الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم التجاري / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / التحكيم التجاري الدولي كمحرك للتجارة العالمية ومدى تدخل القضاء الجزائري فيه

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    135

التفاصيل طباعة نسخ

ملخص الدراسة:

تحتل العلاقاتُ التجارية الدولية أهمية بالغة جداً على الصعيد الدولي، تسير إلى جانب العلاقات الدولية في طابعها السياسي، إلى أن أضحت المحرك الأساسي والرئيسي لكل مناحي الحياة داخل جميع الدول؛ فبموجب تلك العلاقات يتحدّد مستوى التنمية الاقتصادية التي لا يخفى أثرها البارز على جميع الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية في كل دولة.

ولا نكون مبالغين إذا ما قرّرنا أن مستقبل العلاقات بين الدول يخضع تأثيراً وتأثراً لمدى تطور العلاقات التجارية الدولية التي قد تكون مظهراً من مظاهر التكامل والوحدة بين الدول المنشئة لتلك العلاقات. ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة يقع في مقدمتها العلاقات الدولية الأوروبية والعلاقات التجارية المقرّرة وفق معاهدات دول اتحاد المغرب العربي الخمس، كما أن دول الخليج العربي تسعى لتكريس الوحدة الاقتصادية فيما بينها بموجب ما يعرف بمجلس التعاون لدول الخليج العربي. ومما لا شك فيه أن الدول التي لا تتفاعل مع الآلية الجديدة في العلاقات الدولية ستظل معزولة سياسياً واقتصادياً عن كافة أعضاء المجتمع الدولي، وهي ستفقد تدريجياً مكانتها المعهودة وهو ما يفسّر جعل العقوبات الاقتصادية من أهم وسائل العقاب الدولي لبعض الدول مثلما وقع لدولتي العراق وليبيا الشقيقتين. فبالإضافة إلى كون الحظر الاقتصادي نوعاً من العقاب، فهو يسعى بشكل غير مباشر إلى إضعاف قدراتهما وعزلهما دولياً من الجانب السياسي وضمان تخلّفها اقتصادياً واجتماعياً.

ومن جانب آخر، فإنّ التجارة الدولية باتت حالياً حقيقة أولية ثابتة تخطَّت الحدود السياسية منذ زمن بعيد، فأصبحت حتمية لا مناص منها، وهي تستخدم الآن كأداة من أدوات بناء الاقتصاد السليم في دول العالم كافة. كما أنّ عقود التجارة الدولية تشكل العصب الرئيسي في الحياة الاقتصادية العالمية، وتتخذ أشكالاً متعددة تيسيراً للمعاملات التجارية التي بلغت في تنوعها حداً لا حصر له. ولعل أبرز ما يميز عقود التجارة الدولية اختلافها عن العقود الأخرى في أنّ الأولى تخضع لقواعد القانون الدولي، وبالأخص قواعد التجارة الدولية، أما الثانية فيتم تنظيمها بموجب القوانين الوطنية.

وأمام هذه المعطيات، لم يعد اللجوء إل القضاء الوطني مواكباً لظروف العولمة التجارية وحركية رؤوس الأموال واتساع نطاق المعاملات التجارية والبيوع الدولية وتعدد جنسيات أطراف العقود الدولية. فالقضاء الوطني ليس محبذاً في مثل هذه المنازعات بالنظر إلى جموده وبطئه، كما أن أطراف النزاع ليس من مصلحتهم ذلك ولا الركون إلى قانونٍ وطني ليحكم نزاعهم الدولي، وباتت قاعدةُ lex mercatoria أصوبَ من كل قانون وطني لحكم النزاعات التجارة الدولية. وفي الوقت الذي بادر البنك الدولي للإنشاء والتعمير بمعاهدة تسوية المنازعات بين المستثمر الأجنبي وبين مواطني الدول الأخرى، تنامت ظاهرة التحكيم المؤسساتي في وتيرة متسارعة مع عقد التسعينيات كدافع ومحرك للتنمية الاقتصادية والتجارية في دول العالم، وباتت الدول المتقدمة ومن سار في ركبها تُجَارِيهِ كحتميةٍ لا مناص منها للحاق بالركب؛ وباب التحكيم التجاري الدولي ظاهرةً دولية استأثرت بانتباه المنظمة الأممية فأفرزت قواعد "اليونسيترال" والمعاهدة النموذجية للبيوع الدولية، وتسابقت الدول، في إطار سياساتها العامة التنموية، لتُعَدِّلَ من تشريعاتها وتُدخل النصوص القانونية الكفيلة باحتواء المنازعات التجارية الدولية لتسمح لمؤسساتها الوطنية بالتعامل الخارجي في إطار التجارة الدولية، ولتسهّل المهمة للمؤسسات الأجنبية بقصد الولوج إلى أراضيها للاستثمار وتضمن لها امكانية التقاضي في إطار التحكيم التجاري الدولي بالشكل السريع والحاسم بعيدا عن قضاء وقوانين تلك الدول.

إنّ الواضح كل الوضوح أنّ التجارة الدولية باتت تحتل مركز الصدارة في العلاقات الدولية الحديثة، وأصبحت المحور الرئيسي الذي تدور حوله هذه العلاقة. فبتوسع التجارة الدولية وازدهارها، ظهرت صلتها بالتحكيم، وتنافست حينذاك الأنظمةُ القانونية الوضعية المعاصرة فيما بينها من أجل تشجيع التحكيم على اعتبار أنه النظام القضائي الخاص، والوسيلة المألوفة، التي تميل الأطراف المتعاملة على مسرح التجارة الدولية للالتجاء إليها لفضّ المنازعات الناشئة بينها في هذا الشأن، نظراً لما يقدّمه هذا النظام من مزايا معروفة يعجز قضاء الدولة في بعض الأحيان عن تحقيقها.

لكن ورغم التشجيع الكبير للتحكيم في معظم دول العالم، لم يدفع نظام التحكيم إلى الإفلات من رقابة قضاء الدولة. لأنه من غير المقبول ولا المعقول الاعتراف بحكم تحكيمي مشوب بخطأ، وبالتالي لا مفرّ من تقرير إمكانية الطعن على الحكم التحكيمي سواء كان التحكيم الدولي أجنبياً أو داخلياَ، وهذا ما جعل القضاء الوطني يتدخل في مجال التحكيم الدولي كمساعد ومراقب له، وهذا ما انتهجه القضاء الجزائري في تشريعه الداخلي على غرار التشريعات الداخلية لمعظم دول العالم

إنّ الجزائر، بإعتبارها بلداً نامياً، لم تكن من الدول السبّاقة إلى مسألة التحكيم التجاري الدولي تأثراً بالـمد الاشتراكي الطلائعي الذي ظهرت آثاره جلية وواضحة في جلّ القوانين الجزائرية المفروضة يومذاك، ولَـمْ تكن تخدم أية مصلحة اقتصادية في الجزائر. فقانون 1966 ، ظلّ يحظّر على الشركات الجزائرية اللجوء إلى التحكيم الدولي إطلاقاً، وكم قادت تلك التشريعات إلى انسدادٍ في العلاقات الاقتصادية الجزائرية الدولية. وبالرغم من تعديل الدستور الجزائري لعام 1989، وبموجبه عرفت الساحة التشريعية الجزائرية بعض الانفتاح في التعامل التجاري الدولي، وأدخل تعديل 1993  بنوداً جديدة أظهر معها المشرّع الجزائري قابليته للانفتاح التجاري الدولي عموماً، وامكانية اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي، غير أنّ العولمة التجارية التي طبعت الساحة الدولية في ما بعد، ولا سيما مع مطلع الألفية، دفعت الدول إلى التسابق نحو انتهاج هذا النمط من تسوية المنازعات التجارية الدولية، كسياسة هادفة إلى تدعيم اقتصادياتها وتجارتها، وأدخلت الدولُ العربية العملاقة تجارياً تعديلاتٍ جمة على نصوصها التحكيمية والإجرائية لاحتواء الموضوع، فيما اعتُبرت فرنسا ودول أوروبية أخرى وغيرها - مثل جيبوتي - نماذج تحتذى في هذا الإطار. هنا كان لزاماً على الجزائر أن تراجع منظومتها التشريعية لتساير الركب، وجاء التحكيم الدولي واضحاً وجلياً في تشريعاتها الإجرائية اللاحقة ولاسيما مع إقرارها نصوص قانون الإجراءات المدنية والتجارية الجديد عام 2008 ، وفيه أطلق المشرع الجزائري العنان لتصور منهاج جديد يجب أن يسير إلى جانب القضاء الوطني، ألا وهو التحكيم الدولي. وفي الوقت الذي اعتبر عدد من الملاحظين أن الجزائر موفقةٌ بشكل كبير أخيراً، عاب البعض الآخر عليها مسائل عدة.

وعلى ذلك، ترتكز هذه الدراسة على محورين:

المحور الأول- التحكيم التجاري الدولي كمحرك للتجارة العالمية.

المحور الثاني- مدى مواكبة المنظومة التشريعية الجزائرية للمنظومة العالمية للتحكيم الدولي، ومدى تدخل القضاء الجزائري في التحكيم الدولي.

ومن هنا نطرح هاتين الإشكاليتين:

ما هو الدور الذي أداه التحكيم التجاري الدولي في إنماء حركية التجارة الدولية؟ وما مدى تدخل القضاء الجزائري في التحكيم التجاري الدولي من خلال تشريعاته الجديدة؟ وهل يمكن القول بأن تلك التشريعات تواكب المنظومة العالمية للتحكيم الدولي وما يصبو إليه المتخاصمون؟

 

وللإجابة عن هاته الأسئلة قمنا بتقسيم هذا البحث إلى:

الفصل الأول- مسار التجارة الدولية على ضوء التحكيم التجاري الدولي.

الفصل الثاني- تدخل القضاء الجزائري في التحكيم التجاري الدولي.

 

الفصل الأول- مسار التجارة الدولية على ضوء التحكيم التجاري الدولي:

لقد اتجهت أغلب النظم القانونية الحديثة نحو دعم نظام التحكيم التجاري الدولي وتطويره، لملاءمة خاصة في مجال التجارة الدولية نظراً لملاءمة التحكيم لطبيعة هذا المجال، فاللجوء إلى استعمال هذا الأسلوب لحل النزاعات الناتجة من العقود التجارية الدولية بدأ أخيراً على وتيرة متسارعة وشمل انتهاجه معظم الدول. ولذلك نقوم بدراسة مسار التجارة الدولية على ضوء التحكيم التجاري في مبحثين:

المبحث الأول- علاقة التحكيم التجاري الدولي بالتجارة الدولية:

أصبح لزاماً على كل دولة اللجوء إلى عملية التبادل التجاري مع غيرها من دول العالم في إطار ما يسمى التجارة الدولية . ونظراً لوجود عوائق أمام تدّفق التجارة الدولية، ظهرت الدعوة إلى تحريرها، فبدأت العلاقات التجارية الدولية تبتعد تدريجياً عن سيطرة القانون الوطني وتتجه نحو الأسواق المفتوحة والمناطق الحرة والتكتلات الاقتصادية واتفاقات الشراكة وشرط الدولة الأكثر رعاية...، ومن هنا بات التحكيم التجاري الدولي، الذي يلعب دوراً بارزاً على الصعيد الدولي، حتمية لا مفر منها، وازدادت فاعليته. وتبريراً لهذه الفكرة، نحدّد مفهوم التجارة الدولية وتحريرها في المطلب الأول، ثم نبيّن في المطلب الثاني علاقة التحكيم التجاري الدولي بالتجارة الدولية.

وعن هذه الفكرة يذكر "د. أبوزيد رضوان": "إن التحكيم التجاري الدولي قد ارتبط بالتجارة الدولية والتبادل التجاري بين الشعوب وازدهر بازدهار هذه التجارة، حيث كانت المرتع الخصب لإنماء وتطوير قواعد التحكيم التجاري الدولي، ونتيجة لزيادة معدلات التجارة الدولية ونموها وازدهارها واتساع أسواقها نتيجة لزيادة وسهولة المواصلات والاتصال عبر القارات وانتشار العقود النموذجية والشروط العامة لتسليم البضائع، بدأت العلاقات التجارية الدولية تبتعد تدريجياً عن سيطرة قانون الوطن، لتُحكم أو تُنظّم بقواعد ذات منبع أو طابع مهني وقواعد عرفية، حيث يلعب التحكيم التجاري الدولي دوراً بارزاً كوسيلة لتأكيد قانون مجتمع تجاري على الصعيد الدولي، وزيادة فعاليته، حيث يعتق التجارة الدولية من الخضوع للقواعد الصماء، فضلاً عمّا يوفّره من سرعة في حلّ المنازعات والإبقاء على الوفاق بين الأطراف، وعدم إفشاء أسرار المنازعات" .

 

المطلب الأول- مفهوم التجارة الدولية وحتمية تحريرها:

 نقوم في هذا المطلب أولاً بإعطاء تعريف للتجارة الدولية وبيان أهميتها، وحجم المبادلات التجارية الدولية، وثانياً نبيّن ماهية تحرير التجارة الدولية والأسباب التي دعت إلى ذلك.

الفرع الأول- مفهوم التجارة الدولية:

أولا- ماهية التجارة الدولية:

إنّ اصطلاح التجارة هو اصطلاح واسع جداً ويغطي أي شكل من أشكال النشاطات، سواء كانت نشاطات اقتصادية أو مالية، معطياً بذلك التجارة الدولية بعداً جديداً .

