شرط العقد)، وذلك في الحالة التي يتقدم فيها المستثمر الأجنبي بطلب التحكيم أمام محاكم التحكيم الدولية عنـد مخالفة الدولة بنود العقد، بناء على اتفاق التحكيم الوارد في الاتفاقية الدولية.

   إن البحث عن هذه العلاقة والارتباط، يفرض الاجابة عن بعض التساؤلات المتعلقة بمـدى امكانية لجوء المستثمر الأجنبي إلى التحكيم الدولي، اعتماداً على الشرط الـوارد ف اتفاقيـة الاستثمار المبرمة بين الدولة المستضيفة والدولة التي ينتمي إليها، رغم وجود شرط فـي العقـد المبرم بين هذا المستثمر وبين الدولة المستضيفة ينص على اسناد الاختصاص في حالـة وجـود نزاع إلى المحاكم الوطنية، ورغم عدم تنصيص العقد على شرط التحكيم بمفهومه التقليدي، وذلك عند آثارة المسؤولية العقدية للدولة.

    وبعبارة أخرى مدى إمكانية اعتماد شرط التحكيم المضمن في الاتفاقيـة الدوليـة المتعلقـة بالاستثمار، المبرمة بين الدولة المستضيفة له ودولة أخرى، لعرض النزاع الناتج من تنفيذ العقـد المبرم بين الدولة الأولى ورعايا الدولة الثانية، والذي بمقتضاه تم تحقيق الاستثمار، أمـام هيئـة التحكيم الدولي، وهل يمكن اعتبار هذه الأخيرة عند عرض النزاع عليها هي المختصة اعتمـاداً فقط على الشرط المضمن في اتفاقية الاستثمار، رغم أن الأمر يتعلق بالمسؤولية العقدية للدولة؟

    وكما سبق، فإن اختصاص النظر في المنازعات الناتجة من تنفيـذ العقـود الإداريـة فـي التشريعات التي تأخذ بازدواجية النظام القضائي إلى القضاء الإداري، وهو الأمر نفسه بالنـسبة للتشريع المغربي، وذلك وفقاً لمقتضيات القانون رقم 41-90 المتعلق بإحداث المحاكم الادارية.

   غير أنه اذا كان المتعاقد مع الدولة مستثمراً أجنبياً، وعملية الاستثمار محمية بمقتضى اتفاقية استثمار مبرمة بين هذه الدولة وبين الدولة التي ينتمي إليها المستثمر الأجنبي، وكان العقد يتضمن شرط إسناد الاختصاص الى المحاكم الوطنية، فإن التساؤل يطرح، في حالة البحث عن المسؤولية العقدية للدولة، عن أساس لجوء المستثمر الأجنبي إلى التحكيم؟

    ومن الناحية العملية، غالباً ما يلجأ المستثمر الأجنبي إلى تحكيم المركـز الـدولي لتـسـوية منازعات الاستثمار بواشنطن (CIRDI) في مواجهة الدول المستضيفة للاستثمار، عنـد إثـارة مسؤوليتها العقدية، بناء على شرط التحكيم الوارد في اتفاقيات الاستثمار، رغم أن العقد يتـضمن شرط اسناد الاختصاص لهيئة قضائية وطنية أو هيئة تحكيمية أخرى غير المركز المذكور، الأمر الذي يدفع بهذه الدول إلى الدفع بعدم اختصاص المركز لوجود شرط اسناد الاختصاص الـوارد في العقد .

   وقد صدرت بهذا الخصوص مجموعة من القرارات التحكيمية عن المركز الـدولي لتـسوية منازعات الاستثمار، التي اعتبرت أن شرط التحكيم الوارد في اتفاقية الاستثمار يعتبر بمثابة طلـب التحكيم (demande d'arbitrage)، وبالتالي فإن الأساس الذي اعتمده المـستثمر الأجنبـي فـي اللجوء إلى المركز المذكور للبحث في المسؤولية العقدية للدولة، يعتبر وفقاً لهذه القرارات التحكيمية صحيحاً، رغم وجود شرط في العقد محل الخلاف يسند الاختصاص لغير المركز المذكور.

   ونذكر من بين هذه القرارات القرار التحكيمي الصادر عن المركز المذكور في النزاع الذي كان قائما بين الدولة المغربية (الشركة الوطنية للطرق السيارة بـالمغرب) والـشركة الايطاليـة كونسورتيوم .

   ويتعلق موضوع القضية التي صدر فيها القرار التحكيمي بعقد الصفقة العمومية رقم 95/19 المبرمة بتاريخ 19 ماي 1995 بين الدولة المغربية (الشركة الوطنية للطرق السيارة بـالمغرب) وشركة كونسورتيوم من أجل إنجاز جزء من الطريق السيار الرابط بين فاس والربـاط (محـور شرق مكناس - فاس).

   لكن، ونظراً الى بعض المشاكل التي عرفها تنفيذ الـصفقة العموميـة، تقـدمت الشركة الايطالية بتاريخ 6 يونيو 2000 أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (CIRDI) بطلب تحكيم في مواجهة الدولة المغربية، تطالب فيه الحكم لها بمجموعة من المبالغ الماليـة نتيجـة الأضرار التي لحقتها لعدم تنفيذ الدولة إلتزاماتها المنصوص عليها في عقد الصفقة العمومية.

    ورغم أن الموضوع يتعلق بنزاع حول عقد صفقة عمومية، فإن الشركة الايطالية لجأت إلى تحكيم المركز الدولي بواشنطن، مؤسسة طلبها على مقتضيات المادة الثامنة من اتفاقية الاستثمار المبرمة بين المغرب وإيطاليا، التي تمنح المستثمر الأجنبي إمكانية الاختيار بين اللجـوء إلـى المحاكم المغربية أو اللجوء إلى التحكيم، وفقاً لقواعد قانون اليونسترال أو المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بواشنطن، وقد جاء في هذه المادة ما يلي:

   "1- كل أنواع المنازعات أو الخلافات، بما في ذلك المنازعات المتعلقة بمبلـغ التعـويض الواجب أداؤه عن نزع الملكية أو التأميم أو الاجراءات المماثلة، التي تنشأ بـيـن أحـد الطرفين المتعاقدين ومستثمر عن الطرف المتعاقد الآخر في ما يتعلق باستثمار خاص بالمستثمر المذكور فوق إقليم الطرف المتعاقد الأول، تـتـم تـسويتها قـدر الإمكـان بالتراضي،

    2- إذا لم تتم تسوية مثل هذه المنازعات بالتراضي في غضون ستة شهور من تاريخ طلب التسوية، يمكن المستثمر المعني أن يعرض النزاع على:

      أ - المحكمة المختصة للطرف المتعاقد المعني بالأمر،

     ب- محكمة تحكيم لهذا الغرض، وفقاً لنظام التحكيم للجنة الأمـم المتحـدة للقـانون التجاري الدولي،

ج- المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار من أجل تطبيق إجـراءات التحكـيم المنصوص عليها في اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الـدول ومـواطني الدول الأخرى الموقع عليها في واشنطن بتاريخ 18 مارس 1965...".

    وبتاريخ 17 يوليو 2000 تقدمت الدولة المغربية بمذكرة جوابية أثارت فيها عدم اختصاص المركز لبت النزاع القائم بين الطرفين على أساس أن الشركة المدعيـة بنـت ادعاءهـا علـى المسؤولية العقدية للدولة لمخالفة هذه الأخيرة بنود عقد الصفقة المبرم بينهمـا، وأن هـذا العقـد يتضمن شرط اسناد الاختصاص إلى المحـاكم الإداريـة المغربيـة Clause attributive de) (compétence وأن المادة الثامنة المعتمدة أساساً لإثارة مسؤولية الدولة تتعلق بمخالفة مقتضيات اتفاقية الاستثمار، وأن الشركة المدعية عندما قبلت شرط اسناد الاختصاص إلى المحاكم الوطنيـة الوارد في العقد المبرم بينها وبين الدولة المغربية تكون قد تنازلت عن حقها فـي اللجـوء إلـى المركز.

   وبعد تبادل المذكرات أصدرت هيئة التحكيم بتاريخ 16 يوليو 2001 قـراراً تحكيميـاً فـي الاختصاص قضت فيه باختصاصها لبت موضوع النزاع، وقد عللت قرارها بكون الفقرة الأولى من المادة 25 من اتفاقية واشنطن19 تقضي بأن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية تعبر كتابة عـن قبولها اختصاص المركز، وأن تعبير الدولة عن هذا القبول يكون إما في عقد استثمار مبرم بينهـا وبين المستثمر أو في تشريع داخلي (نص قانوني أو قانون خاص بالاستثمار) أو فـي القـانـون الدولي كالشرط المضمن في اتفاقية ثنائية أو جماعية.

   كما أضافت هيئة التحكيم أن المادة 8 من اتفاقية الاستثمار المبرمة بين المغرب وايطاليـا، والتي تنظم كيفية تسوية المنازعات الناتجة من عمليات الاستثمار، تمنح الشركة المدعيـة حـق اختيار الجهة التي يعرض أمامها النزاع، وهي إما المحاكم الوطنية أو محكمة تحكيم يتم إحـداثها لهذه الغاية، وإما الالتجاء إلى تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وأن تقديم طلـب التحكيم أمام المركز من قبل الشركة الايطالية يعد تعبيرا عن قبولها اللجوء إلـى هـذا المركـز لتسوية النزاع الناشئ بينها وبين الدولة المغربية.

وقد جاء في قرار التحكيم الصادر في الاختصاص (الفقرة 31) ما يلي:

  En général, la compétence juridictionnelle du CIRDI réside dans le consentement des parties au différend, à savoir un Etat contractant et le ressortissant d'un autre Etat contractant.

Au sujet des conditions formelles de validité de la manifestation de ce consentement, l'article 25.1 de la convention de Washington... ne prévoit qu'une seule condition: que le consentement soit donné par écrit. Quand au moment auquel le consentement doit être manifesté, on peut déduire de la convention qu'il doit exister avant le dépôt d'une requête en conciliation ou arbitrage puisque cette requête doit, pour être susceptible d'enregistrement, préciser la date et la nature des documents relatifs au consentement des parties...

 Le consentement auquel se réfère l'article 25.1 de la convention peut avoir trois sources : une clause contenue dans un contrat conclu entre l'Etat et l'investisseur; le droit interne, soit habituellement un code ou une loi sur les investissements; ou le droit international, au moyen d'une clause contenue dans un accord bilatéral ou multilatéral...

 En résumé, l'article 8 alinéa 2 lettre c constitue l'engagement unilatéral d'un Etat vis-à-vis de l'Etat national de l'investisseur de se soumettre au CIRDI comme partie défenderesse face à l'investisseur étranger qui en aura choisi la saisine.

Au vu de ces considérations, la notification d'une requête d'arbitrage au CIRDI par le demandeur constitue une manifestation valable de son consentement à la juridiction du Centre, parmi celles proposées par l'article 8 de l'accord... »>.

    وقد اعتبرت محكمة التحكيم أن الشركة الايطالية غير ملزمة باستنفاذ كافة طـرق الطعـن الداخلية، وأن شرط اسناد الاختصاص الى المحاكم الادارية المغربية المضمن في عقد الاستثمار لا يمكن اعتباره تنازلاً من الأطراف عن الخيارات التي تتضمنها اتفاقية الاستثمار، وأن قبـول المغرب اختصاص المركز يحظى بالأسبقية حتى في حالة رفع دعوى أمام القضاء الوطني .