ولقد أعطى قانون اليونسيترال النموذجي "لجنة التجارة الدولية في الأمم المتحدة" تعريفاً للاصطلاح التجاري، جاء فيه: "ينبغي تفسير المصطلح "التجاري" تفسيراً واسعاً،

بحيث يشمل المسائل الناشئة عن جميع العلاقات ذات الطبيعة التجارية تعاقدية كانت

أو غير تعاقدية، والعلاقات ذات الطبيعة التجارية تشمل دون حصر المعاملات الآتية:

أية معاملة تجارية لتوريد السلع أو الخدمات أو تبادلها، اتفاقات التوزيع، التمثيل التجاري

أو الوكالة التجارية، إدارة حقوق لدى الغير، التأجير الشرائي، تشييد المصانع،

الخدمات الاستشارية، الأعمال الهندسية، إصدار الترخيص، الاستثمار، التمويل، الأعمال المصرفية، التأمين، اتفاق أو امتياز الاستغلال المشاريع المشتركة. وغيرها من أشكال التعاون الصناعي أو التجاري، نقل البضائع أو الركاب جوًا أو بحراً بالسكك الحديدية أو بالطرق البرية".

 

ثانياً- أهمية التجارة الدولية وحجم المبادلات التجارية الدولية:

1- أهمية التجارة الدولية: ويمكن إظهار هذه الأهمية في ما يأتي:

- زيادة الرفاه الاقتصادي لأي دولة .

- الاستغلال الأمثل للموارد وبالتالي إشباع احتياجات السوق المحلي

والعالمي .

- توزيع الدخل القومي، فالتجارة الدولية تؤدي دورها في الاقتصاد القومي مثلما تؤديه في الاقتصاد العالمي .

- تقوية العلاقات السياسية والدبلوماسية

2-     حجم المبادلات التجارية الدولية :في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية شهدت التجارة الدولية فترة من النمو البطيء عامي 1998-1999؛ وعام 2000 بلغ معدل نمو التجارة الدولية حوالي ضعفي معدله عام 1999. ومما ساعد على ارتفاع حجم التجارة الدولية مرونة اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الازدهار المطول التي مر بها الاقتصادُ الأمريكي، حيث كانت وارداتها تمثل 18.5% من الواردات العالمية . وبسبب تحرير التجارة الدولية وسياسات الشركات المتعددة الجنسيات كان نمو التجارة الدولية أسرع من نمو الإنتاج العالمي، فقد بلغت حصة صادرات الشركات المتعددة الجنسيات من حجم الصادرات العالمية عام 1999 نسبة %45 ، كما ازداد حجمُ التجارة الدولية لسنة 2003 بنسبة 4.5%، وعام 2004 بنسبة 10.6%. غير أنه عام 2005 تراجع معدل نمو حجم التجارة الدولية إلى 7.4%، وعام 2006 ازداد إجمالي حجم التجارة الدولية، ويعدّ الأعلى منذ عام 2000. وبحسب إحصائيات مجموعة البنك الدولي  لسنة 2010، ازداد حجم التجارة الدولية بواقع 27 ضعفاً بين عام 1950 و2006 أكثر بثلاث مرات من النمو الذي شهده إجمالي الناتج المحلي العالمي منذ عام 1990. وقد جاء في تقرير التجارة والتنمية لسنة 2013 أنه  لم تستعد التجارة الدولية في السلع والخدمات معدل نموها السريع الذي شهدته السنوات التي سبقت اندلاع الأزمة، فبعد حدوث انخفاض حاد في الفترة 2008-2009، وقع انتعاشٌ سريع في عام 2010 زاد من حجم التجارة في السلع بنسبة 5% فقط في عام 2011 وبأقل من 2% عام 2012، وقد أثر ذلك على الاقتصادات المتقدمة والنامية والانتقالية على حدٍّ سواء.

الفرع الثاني- حتمية تحرير التجارة الدولية:

 يقصد بتحرير التجارة الدولية تخلّي الدولة عن دورها في الاقتصاد وتركه لقِوى السوق، ويبقى دورها مقتصراً على المراقبة فقط . وقد اكتسب تحرير التجارة الدولية أهمية كبيرة خاصة بعد انهيار النظام الاشتراكي الذي كان يتبع نظام التخطيط المركزي للاقتصاد، حيث أصبح تحرير التجارة توجهاً عالمياً.

إنّ تغيّرات الاقتصاد العالمي أدت إلى إعطاء دفع كبير لتحرير التجارة الدولية، ومن أهم هذه التغيّرات ما يأتي:

- السيطرة المتزايدة للشركات متعددة الجنسيات على التجارة الدولية بحيث أصبحت وسيلة حديثة من طرف النظام الرأسمالي لاستغلال الشعوب باستخدام وسائل اقتصادية "ظاهرة الاستعمار الجديد"، وبالتالي أخذ التركيز الرأسمالي بعداً جديداً تجاوز به حدود الدول المتنافسة ومناطق نفوذها التقليدية .

- الثورة العلمية والتكنولوجيا الحديثة تربط العلم بالإنتاج مباشرة بحيث مكّن من سهولة انتقال المعلومات ورؤوس الأموال .

- الاتجاه إلى تقسيم العمل الدولي، وهو ما طالبت به الدول المتقدمة من أجل أن تحتفظ لنفسها بالصناعات الأحدث تكنولوجياً وتتخلى عن الصناعات ذات التأثير الضار بالبيئة.

- فشل تجارب التنمية وتراجع دور الدولة في النشاط الاقتصادي .

- العولمة الاقتصادية جعلت التجارة الدولية هي حجر الزاوية للعولمة .

- مبدأ المعاملة بالمثل "المعاملة الوطنية" .

المطلب الثاني: صلة التحكيم بالتجارة الدولية:

إن انتشار وتوسع التجارة الدولية والتطور الهائل الذي طرأ عليها، وعلى الاستثمارات، أدى إلى انتشار شرط التحكيم. وعليه لا بدّ من إعطاء مفهوم للتحكيم التجاري الدولي أولاً، ثم نبيّن علاقته بالتجارة الدولية ثانياً.

 

الفرع الأول- مفهوم التحكيم التجاري الدولي:

أولاً- تعريف التحكيم التجاري الدولي:

بصرف النظر عن التعاريف اللغوية، فقد استرسل الفقه عاكفاً على وضع تعاريف مختلفة للتحكيم، فضلاً عن بعض التشريعات المقارنة. من ذاك، ما أورده "د. أبو زيد رضوان" من أنه: "إتفاق أطراف علاقة قانونية معينة، عقدية أو غير عقدية، على أن يتم الفصل في المنازعات التي ثارت بينهم بالفعل، أو التي يحتمل أن تثور عن طريق أشخاص يتم اختيارهم كمحكمين" ، كما يعرفه الأستاذ "د. محسن شفيق" بأنه: "اتفاق على طرح النزاع على شخص معيّن أو أشخاص معينين، ليفصلوا فيه دون المحكمة المختصة به" ، وعرفه "د. إبراهيم أحمد إبراهيم" بأنه: "نظام لحل المنازعات المالية بين الأطراف، والأطراف هو لفظ يمكن أن ينصرف إلى الأشخاص الطبيعيين أو إلى الأشخاص الاعتباريين سواء كانوا دولاً أم شركات" .

وعرفه كذلك الأستاذ "روبرت" بأنه: "مؤسسة لعدالة خاصة بفضلها تعفى المنازعات من سلطان القانون العام لتحسم بواسطة أفراد ممنوحين مهمة قضائية" . كما عرّفته المادة (37) من اتفاقية لاهاي للتسوية السلمية للمنازعات الدولية، التي توصل إليها مؤتمر السلام الدولي الثاني الذي عقد في لاهاي عام 1907 ، بما يأتي: "التحكيم الدولي هو تسوية المنازعات بين الدول بواسطة قضاة من اختيارها وعلى أساس احترام القانون، وأنّ اللجوء إلى التحكيم ينطوي على تعهد بالخضوع بحسن نية للحكم" .

كما قدّمت المادة (1039) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري  تعريفاً كذلك للتحكيم الدولي، فذكرت أنّه: "يعدّ التحكيم دولياً بمفهوم هذا القانون، التحكيم الذي يخصّ النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل"، وعرف المشرع المصري التحكيم في المادة الرابعة من القانون رقم 27 لسنة 1994 بأنه: "ينصرف لفظ التحكيم في حكم هذا القانون إلى التحكيم الذي يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة، سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم بمقتضى اتفاق طرفين، منظمة أو مركزاً دائماً للتحكيم أو لم تكن كذلك" .

 

ثانياً- تمييز التحكيم التجاري الدولي عما يشتبه به في المسائل الأخرى:

1- التحكيم والخبرة: يختلف التحكيم عن الخبرة، فالمحكم يقوم بوظيفة القضاء ورأيه يفرض على الخصوم. بينما الخبير يبدي رأيه في ما يطرح عليه من مسائل، وهو رأي لا يلزم الخصوم كما لا يلزم القاضي، والمحكم يصدر حكماً ويتقيّد بالأوضاع والمواعيد والإجراءات المقرّرة في التحكيم، بينما الخبير يكتب تقريراً ولا يتقيّد إلاّ بالإجراءات والمواعيد المقرّرة في قانون الإثبات .        

2- التحكيم والصلح: الصلح عقد يتم بين أطراف الخصومة أنفسهم أو بمن يمثلونهم، يقومون بمقتضاه بحسم خلافاتهم عن طريق نزول كل منهم عن بعض ما يتمسّك به، بينما في التحكيم يقوم المحكم بمهمة القضاء والفصل في النزاع المعروض عليه.

3- التحكيم والوكالة: فالوكيل يستمد سلطانه من الموكل ويملك التنصل من عمل الوكيل إذا خرج عن حدود وكالته، أما التحكيم فبمجرد الاتفاق على التحكيم تصبح للمحكم صفة القاضي ولا يتمكن الخصوم من التدخل في عمله وحكمُه يفرض عليهم .

4- التحكيم والتوفيق: الموفق يحاول أن يقرب بين وجهات نظر طرفين لكي يتوصل إلى اتفاق لتسوية النزاع، وهو قرار غير ملزم عكس التحكيم، بالإضافة إلى أنّ إجراءات التوفيق أبسط بكثير من إجراءات التحكيم .

 

ثالثاً- الطبيعة القانونية للتحكيم التجاري الدولي:

اختلف الفقه والقضاء في تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم، وتعدّدت النظريات في هذا الخصوص:

1-     النظرية العقدية: اعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن التحكيم عقد رضائي، ملزم للجانبين، من عقود المعاوضة وحكم التحكيم يعتبر جزءًا لا يتجزأ من اتفاق التحكيم. والمحكمون هم أفرادٌ يعهد إليهم بمهمة تنفيذ الاتفاق ولا يرتقون إلى مرتبة القضاة، ولا يقومون إلاّ بعمل المحكمين باعتباره مجرد تنفيذ له، ومن ثم فإن اتفاق التحكيم يستوعب ويستغرق عملية التحكيم ذاتها، فنظام التحكيم يقوم على أساس إرادة الأطراف، ومن ثم فإنّ له طابعاً تعاقدياً .

2- النظرية القضائية: يرى أنصار هذه النظرية أن عمل المحكم هو عمل قضائي شأنه شأن العمل القضائي الصادر من السلطة القضائية للدولة . وعمل التحكيم يعدّ رهيناً باتفاق الخصوم على الالتجاء إليه، ولكن ذلك لا يؤثر على جوهر وظيفته القضائية. كما أنّ ما تؤديه إرادة الخصوم من دور في طرح النزاع على التحكيم بدلاً من القضاء ليس له من أثر على حقيقة الوظيفة التي يؤديها التحكيم من كونها وظيفة قضائية مثلها في ذلك مثل وظيفة قضاء الدولة .

3- النظرية المختلطة: تذهب إلى أنّ التحكيم ذو طبيعة مختلطة، فهو  ليس اتفاقاً محضاً وليس قضاءً محضاً، وإنما هو مثلما وصفه عميد فقيه القانون التجاري، "د. محسن شفيق"، بأنه: "نظام يمر في مراحل متعددة يلبس في كل منها لباساً خاصاً ويتخذ طابعاً مختلفاً، فهو في أوله اتفاق، وفي وسطه إجراء، وفي آخره حكم، وينبغي مراعاة هذه الصور عند تعيين القانون الواجب التطبيق" . ويرى الدكتور "خالد محمد القاضي" أن التحكيم له طبيعته الخاصة وذاتيته المستقلة التي تميّزه عن العقود، وكذلك عن أحكام القضاء.

 

رابعاً- مزايا التحكيم التجاري الدولي:

لعل أول ميزة ومبرر للالتجاء إلى التحكيم الدولي هو تسهيل الفصل في الخصومة التحكيمية نتيجةً لرغبة الأطراف في ذلك. فإجراءات التقاضي تتسم في الغالب بالبطء والتعقيد، فضلاً عن استطالة أمد النزاع نتيجة طول وتفرّع إجراءات التقاضي بسبب تعدد درجات هذا الأخير والطعن في الأحكام، وما يعتري تنفيذ الحكم من إشكالات... كل هذا يتفاداه التحكيم في الخصومة التي يجري فيها البت بسرعة وبقرار تحكيمي نهائي.