   مما سبق يتضح أن هيئـة التحكـيم التابعـة للمركـز الـدولي لتـسوية منازعـات الاستثمار اعتبرت نفسها هي المختصة ببت النزاع بناء على مقتضيات الفقرة الأولـى مـن المادة 25 من اتفاقية واشنطن، اذ اعتبرت أن موافقة الشركة الايطالية على اللجوء إلى تحكيم المركز، كان بناء على ما جاء في المادة 8 من اتفاقية الاستثمار المبرمـة بـين المغـرب وايطاليا.

   وإذا كانت المادة 8 المشار إليها أعلاه تمنح المستثمر الأجنبـي الخيـار بـين اللجـوء إلى المحاكم الوطنية أو اللجوء إلى المركز الـدولي لتسوية منازعـات الاستثمار، فـإن قبول الشركة الايطالية في عقد الاستثمار إختصاص المحكمة الإدارية بالرباط هو في حد ذاته إعمالا لهذا الخيار، وبالتالي لا يجوز لها الرجوع عنه، وأن ما ذهبت إليه محكمة التحكيم فـي هذه النازلة لا يتعلق بشرط استنفاذ سبل التقاضي الداخلية، وإنمـا يتعلـق باتفـاق الأطـراف بإرادتهما المشتركة على الجهة التي سيتم اللجوء إليها لفض المنازعـات التـي تنـشـأ عـن الاستثمار.

    والتفرقة بين اختصاص المحاكم الوطنية واختـصاص محكمـة التحكـيـم يـرتبط أساسـاً بموضوع الطلب وليس بطبيعة النقاط المثارة، فإذا كان موضوع الطلب يتعلق بالمسؤولية الدولية للدولة في حالة مخالفتها بنـود الاتفـاق (responsabilité internationale de l'Etat فـان الاختصاص يعود والحالة هاته إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، أمـا إذا تعلّـق موضوع الطلب بمسؤولية الدولة التعاقدية بناء على العقد الـذي علـى أساسـه تـم الاسـتثمار (responsabilité contractuelle de l'Etat) فإنه يتعين احترام شرط اسـناد الاختـصاص المضمن في العقد.

   وإذا كانت العقود الادارية الدولية تثير بعض الاشكالات في ما يتعلق بمدى امكانية تسوية المنازعات الناشئة عنها عن طريق التحكيم، وكذلك أساس اللجوء إلى هذه الوسيلة رغـم وجـود شرط اسناد الاختصاص في عقد الاستثمار، فإن تحديد الجهة القضائية المختصة في التحكيم فـي هذا النوع من العقود يثير بدوره مجموعة من الاشكالات التي سنحاول التعرض لها من خـلال المبحث التالي.

المبحث الثاني: الجهة القضائية المختصة في التحكيم في العقود الادارية الدولية:

    إن اعتبار العقود الادارية الدولية ذات طبيعة خاصة، على اعتبار أن أحد طرفيها هو الدولة والطرف الآخر شخص طبيعي أجنبي خاضع للقانون الخاص، يجعل هذه العقود تتـصف بعـدم التوازن مع وجود طرفين غير متكافئين، إذ أن الدولة تتمتع بالسيادة ولها قواعد وأنظمة خاصـة بها سواء من حيث السلطات المخولة لها أو من حيث الاختصاص.

   ويؤدي عدم التوازن هذا إلى مجموعة من الإشكالات بالنسبة للتـشريعات التـي تأخـذ بازدواجية النظام القضائي ومن بينها المغرب، خاصة تحديد الجهة القضائية المختصة لنظـر الطعون الموجهة ضد قرارات التحكيم الصادرة في المنازعات الناتجة من العقود الادارية الدولية، وكذا طلبات الاعتراف بهذه القرارات ومنحها الصيغة التنفيذية، هل هي القضاء الإداري علـى اعتبار أن الأمر يتعلق بعقد إداري أحد طرفيه شخص معنوي عام، أم القضاء التجـاري علـى اعتبار أن الأمر يتعلق بتحكيم دولي، ويخضع بالتالي لمقتضيات الفصل 46-327 مـن قـانون المسطرة المدنية؟

    إن الاجابة عن هذه التساؤلات يستوجب البحث عن موقف القضاء المغربي والمقارن مـن الجهة القضائية المختصة في التحكيم في العقود الادارية الدولية، هل يكرس أحادية الاختصاص (Unification) على اعتبار أن قانون التحكيم الدولي يتميز بالاستقلالية عن القوانين الداخليـة، ويتمتع بخصائص وآليات قانونية مستقلة عن النظم القانونية الداخليـة، أم يأخـذ بمبـدأ ثنائيـة الاختصاص (Dualité) أم أن الأمر يتطلب البحث عن حلول خاصة وطبيعة هذه العقود؟

    وسنخصص هذا المبحث لدراسة موقف كل من القضاء الفرنسي (المطلب الأول) والقـضاء المغربي (المطلب الثاني) من الجهة القضائية المختصة في أحكام التحكيم الصادرة في منازعات العقود الادارية الدولية.

المطلب الأول: الجهة القضائية المختصة في التحكيم في العقود الادارية الدولية في فرنسا:

   أثار تحديد الجهة القضائية المختصة لممارسة الرقابة على الحكم التحكيمي الصادر في العقود الادارية الدولية في فرنسا نقاشاً حاداً، بين من يعتبر أن القضاء العادي هو المختص طالما أن الأمر يتعلق بقانون التحكيم الدولي المنظم بمقتضى قانون المسطرة المدنية، وبين من يعتبـر أن القـضاء الاداري هو المختص على أساس أن الأمر يتعلق بعقد إداري خاضع للنظام الاداري الفرنسي.