ويشترك الأطراف والمحكمون على حد سواء في الخصومة التحكيمية، وهذا من شأنه أن يسهّل كثيراً ربح عامل الوقت وإجلاء الفصل الموضوعي في القضية، وهو ما لا يمكن العثور عليه في الخصومة أمام القضاء الوطني الذي يكون بإمكان الخصوم استغلال الثغرات الشكلية وتهيئة وسائل الطعن ومواصلة طرقها واستغلال المواعيد ووسائل الإعلان... وغيرها مما قد يؤدي في بعض الحالات إلى ضياع الحق أصل الموضوع المتخاصم فيه بناءً على اعتبارات شكلية أو إجرائية. أما أمام التحكيم، فمعظم مثل هذه الثغرات غير موجودة لأنّ المواعيد يحدّدها الأطراف، ثم إنّ المحكمين يحدّدون القواعد الإجرائية التي سيطبقونها على سير الخصومة التحكيمية بناء على رغبة الأطراف ومعرفتهم، أو وفقاً للقواعد المعمول بها في إحدى هيئات التحكيم الدائمة كغرفة التجارة الدولية بباريس، أو المركز الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بالقاهرة أو ووفقاً لقواعد اليونسيترال (لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي).

ومن جانب آخر، فإنّ الأطراف هم الذين يختارون القانون الذي سيحكم النزاع، إمّا موضوعياً، وحتى بالنسبة للقانون الإجرائي الذي سيسعى المحكمون إلى النظر فيه لاختيار القانون الواجب التطبيق، وهذا مدعاة للقول بأنّ أطراف الخصومة التحكيمية سيتجنبون قواعد الإسناد المعروفة في إطار تنازع القوانين التي يسلكها القضاء الوطني وجوباً في النزاع الذي يشتمل على عنصر أجنبي، وهذا من شأنه فيما لو حدث بالنسبة لأطراف التحكيم أن يصل بهم إلى صدم توقعات هؤلاء الأطراف.

وحتى في الحالة التي يغفل فيها أطراف الخصومة التحكيمية تحديد القانون الواجب التطبيق، فإن المحكم الدولي لن يأخذ بالقاعدة الشهيرة المعروفة في نظم تنازع القوانين المختلفة، ألا وهي خضوع الدعوى لقانون البلد الذي تجري فيه مثلما هي الحال عليه بالنسبة للقاضي الوطني الذي يتعيّن عليه أن يطبق قواعد التنازع التي ينص عليه قانون بلده . فالمحكم الدولي في حقيقة الأمر له حرية اختيار القانون الواجب التطبيق بما يناسب الإرادة الضمنية لأطراف النزاع التحكيمي ويكون معبراً عنها، وذلك كله في الحالة التي يغفل فيها الأطراف تحديد القانون الواجب تطبيقه، فإن لم يغفلا ذلك، فالقول لإرادة الأطراف.

  وثمة عامل آخر كان من بين أهم العوامل التي أدت إلى بروز التحكيم الدولي كمؤسسة قضائية لكفالة الفصل في النزاعات التي تثور بين الدول وبين الشركات المتعددة الجنسيات. فالمعروف عن بدايات التعامل القضائي بين هذه الأخيرة وبين الدول المضيفة أنّ نزاعات مستمرة طرأت في هذا الشأن، وهي قد وصلت إلى حد القضاء الدولي بالنظر إلى رفض تلك الشركات المثول أمام القضاء الوطني للدول المضيفة وإصرار هذه الأخيرة على قضائها الداخلي. أما في الآونة الأخيرة، فقد برز انفراج كبير في هذه المسألة، إذ أن ما يربط الدول المضيفة بالشركات المستثمرة كان عقوداً دولية تتضمّن شرط اللجوء إلى التحكيم وجوباً في حالة النزاعات المحتملة، وهو ما يبث الطمأنينة في نفوس المستثمرين ويدفعهم إلى الاستثمار في البلدان النامية، على وجه الخصوص، من بعد أن انتهت مسألة التأميمات والاحتكام إلى القانون والقضاء الداخليين للدول المضيفة.

وثمة ميزة أخرى تضاف إلى رصيد التحكيم الدولي ألا وهي ميزة "السرية". ذلك أن مبدأ العلانية المعمول به أمام القضاء الوطني هو غير موجود أمام التحكيم، لأن الأصل في هذا الأخير هو السرية وعدم نشر الأحكام والقرارات التحكيمية إلاّ إذا وافق على ذلك أطراف النزاع طبعاً. وبخلاف ذلك تبقى الأحكام التحكيمية بمنأى عن النشر والإعلان.

كذلك قد يتميّز التحكيم عن القضاء الوطني في كون المحكم الدولي ليس بالضرورة رجل قانون أو قضاء. فكثيرا ما يستعين الأطراف بمحكمين ليسوا متخصصين في مجال القانون إطلاقاً، فقد يكون منهم مهندسون أو رجال أعمال أو محترفون في مجال معين، وهو ما يحفّز الأطراف على اللجوء إليهم لقناعتهم بأن المحكمين من هذا النوع هم أقدر فهماً لطبيعة النزاع ومحله بخلاف القاضي الوطني الذي يتعيّن عليه في مثل هذه الأمور المعقدة الاستعانة بخبير، وهذا الأخير عليه أن يقدم خبرته بموجب تقرير قد لا يكون محل رضا أحد الأطراف فيطعن في أصل الخبرة أو يرد ذلك الخبير ما قد يطيل من أمد النزاع أكثر فأكثر.

وعلى كل، فإن مزايا التحكيم الدولي عديدة  لا يتسع هذا المقام لذكرها، ونكتفي في هذا الصدد بما تم ذكره.

 

خامساً- التحكيم الوطني والتحكيم الدولي:

يتميّز التحكيم الوطني عن التحكيم الدولي في كون الأول هو ذلك الذي يتعلق بنزاع وطني في جميع عناصره، فعندئذ يتولاه محكمون وطنيون ويصدرون أحكامهم داخل الدولة ووفقاً للقواعد الإجرائية المعمول بها داخل الدولة. ولذلك، فإنّ التحكيم الوطني لا يثير صعوبات أو إشكاليات معتبرة كونه يخضع للقانون الوطني ولا يجد تنفيذه خارج حدود الدولة، ثم إنّ القاضي الوطني لا يتصدى لموضوع النزاع لأن دوره سيقتصر فقط على بحث مدى توافر شروط التنفيذ، ولاسيما مواءمة مقتضيات التنفيذ مع النظام العام في الدولة.

أما التحكيم الدولي، فهو ذلك الذي يتصدى للفصل في نزاع ينتمي بعناصره لأكثر من دولة، ولما كان بهذه الطبيعة فهو يثير صعوبات جمة على أكثر من صعيد: تحديد القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم وموضوعه، تحديد مكان التحكيم، تعيين المحكمين بجنسياتهم المختلفة... وغير ذلك من المسائل التي لا يصادفها التحكيم الوطني.

وهنا يمكن القول بأن الدول تختلف تباعاً في إقرار المعيار الذي تستخدمه لوصم التحكيم بعنصر الدولية. وثمة معايير متعارف عليها في مختلف الأنظمة القانونية، وهي:

المعيار الجغرافي: ويتمثل في كون مكان أو أطراف التحكيم أجنبياً.

المعيار القانوني: ويتمثل في وجود قوانين مختلفة متزاحمة من شأنها أن تحكم إجراءات التحكيم وموضوعه ويتعين الوقوف على إحداها وتحديد ذلك القانون الواجب التطبيق.

المعيار الاقتصادي: ويتمثل باتصال العقد المراد تسويته عن طريق التحكيم بالتجارة الدولية.

وفي الوقت الذي أخذ المشرع الفرنسي بالمعيار الاقتصادي واعتبر التحكيم دولياً إذا تعلّق بمصالح التجارة الدولية، وذلك بموجب المادة (1492) من قانون المرافعات الفرنسي، فضّل المشرع المصري التخلي عن المعيار الاقتصادي في المادة (31) من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994، في الوقت الذي حذا فيه المشرع الجزائري حذو المشرع الفرنسي، وذلك في المادة (1039)  من قانون 08/09 المؤرخ في 25 فبراير 2008 والمتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية مفضِّلا بدوره الاعتماد على المعيار الاقتصادي فقط من بعد أن كان يجنح إلى معيار مختلط يُدمج فيه المعيار الاقتصادي بالمعيار القانوني، وذلك بموجب تعديل عام 1993 بموجب المرسوم التشريعي رقم 93/09 المؤرخ في 25 أبريل 1993 الذي يعدّل ويتمّم الأمر رقم 66/154 المؤرخ في 8 يونيو 1966 والمتضمن قانون الإجراءات المدنية .

 

الفرع الثاني- أصالة التحكيم التجاري الدولي كقضاء للتجارة الدولية:

إن التحكيم التجاري قد ارتبط بالتجارة الدولية والتبادل التجاري بين الشعوب وازدهر بازدهار هذه التجارة وأفل نجمه بأفولها، حيث كانت هذه التجارة الدولية هي المرتع الخصب لإنماء وتطوير قواعد التحكيم التجاري. ففي بداية القرن التاسع عشر"19" وبداية التوحيد الجغرافي والسياسي وحركة التقنيات الوطنية، أفل نجم التحكيم التجاري الدولي حيث أدمجت أعراف التجار وعاداتهم في القوانين الداخلية.

ونتيجة لزيادة معدلات التجارة الدولية ونموها واتساع أسواقها لعب التحكيم التجاري الدولي دوراً بارزاً كوسيلة لتأكيد قانون "مجتمع التجار" ، على الصعيد الدولي، فأصبح بمثابة نظام قضائي يعلو فوق النظم القضائية الوطنية، حيث تأكدت أصالة التحكيم كقضاء للتجارة الدولية من خلال واقع هذه التجارة ومدى إذعان أطرافها له واستقلالية هذا النظام عن العقود التجارية الدولية التي تثار بمناسبتها المنازعات التي تطرح على التحكيم، وتمتعه بقانون مستقل للإجراءات وصيرورة قراراته مصدراً لقضاء المحكمين، فضلاً عن حجيتها في ما تقضي به.

 

المبحث الثاني- الاهتمام بالتحكيم في نطاق التجارة الدولية:

انتشر نظام التحكيم التجاري الدولي انتشاراً واسعاً أدى توجه الخصوم إليه إلى ضرورة البحث عن قواعد تنظمه. فعقدت الاتفاقيات الدولية والإقليمية والثنائية، كما أنشئت مراكز خاصة تمارسه وتضع له شروطاً وقواعد، فأصبحت نسب عالية من المنازعات في العقود الدولية تحال إلى هيئات تحكيمية للفصل فيها.      

 

المطلب الأول- الاتفاقيات والمؤسسات التحكيمية في العالم:

وقد تواجدت عدة اتفاقيات ساعدت على إرساء قواعد التحكيم التجاري الدولي، وبما أن التحكيم أصبح قضاءً أصيلاً للتجارة الدولية، فإنّ ذلك استلزم ضرورة وجود هيئات ومراكز متخصصة لممارسة هذا التحكيم.

 

الفرع الأول- الاتفاقيات الدولية المتصلة بالتحكيم التجاري الدول:

في هذا المجال لا يسعنا سرد جميع الاتفاقيات التي عنيت بمجال التحكيم، غير أننا سنذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً- البروتوكول المتعلق بشروط التحكيم:

أُقرّ هذا البروتوكول في 24 سبتمبر 1923، وتضمّن 8 مواد، وأهم ما جاء فيه ما ورد في المادة الأولى منه حيث نصت على أن: "كل من الدول المتعاقدة  تعترف بصحة أي اتفاق سواء أكان متعلقاً بالخلافات الحاضرة أم بالخلافات التي ستحدث في المستقبل بين طرفين خاضع أحدهما لقضاء دولة متعاقدة، والآخر لقضاء دولة متعاقدة أخرى، ذلك الاتفاق الذي بموجبه يوافق الطرفان المتعاقدان بمقاولة على أن يحال إلى التحكيم أو بأمور أخرى يمكن حسمها بالتحكيم سواء أجري التحكيم في بلد غير خاضع لقضائه أحد الطرفين أم لم يجر..." . وبما أن هذه القواعد التي تضمّنها هذا البروتوكول لم تكن كافية، فقد اقتضت الضرورة إيجاد قواعد مكملة لهذا البروتوكول. ولأجل ذلك، جاءت اتفاقية جنيف في 26 سبتمبر 1927 مكملة له، وهي اتفاقية خاصة بتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وجاء فيها النص على الشروط الواجب توافرها للاعتراف وتنفيذ الحكم الخاص بالتحكيم، كما نصّت على الحالات التي يمكن للقاضي أن يرفض تنفيذ حكم التحكيم، وبيّنت كذلك الوثائق التي يجب تقديمها عند البدء في تنفيذ ذلك الحكم.

 

ثانياً- اتفاقية نيويورك:

وقد تم إقرار هذه الاتفاقية في 10 جوان 1958، وهي خاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية وتحتوي على 16 مادة، وهي تقتصر على معالجة مسألة الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في إقليم الدول المنضمة إليها. كما تجدر الإشارة أن كلاً من بروتوكول جنيف لعام 1923 واتفاقية جنيف لعام 1927 قد ألغيا بالنسبة للدول التي ستنضم إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 .

 

ثالثاً- اتفاقية واشنطن:

وقد أعدت هذه الاتفاقية من أجل طمأنة أصحاب رؤوس الأموال في الدول المتقدمة الذين يخشون تأميم أموالهم المستثمرة في الدول النامية، وبذلك أصبحوا يحاولون الحصول على ضمانات لحماية استثماراتهم، وبالتالي فإنّ هذه الاتفاقية قد اعتبرت خاصة بتسوية النزاعات الناشئة عن الاستثمار بين الدول الأخرى والموقعة في واشنطن في 14 تشرين الأول عام 1966 والتي أقرّ فيها التحكيم التجاري الدولي .