   وقد انقسم القضاء الفرنسي بين موقفين، موقف تبناه كل من مجلس الدولة ومحكمة الخلافات من جهة، وموقف تبنته محكمة النقض من جهة ثانية، إذ اعتبرت الجهـة الأولـى أن القاض المختص لنظر الحكم التحكيمي هو القاضي ذاته المختص لنظر العقد موضوع النـزاع، والـذي صدر بشأنه القرار التحكيمي ، ومن ثمة فإن قانون العقد يمتد إلى الحكم التحكيمي، فـإذا كـان العقد إدارياً فإن الطعن الموجه ضد الحكم التحكيمي هو طعن بالاستئناف الذي يعد مجلس الدولة هو المختص للنظر فيه.

     أما الجهة الثانية ممثلة في محكمة النقض فتأخذ بمبدأ استقلالية قانون التحكيم، أي أن القانون الواجب التطبيق في التحكيم ليس هو بالضرورة القانون المطبق على العقـد موضـوع النـزاع، فالأطراف والمحكمون لهم كامل الحرية في تحديد القاعدة الواجبة التطبيق في التحكيم، وبالتـالي فإن القاضي العادي هو المختص لنظر جميع الطعون الموجهة ضد القرارات التحكيمية الدوليـة، ويمارس بهذا الخصوص رقابة سطحية على مدى احترام هذه القرارات النظام العام الـدولي ولا ينظر القاضي موضوع النزاع.

   وفي ظل تباين موقف القضاء من هذه النقطة صدر أخيراً حكم عن محكمة الخلافات بتاريخ 17 ماي 2010، يزاوج بين موقف كل من مجلس الدولة ومحكمة الخلافات من جهة، وموقف محكمة النقض من جهة ثانية، إذ أخذ بمبدأ ازدواجية الاختصاص في التحكيم في العقود الادارية الدولية، وميز بين حالتين، الأولى عندما يكون الطعن موجهاً ضد حكم تحكيم صادر في فرنسا، يتعلق بنزاع حول تنفيذ أو إنهاء عقد مبرم بين أحد أشخاص القانون العــام الفرنـسـي وشـخص أجنبي ويمس بمصالح التجارة الدولية، إذ أن الاختصاص والحالة هاته ينعقد للقاضي العادي، أما الحالة الثانية فتتعلق بالطعن الموجه ضد حكم تحكيمي صادر في شروط الحالة الأولى نفسها، لكن هذه المرة يتعلق، أي الطعن، برقابة مدى مطابقة الحكم التحكيمي للقواعد الآمرة للقـانون العـام الفرنسي المتعلقة باحتلال الملك العام أو تلك المتعلقة بتنظيم الطلبية العمومية، وكذلك المطبقـة على الصفقات العمومية وعقود الشراكة وعقود تفويض الخدمات العمومية.

   وقد جاء في تعليل قرار محكمة الخلافات ما يلي:

» Considérant que le recours formé contre une sentence arbitrale rendue en France, sur le fondement d'une convention d'arbitrage, dans un litige né de l'exécution ou de la rupture d'un contrat conclu entre une personne morale de droit public français et une personne de droit étranger, exécuté sur le territoire français, mettant en jeu les intérêts du commerce international, fût-il administratif selon les critères du droit interne français, est porté devant la cour d'appel dans le ressort de laquelle la sentence a été rendue, conformément à l'article 1505 du CPC, ce recours ne portant pas atteinte au principe de la séparation des autorités administratives et judiciaires, qu'il en va cependant autrement lorsque le recours, dirigé contre une telle sentence intervenue dans les mêmes conditions, implique le contrôle de la conformité de la sentence aux règles impératives du droit public français relatives à l'occupation du domaine public ou à celles qui régissent la commande publique et applicables aux marchés publics, aux contrats de partenariat et aux contrats de délégation de service public, que, ces contrats relevant d'un régime administratif d'ordre public, le recours contre une sentence arbitrale rendue dans un litige né de l'exécution ou de la rupture d'un tel contrat relève de la compétence du juge administratif.

   إن هذا القرار واجه معارضة شديدة من الفقه الفرنسي، إلى درجة أن الـبعض اعتبـر أن محكمة الخلافات نسفت قانون التحكيم الفرنسي، والبعض الآخر اعتبر أن الحل الذي جاءت به ، بينما اعتبـرت الأسـتاذة Sophie LEMAIRE أن قـرار محكمة الخلافات مفجع وسيء محكمة الخلافات جاء مخيباً للآمال.

   وفي المقابل، اعتبر بعض الفقـه الآخـر 27 أن الحـل الـذي تبنتـه محكمـة الخلافـات يتصف بمجموعة من الامتيازات، فهو يعتمـد علـى ربـط الاختصاص القـضائي بالقـانون المطبق، فعندما يتعلق الأمر بتطبيق القانون الاداري المتعلق بالنظام العام، فإن القاضـي الاداري هو المختص، إذ يعتبر من المنطقي والطبيعي منح القاضي الاداري مهمة بت الطعون المتعلقـة برقابة الحكم التحكيمي لقواعد القانون الإداري، والتي تعتبر مـن المهمـات اليوميـة للقاض الاداري.

   ومن خلال قراءة القرار الأخير يتبين أن محكمة الخلافات تمسكت بالقاعـدة العامـة التـى تمنح الاختصاص للقضاء العادي في الحالة التي يكون فيها الطعن موجهاً ضـد حـكـم تحكيم صادر في فرنسا في نزاع يخص تنفيذ عقد مبرم بين شخص من أشخاص القانون العام الفرنسي وشخص يخضع للقانون الدولي، وهو الحكم التحكيمي المراد تنفيذه فـي الأراضـي الفرنسية والمتعلق بمصالح التجارة الدولية، وإن كان عقداً ادارياً وفقاً لمعايير التشريع الداخلي الفرنسي وذلك وفقا لمقتضيات المادة 1505 من قانون المسطرة المدنية، ليخلص القرار إلى أن الطعـن بالبطلان المنصوص عليه في المادة الأخيرة لا يمس مبدأ التمييز بين القضاء الاداري والقـضاء العادي.

   لكن واستثناء من القاعدة العامة، فإن القاضي الاداري يكون هو المختص عندما يتعلق الأمر بطعن موجه ضد قرار تحكيمي صادر في شروط القرار التحكيمي الأول نفسها، لكن شريطة أن يتعلق الطعن برقابة مدى احترام القرار التحكيمي للقواعد الآمرة للقانون العام الفرنسي المتعلقـة باحتلال الملك العام أو تلك المتعلقة بتنظيم الطلبية العمومية، وكذلك المطبقـة علـى الـصفقات العمومية وعقود الشراكة وعقود تفويض الخدمات العمومية.

    ومن ثم فإن محكمة الخلافات تأخذ بمبدأ التمييز والتفرقة بـيـن القـضاء الاداري والقـضاء العادي في التحكيم الدولي الذي يهم الدولة أو أحد أشخاص القانون العام، وتعتمد في هذا التمييـز على معيار موضوع الرقابة الممارسة ضد الحكم التحكيمي، فإذا كان موضوعها التأكد من مدى مطابقته للقواعد الآمرة للقانون العام الفرنسي، فإن القاضي الاداري هو المختص، وفي غير هذه الحالة، فإن القاضي المدني هو المختص.

   وخلاصة القول أن محكمة الخلافات بفرنسا اعتبرت أن القضاء الاداري هو المختص ف الأحكام التحكيمية الصادرة في العقود الادارية الدولية، كلما توافرت الشروط التالية:

في ما يتعلق بموضوع النزاع:

    حسب القرار الصادر عن محكمة الخلافات فإن القاضي الاداري يكون مختصاً، إذا تعلـق موضوع النزاع بتنفيذ أو انهاء عقد L'execution ou de la rupture d'un contrat، الأمـر الذي يطرح مجموعة من التساؤلات، من بينها الجهة القضائية المختصة لنظر قرار التحكيم عندما يتعلق موضوع النزاع بتكوين عقد، وبصيغة أخـرى، هـل محكمـة الخلافـات اسـتثنت مـن اختصاصات القضاء الاداري النزاعات الناشئة خلال مرحلة تكوين ذات العقد الذي يكون فيه هو المختص في المنازعات المتعلقة بتنفيذه أو إنهائه، وبالتالي يكون القاضي المختص لنظر أحكـام التحكيم الصادرة في المنازعات الناتجة من تنفيذ العقد وانهائه ليس هو القاضي نفسه عندما يتعلق الأمر بنزاع مرتبط بتكوين العقد ذاته؟

بالنسبة لطبيعة العقد:

    بالرجوع دائماً إلى القرار ذاته الصادر عن محكمة الخلافات، فإن القضاء الاداري يكون هو المختص عندما يتعلق الأمر بعقد يرتبط بمصالح التجارة الدولية، ويكون أحد طرفيه شخص مـن أشخاص القانون العام الفرنسي والطرف الآخر شخص أجنبي، ويتم تنفيذه فوق التراب الفرنسي.

    إضافة إلى أن المحكمة المذكورة حددت ثلاثة أنواع من العقود التي يمكن أن تكـون مـن اختصاص القاضي الاداري، وهي عقود الصفقات العمومية وعقود الـشراكة وعقـود تفـويض الخدمات العمومية، الأمر الذي قد يطرح مجموعة من التساؤلات من جملتها ما اذا جاءت هـذه العقود على سبيل الحصر؟

   لقد اختلف الفقه الفرنسي على هذه النقطة، بين من يعتبر أن اللائحة لم تـأت علـى سـبيل الحصر، وبين من يعتبر أن محكمة الخلافات حددت وحصرت اختصاص القاضي الاداري في هذا النوع من العقود التي تم تحديدها وفقاً لموضوعها وللقوانين المطبقة عليها، وذلك تفاديـاً لأي إشكال قد يطرح حول تحديد العقود موضوع اختصاص القاضي الاداري .

بالنسبة للقواعد المطبقة:

   في ما يتعلق بالقواعد المطبقة، فإن محكمة الخلافات اعتبـرت أن القاضـي الاداري هـو المختص عندما يتعلق الطعن برقابة مدى مطابقة واحترام الحكم التحكيمي للقواعد الآمرة للقانون العام الفرنسي، وقد حددتها في صنفين: الأول يتعلق بالقواعد المرتبطة بـاحتلال الملـك العـام، والثاني يتعلق بالقواعد المنظمة للطلبيات العمومية، وكذلك المطبقة علـى الـصفقات العموميـة وعقود الشراكة وعقود تفويض الخدمات العمومية.

   كما أن القواعد المطبقة تثير تساؤلا عن الجهة المخولة تصنيف ما إذا كانت هـذه القواعـ آمرة أم لا؟ هل هي الأطراف عند لجوئهم إلى القضاء، أم القاضي الاداري من تلقاء نفسه؟

أما في ما يتعلق بالحكم التحكيمي:

   وفي الأخير، فإن اختصاص القاضي الاداري ينعقد، حسب الحكم الصادر عـن محكمـة الخلافات، عندما يكون محل الطعن حكم تحكيمي صادر في فرنسا ويراد تنفيذه فيها، أما الأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج أو المراد تنفيذها خارج فرنسا، فإنها تخرج عن اختصاص القضاء الإداري حسب ما يفهم من قرار محكمة الخلافات.