وبموجب هذه الاتفاقية تم إنشاء مركز في واشنطن وهو المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID. ويمكن تلخيص أهم الأحكام التي جاءت بها اتفاقية واشنطن لتسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات فيما يأتي:

1- يكون حكم التحكيم ملزماً للأطراف وغير قابل للطعن إلاّ في الحالات المنصوص عليها في الاتفاقية، وعلى كل طرف في النزاع أن ينفّذ الحكم إلاّ إذا كان هذا الحكم قد أوقف تنفيذه وفقا لهذه الاتفاقية حسب نص الفقرتين: الأولى والثانية من المادة (53) من الاتفاقية المذكورة. كما أقرت هذه الاتفاقية كذلك مبدأ حرية الطرفين في تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وكذا على الإجراءات؛ وفي حال وجود اختلاف بين الأطراف، تطبّق هيئة التحكيم قانون الدولة المتعاقدة التي هي طرف في النزاع، بما في ذلك القواعد الخاصة بتنازع القوانين.

2- أحكام هذه الاتفاقية لا تطبّق على أطراف النزاع إلاّ بمحض إرادتهم ويكون حسم النزاع وفقاً لهذه الاتفاقية عن طريق طلب كتابي لم تحدّد هذه الأخيرة صياغة واضحة له.

3- جاء في المادة (52) من الاتفاقية حصر الأسباب التي بموجبها يمنح الحق لكل طرف من الأطراف بأن يطلب إبطال حكم التحكيم أو وقف تنفيذه ويتم ذلك من قبل لجنة محايدة.

 

الفرع الثاني: أهم مراكز التحكيم التجاري الدولي في العالم:

أولاً- غرفة التجارة الدولية بباريس:

 لقد كانت غرفة التجارة الدولية السباقة في إنشاء مركز دولي يتمثل في غرفة التجارة الدولية بباريس (ICC) في التحكيم، وذلك منذ إنشاء محكمة التحكيم التابعة للغرفة سنة 1923. وممّا تمخّض عن ممارسة غرفة التجارة الدولية بواسطة محكمة التحكيم لقضايا التحكيم الدولية نشوء نظام موحد وقواعد محدّدة للتحكيم. كما وضعت العديد من قواعد وأحكام وشروط التحكيم التي يمكن لأطراف العقود الدولية وضعها في صياغة عقودهم الدولية لتكون نظام التحكيم الذي يتبعونه من حيث الإجراءات . وقد عالجت هيئة التحكيم المتواجدة على مستوى غرفة التجارة الدولية بباريس ما يفوق عشرة آلاف "10000" حالة تحكيم دولي ضمن 170 دولة ومنطقة حتى عام 2001 .

ومن بين أهم قواعد هذه الغرفة ما يأتي:

1- أوصت غرفة التجارة الدولية بباريس الأطراف الذين يريدون اللجوء إليها للتحكيم في المنازعات التي تنشب في العقود الدولية أن تتضمّن عقودهم الشرط النموذجي الآتي: "جميع الخلافات التي تنشأ عن هذا العقد يتم حسمها نهائياً ووفقاً لنظام المصالحة والتحكيم لغرفة التجارة الدولية بواسطة حكم أو عدة حكّام يتمّ تعيينهم طبقاً لذلك النظام".

2- تتيح غرفة التجارة الدولية في حالة إبداء الأطراف رغبتهم في جعل الغرفة هي سلطة تعيين المحكمين طبقاً لقواعد لجنة القانون التجاري للتحكيم اليونسيترال في أن تشمل عقودهم الشرط التالي وهو شرط التحكيم النموذجي: "يسوّى أي نزاع أو خلاف أو مطالبة تنشأ عن هذا العقد أو عن خرقه أو إنهائه أو بطلانه عن طريق التحكيم وفقاً لنظام لجنة القانون التجاري للتحكيم، كما هو سارٍ حالياً. تكون سلطة التعيين لغرفة التجارة الدولية التي تتصرف تبعاً للإجراءات التي اعتمدتها الغرفة".

3- أنشأت الغرفة المركز الدولي للخبرة، وذلك لتقديم الخبرة الفنية لأطراف العقود الدولية، كما أوصت الغرفة بأن يضمّن الأطراف عقودهم الدولية شرطاً نموذجياً ينصّ على اتفاقهم على اللجوء الى المركز الدولي للخبرة الفنية التابع لغرفة التجارة الدولية.

 

ثانياً- مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي (CRCICA):

في اجتماع الدورة التاسعة عشرة المنعقدة في قطر سنة 1978 تمت الموافقة على إنشاء المركز الإقليمي واختيرت العاصمة المصرية مقراً لهذا المركز، وبعد مفاوضات بين الأمانة العامة للجنة الاستشارية الآسيوية الإفريقية والحكومة المصرية على أساس أن يغطي نشاط مركز القاهرة الدول العربية في غرب أسيا وإفريقيا وأي دول أخرى في إفريقيا ترغب في اللجوء اليه، وأسفرت تلك المفاوضات عن توقيع برتوكول مبدئي لمدة ثلاث سنوات، وتتم إجراءات التحكيم على أساس قواعد المركز التي تقوم أساساً على قواعد اليونسيترال .

 

ثالثاً- لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسيترال):

وقد أنشئت بمقتضى قرار الجمعية العامة رقم (2205) (د–21) المؤرخ في 17 ديسمبر 1966، وهي تعتبر الهيئة القانونية الأساسية لمنظومة الأمم المتحدة في مجال القانون التجاري الدولي. وتضطلع هذه الهيئة من خلال الولاية المسندة إليها بالتنسيق بين أعمال المنظمات الفاعلة في ميدان القانون التجاري الدولي وتشجيع التعاون بينها والدعوة إلى المشاركة في الاتفاقيات الدولية القائمة، كما تقوم بإعداد قوانين نموذجية والترويج لاعتمادها، بالإضافة إلى البحث عن الوسائل الكفيلة بتفسير الاتفاقيات الدولية والقوانين الموحدة في ميدان القانون التجاري وتطبيقها بصورة موحدة وتعمل على الإلمام بالمعلومات عن التشريعات الوطنية والتطورات القانونية الحديثة في ميدان قانون التجارة الدولية، كما تسعى جاهدة إلى تدعيم الارتباط مع سائر هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة المعنية بالتجارة الدولية.

 

رابعاً- مركز تسوية منازعات الاستثمار بواشنطن (ICSID):

أنشئ المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بمقتضى اتفاقية واشنطن التي تعالج تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمار والتي تنشأ بين دولة ورعايا دولة أخرى موقِّعة على الاتفاقية، وتنظم قواعد المركز وسائل تسوية الخلافات بطريقة التوفيق أو التحكيم . ويتم تقديم طلب التحكيم إلى السكرتارية العامة لتقرّر تسجيل الطلب أو رفضه إذا تبيّن عدم دخول النزاع في اختصاص المركز. فإذا تم تسجيل الطلب يتم تشكيل محكمة التحكيم من محكم واحد أو عدد فردي في حالة التعدد ويتولى ذلك الأطراف وفقا لاتفاقهم. وإذا كان العدد ثلاثة، يختار كل طرف محكماً ويتولى الأطراف اختيار الثالث الذي يتولى الرئاسة، وإذا لم يتم تشكيل محكمة التحكيم على النحو السالف الذكر خلال التسعين "90" يوماً التالية لإعلان تسجيل الطلب أو الميعاد المتفق عليه بين الأطراف، يتولى حينها رئيس البنك الدولي، باعتباره رئيس مجلس إدارة المركز بناءً على طلب أحد الأطراف، وبعد التشاور مع الأطراف إذا أمكن، تعيين المحكم أو المحكمين الذين لم يتم تعيينهم على أن لا يكونوا من جنسية الدولة الطرف في النزاع أو جنسية الدولة التي ينتمي إليها الطرف الثاني .

 

المطلب الثاني- نماذج من القضايا المعروضة على المؤسسات التحكيمية ونِسَبُهَا:

ينتهي الفصل في القضية المطروحة على هيئة تحكيمية بإصدار القرار التحكيمي ويصدر بأغلبية أعضاء الهيئة التحكيمية، بحيث يتم ذكر أسماء المحكمين ويوقَّع عليه من طرف رئيس الهيئة والقائم بمهمة كاتب الجلسة. وتتم قراءة القرار في جلسة علنية بعد النداء على الأطراف. وقد تعدّدت القضايا المعروضة على الهيئات التحكيمية بسبب تزايد العلاقات التجارية الدولية وبلغت نسبها معدلات مرتفعة.

 

الفرع الأول- نماذج عن القضايا المعروضة على المؤسسات التحكيمية:

من بين أشهر قضايا التحكيم الدولي:

أولاً- القضية الأولى: قضية شركة "سياج" للاستثمارات السياحية مع الحكومة المصرية حول السيطرة على أرض "طابا" حينما قامت شركة "سياج" للاستثمارات السياحية ببيعها لعدد من المستثمرين، تبيّن بعد ذلك أن من بينهم إسرائيليين، فسعت الحكومة المصرية إلى وقف عملية البيع. وقد أنهى مركز التحكيم الدولي التابع للبنك الدولي في واشنطن المرافعات في الاتجاه إلى خسارة الحكومة المصرية ودفعها تعويض ثلاث مائة "300" مليون دولار، وذلك رغم ما تقدم به من الدفاع الذي ركّز على أنّ السبب في إلغاء العقد كان مبنياً على أساس خطر هذا الاستثمار على الأمن القومي باعتبار أن أجهزة الأمن المصرية اكتشفت أن شركة "سياج" أعطت الحق للشركة الإسرائيلية في إدارة المشروعات على الأرض المحدّدة للاستثمار، وأنّ من بين القائمين على الشركة شخصيات وقيادات عسكرية إسرائيلية اشتركت في الحربين ضد مصر عامي 1967 و1973 وهو ما يشير إلى وجود مخطط إسرائيل لتملك أراضٍ واسعة في سيناء لتكون عائقاً ضد تنميتها وتأكيد حماية الوجود الإسرائيلي على الحدود مع مصر. ومع ذلك، فإن هيئة المحكمة لم تلتفت الى هذا الأمر باعتباره شقاً سياسياً لا يدخل في عمق القضية واعتبرتها قضائية بالدرجة الأولى. وكان سير المرافعات في غير صالح الطرف المصري. ودفع دفاع مصر في النهاية للتأكيد على أنه لم يأخذ حقه في المرافعات مثلما أتيح لدفاع شركة "سياج"، وأنّ هيئة التحكيم انحازت للمدعي ولم تكن عادلة، خاصة أنّ الطرف المصري دفع بعدم اختصاص المحكمة في السابق، لكنها أصدرت حكمها بالاختصاص. وقد استند دفاع شركة "سياج" الى أربعة أحكام قضائية صادرة عن مجلس الدولة لصالح "سياج"، وإن هذه الأحكام كانت حجة قوية أمام مركز التحكيم الدولي ليحكم لصالح شركة "سياج". يذكر أن ممثل شركة "سياج " في التحكيم كان المحكم الدولي الأوسترالي "مايكل برار يليس"، أما عن الجانب المصري فيمثله المحكم الدولي التشيلي "فراتشيسكو أوريجا هيتسونا" .

 

ثانياً- القضية الثانية: قضية سوناطراك ضد مجمع غازناتورال الإسباني، وذلك بخصوص أسعار الغاز الجزائري المسوّق في إسبانيا، وخرجت سوناطراك منتصرة في هذه القضية لما أحيلت إلى التحكيم الدولي، رغم أن هذه القضية عمّرت قرابة أربع سنوات، وذلك من سنة 2007 إلى نهاية سنة 2010 تقريبا، حيث قضت غرفة التحكيم الدولي بباريس بأن يدفع الطرف الإسباني ما قيمته 5.1 مليار أورو لسوناطراك.

وهناك أيضاً قضية شركة سوناطراك مع شركة إديسون الإيطالية وقد خسرها الطرف الجزائري، وكانت تتعلق بأسعار الغاز الطبيعي، حيث قضى التحكيم الدولي لصالح الطرف الإيطالي الذي استفاد من عائدات مالية قدرها ثلاث مائة "300" مليون أورو دون احتساب الضرائب لعام 2013.

وهناك أيضاً قضية هي الأخرى متعلقة بشركة سوناطراك حيث لجأ مجمع "بي - أش - أل" الإسباني للمنشآت إلى التحكيم الدولي ضد شركة سوناطراك لدى الغرفة الدولية بباريس نهاية عام 2012، وهذا على خلفية جزء غير مدفوع من أشغال إضافية وتحسينات بمركز الاتفاقيات بوهران حيث طالب بمبلغ قدره مائتان وتسعة وستون "269" مليون أورو ومائة وتسعة وتسعون" 199 "مليون أورو كمخلفات تراكمية للفوائد ودين أصلي للأشغال يقدر بـسبعين "70" مليون أورو. وقد رفض المجمع الإسباني جملة وتفصيلاً خيار الحل الودي لهذه القضية .