   وإذا كان القرار المذكور قد أحسن تطبيق القانون في شقه الأول عنـدما اعتبـر أن العقـد المتعلق بمصالح التجارة الدولية، حتى وإن كان عقداً ادارياً حسب التشريع الـداخلي الفرنسي، يخضع لاختصاص القضاء العادي وللقواعد العامة المطبقة على القرارات التحكيمية الدولية، فإنه في الوقت نفسه شكل في الشق الثاني، تراجعاً ملحوظاً عندما اعتبر أن العقود الخاضعة للقـانون الاداري الداخلي الفرنسي المتعلقة بالنظام العام تخرج عن اختصاص القضاء العـادي والقواعـد العامة، إذ يعود اختصاص بتها الى المحاكم الادارية التي قد تنظر موضوع النزاع الذي فـصله المحكم في معرض ممارسة رقابتها على القرار التحكيمي.

    إن قرار محكمة الخلافات يعتبر أن العقد المبرم بين شخص من أشخاص القـانون العـام الفرنسي وشخص أجنبي والمتعلق بمصالح التجارة الدولية، سواء كان عقـداً خاضـعاً للقـانون الخاص أو خاضعاً للقانون الاداري، وفقاً للمعايير الداخلية الفرنسية، يخـضع للقواعـد العامـة المنظمة للتحكيم الدولي، ومنها اختصاص محكمة الاستئناف لنظر الطعون المرفوعة ضد القرار التحكيمي، ويستثنى من هذا المقتضى العقود الخاضعة للنظام العام الاداري الفرنسي، والتي تكون من اختصاص القضاء الاداري.

    اذا كانت محكمة الخلافات تبنت مبدأ التمييز بين القضاء الاداري والقـضـاء العـادي فـي التحكيم في العقود الادارية الدولية، فإن المبدأ نفسه تبتاه مجلس الدولة الفرنسي فـي القـرار الصادر عنه أخيراً، الذي أكد من خلاله اختصاص القاضي الاداري كقاضي الاستئناف لنظـر القرارات التحكيمية الدولية الصادرة في فرنسا.

وقد جاء في قرار مجلس الدولة الفرنسي ما يلي:

»  Considérant, d'une part, que les marchés publics sont au nombre des contrats qui relèvent d'un régime public ; que, dans l'hypothèse où le litige né de l'exécution ou de la rupture d'un tel contrat, conclu entre une personne morale de droit public française et une personne de droit étranger, est soumis à l'arbitrage et donne lieu à une sentence arbitrale rendue en France, le recours dirigé contre cette sentence, qui implique le contrôle de sa conformité aux règles du droit public français auxquelles sont nécessairement soumis de tels contrats, relève du juge administratif et est porté devant le conseil d'Etat en application de l'article L. 321-2 du Code de justice administrative; que, dans le cas où la sentence arbitrale a été rendue par une juridiction siégeant à l'étranger, la juridiction administrative française est en revanche incompétente pour connaître d'un recours dirigé contre cette sentence.

Considérant, d'une part, que, quel que soit le siège de la juridiction arbitrale qui a statué sur un litige né d'un tel contrat, le juge administratif est toujours compétent pour connaître d'une demande tendant à l'exequatur de la sentence, dont l'exécution forcée ne saurait être autorisée si elle est contraire à l'ordre public ; qu'une telle demande relève en premier ressort du tribunal administratif en application de l'article L. 311-1 du code de justice.

   ومن خلال الاطلاع على هذا القرار يتبين ما يلي:

    أولاً- إن هذا القرار يعتبر امتداداً للقرار الصادر عن محكمة الخلافات، اذ يكرس القاعـدة التي تنص على اختصاص القاضي الاداري لبت القرارات التحكيمية الدولية الصادرة في فرنسا في مادة العقود الادارية والتي ترتبط بمصالح التجارة الدولية وتخضع للقانون الاداري المتعلـق بالنظام العام؛

    ثانياً- إن القرار وضع مبدأ أساسه اختصاص القاضي الاداري لبت طلبات مـنـح الـصيغة لتنفيذية للقرارات التحكيمية، الصادرة في فرنسا أو في الخارج، ما دام أنها منازعات ناتجة مـن عقود تخضع للقانون الاداري المتعلق بالنظام العام .

   إلا أنه، وإذا كانت محكمة الخلافات في قرارها الصادر بتاريخ 17 ماي 2010 قد وضعت مجموعة من الشروط للقول باختصاص القاضي الاداري في التحكيم في العقود الادارية الدولية، والتي يعد من ضمنها ضرورة تنفيذ القرار التحكيمي في الأراضي الفرنسية، فإن القرار الصادر أخيراً عن مجلس الدولة الفرنسي لم يأخذ بهذا الشرط، إذ اعتبر أن القاضي الاداري هو المختص حتى في الحالة التي يراد فيها تنفيذ القرار التحكيمي في الخارج.

    وفي الأخير فإن مجلس الدولة منح الاختصاص للقاضي الاداري بصفته قاضياً للاستئناف، وذلك لبت قانونية وشرعية القرار التحكيمي، رغم أن قرار مجلس الدولة أثار مجموعـة مـن الانتقادات من قبل الفقه الفرنسي، خاصة في النقطة المتعلقة بمـدى امكانيـة اسـتئناف القـرار التحكيمي .

    واذا كان القضاء الفرنسي، محكمة الخلافات ومجلس الدولة، أخذ بمبدأ ازدواجية القضاء في التحكيم في العقود الادارية الدولية، إذ ميز بين القضاء الاداري والقضاء العادي، فـإن التساؤل يطرح كذلك عن موقف القضاء في المغرب من هذا النوع من التحكيم.