وثمة قضية أخرى لفتت انتباه الرأي العام الجزائري وهي تتعلق باحتجاز الطائرة الجزائرية بمطار بروكسيل أواسط شهر ديسمبر من عام 2014 على إثر حجز تنفيذي أمر به القاضي البلجيكي لصالح شركة هولندية. وتفاصيل القضية تعود إلى وجود النزاع بين شركة الخطوط الجوية الجزائرية والشركة الهولندية بمناسبة تجديد الجوية الجزائرية أسطولها وباعت 27 طائرة معطلة ومجموعة من عتاد محركات قابلة للاستعمال إلى الشركة الهولندية مقابل مبلغ قدره 13 مليون دولار، وذلك بتاريخ 6 جويلية 2008 وفق عقد بين الطرفين. وقامت هذه الشركة التي يديرها جزائري له جنسية هولندية بـدفع مبلغ 2 مليون دولار كتسبيق (عربون بيع) لشركة الخطوط الجوية الجزائرية، لكن ونظراً للمشاكل التي طرأت بين الطرفين، اضطرت الجوية الجزائرية إلى فسخ العقد وأرجعت القضية للتحكيم الدولي. إن محكمة التحكيم الدولية والمشكلة من 3 محكمين جزائريين وأجنبي أصدرت حكماً بتاريخ 31 مارس 2014 يقضي ببطلان العقد لصالح الشركة الهولندية والحكم على الجوية الجزائرية بإرجاع مبلغ المليوني دولار الذي كانت استلمته كعربون بيع من قبل الشركة الهولندية. غير أن الجوية الجزائرية قامت برفع دعوى الطعن بالبطلان في حكم التحكيم أمام مجلس قضاء الجزائر، عملاً بالمادة 1058 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

 وبحسب بعض محامي الخطوط الجزائرية، وبعض الملاحظين، فإنّ ما أوصل الخطوط الجزائرية إلى ذلك المأزق هو تعمد مسؤولي الخطوط الجزائرية عدم دفع الدين المستحق عليهم لصاحب الدعوى الذي اعتبر أنه تعرّض للظلم ورفض الخضوع لذلك فحرّك دعوى ضد الشركة بعد أن حاول أكثر من مرة تسوية القضية ودياً، ما جعل الطرف الجزائري يقع في حرج لما تعرضت له الشركة ودفع المستحقات التي عليه مقابل رفع اليد عن الطائرة. يذكر أن محامي الخطوط الجزائرية هو المحامي "علي هارون" .

الفرع الثاني- نسب القضايا المعروضة على المؤسسات التحكيمية:

إنّ عدد المنازعات التجارية المعروضة على التحكيم الدولي يتزايد مع ارتفاع عدد العقود المبرمة، وقد أكد "محمد شملول" رئيس اللجنة الوطنية التابعة لغرفة التجارة الدولية على ضرورة تعزيز معارف الجهات القضائية داخل المؤسسات الاقتصادية الوطنية المتعاملة مع الشركاء الأجانب، وذلك لتجنيبها الوقوع في خسائر فادحة.  فمثلاً بالنسبة للجزائر، وعند لجوئها إلى التحكيم الدولي، لا بد لها من العمل بجدية على تكييف نصوصها المسيّرة لقطاع الاستثمار باستمرار، وذلك لتفادي السقوط في الثغرات القانونية التي يستغلها الطرف الثاني لإفتكاك أكبر قدر من التعويضات. فالجزائر مثلاً قامت خلال سنة 2014 برفع خمس (5) قضايا تجارية إلى التحكيم الدولي في إطار منازعاتها القانونية مع شركائها الأجانب مقابل إحدى عشرة (11) قضية رفعت ضدها .

أما عن القضايا التي سُجِّلت في مركز القاهرة في منتصف عام 2002 وحتى نهاية عام 2003، كمثال تقريبي، فقد كان عدد القضايا المعروضة على هذا المركز خمساً وسبعين "75" قضية ليصل العدد الإجمالي للقضايا الدولية، إلى ثلاث مائة وسبعين "370" قضية؛ ومن الملاحظ تزايد المعدل السنوي للقضايا الدولية إذ ازداد بشكل ملحوظ من عشر "10" قضايا دولية في السنة خلال الثمانينيات إلى خمس وستين "65" قضية في السنة بعدها، ولاسيما مع الألفية، ليتزايد هذا المعدل ليصل إلى حوالي مائة "100" قضية سنة 2011. وتمثل قضايا الإنشاءات النسبة الأكبر من القضايا المطروحة أمام المركز بنسبة 45% من القضايا المحالة إليه . أما بالنسبة الى نِسَبِ القضايا المعروضة على هيئة التحكيم الأمريكية، فقد وصل عدد القضايا المعروضة عليها سنوياً على العموم إلى حوالي سبعين "70" ألف قضية، منها حوالي مائتي "200" قضية تتعلق بالتحكيم التجاري الدولي. أما في ما يخص الجزائر فحالياً هناك نحو عشرين "20" قضية تحكيم دولي تعتبر الجزائر طرفا فيها وهذا حسب تصريح عضو غرفة التحكيم الدولية بباريس السيد "محمد شملول".

الفصل الثاني- تدخل القضاء الجزائري في التحكيم التجاري الدولي:

المبحث الأول- تعامل الجزائر مع التحكيم التجاري الدولي:

لم تبقَ الدول العربية بما فيها الجزائر بمعزل عن الدول في مجال التحكيم التجاري، بحيث عمدت إلى سَنِّ قوانين تنظم التحكيم التجاري الدولي، خاصة منذ بداية التسعينيات. وفي هذه الفترة، مرّت الجزائر بحركة إصلاحية واسعة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ما أدى إلى حتمية سن واعتماد تشريع وطني عصري في مجال التحكيم التجاري الدولي، وكان ذلك من خلال المرسوم التشريعي رقم 93/09 الصادر بتاريخ 25/04/93 المعدّل والمتمّم لقانون الإجراءات المدنية الصادر بالأمر رقم 66/154 المؤرخ في 8 جوان 1966. وسعى المشرع الجزائري لمواكبة حركية التجارة الدولية وقام بتعديل قانون الإجراءات المدنية وإصدار قانون جديد، وهو قانون 08-09 المؤرخ في 25 فبراير 2008 المتضمّن قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

والملاحظ أنّ الجزائر لم تكن سبَّاقة إلى اعتماد نهج التحكيم الدولي كوسيلة قضائية للفصل في الدعاوى والقضايا التجارية بينها أو بين شركاتها والشركات الأجنبية مثلما هي حال كثير من الدول العربية. فالجزائر لم تأخذ بالتحكيم الدولي إلاّ عام 1993  على نحو ما رأينا، أما قبل ذلك فالجزائر كانت ترفض إطلاقاً اعتناق نهج التحكيم الدولي، ولاسيما أنها أصدرت قانون إجراءاتها المدنية عام 1966 بموجب الأمر رقم 66/154 المؤرخ في 8 جوان 1966، وفيه كرّست رفضها المطلق لمسألة تسوية المنازعات الناشئة بينها وبين الشركات الأجنبية عن طريق التحكيم الدولي.

ولقد استرسل الفقه الجزائري آنذاك في البحث عن الأسباب الحقيقية للموقف العدائي للجزائر من التحكيم الدولي، وظهرت معه العديد من وجهات النظر المبرّرة لهذا الموقف، منها على وجه الخصوص الاختيار السياسي والاقتصادي للجزائر بعد الاستقلال، ولاسيما بعد التصحيح الثوري سنة 1965 ، حينما أخذت الجزائر بنظام الاقتصاد الموجّه كمحور لسياستها الاقتصادية، وفضّلت الركون إلى المدّ الطلائعي الاشتراكي الذي ظل يتشبثُ بمقومات السيادة والاحتكام إلى القوانين والقضاء الداخلي رافضاً كل ما هو غربي استعماري بما في ذلك القانون الدولي نفسه أو قضاؤه . يومها كانت الشركات الغربية متعددة الجنسيات رمزاً من رموز الأنظمة الإمبريالية، ووجهاً آخر من أوجه الاستعمار المقنع الذي يركز على الجوانب الاقتصادية. والراجح أن الجزائر كانت فعلاً على هذه الوجهة من النظر، فلقد أرادت التمسك بسيادتها وسمو قوانينها وسلطان قضائها، مع رفضها الاعتراف بوجود قضاء خاص موازٍ لقضائها الوطني، وما يؤكد هذه الوجهة من النظر هو بعض النصوص الواردة في دستورها لعام 1976 ، واتجاهها نحو اعتناق بعض قرارات الجمعية العامة التي منها على وجه الخصوص: "ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية" ، ومعلومٌ عن هذا الأخير تسبيقه للقانون والقضاء الوطنيين على القانون والتحكيم الدوليين .

وعلى ذلك، فقد تميّزت الفترةُ ما بين 1965 إلى غاية 1979 بتوسيع القطاع الاقتصادي وتميّزه بالملكية العمومية لوسائل الإنتاج وأيضاً هيمنة القطاع العام على القطاع الخاص وانطباق القانون العام على كل التصرفات والمعاملات التجارية للمتعاملين العموميين الاقتصاديين. كما تميزت التجارةُ الدولية في تلك الفترة باحتكار الدولة للتجارة الدولية، وخضوع كل المؤسسات العمومية الاقتصادية التي تمارس نشاطاً في الجزائر، بما في ذلك الشركات الأجنبية، إلى القانون والقضاء الوطنيين.

ومع ذلك، فإنّ القول بالحظر التشريعي للتحكيم الدولي في الجزائر في تلك الفترة لم يمنع اللجوء إليه كاستثناء عملي، وهو ما دفع إلى القول بأنّ قانون عام 1966 شكل قاعدة عامة في التعامل مع حل المنازعات فيما بين الحكومة الجزائرية أو شركاتها والشركات الأجنبية بعدم قبول التحكيم، غير أن الواقع العملي أثبت نزوع الحكومة الجزائرية فعليا نحو التحكيم في مسائل معينة جرى الترخيص بها في ذلك، وهنا، يمكن القول إن تلك الاستثناءات العملية قد دفعت إليها الضرورات الملحّة لتدعيم الاقتصاد الوطني ولاسيما في مجال قطاع المحروقات خاصة وأن الجزائر كانت آنذاك في حاجة ماسة لاستيراد التجهيزات الصناعية المتوافرة لدى الدول المتطورة خصوصاً في مجال التنقيب البترولي... الذي يعتبر المصدر الأساسي للاقتصاد الوطني، كما أنّ تلك الدول مارست كذلك من جانبها ضغوطات معتبرة على الجزائر بغية حملها على قبول التحكيم الدولي في المنازعات الناشئة مستقبلاً قبل التعاقد معها بموجب عقد معين؛ حينها لم يكن ثمة بد من ركون الجزائر إلى إبرام عقود دولية مع الشركات متعددة الجنسيات أو مع بلدانها الأصلية وتحتوي على الشرط التحكيمي. غير أن هذا كله كانت تبرّره الضرورة الملحة ولم يكن أبداً المسلك الأساسي للدولة الجزائرية في تلك الفترة. وعن هذه الفكرة تقريباً، عبَّر الفقيه الجزائري، "إسعاد محند"، بقوله: "... من هنا فإن الجزائر منذ الاستقلال كانت في التجارة الدولية مرغمة على التحكيم الدولي تخضع له أكثر مما تقبل به، وكانت تخضع له بانقباض وليس بانشراح، لأن هذا هو الطريق الوحيد لحل الخلافات التجارية الدولية" .

وبالرغم من التبرير السابق، يضيف جانبٌ من الفقه تبريراً آخر مفاده أن أسباب رفض الجزائر للتحكيم الدولي آنذاك، ترجع كذلك إلى إجحاف بعض القرارات التحكيمية التي صدرت ضد عدة دول عربية  ما جعل الجزائر، وبعض الدول العربية، تحتاط منه وتعتبره قضاءً محايداً وغير نزيه يخدم المصالح الإمبريالية على حساب مصالح الدول النامية التي كانت هي الأحوج والأولى بالرعاية.

غير أن بوادر الانفتاح نحو تحرير التجارة الخارجية والنظر في إمكانية اعتماد أسلوب التحكيم الدولي قد بدأ بالنسبة للجزائر مع نهاية الثمانينيات، سيما مع مصادقة الجزائر  على اتفاقية نيويورك المؤرخة في 10 جوان 1958، الخاصة بالاعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية وانضمامها إليها . وزاد من تعجيل ذلك تأسيسُ دستور عام 1989 الذي جاء نتيجة الحراك الشعبي المطالِب بالتخلي عن رموز الاشتراكية، إذ تضمّن العديد من النصوص التي مهدت الطريق كثيراً وساعدت على التحولات الجذرية التي شهدتها الساحة السياسية والاقتصادية فيما يتعلق بانتهاج النظام الليبرالي  فيما بعد، والذي تم تجسيده فعليا بموجب دستور عام 1996 ، فضلاً عن منظومةٍ تشريعية قيِّمة هادفة إلى تعزيز أرضية الاستثمارات الأجنبية ومختلف الضمانات التي يتعين تقديمها للمستثمرين الأجانب.

على أن المميز مع بداية التسعينيات، بداية مرحلة الانفتاح الاقتصادي في الجزائر، هو صدور المرسوم التشريعي رقم 93/09 الصادر بتاريخ 25/04/1993 المعدل والمتمم لقانون الإجراءات المدنية الصادر عام 1966، فبموجبه عُدِّلَتِ المادة (442) من قانون عام 1966 وباتت تسمح للأشخاص الطبيعية والمعنوية باللجوء إلى التحكيم  من بعد أن كانت في قانون 1966 تحظر ذلك. وقد أضاف قانون عام 1993 بابا رابعا خاصا بالأحكام المتعلقة بالتحكيم التجاري الدولي ليصبح عددها تسعة وعشرين قاعدة مادية دولية تخصّ كل فروض التحكيم من بدء إنشاء اتفاقية التحكيم إلى غاية فرضية تنفيذ القرار التحكيمي .

والملاحظُ أنّ المشرّع الجزائري تذبذب في اختيار المعيار الذي سيعتمد عليه في اعتبار التحكيم دولياً أو وطنياً. وفي عنصر سابق كنا قد تحدثنا عن المعايير المختلفة التي تنتهجها الدول تباعا في اعتبار التحكيم دولياً، منها المعيار الجغرافي (مكان التحكيم)، والمعيار الاقتصادي (اتصال العقد المراد تسويته عن طريق التحكيم بالتجارة الدولية)، والمعيار القانوني (تنازع القوانين المختلفة لحكم إجراءات التحكيم وموضوعه)، كما ذكرنا سالفاً أيضاً أن المشرع الفرنسي أخذ بالمعيار الاقتصادي واعتبر التحكيم دوليا إذا تعلَّق بمصالح التجارة الدولية وذلك بموجب المادة (1492) من قانون المرافعات الفرنسي لسنة 1981. ومع ذلك، فالمشرع الجزائري، أخذ في بدايات تعامله مع التحكيم الدولي بمعيار مختلط، وقد تجسد ذلك في المادة (458) مكرّر من المرسوم التشريعي الجزائري رقم 93/09 المؤرخ في 25 أبريل 1993 ، بنصها على أن: "يعتبر دولياً بمفهوم هذا الفصل، التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بمصالح التجارة الدولية والذي يكون فيه مقر أو موطن أحد الطرفين على الأقل في الخارج". فواضح من هذا النص أن الجزائر كانت تأخذ بالمعيار الاقتصادي وبالمعيار القانوني في ذات الوقت.

والراجح أنّ المشرع الجزائري قد تأثر بالمشرّع الفرنسي فأخذ بالمعيار الاقتصادي الذي أخذ به هذا الأخير وقد رأينا ذلك في المادة (1492) مرافعات فرنسي، وكذلك تأثّر بالمشرع السويسري الذي أخذ بالمعيار القانوني الذي تضمّنته المادة (176) من القانون الدولي الخاص السويسري لسنة 1987، وهي تقضي بأن: "يطبّق هذا القانون الجديد إذا وجد مقر المحكمة في سويسرا، أو يكون مقر أو موطن أحد الطرفين على الأقل في الخارج وقت إبرام مشارطة التحكيم". وعلى هذا الأساس فإن القانون الجزائري لعام 1993 يكون قد مزج بين القانون الفرنسي والسويسري معا، ويكون بذلك قد تبنى معيارين لتعريف التحكيم الدولي، وهما: المعيار الاقتصادي (الفرنسي)، والمعيار القانوني (السويسري).

غير أن المشرع الجزائري تراجع في ما بعد، وأخذ، في المادة (1039) من قانون 08/09 المؤرخ في 25 فبراير 2008 والمتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية، بالمعيار الاقتصادي فقط تأثراً بالمشرع الفرنسي، وذلك حينما نصّت على أن: "يعدّ التحكيم دولياً، بمفهوم هذا القانون، التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل".

ومهما يكن، فقد لعب القضاء الجزائري دوراً مزدوجاً في التحكيم التجاري الدولي، من جهة، كمساعد في مجال التحكيم التجاري الدولي، ومن جهة أخرى، كمراقب له وهذا ما سنحاول توضيحه في المبحثين الآتيين:

 

المبحث الأول- دور القضاء الجزائري كمساعد في مجال التحكيم التجاري الدولي:

وتتمثل مظاهر مساعدة القضاء الجزائري في هذه المرحلة من عملية التحكيم،

أي قبل صدور حكم التحكيم، عند انعقاد الخصومة التحكيمية الدولية وخلال سير الخصومة التحكيمية.

 

المطلب الأول- دور القضاء الجزائري عند انعقاد الخصومة التحكيمية:

 وفي هذه المرحلة تتضح مساعدة القضاء الجزائري من خلال: رد الدعوى لعدم الاختصاص وتعيين المحكمين.

 

الفرع الأول- ردّ الدعوى لعدم الاختصاص:

حيث نصّت المادة (1045) من قانون 08-09 لعام 2008 على أنه "يكون القاضي غير مختص بالفصل في موضوع النزاع إذا كانت الخصومة التحكيمية قائمة، أو إذا تبين له وجود اتفاقية تحكيم على أن تثار من أحد الطرفين". ويتبين من النص السابق أن القاضي لا يكون مختصا بالفصل في النزاع في حالتين: إذا كانت الخصومة التحكيمية قائمةً أو إذا تبين له وجود اتفاقية تحكيم، لكن الحالة الثانية هذه معلقة على شرط أن تثار من قبل أحد الأطراف، وبمفهوم المخالفة، فإنه في حالة عدم إثارة الدفع من أحدهم فإن القاضي سيكون مختصاً بالفصل في موضوع النزاع، وذلك لأن سكوت الأطراف يعتبر تنازلا ضمنيا عن اتفاقية التحكيم.

إن المادة (1045) تعتبر أكثر وضوحاً من نظيرتها السابقة المادة (458) مكرر 8 من المرسوم التشريعي رقم 93/09 المؤرخ في 25-04-1993 . كما أنها تحتوي على جديد يتمثل في أنه كلما كان هناك لجوء إلى التحكيم وأراد أحد الأطراف التهرب منه، يكون القاضي غير مختص متى كانت الخصومة التحكيمية قائمة أو تبين للقاضي أن هناك اتفاقية تحكيم أو أثير عدم الاختصاص من قبل أحد الأطراف. وفضلاً عن ذلك، تعتبر المادة (1045) منسجمة مع اتفاقية نيويورك لعام 1958 في المادة (2) التي تنص في فقرتها الثالثة على أن: "على محكمة الدولة المتعاقدة التي يطرح أمامها نزاع حول موضوع كان محل اتفاق من الأطراف بالمعنى الوارد في هذه المادة أن تحيل الخصوم بناء على طلب أحدهم إلى التحكيم، وذلك ما لم يتبيّن للمحكمة أن الاتفاق باطل أو لا أثر له أو غير قابل للتطبيق".

 

الفرع الثاني- تعيين المحكمين:

وقد حصر المشرّع الجزائري الحالات التي تستوجب تدخل القضاء في تعيين المحكمين، وذلك في الفقرة الثانية من المادة (1041) وهي كما يأتي:

 

أولاً- غياب تعيين المحكمين وصعوبته:

تنص الفقرة الثانية في المادة (1041) من قانون 08-09 على أنه: "في غياب التعيين وفي حالة صعوبة تعيين المحكمين أو عزلهم أو استبدالهم، يجوز للطرف الذي يهمه التعجيل القيام بما يأتي:

- رفع الأمر إلى رئيس المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها التحكيم إذا كان التحكيم يجري في الجزائر.

- رفع الأمر إلى رئيس محكمة الجزائر، إذا كان التحكيم يجري في الخارج واختار الأطراف تطبيق قواعد الإجراءات المعمول بها في الجزائر.

ثانياً- عزل المحكمين:

وقد يكون عزل المحكمين إما عزلاً اتفاقياً أو عزلاً قضائياً. فالعزل الاتفاقي يقصد به اتفاق المحتكمين على إيقاف المحكم عن أداء مهمته ، وقد نصّ المشرع الجزائري على هذا النوع من العزل في المادة (1018) في الفقرة الأخيرة كما يأتي: "لا يجوز عزل المحكمين خلال هذا الأجل  إلاّ باتفاق جميع الأطراف".

ومن جانب آخر، فإنه لا يُعتدُّ بالعزل إذا تم بعد صدور الحكم في موضوع النزاع  وكذلك ردهم بعد تعيينهم إلا لسبب من أسباب الرد ، أما في ما يتعلق بأسباب العزل، فلم ينص عليها المشرع الجزائري فيما حصرتها بعض التشريعات المقارنة بالآتي: تعذر المحكم عن القيام بمهمته؛ عدم مباشرته مهمته؛ انقطاعه عن أدائها بما يؤدي إلى تأخير غير مبرر في إجراءات التحكيم.

أما بالنسبة للنوع الثاني من العزل وهو العزل القضائي، لم ينصّ عليه المشرع الجزائري فيما نصت عليه بعض التشريعات المقارنة مثل قانون التحكيم المصري  في المادة (20) وقانون التحكيم الأردني  في المادة (19).   

 

ثالثاً- استبدالُ المحكمين:

يكون الاستبدال ضرورياً عندما لا يتمكن المحكم من الاستمرار في وظيفته أو يفشل فيها بشكل واضح، كما أن فقدان المحكم الوحيد يقود بالضرورة إلى الاستبدال في حالة استمرار عملية التحكيم . وقد نصت المادة (1024) من قانون الإجراءات المدنية الإدارية الجزائري على الاستبدال بقولها أنه: "بوفاة أحد المحكمين أو رفضه القيام بمهمته بمبرر أو تنحيته أو حصول مانع له، ما لم يوجد شرط مخالف، أو إذا اتفق الأطراف على استبداله أو استبداله من قبل المحكم أو المحكمين الباقين. وفي حالة غياب ذلك تطبق أحكام المادة 1009..."، وهذه الأخيرة جاء نصها كما يلي: "إذا اعترضت صعوبةٌ تشكيل محكمة التحكيم، بفعل أحد الأطراف أو بمناسبة تنفيذ إجراءات تعيين المحكم أو المحكمين، يُعَيَّنُ المحكم أو المحكمون من قبل رئيس المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها محل إبرام العقد أو محل تنفيذه".

 

الفرع الثالث- ردّ المحكم:

حدّد المشرّع الجزائري الحالات التي يجوز فيها ردّ المحكم، وذلك في نص المادة (1016) في فقرتها الأولى من قانون الإجراءات المدنية والإدارية وهي ثلاث حالات:

1- عدم توافره على المؤهلات المتفق عليها بين الأطراف .

2- وجود سبب منصوص عليه في نظام التحكيم الموافق عليه من طرف الأطراف.

3- عندما يتبيّن من ظروف شبهة مشروعة في استقلاليته، ولاسيما بسبب وجود مصلحة أو علاقة اقتصادية أو عائلية مع أحد الأطراف مباشرة  أو عن طريق وسيط.

وقد بنيت الفقرتان 2 و3 من المادة (1016) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أنه: "لا يجوز طلب رد المحكم من الطرف الذي كان قد عينه أو شارك في تعيينه إلاّ لسبب علم به بعد التعيين".

وقد اكتفى المشرِّع الجزائري من خلال المادة (1016) في فقرتيها الرابعة والخامسة باختصاص القاضي لبت طلب الردّ بأمر غير قابل لأي طعن. وسواء كان هذا الأمر متعلقا بقبول الرد أو برفضه، لكنه لم يبيّن ما مصير الإجراءات التي شارك هذا المحكم المطلوب رده فيها بعكس قانون التحكيم المصري الذي تطرق لها حيث جاء في الفقرة الثالثة من المادة (19) أنه: "لا يترتب على تقديم طلب الردّ وقف إجراءات التحكيم وإذا حكم برد المحكم ترتب على ذلك اعتبار ما يكون قد تم من إجراءات التحكيم بما في ذلك حكم المحكمين كأن لم تكن."

 

المطلب الثاني- دور القضاء الجزائري خلال سير الخصومة التحكمية الدولية:

إذا كان للقضاء دور عند انعقاد الخصومة التحكيمية، فله أيضاً دور خلال سيرها وذلك في:

 

الفرع الأول- تدخّل القضاء الوطني في اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية:

نظّم المشرّع الجزائري مسألة الإجراءات الوقتية والتحفظية في المادة (1046) حيث جاء فيها ما يلي: "يمكن لمحكمة التحكيم أن تأمر بتدابير مؤقتة أو تحفظية بناءً على طلب أحد الأطراف، ما لم ينص اتفاق التحكيم على خلاف ذلك.

إذا لم يقم الطرف المعني بتنفيذ هذا التدبير إرادياً، جاز لمحكمة التحكيم أن تطلب تدخل القاضي المختص، ويطبّق في هذا الشأن قانون بلد القاضي.

 يمكن لمحكمة التحكيم أو القاضي أن يُخضع التدابير المؤقتة أو التحفظية لتقديم الضمانات الملائمة من قبل الطرف الذي طلب هذا التدبير".

من خلال الفقرة الأولى من هذه المادة يلاحظ أنّ المشرّع قد منح الاختصاص لهيئة التحكيم حتى في حالة عدم الاتفاق على الجهة المختصة بالفصل في طلب التدبير، وأنه يتوجب اللجوء الى القضاء لطلب إصدار التدبير في مرحلة ما قبل تشكيل هيئة التحكيم حتى لو اشتمل اتفاق التحكيم على منح هذه الهيئة الاختصاص بذلك وهذه الحالة لم ينص عليها المشرع لكن لا مفر منها.

كما أنه يمكن الاستعانة بالقضاء عند عدم التنفيذ الإرادي للتدبير حتى لو اشتمل اتفاق التحكيم على إسناد إصدار هذه التدابير لهيئة التحكيم، ويمكن القولُ أن القانون الجزائري أقر بالاختصاص المشترك بين التحكيم والقضاء في مجال الإجراءات أو التدابير المؤقتة أو التحفظية، وذلك لمنح نظام التحكيم أكبر قدر من الفاعلية .

وتدخل السلطة القضائية يأتي تلبية للاهتمام بحسن سير التحكيم وتدخّلها يقف عند حدود مساعدة المحكمين ولا يمكن أن يتجاوزها إلى أمور تتصل بحسم النزاع الذي هو مهمة المحكمين ، إنّ تدخل القضاء الوطني في اتخاذ التدابير الوقتية والتحفظية لا يتم إلاّ إذا توافر شرطان هما:

1- عنصر الاستعجال؛

2- عدم المساس بأصل الحق.

 

الفرع الثاني- مساعدة هيئة التحكيم في مجال تقديم الأدلة:

 تمتّد مساعدة القضاء في الخصومة التحكيمية إلى تهيئة الظروف لإقامة الدليل على الحق المتنازع فيه وإثباته؛ والإثبات بمعناه القانوني هو تقديم الدليل أمام القاضي بالطرق الجائزة على وجود واقعة قانونية متنازع فيها بين الخصوم  وينصب الإثبات على صحة الواقعة القانونية وليس على الحق المتنازع فيه، وبالتالي فإن التحكيم يحتاج إلى القضاء لسبب بسيط وهو أنّ المحكمين لا يملكون السلطة التي يملكها القاضي على أي شخص غير مرتبط بالعقد التحكيمي. فالقاضي يمكنه توجيه اليمين المتممة والأمر بحضور الخصوم للاستجواب وبالتحقيق في الأحوال التي يجوز فيها الإثباتُ بالبينة والحكم بندب خبير وتقرير الانتقال لمعاينة المتنازع فيه، وكل هذا للقاضي أن يقوم به من تلقاء نفسه . ويمكن أن يتجسد تعاون القاضي في تقديم الأدلة في أربعة مجالات في مجال الإثبات الكتابي، في مجال شهادة الشهود، أو مجال الخبرة، ومجال الإنابة القضائية.

 

الفرع الثالث- تدخّل القضاء في مجال المسائل الأولية:

المسائل الأولية هي المسائل التي يتوقف الحكم على الفصل فيها لأنه يجب أن تُصَفَّى هذه المسألة أولاً حتى يتسنّى الحكم في الدعوى بعد ذلك على أساسها ، فهي إذاً

مسألة مبدئية لابد من بتها أولاً، أي أن الحكم في القضية معلق عليها. وهاته المسائل هي

مما يخـرج عن حدود ولاية المحكم إما لكونها غير قابلة للتحكيم وإمّا أن الاتفاق لا يشملها ، وبالتالي يتوجب هنا التوجه في شأنها للمحكمة المختصة وتوقف إجراءات التحكيم حتى يتم الفصل فيها نهائياً، كما يترتب على ذلك وقف سير الميعاد المحدّد لإصدار حكم التحكيم

ويدخل في إطار المسائل الأولية ما يأتي:

1- مسألة من مسائل الإفلاس مثلاً، كتحديد فترة الريبة تمهيداً للتعرف إلى ما إذا كان المدين قد أبرم اتفاق التحكيم قبل التوقف على الدفع من عدمه .

2- مسألة الملكية في دعوى القسمة .

3- حالة تعلّق الدليل بمحرّرات رسمية قدّمها أحد الأطراف وطُعن فيها بالتزوير أو اتُـخذت بشأنها إجراءات جنائية.

واختصاص القضاء بالفصل في المسائل الأولية مرهون بتوافر ثلاثة شروط، وهي:

أ- أن تثار مسألة أولية في الدعوى؛

ب- أن لا تكون المسألة الأولية من اختصاص هيئة التحكيم؛

ج- أن تقرر هيئة التحكيم أن الفصل في هذه المسألة لازم للفصل في النزاع.

 

الفرع الرابع- الاختصاصات الأخرى للقضاء الجزائري كمساعد للمحكمة:

بما أن صور مساعدة القضاء الجزائري للتحكيم التجاري الدولي لم ترد على سبيل الحصر وهذا ما يفهم من نص المادة (1048) والتي نصت على أنه: "إذا اقتضت الضرورة مساعدة السلطة القضائية في تقديم الأدلة أو تمديد مهمة المحكمين أو تثبيت الإجراءات أو في حالات الأخرى...." والحالات الأخرى أو الاختصاصات التي يمكن للقضاء الجزائري التدخل فيها يمكن ذكر بعض منها:

أولاً- المساعدة في مسألة تحديد أتعاب المحكمين: يعد دور المحكمة أو القضاء في هذا المجال دورا إيجابيا لأنه في حالة اختلاف المحكمين على الأتعاب وقامت هيئة التحكيم بتقدير ذلك فإن قرارها يكون قابلا للطعن فيه أمام المحكمة المختصة، ويكون لهذه الأخيرة سلطة تقديرية، غير أن عليها أن تراعي طبيعة التحكيم التجاري الدولي والأخذ بعين الاعتبار النفقات التي يتكبّدها المحكمون في السفر، والأعراف التجارية في هذا الشأن أيضا مع مراعاة قيمة القضية والمال المتنازع عليه .

ثانياً- تفسير وتصحيح الأخطاء المادية التي تشوب الحكم التحكيمي: هنا عند تدخل القاضي للتصحيح أو التفسير ينبغي عليه التقيد بعدم تعديل مضمون الحكم التحكيمي، ويتوجب عليه النظر والرد على الدفوع التي أغفلت عنها هيئة التحكيم بقرارها. والتفسير يجب أن يكون قانونيا وموضوعيا من خلال استعراض الدفوع، ولا يجوز للقاضي أن ينظر في دفوع أو وثائق أو مستندات جديدة لم يسبق التعهد بها من طرف هيئة التحكيم وهو ما أقره فقه القضاء الفرنسي . ويكون طلب تفسير الحكم التحكيمي إذا كان هناك غموض أو إبهام في منطوق الحكم مما يصعب معه فهمه فيصعب بالتالي تنفيذه. أما عن تصحيح الأخطاء المادية فيتعين لقبول طلب التصحيح أن تكون الأخطاء المطلوب تصحيحها مادية، والخطأ المادي قد يكون حسابياً أو كتابياً.

 

المبحث الثاني- دور القضاء الجزائري كمراقب للحكم التحكيمي:

ينتج الحكم التحكيمي آثاراً مختلفة بين أطراف النزاع، بحيث يسعى الطرف الذي جاء الحكم في صالحه للتوصل إلى الاعتراف به وتنفيذه، في حين يبحث خاسر الدعوى عن كيفية الطعن في القرار التحكيمي لتفادي تنفيذه ضده.

وبالتالي يكون دور القاضي الوطني كمراقب في:

 

المطلب الأول: دور القضاء في مجال الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية:

إنّ تنفيذ الحكم التحكيمي لا يتم دون طلب الاعتراف به من قبل السلطة القضائية، فالتنفيذ يسبقه الاعتراف، ونظراً لكون مصطلحي الاعتراف والتنفيذ يستعملان وكأنهما مرتبطان، وهذا ما لوحظ في اتفاقية نيويورك لسنة 1958 . إلا أن المصطلحين يتميز بعضهما عن البعض.

 

الفرع الأول- مفهوم الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية:

أولاً- مفهوم الاعتراف بالأحكام التحكيمية الدولية: لم يعرف المشرع الجزائري لا في قانون رقم 66-154 ، ولا في القانون رقم 08-09 الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية، وهذا على غرار معاهدة نيويورك لسنة 1958، لكنه عُرِّفَ فقهاً. فمثلاً عرفه الدكتور "مصطفى تراري الثاني" فذكر بأن: "الاعتراف يرمي إلى تسليم المحاكم الجزائرية بقرار تحكيمي دون تنفيذه" .

ولتأكيد استقلالية مفهوم الاعتراف عن التنفيذ ذهب الفقهاء إلى طرح فرضيتين :

- الفرضية الأولى: أن يكون فيها لأحد الأطراف مصلحة في إدخال حكم تحكيمي في النظام القانوني الجزائري دون أن تكون له نية في مباشرة التنفيذ الجبري.

- الفرضية الثانية: هي عندما يعتد بها بصفة فرعية بمناسبة رفع دعوى أمام القضاء في نفس النزاع الذي فصل فيه الحكم التحكيمي.

 

ثانياً- مفهوم تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية: إن الأمر بالتنفيذ هو ذلك الإجراء الذي يصدر عن القاضي المختص قانونا يأمر بمقتضاه بتمتع حكم التحكيم، سواء كان حكم التحكيم وطنياً أو أجنبياً، بالقوة التنفيذية. فيعتبر التنفيذ في مجال التحكيم التجاري الدولي امتداداً لدور القاضي إلى ما بعد صدور الحكم التحكيمي. وينحصر دور القاضي في التأكد من توفر الشروط اللازمة في الحكم لتنفيذه دون التدخل في الموضوع لأنه لا يعد هيئة استئنافية ، وله فقط السلطة في التأكد من صحة إجراءاته وإمكانية تنفيذه دون أن يتعارض مع القانون الوطني أو أن يخالف النظام العام بحسب نص المادة (1006) من قانون رقم 08-09 المتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية  .

وعليه لا ينفذ الحكم التحكيمي إلا إذا أمرت دولة التنفيذ بتنفيذه طبقا لقواعد المرافعات المتبعة لديها حسب نص المادة 3 الفقرة 1 من اتفاقية نيويورك، فالاعتراف بالحكم لا يعني حتما تنفيذه، ولكن لو نفذ فمن الضروري أن يكون قد أعترف به من الجهة التي أعطته القوة التنفيذية .

 

الفرع الثاني- شروط الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية:

ألزم قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، وكذا اتفاقية نيويورك ، القاضي قبل منح الاعتراف والتنفيذ التأكد من توافر الشروط القانونية لهما. فجاء في نص المادة (1051) من قانون 08-09 على أنه: "يتم الاعتراف بأحكام التحكيم الدولي في الجزائر إذا أثبت من تَـمسَّك بها وجودَها، وكان هذا الاعتراف غير مخالف للنظام العام الدولي.

وتعتبر قابلة للتنفيذ في الجزائر بنفس الشروط، بأمر صادر عن رئيس المحكمة التي صدرت أحكام التحكيم في دائرة اختصاصها أو محكمة محل التنفيذ إذا كان مقر محكمة التحكيم موجود خارج الإقليم الوطني". وتنص المادة (1052) من نفس القانون على أنه: "يثبت حكم التحكيم بتقديم الأصل مرفقا باتفاقية التحكيم أو نسخ عنهما، تستوفي شروط صحتها". ونصت المادة (1053) من نفس القانون: "تودع الوثائق المذكورة في المادة 1052 أعلاه، بأمانة ضبط الجهة القضائية المختصة من الطرف المعني بالتعجيل".

فمن خلال هذه المواد يتبيّن أن المشرّع وضع شرطين للاعتراف والتنفيذ، وهما:

1- إثبات وجود حكم التحكيم، ويكون بتقديم أصل الحكم مع إثبات وجود اتفاقية التحكيم ليتأكد القاضي من أن حكم التحكيم صدر بناء على اتفاق تحكيم مكتوب. وفي حالة ما إذا تعذر على طالب الاعتراف والتنفيذ تقديم أصل الوثيقتين، أجاز المشرع له تقديم نسخ عنهما تستوفي شروط صحتهما، وهذا ما نصت عليه المادة (1052) من قانون 08-09، وكذا الفقرة الأولى من المادة الرابعة من اتفاقية نيويورك، وتكون محررة باللغة العربية.

وعليه يتعين على القاضي الوطني أن يراقب مدى توافر هذه الشروط قبل منح الاعتراف والأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي، وهذا ما فندته المحكمة العليا في قرارها المتعلق بقضية الشركة الجزائرية للصناعات الغذائية "سالينا" ضد ترادينج أند سارفيس .

2- عدم مخالفة حكم التحكيم الدولي للنظام العام الدولي: وهو شرط قانوني يثيره القاضي من تلقاء نفسه على عكس الشروط الشكلية، بحيث لا يمكن لحكم التحكيم المخالف للنظام العام الدولي في الجزائر أن يُعترف به أو ينفّذ طبقاً لنص المادة (1051) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري. فالنظام العام الدولي فكرة تأبى التحديد لكونها متغيرة غير ثابتة في حدود معينة ودائمة التطور والتغير باستمرار، وهي تختلف من مجتمع لآخر. فللقاضي وحده الحرية في تحديد مفهوم النظام العام الدولي والنطاق الذي يعتزم منحه إياه . وقد أورد الدكتور "عبد الوهاب بخشي" بعض الفرضيات حول قواعد النظام العام الدولي في القانون الجزائري تتمثل في: "التزام احترام سلطات الرقابة للسلطات العمومية في مجال العلاقات المالية مع الخارج، مبدأ حسن النية في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية، احترام القواعد الأساسية للعدالة ولاسيما حقوق الدفاع" . وإعطاء السلطة التقديرية للقاضي في هذه المسألة يجب أن لا تكون عائقاً يحول دون أداء الحكم مهمته على الوجه المطلوب أو تكون سبباً في إطالة مدة النزاع وإجراءاته .

 

الفرع الثالث- إجراءات الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية:

بالرجوع إلى قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري رقم 08 -09 نجد أن المشرع نص على إجراءات الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الدولية، كما يأتي:

 

أولاً- المحكمة المختصة: من خلال المادة (1051) يتبيّن أن المشرع لم ينص على المحكمة المختصة بخصوص الاعتراف، وبالتالي إذا كان طلب الاعتراف فرعياً، أي أنه مرتبط بطلب التنفيذ، فإن الاعتراف يتم من طرف نفس المحكمة تطبيقاً للقاعدة التي تقول "الفرع يتبع الأصل" . أما إذا كان طلب الاعتراف أصلياً فيتم الاعتراف به من طرف المحكمة التي سينفذ حكم التحكيم في دائرة اختصاصها. أمّا في ما يتعلق بالتنفيذ، فإذا كان مقر محكمة التحكيم بالجزائر فإن طلب التنفيذ يقدم إلى رئيس المحكمة التي يوجد فيها مقر التحكيم، أما إذا كان مقر التحكيم خارج التراب الوطني الجزائري، فإن طلب التنفيذ يقدم إلى المحكمة محل التنفيذ ومحكمة التنفيذ هي المحكمة التي توجد بها الأموال التي يمكن أن تخضع للتنفيذ الجبري. وفي كلتا الحالتين يُصدر رئيس المحكمة المختصة أمراً بالتنفيذ.

 

ثانياً- إجراءات استصدار الأمر بالاعتراف والتنفيذ: طبقاً لأحكام قانون 08-09 المتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية، وعلى ضوء اتفاقية نيويورك لسنة 1958، تكمن إجراءات استصدار الأمر بالاعتراف والتنفيذ في ما يأتي:

- يقوم الطرف المعني بالتعجيل بتقديم عريضة كتابية أمام رئيس المحكمة المختصة يطلب فيها الاعتراف بالقرار التحكيمي أو إمهاره بالصيغة التنفيذية، ويكون مرفقاً باتفاقية التحكيم والقرار التحكيمي أو بنسخ عنهما تستوفي شروط صحتها، ويجب أن تكون الوثيقتان مصحوبتين بالترجمة إلى اللغة العربية وتودع لدى أمانة ضبط الجهة القضائية المختصة طبقاً للمواد (1035) و(1053) و(600) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية. ويتم تحرير محضر الإيداع وتسلم نسخة منه إلى طالب التنفيذ. ويتعين على رئيس المحكمة مراقبة هذه الوثائق، فإذا تبين له أنها مستوفية تلك الشروط المنصوص عليها قانونا حُقَّ له أن يصدر أمرا بالتنفيذ، ويقوم صاحبه بتبليغه رسميا إلى المعني بالتنفيذ والذي يحق له استئناف هذا الأمر في أجل شهر من تاريخ التبليغ أمام رئيس المجلس، وذلك في الحالات المنصوص عليها على سبيل الحصر في المادة (1056) من نفس القانون ، وفي حالة رفض الطلب، يحق لمقدم الطلب استئناف الأمر أمام رئيس المجلس في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ الرفض طبقا للمادة (1035) في فقرتها الثانية من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

 

المطلب الثاني- طرق الطعن في الأحكام التحكيمية الدولية:

ميّز المشرّع الجزائري بين الطعن ضد الأحكام التحكيمية الأجنبية وبين الطعن ضد الأحكام التحكيمية الصادرة في الجزائر في مجال التحكيم التجاري الدولي:

 

الفرع الأول- الطعن ضد الأحكام التحكيمية الأجنبية:

أولاً- الاستئناف: ويكون في حالتين:

أ-      استئناف الأمر القاضي برفض الاعتراف وبرفض تنفيذ الحكم التحكيمي الأجنبي: بالرجوع إلى المادة (1055) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري سنجد أن المشرع لم يحدد الحالات التي يمكن فيها رفع الاستئناف ضد أمر القاضي برفض الاعتراف ورفض تنفيذ الحكم التحكيمي الأجنبي، بل ترك المجال مفتوحاً لطالب الاعتراف والتنفيذ.

ويكون استئناف هذا الأمر أمام الجهة القضائية التي تعلو المحكمة التي صدر عنها الأمر برفض الاعتراف أو رفض التنفيذ طبقاً لنص المادة (1035) من نفس القانون، وعلى جهة الاستئناف النظر فقط في الأمر القضائي إمّا بالتأييد وإمّا بالإلغاء، وفي هذه الحالة الأمر بمنح الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي .

ب– استئناف الأمر القاضي بالاعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي الأجنبي: إنّ المشرّع

منع مبدئيا استئنـاف الأمر القاضي بالاعتراف والتنفيذ، وأجاز ذلك استثناءً، وعلى سبيل الحصر في ستة (6) حالات نصّت عليها المادة (1056) من قانون 08-09، وهي:

- إذا فصلت محكمةُ التحكيم بدون اتفاقية تحكيم أو بناءً على اتفاقية باطلة أو انقضاء مدة الاتفاقية.

- إذا كان تشكيلُ محكمة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون.

- إذا فصلت محكمة التحكيم بما يخالف المهمة المسندة إليها.

- إذا لم يُرَاعَ مبدأ الوجاهية أثناء سير الخصومة التحكيمية وليس عند إصدار الأمر بالاعتراف والتنفيذ.

- إذا لم تسبّب محكمة التحكيم حكمها أو إذا وجد تناقضٌ في الأسباب. وهذا السبب نصّت عليه أيضاً اتفاقية واشنطن لعام 1965 ، في فقرتها الثالثة من المادة (48)، وأوجبته أيضاً غرفة التحكيم التجاري الدولي بباريس من خلال نظامها في المادة (25).

- إذا كان حكم التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي.

 

ثانياً- الطعن بالنقض: نصت المادة (1061) من قانون 08-09 على أنه: "تكونُ القرارات الصادرة تطبيقاً للمواد 1055 و1056 و1058 أعلاه قابلة للطعن بالنقض"، وبالتالي فإنّ القرارات الصادرة عن المجالس القضائية في الاستئناف المرفوع ضد أمر رئيس المحكمة القاضي برفض الاعتراف أو التنفيذ أو القاضي بالاعتراف أو التنفيذ قابلة للطعن بالنقض. غير أنّ المشرّع لم يحدّد الحالات التي يجوز فيها رفع الطعن بالنقض الخاصة بالتحكيم، لذلك لابد من الرجوع إلى الأحكام العامة  المنصوص عليها في قانون الإجراءات المدنية والإدارية، وهي الحالات الواردة في المادة (358) من نفس القانون . كما يجوز للمحكمة العليا أن تثير من تلقاء نفسها وجهاً أو عدة أوجه للنقض طبقا لنص المادة (360) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

ويرفع الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا وطبقاً لنص المادة 354 من قانون 08-09 يرفع الطعن بالنقض في أجل شهرين (2) يبدأ من تاريخ التبليغ الرسمي للحكم المطعون فيه إذا تم شخصيا. ويمدد الأجل الى ثلاثة (3) أشهر إذا تم التبليغ الرسمي في موطنه الحقيقي أو المختار.

 

الفرع الثاني- الطعن ضد الأحكام التحكيمية الصادرة بالجزائر في مجال التحكيم الدولي:

ذهب المشرّع الجزائري إلى أنّ الأحكام التحكيمية الدولية الصادرة في الجزائر يمكن أن تكون موضوع طعن بالبطلان وأنّ قرارات المجلس القضائي الصادرة بشأنها تكون قابلة للطعن بالنقض.

أولاً- الطعن بالبطلان: تنص المادة (1058) من قانون 08-09 على أنه: "يمكن أن يكون حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر موضوع طعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في المادة 1056 أعلاه.

لا يقبل الأمر الذي يقضي بتنفيذ حكم التحكيم الدولي المشار إليه أعلاه أي طعن، غير أن الطعن ببطلان حكم التحكيم يرتّب بقوة القانون الطعن في أمر التنفيذ أو تخلّي المحكمة عن الفصل في طلب التنفيذ، إذا لم يتم الفصل فيه". تقرّر هذه النصوص ما تجري عليه جميع التشريعات تقريباً، من تقرير الحق لمن صدر ضده حكم التحكيم في طلب إبطال ذلك الحكم للأسباب المحدّدة أعلاه، وهذه ضمانة أساسية وهي الضمانة الوحيدة المتاحة لمن يصدر ضده الحكم. .

أما إجراءات الطعن بالبطلان حسب نص المادة (1059) من قانون 08-09 فإنه:

"يرفع الطعن بالبطلان في حكم التحكيم المنصوص عليه في المادة 1058 أعلاه أمام المجلس القضائي الذي صدر حكم التحكيم في دائرة اختصاصه، ويقبل الطعن ابتداء من تاريخ النطق بحكم التحكيم.

لا يقبل هذا الطعن بعد أجل شهر واحد (1) من تاريخ التبليغ الرسمي للأمر القاضي بالتنفيذ".

فإذاً، إصدار المجلس القضائي أمراً بقبول الطعن بالبطلان يؤدي الى إلغاء القرار التحكيمي وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل إجراء التحكيم، وللأطراف الحق في تشكيل محكمة تحكيم جديدة للفصل في المنازعة، أو التخلي عن التحكيم واللجوء إلى القضاء الوطني .

أما إذا أصدر المجلس القضائي أمرا برفض الطعن بالبطلان فإنه يؤدي إلى إضفاء الصيغة التنفيذية على القرار التحكيمي الذي تخلت المحكمة عن النظر في طلب التنفيذ بعد الطعن بالبطلان، أما إذا صدر أمر التنفيذ قبل الطعن بالبطلان فإن رفض هذا الطعن يرفع حالة وقف التنفيذ ومباشرته.

ثانياً- الطعن بالنقض: إن القرارات الصادرة عن المجالس القضائية عند فصلها في الطعن بالبطلان تكون قابلة للطعن بالنقض طبقا للمادة (1061) من قانون 08-09، ويؤسس الطعن على أحد الأوجه الواردة في المادة (358) السابق ذكرها.

ويرفع الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا في أجل شهرين بدءًا من تاريخ التبليغ الرسمي للقرار المطعون فيه إذا تم شخصيا، ويمدد أجل الطعن بالنقض إلى ثلاثة (3) أشهر إذا تم التبليغ الرسمي في موطنه الحقيقي أو المختار.

 

خاتمة:

ازداد الاهتمام بالتحكيم التجاري الدولي بازدياد التبادل التجاري، وتوسع العلاقات الاقتصادية والمعاملات التجارية، هذا الاهتمام الزائد جعل التحكيم محركاً للتجارة الدولية، وتبيّن لنا ذلك من خلال ظهور العديد من مراكز التحكيم الدولية والإقليمية من أهمها: غرفة التجارة الدولية بباريس، ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، مركز تسوية منازعات الاستثمار بواشنطن، بالإضافة إلى لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي، وكذا إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية التي تنظم مختلف إجراءات التحكيم منها: اتفاقية نيويورك لسنة 1958، اتفاقية جنيف لسنة 1927، والقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1985. كما ذهبت معظم الدول إلى سَنِّ قوانين داخلية تنظم التحكيم التجاري الدولي، ومنها الجزائر التي وضعت تشريعاً خاصاً بالتحكيم التجاري الدولي بموجب المرسوم التشريعي رقم 93-09 المؤرخ في 25 أفريل 1993، وذلك بعد انضمامها بتحفظ الى اتفاقية نيويورك لسنة 1958. وموازاة مع الأنظمة القانونية الحديثة المتعلقة بالتحكيم والتي تتماشى ومقتضيات التجارة الدولية، أصدر المشرع الجزائري القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25 فبراير 2008 والمتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية، بحيث أوضح المشرع الجزائري من خلاله الأحوال التي يتدخل فيها قضاء الدولة في أمور التحكيم التجاري الدولي، مع إبراز دور القاضي الوطني بصفته مساعداً لهيئة التحكيم، وبصفته مراقباً للحكم التحكيمي.

فبصفته مساعداً لهيئة التحكيم، أبرزت الدراسة أنّ للقاضي الوطني دوراً فعالاً في انعقاد الخصومة التحكيمية من خلال ردّه للدعوى بعدم الاختصاص، وذلك بامتناعه عن النظر في النزاع وإحالة الأطراف على التحكيم، ثم من خلال مدّه يد المساعدة في تعيين المحكمين في حالة طلب ذلك من قبل أحد الأطراف. كما يتدخل القاضي خلال سير الخصومة التحكيمية، خاصة في اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية والحصول على الأدلة والمسائل الأولية، وكذا مسائل أخرى. فتدخُّل القاضي بهذه الصفة يكون من أجل تفادي إجراءات المماطلة التي يعتمد عليها الطرف سيئ النية.

وبصفته مراقباً للحكم التحكيمي، أبرزت الدراسة أنّ القاضي يكتفي بمراقبة سطحية يتأكد من خلالها من وجود حكم تحكيمي من جهة، وغير مخالف للنظام العام الدولي من جهة ثانية، وهذا يكون متى رفع أمامه طلبٌ بالاعتراف بالحكم التحكيمي الدولي وتنفيذه، وهذا يدل أنّ المشرّع لم يحدّد شروطاً صارمة لذلك.

كذلك يبرز دور القاضي كمراقب من خلال طرق الطعن الممنوحة للأطراف سواء ضد أحكام التحكيم الأجنبية، أو أحكام التحكيم الدولية الصادرة بالجزائر، بحيث لا يمكن للقاضي الوطني التدخل المباشر في الحكم التحكيمي الصادر بالخارج إلاّ بطريق غير مباشر، عن طريق الموافقة على الاعتراف والتنفيذ أو رفض ذلك، لكن له الحق في مراقبة الحكم التحكيمي الدولي الصادر في الجزائر في حالة الطعن ضده بالبطلان من أحد الأطراف.

وبالتالي ومن خلال أحكام قانون الإجراءات المدنية والإدارية يتبيّن لنا أنّ نظرة المشرع الجزائري إلى التحكيم التجاري الدولي تتمثل في تكريس حرية هيئة التحكيم والأطراف في سير