المطلب الثاني: الجهة القضائية المختصة في التحكيم في العقود الادارية الدولية في المغرب:

   بالرجوع إلى الاجتهادات القضائية الصادرة عن القضاء المغربي، فإنه لم يعرض أمامه حتى الآن أي نزاع يتعلق بالتحكيم في العقود الادارية الدولية، باستثناء الطلب الذي تقدمت به الشركة الايطالية "ساليني" من أجل منح الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي الصادر عن غرفـة التجـارة الدولية بباريس.

   اذا فالأمر يتعلق بعرض موقف القضاء المغربي من الرقابة الممارسة على قرارات التحكيم الصادرة في الخارج في النزاعات التي تهم الدولة المغربية.

    وسنحاول في هذا المطلب عرض قضية شركة "ساليني" ضد الدولة المغربية، ثـم مـوقـف القضاء المغربي من الجهة القضائية المختصة بمنح الصيغة التنفيذية، هل هو القضاء التجـاري على أساس مبدأ أحادية القضاء في التحكيم الدولي، أم القضاء الاداري على أسـاس أن الأمـر يتعلق بعقد تكون الدولة أحد أطرافه؟

الفقرة الأولى: عرض قضية شركة "ساليني" ضد الدولة المغربية:

    يتعلق الأمر بصفقة عمومية مبرمة بين شركة "ساليني" والدولة المغربيـة (وزارة التجهيـز والنقل) من أجل إنجاز المقطع الطرقي المتوسطي الرابط بين منطقتي الجبهة وأجدير، الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي.

   وأثناء تنفيذ العقد عرف انجاز الأشغال مجموعة من الصعوبات، الأمر الذي أدى إلى نشو نزاع حول تنفيذ العقد الرابط بين الشركة الايطالية والدولة المغربية.

    نتيجة لهذا النزاع تقدمت الشركة المذكورة بطلب تحكيم أمام غرفة التجارة الدولية بباريس قصد بته، وبعد تبادل المذكرات بين الطرفين، وانعقاد عدة جلسات، أصدرت هيئة التحكيم حكمـاً تحكيمياً بتاريخ 05 ديسمبر 2011 قضى على الدولة المغربية بأدائها لفائدة شركة "ساليني" عـدة تعويضات.

الفقرة ة الثانية: موقف القضاء من الجهة القضائية المختصة بمنح الصيغة التنفيذية:

   من أجل تنفيذ الحكم التحكيمي تقـدمت الشركة الايطاليـة بطلـب أمـام الـسيد رئـيسر المحكمة التجارية بالرباط يرمي إلى منح الحكم التحكيمـي الـصيغة التنفيذيـة، وقـد أسـست طلبها على مقتضيات المادة 327-46 من قانون المسطرة المدنية المغربي، الـذي جـاء فيهـا ما يلي:

    "يعترف بالأحكام التحكيمية الدولية في المملكة إذا أثبت وجودها من يتمسك بها، ولم يكن هذا الاعتراف مخالفا للنظام العام الوطني أو الدولي.

   يخول الاعتراف والصيغة التنفيذية لهذه الأحكام في المغرب وفق نفـس الـشروط لـرئيس المحكمة التجارية التي صدرت في دائرتها أو رئيس المحكمة التجارية التابع لها مكان التنفيـذ اذا كان مقر التحكيم في الخارج".

    وقد تقدمت الدولة المغربية بمذكرة جواباً عن هذا الطلب التمست فيها الحكم بعدم اختصاص المحكمة نوعياً للنظر في هذا الطلب، على اعتبار أن الأمر يتعلق بنزاع حـول عقـد الـصفقة العمومية الذي يعتبر عقدا إداريا.

   وبتاريخ 2012/06/18 أصدر السيد رئيس المحكمة التجارية بالرباط36 أمراً قـضى بعـدم الاختصاص النوعي، وقد جاء في تعليل الأمر القضائي ما يلي:

   "حيث إن الحكم التحكيمي موضوع طلب التذييل بالصيغة التنفيذية صدر في إطـار نـزاع ناشئ عن تنفيذ صفقة عمومية تتعلق بانجاز المدار الطرقي المتوسطي.

     وحيث إنه واستناداً إلى الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية، فإنه يرجـع اخـتـصاص النظر في تذييل الحكم التحكيمي الصادر في إطار النزاعات المتعلقة بالعقود التي تبرمها الدولـة إلى المحكمة الادارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الادارية بالرباط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني.

   وحيث لذلك فالطلب الحالي موجه لجهة غير مختصة ويتعين التصريح بذلك".

    وقد كان هذا الحكم موضوع استئناف من قبل الشركة الايطالية أمام محكمة النقض، حيـث أصدرت الغرفة الادارية الأولى بتاريخ 07 مارس 2013 قراراً قضت فيه بتأييد الحكم المستأنف، وإحالة الملف على المحكمة الادارية بالرباط لتبته طبقاً للقانون .

   وقد جاء في تعليل محكمة النقض ما يلي:

   "لكن حيث إن الحكم التحكيمي موضوع طلب التذييل بالصيغة التنفيذية صدر في إطار نزاع ناشئ عن تنفيذ صفقة عمومية جزء منها مرتبط بالضرائب، وأحد طرفيه الدولة المغربية، وأنـه بمقتضى الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية، فإنه يرجع اختصاص النظر في طلب تـذييل الحكم التحكيمي الصادر في نطاق هذا الفصل إلى المحكمة الادارية التـي سـيتم تنفيـذ الحكـم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الادارية عندما يكون الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني، والمحكمة التجارية لما قضت بعدم اختصاصها نوعيا لبت الطلب، تكون قـد صـادفت الصواب بهذه العلة، ويكون حكمها واجب التأييد".

    يتبين من خلال الاطلاع على القرار الصادر عن محكمة النقض أنها منحـت اختـصاص النظر في طلبات الاعتراف ومنح الصيغة التنفيذية للقرارات التحكيمية الصادرة في الخارج فـي العقود الدولية التي تكون الدولة أحد طرفيها إلى القاضي الإداري، واعتمدت فـي ذلـك علـى مقتضيات الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية التي تنظم التحكيم الداخلي.

    ويظهر من الوهلة الأولى أن محكمة النقض ميزت، في ما يتعلق بالرقابة الممارسـة علـى أحكام التحكيم الصادرة في الخارج، بين القاضي الإداري والقاضي التجـاري، فـالأول يكـون مختصاً عندما يتعلق الأمر بحكم تحكيمي صادر في نزاع ناتج من تنفيذ صفقة عموميـة أحـد طرفيه الدولة، وفي غير هذه الحالة فإن الاختصاص ينعقد للقاضي التجاري.

   مما سبق فإن هذا القرار يثير مجموعة من الملاحظات، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

   أولاً- لم يأخذ القرار بعين الاعتبار الصفة الدولية للعقـد الإداري، ولا ارتباطـه بمـصالح التجارة الدولية، وطبق مقتضيات الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية التي تتعلـق بـالتحكيم الداخلي في العقود الادارية،

   ثانياً- محكمة النقض بنت قضاءها على أساس "طبيعة العقد" وليس علـى أسـاس الحكـم التحكيمي الدولي،

   ثالثاً- القرار لم يطبق المقتضيات القانونية المنظمة للتحكيم الدولي المنصوص عليهـا قانون المسطرة المدنية،

   رابعاً- محكمة النقض أخذت في مادة التحكيم الدولي في العقود الاداريـة بمبـدأ الثنائيـة وميزت بين القضاء الاداري والقضاء العادي.

   ولذلك فإن قرار محكمة النقض لم يكن صائباً في رأينا عندما ميز في مـا يتعلـق بالجهـة القضائية المختصة في التحكيم الدولي، بين العقود الادارية والعقود العادية، وذلك للأسباب الآتية:

    أولاً- المشرع المغربي أخذ في تعريفه للتحكيم الدولي بالمفهوم الاقتصادي، إذ اعتبـر أن التحكيم يكون دولياً متى كان النزاع موضوع التحكيم مرتبط بعملية اقتصادية في أكثر من دولـة واحدة، وذلك بصرف النظر عن طبيعة وجنسية الأطراف، وكذا القانون الواجب التطبيق، سـواء في الموضوع أو في مسطرة التحكيم، وبصرف النظر عن بلد التحكيم.

   ثانياً- ليس هناك أي شك في أن التحكيم موضوع قرار محكمة النقض هو تحكيم دولـي، لارتباطه بمصالح التجارة الدولية، حسب التعريف الذي جاء به الفـصل 39-327 مـن قـانون المسطرة المدنية.

   ثالثاً- قانون المسطرة المدنية ميز بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، ووضع لكل واحـد منهما قواعده وأحكامه الخاصة.

   رابعاً- التوجه الذي تبنته محكمة النقض لا يتلاءم ومفهوم التجارة الدولية، إذ من شـأنه أن يشكل سبباً ومصدراً لانعدام الأمن القضائي ما دام أن هذا القرار يكرس الثنائية في الرقابة علـى القرارات التحكيمية.

   خامساً- القرار المذكور يتعارض مع المقتضيات القانونية المنظمة للتحكيم الدولي، خاصـة الفصل 46-327 المشار إليه أعلاه، والتي تمنح الاختصاص لرئيس المحكمة التجاريـة عنـدما يتعلق الأمر بالتحكيم الدولي بصرف النظر عن طبيعة العقد، إذ أن أساس الاختصاص هو قانون التحكيم باعتباره قانوناً مستقلاً وليس طبيعة العقد، ويتعين على القاضي والحالة هاته مراقبة فقـط مدى احترام الحكم التحكيمي للنظام العام الوطني أو الدولي.

   وفي الأخير نرى وأمام سكوت المشرع المغربي، أن الوقت قد حان لتوسيع المجالات التـ يسمح فيها للدولة ولأشخاص القانون العام باللجوء إلى التحكيم الدولي في الميدان التعاقدي.

   وحفاظاً على استقلالية قانون التحكيم نرى وجوب تركيز وتوحيد مسطرة الاعتراف ومـنـح الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية الدولية المراد تنفيذها في المغرب بين يدي القاضي التجاري، بصرف النظر عن طبيعة العقد، سواء كان عقداً إدارياً أو مدنياً، وبغض الطـرف عـن طبيعـة وصفة أطرافه.

   لذلك فإن تدخل المشرع المغربي أصبح أمراً ضرورياً قصد إجراء تعديلات علـى قـانون التحكيم والتنصيص صراحة على جواز لجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيم الـدولي في المنازعات الناتجة من العقود الادارية وحصر اختصاص النظر في طلبات الاعتراف ومـنـح الصيغة التنفيذية الصادرة في مادة التحكيم الدولي أمام القاضي التجاري، كيفما كانت طبيعة العقد الذي صدر بشأنه الحكم التحكيمي، وكيفما كانت طبيعة أطرافه، وكيفما كان القانون المطبق على التحكيم، إذ أن الأصل في الاختصاص هو دولية التحكيم وارتباطه بمصالح التجارة الدولية، وليس طبيعة العقد، كما جاء في قرار محكمة النقض المغربية، وذلك حفاظاً على مبدأ استقلالية التحكيم الذي يعد من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها.