الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم التجاري / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / النظام العام وسعر الفائدة في التحكيم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    117

التفاصيل طباعة نسخ

-1    من أول خصائص القاعدة القانونية هي خاصية الإلزام، فقواعد القانون كلها مُلزمة بمعنى من المعاني، ودرجة الإلزام تختلف في بعض القواعد عن البعض الآخر. وفي ذلك الخصوص يقسم الفقه بين قسمين من القواعد القانونية، فهناك القواعد الآمرة، وهناك القواعد غير الآمرة. أما القواعد الآمرة فهي التي لا تستطيع إرادة الأفراد أن تتفق على مخالفتها، ويصير الاتفاق المخالف إن حصل باطلاً بطلاناً مطلقاً، فلا ينتج أثراً قانونياً. أمّا القواعد غير الآمرة الواردة في نطاق القانون الخاص (المدني والتجاري) فتسمّى القواعد المُكمّلة (أو المقرّرة أو المفسرّة أو الاختيارية) وتتميز هذه القواعد بأنّ إرادة الأفراد يمكن أن تلعب بخصوصها دوراً هاماً، إذ يجوز للمتعاقدين الاتفاق على خلاف حكمها، أي استبعادها. والأصل أنّه يجوز للأطراف الاتفاق على ما يخالف حكم القاعدة القانونية طالما لم تتضمن أمراً أو نهياً لأنها حينئذ تترك مجالاً حراً لإرادة الأفراد.

2.     ويتحدّد مجال تطبيق القواعد المكمّلة بحسبانها تكمل إرادة المتعاقدين في حالة سكوتهم عن تنظيم العلاقة القانونية التي تخصهم وعدم وجود اتفاق مخالف لها، فهي لذلك قاعدة مكملة أو اختيارية أو مفسّرة لاتفاق المتعاقدين، والأصل في مجال العلاقات المالية الخاصة أن العقد هو قانون إرادة المتعاقدين، فعند النزاع تطبّق البنود الاتفاقية أو القواعد المُكملة -حسب الأحوال- بإعتبارها بنوداً أو قواعد ملزمة لأطراف العقد، ملزمة كالقواعد الآمرة. وفي مجال التمايز بين القواعد القانونية الآمرة والأخرى المكملة، يشير الفقه إلى معيارين: معيار لفظي جامد، ومعيار ثانٍ عقلي (واقعي) مرن.

3.     أمّا المعيار اللفظي، فهو مُستمدّ من عبارات النص القانوني ذاته، فالمشرع في الأغلب الأعم يستخدم في صياغة القواعد الآمرة ألفاظاً تدلّ على طبيعة القاعدة الملزمة أو المقيّدة، مثل: لا يجوز أو يقع باطلاً أو يمتنع.. الخ. في حين إنّ المشرّع يستخدم في صياغة القواعد المكمّلة ألفاظاً أو عبارات أو مصطلحات تدل على طبيعتها، مثل: ما لم يوجد اتفاق على خلاف ذلك أو أي صياغة أخرى تحمل معنى الجواز الذي ينفي الأمر والنهي . هذا المعيار اللفظي أو اللغوي يعتبر معياراً جامداً لأنه يحدد طبيعة أو صفة القاعدة، آمرة أو مكملة، تحديداً مباشراً واضحاً لا يحتاج إلى سلطة تقديرية بشأنه، فلا يحتل العقل فيه سوى مكانة محدودة.

4.     ولكن إذا لم يوجد لفظ صريح دال يحدّد الطبيعة الآمرة للقاعدة القانونية، فإن القاعدة لا يمكن اعتبارها كذلك إلا على أساس معيار آخر مرن هو مدى تعلق القاعدة بالنظام العام أو الآداب. ويُستمد هذا المعيار المرن أساسه من أهمية العلاقة القانونية ومدى اتصالها بكيان المجتمع ومصالحه العليا التي لا يجوز التفريط فيها. هذا المعيار المرن يقتضي البحث والتأمل عن الحكمة من وضع القاعدة في التنظيم التشريعي للتعرف عما إذا كان المقصود وضع قاعدة آمرة جبرية لأنها تمثل أساساً مفترضاً للنظام العام في دولة القاضي أم إنها ليست كذلك. هنا يملك القاضي سلطة تقديرية بالنسبة لكل نصّ قانوني على حدة، حيث ينظر إلى طبيعة النص الذي يجري تطبيقه على واقع النزاع، وذلك من زاوية مدى تعلّقه من زاوية واقعية بالأسس الجوهرية التي يقوم عليها بنيان المجتمع المخاطب بها وعما إذا كانت تمس كيان الدولة ومصالحها الأساسية من عدمه، وفي كل الأحوال لا يجوز الاتفاق على مخالفة قاعدة النظام العام أو الآداب لأنها بطبيعتها وبحكم اللزوم قاعدة آمرة لا تجوز مخالفتها.

5.     ومن المتصور أن تكون القاعدة القانونية آمرة بحسب المعيار اللفظي الجامد دون أن تكون مع ذلك مرتبطة بالنظام العام، فيكفي ذلك المعيار الصريح الآلي بذاته في التفرقة بين القاعدة الآمرة أو المكمّلة دون حاجة إلى تعزيزه بمعيار النظام العام. ما نريد قوله هنا هو انتفاء التلازم بين القواعد الآمرة وقواعد النظام العام التي هي آمرة بحكم اللزوم، ومع ذلك فكلاهما، الآمرة الناهية الصريحة، وأيضاً تلك المتصلة بالنظام العام، تمنعا ترتيب الآثار القانونية التي تهدف إليها الإرادة بحيث يكون التصرف أو الاتفاق المخالف باطلاً، أي معدوم الأثر. هذا البطلان هو شكل الجزاء القانوني الذي يفرضه المشرع عند مخالفة الآمر أو النهي الذي تضمنه القاعدة القانونية، سواء الآمرة الصريحة أو المخالفة للنظام العام، بحسب الأحوال.

6.     بعبارة أخرى، فإنه ولئن كان المقصود بالنظام العام لدولة ما، وإتباعاً لما هو مستقر، مجموعة الأصول والقيم العليا فيها، تلك التي تعكس في الغالب الأعم أهداف الدولة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الخلقية، فإن العلاقة بين قواعد النظام العام هذه التي تمثل صمام أمن قانوني لمصالح المجتمع وبين القواعد الآمرة الأخرى ليست دائماً علاقة تلازم حتمية، فمخالفة قاعدة آمرة لا يعد بالضرورة مخالفة للنظام العام، فيجب الأخذ في الحسبان بهذه التفرقة الدقيقة بين القواعد الآمرة وبين قواعد النظام العام، الآمرة هي الأخرى . في القانون المدني المصري (القانون الخاص) تنص المادتان 135 و136 على مبدأ عام مؤداه إنه إذا كان محل الالتزام (أو العقد) أو سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب، فإنّ التصرف يكون باطلاً. وإذا كانت القاعدة القانونية، أياً كان مصدرها، تتطرق إلى مسألة من مسائل النظام العام في المجتمع كانت بالضرورة قواعد آمرة، أما إذا لم تكن متصلة بذلك النظام وحدوده الدنيا التي لا يمكن المساس بها، فقد تكون قاعدة آمرة أو قاعدة مكملة، وفقاً لصياغتها اللفظية أي بحسب المعيار اللغوي.

7.     وفكرة النظام العام، في نطاق القانون الذي ينظّم المعاملات الخاصة، تعدّ من الأفكار المرنة التي يصعب تحديدها تحديداً دقيقاً. فعلى خلاف القيود المقيّدة اليقينية التي تفرضها نصوص القانون الجزائي أو القانون الإداري أو القوانين الإجرائية مثلاً، فإن قاعدة النظام العام في القانون المدني أو التجاري غالباً ما تمتاز بتعابيرها المرنة المُحملة بأكثر من معنى أو بالصياغة المطاطة التي يمكن أن تتسع فتشمل وقائع حياتية أو قانونية معينة أو تضيق فلا تنطبق على هذه الوقائع ، وإن كانت جميعها تهدف إلى غاية واحدة وهي تحقيق الحد الأدنى الذي لا يمكن الاستغناء عنه من الأسس التي يقوم عليها هيكل النظام القانوني للمجتمع، فهي لازمة لحفظ كيانه . هذا الحد الأدنى للمصالح العليا قد يزيد أو ينقص بحسب درجة نضج المجتمع والاتجاه المجتمعي العام والتيارات الاجتماعية والسياسية ولاقتصادية الغالبة، وأيضاً بحسب العادات الخلقية والدينية السائدة في الدولة في حقبة زمنية بعينها. حدود دنيا تراعي الظروف الواقعية الخاصة وتتفادى إعاقة التنمية الوطنية أو تعطيل مصالح الجماعة أو التناقض مع حاجات أفرادها المستمرة، بل من أجل المحافظة على حقوقهم المشروعة التي هي غاية وواجب كل سلطة عليا ولو كانت سلطة القانون أو سلطة شخص القائم على تطبيق قواعده.

8.     من ضوابط الاجتهاد في عمومه، فعند الخيار بين أمرين فعلى القاضي –على أساس استقراء الواقع- إعطاء الأولوية واختيار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وإنه على صاحب الشأن ألا يُشرع حكماً يضيق على الناس أو يرهقهم في أمرهم عسراً، وإلاّ كان مصادماً لقوله تعالى "ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج". وكليات الشريعة الغراء إنما تهدف في عمومها إلى جلب المصالح ودرء المفاسد والتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). واتسام فكرة النظام العام بالمرونة إنما يضفي على تطبيقها من قبل القاضي الكثير من الصعوبة والتعقيد، لأنها فكرة ذات معيار وضعي واقعي، يختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، معيار عقلي غير ثابت بل خاضع للتغيير من وقت لآخر ومن مجتمع لآخر ووفقاً لتغير السياق الذي يرد فيه النص المنطبق، وتتغير المصلحة فيه بتغيير الزمان والمكان بما يحقق مصالح المجتمع ويصون أمنه الاجتماعي، ويلائم حاجات أفراده وأمورهم المعايشة المتجددة بوصفهم شركاء في وطن واحد.

9.     ففي كل مجتمع إنساني نجد أن هناك مقومات فكرية وقيم عليا يرتكز عليها في مجالاته المختلفة، ويعتبرها لذلك من "نظامه العام"، فلا مجتمع بغير قيم وغايات مشتركة يستمدها من تاريخه وعقيدته الدينية وأفكاره وتصوراته لفكرة العدل ومثله الأخلاقية، ويتعهد أبناؤه على رعايتها ويحمونها بما يضعونه من نظم وتشريعات وقوانين وجزاءات أياً كانت، فلكل مجتمع خصائصه المرتبطة بصلة وثيقة بظروفه التاريخية والواقع الذي يعيشه، وتتجاذبه حاجتان أساسيتان متعارضتان، حاجته إلى المحافظة على الروابط التي تضمن تماسكه وتقوّي بنيانه، وحاجته في الوقت ذاته إلى التقدم والتطور والانخراط في الحياة الحديثة والمقاييس المعاصرة التي تتبناها وتلتزمها المجتمعات المتحضّرة، تلك القائمة على الفعل والعقل والاختيار الإنساني الفردي. والحاجة الأولى تدفع المجتمع للمحافظة على القيم المنتشرة فيه والتي تعود إلى عهود الأجداد الأوائل، والحاجة الأخرى تدفعه إلى نقد ذاته ومراجعة ومناقشة تراثه والاستئناس به (دون إلزام) بحثاً عن طرق جديدة للتقدم وإجابات أصح لأسئلة الحاضر والمستقبل، ويلاحظ هنا الفرق بين العقل والنقل، بين التجديد والتقليد، بين الوضوح والتمييع، بين النهضة وعكسها ..

10.   الواقع أن لكل دولة حدود النظام العام التي تناسبها والملائمة لظروفها في زمن معين والذي لا يجوز خرق معالمه الكبرى وقيوده القانونية الأساسية التي تؤهله ليترقى في سلم الحضارة. ويعني ذلك كله، أنه ليس للنظام العام مفهوم مُوحد، لأنه يتميّز بالنسبية والمرونة، يقبل التغيير والتبديل، ويختص القضاء بتحديده، فالقاضي هو مشرع هذه الدائرة المرنة بحسب معطيات المسألة المطروحة أمامه. هذا التحديد القضائي يتسع أو يضيق وتتفاوت معانيه ودلالاته حسب الاتجاهات والأنماط والمعتقدات الفكرية –غير المُسرفة- السائدة والمهيمنة في مجتمع القاضي والتي تؤثر بالضرورة في دائرة المعاملات بين الأفراد، بحيث يتعين على القضاء تقدير قاعدة النظام العام ملتمساً في ذلك سلامة المجتمع وصون مصالحه العليا وعدم مجافاتها أو الخروج عليها، وذلك في ضوء متطلبات ومقومات الحياة الحاضرة. فمن أجل ضرورة اجتماعية حقيقية يتعيّن على القاضي القيام بتحريك مضمون القاعدة القانونية بمعالجتها بحكمة لضمان أدائها لوظيفتها وتحقيق الأغراض الاجتماعية المرتبطة بها، ويكون ذلك باختيار الحل أو التفسير الأكثر نفعاً وملاءمة للوفاء بحقوق أفراد المجتمع ومتطلباتهم وآمالهم المشروعة، مستعيناً في ذلك بضوابط وأقيسة عقلية موضوعية عاكسة لإرادة مجتمعية واعية ومشروعة وواضحة .

11.   ومع أنّ لكل حياة نهاية، فإن الحياة في جوهرها عبارة عن دعوة إلى التجديد المستمر والتطور التلقائي وعلى الرغم من أن حركة الزمن سنّة من سنن الله، فهناك دائماً تيار مجتمعي محافظ يخاف التغيير، يتميّز بضيق الصدر والأفق وإساءة الظن والأخذ بالشبهة وتفضيل التحريض والتبرير على المناقشة واللجوء -في حرارة وحميّة وأحياناً بنيات ومقاصد رائعة- إلى التشهير والاضطهاد والاتهام بالكفر والجدل العقيم بدلاً من النقد والتسامح والقبول بتعدّد وتفاعل الآراء والأفكار، فمصلحة أصحاب ذلك التيار "التابع أو الناقل متوسط المعرفة" تنحصر في فرض رأيه تحكماً وغصباً ومحاربة كل نزعة للتطور أياً كان اتجاهه أو مجاله، باعتباره – دون فهم أو تفسير أو ابتكار- خروجاً على النصوص والأصول التقليدية للمعرفة، وبدعوى المحافظة على تراث الأمة وحرصاً منهم على ما يسمى الأصالة، بغير فرز أو ترجيح أو الأخذ في الحسبان دائرة دنيا الناس ومعاملتهم الفردية وسوابقهم وتجاربهم ومصائرهم الدنيوية، مع ضرورة إعمال النظر في ظروف الزمان، معاييره وتوجيهاته وممارساته، التي تعكس بوجه عام الموازين المعاصرة المعمول بها في المجتمعات المتحضرة المتقدمة . في كل الأحوال لا يمكن للدين أن يضع أصحابه في صراع دائم مع الحياة المعاصرة وطرقها الكريمة وغاياتها الخيرة، بحيث يقضي الإنسان عمره محزوناً في معارك ثقيلة وبطولات وهمية .

12.   وهكذا يتضح أنّ النظام العام يتحدّد في دولة ما في حقبة بعينها، وأنّ مفهومه قد يتغير في الدولة نفسها في زمن لاحق، كما أن بعض المصطلحات أو الكلمات قد تكتسب في حقبة ما مفهوماً مختلفاً. لذلك يمكن أن نقول أن النظام العام هو "حركة زمنية مكانية نفعية ثقافية حضارية" . ومثالاً لذلك فإن عقد التأمين على الحياة كان في الماضي وفي أجيال سابقة متعارضاً مع النظام العام في العديد من المجتمعات الإسلامية، حيث كان قوماً كرام صالحون في بيئة وروح محافظة ينكرونه ويجهرون بهذا الإنكار ويجاهدون في سبيله لتصورات ورؤى أصولية تاريخية متوارثة وبذريعة أن حياة الإنسان لا يجوز أن تكون محلاً للتعامل، وأنه لا يستساغ أن تكون وفاة الإنسان سبباً لإثراء غيره، ثم تغيرت الأحوال والأوقات والأجيال، وفي حركة معقولة هادئة وفي طور جديد من أطوار نمو حياة المجتمع وبنظرة واقعية مستحدثة، أقرت أغلب النظم القانونية الإسلامية المعاصرة عقود التأمين على الحياة وغيرها من صور التأمين أخذا بأسباب الحضارة الحديثة ومناهجها التقدمية وللنفع الخاص والعام، ولم يتأذَ الشعور العام في تلك البيئات الإسلامية واستراحت ضمائر الجميع، ومن ثم تغيرت النظرة إلى مسألة عقود التأمين وبالتبعية الحكم عليها والرضا الجماعي بها، سيكولوجياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً.

13.   في مرحلة من مراحل تطور المجتمع المصري، وفي عهد روّاد عظام ونهضة حقيقة، وبعد الاجتهاد من جديد في الوقائع والملابسات وزوال مخاوف الشرك وبعيداً عن حمّى تبادل الاتهام بالضلال، ولمواجهة أضرار واقعية تعوق مصالح الفرد والجماعة وتطورهما ومسايرة لروح العصر، فإنّ الكثير مما كان مخالفاً للنظام العام في مصر غدا اليوم، بعد حيرة أخلاقية واجتماعية، مشروعاً تجري به نصوص صريحة في التشريع. في واقع الحال فإن الأصول التقليدية للمعرفة كانت قد فقدت سلطانها وغدت مخالفة الحكم الأبوي أو التراثي ليست بالأمر الغريب، بل شيئاً مألوفاً تدين به الجماعة في الأغلب الأعم من أفرادها. في مثل هذه الحالات راعى المشرّع الحديث المصالح الأولى بالرعاية والأجدر بالحماية، فصارت القاعدة المسموح بها والمصاغة تشريعياً - في حدود معقولة ومعايير واضحة- ناهضة بالمصالح العليا في جوانبها العملية لارتباطها بمصالح الناس واحتياجاتهم وأعرافهم وتصوراتهم التي فرضها المجتمع، جالبة لخير الفرد والجماعة معاً (الخير المشترك)، لقد أصبح ما كان سابقاً من النظام العام مجرد شيء تاريخي يثير الفضول، فقط.

14.   ولا شك في أنّ فكرة النظام العام تؤثر في معاملات الأفراد الخاصة، كما أنها تتأثر في مضمونها بالنظرة الواقعية للعقل والضمير المجتمعي العام وقواه الحاكمة وبنيانه القانوني. لذلك فالقضاء مكلّف بالفهم الصحيح لجوهر القاعدة القانونية المنطبقة والأغراض التي يتوخاها المشرع منها، مراعياً بالضرورة الظروف والعوامل الواقعية المتغيرة والحقائق الثابتة التي تكون قد طرأت على المجتمع (مجموع وأفراد)، وإطالة النظر في المصالح التي تحققها القاعدة، فهذه المصالح هي غاية التشريع وأساس العلة فيه، وإذا تغيرت تغير معها. فالمصلحة العامة المشروعة تعد دليلاً اجتهادياً فقهياً واجباً يتمم النصوص أو يفسر التعارض فيما بينها أو يفسرها بما هو طيب في ضوء ما ينفع الناس ويشبع حاجاتهم المعيشية الضرورية، أي بربط القاعدة بالأغراض الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية المقصودة منها، ويؤكد في الوقت نفسه قيمة العدل الخاص والعام التي هي من أهم وظائف كل قانون.

15.   فالقاضي يملك بموجب سلطته التقديرية وعن طريق التفسير دوراً كبيراً في تحديد مجال قاعدة النظام العام (المرنة المتحركة) ولكنه يخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض التي تراقب حسن تطبيق القانون ، فالحكم القضائي يجب أن يقوم على أسس موضوعية حقيقية -على ضوء قواعد يمليها التبصر والاعتدال- لإدراك قاعدة النظام العام التي يجب أن تسود علاقات الأفراد أعضاء المجتمع أو الجماعة. وبحسب قول محكمتنا الدستورية "فإن العدالة الاجتماعية وإن تعددت صورها فإن مضمونها قد يتبدل بتغير الزمان والمكان، في ضوء القيم التي ارتضتها الجماعة لمفهوم الحق والعدل في بيئة بذاتها، وخلال زمن معين" . عند تعرّف القاضي إلى قاعدة النظام العام في مجتمعه - للوصول إلى الحلول العادلة- إنما يقوم بعمل عقلي واعٍ يعتمد على استهداء الحقائق الثابتة التي تتصل بظروف واتجاهات ومقتضيات النظام العام المعقولة في دولته، دون جموح أو انحراف. فالمعيار الأساسي هنا هو معيار "المعقولية"، تلك المرتبطة بالواقع وبأكثر التفسيرات التي تراعي التقاليد والعادات والأعراف الراقية والأفكار المهيمنة والسائدة في العقل العام للمجتمع التي تؤدي إلى انتظام مصالحه وإصلاح شأنه. فهي معقولية واقعية توجب على القاضي أن يتحقق أنّ الحل المعتبر وامتثالاً لضرورة عملية يلقى قدراً معقولاً من الرضاء الجمعي، رضاء لا يحتمل لبساً، هذه هي مسطرة القياس.

16.   وليس للقاضي تفسير قاعدة النظام العام مرتكزاً فقط على مجرد نظرته الشخصية أو قناعاته الذاتية أو آرائه الخاصة ودون إقحام مذاهبه، بل عليه النظر عند الكشف عن مضمون قاعدة النظام العام (الموضوعي) بنظرة متعمقة شاملة ووفقاً لمقاييس مجتمعية منطقية ومراعاة إن لكل زمان روحه ومعاييره وفكره وحقائقه وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأيضاً ثقافة جماعته الفاعلة ومصالح أفراده الحيوية (العليا) التي ينبغي تيسيرها وتأمينها. من غير المقبول إنكار التوجه العام الذي تدين به الجماعة ومصالحها ومدى قدرة القاعدة على الوفاء باحتياجات أفرادها وطموحاتهم في الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والخلقي، ومن ثم الحضاري. وكل مجتمع إنما يعمل – بقصد أو بدونه- على تغيير أنماط حياته وسلوكياته وأعرافه تدريجياً وفقاً للاحتياجات والأحوال إلى عادات وأعراف أكثر نفعاً لشؤونه على اختلافها. ومما يستحق التسجيل هنا أنّ هناك دائماً أعرافاً وقيماً عقلية ومناهج إصلاحية وأدوات حركة وخبرات متراكمة، لازمة مجتمعة للارتقاء الحضاري والتوجه إلى المستقبل، وتحقيق الرفاهية والسعادة العامة، إن أمكن.

17.   فقاعدة النظام إذاً إنما تعكس ظروف الزمان والمكان، والوصول إلى حقيقة طبيعتها يتطلب إتباع معايير مستنيرة -غير منفلتة - ورويّة وفهم معقولين، فالغرض الأساسي من القانون هو تنظيم حريات الأفراد وإرساء الخير للمجتمع بدرجة من التجريد والتعميم، وقاعدة النظام العام تثبت لها القوة المانعة الغالبة لأنها تمثّل إرادة المجتمع العليا تنظيم النشاط داخله بحسب العقل الجمعي في حقبة زمنية معينة وجماعة بعينها، لذلك لا يجوز في كل الأحوال مخالفتها. وبناء على ما تقدم يتعين النظر إلى النصوص التشريعية المتضمنة تحديد سعر الفائدة في مجال المعاملات المالية ومدى تعلقها بالنظام العام من زاوية عقلية واقعية ترتبط بالأغراض الاجتماعية والاقتصادية والخلقية والسياسية المقصودة منها، بما يتلاءم وحياة المجتمع وضروراته في هذا العصر الحديث، فالمجتمعات تتحرك وتتطور وتتقدم، والحياة حركة متغيرة ككل كائن حي. ممارسة الاجتهاد في هذا الخصوص ليس عدواناً على النصوص القانونية، بل هو التزام بها، فلا تكليف إلا بمستطاع. وهذا ما نريد توضحيه في الفقرات القادمة.

 

(2)

18.   في قانون التحكيم المصري، يخوّل نص الفقرة الثانية من المادة 53 منه لمحكمة بطلان أحكام التحكيم سلطة القضاء ولو من تلقاء نفسها بإبطال حكم التحكيم إذا ما تضمن ما يخالف النظام العام في مصر، وتقضي المادة 58 من القانون نفسه بعدم جواز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم المخالف للنظام العام أو الاعتراف به في مصر. وقد درج عدد من الأحكام القضائية على القضاء ببطلان أحكام التحكيم إذا ما تضمّن الحكم فوائد تزيد عن الحد المسموح به في القوانين المصرية باعتبارها فوائد "ربوية" تخالف النظام العام المصري (أو بطلان جزئي في حدود القدر الزائد من الفوائد على الحد الأقصى المتعلق بالنظام العام). ورفضت عدد من المحاكم إصدار الأمر بتنفيذ أحكام تحكيم (ولو جزئياً في الشقّ الزائد من الفائدة دون باقي أجزاء منطوق الحكم) للسبب ذاته واستناداً إلى إنّ النصوص القانونية المتعلقة بأسعار الفوائد القانونية والاتفاقية – تأخيرية كانت أم تعويضية- وحدودهم القصوى ليست من القواعد الآمرة فقط، بل إنها تعدّ كذلك من قواعد النظام العام التي ترمي إلى المصلحة العامة المنظمة للمجتمع لاّتصالها بمصالحه العليا والتي لا تجوز مخالفتها، بل يُحرّم المساس بها.

19.   وفي عبارة مساوية، فإنه لما كان من آثار اعتبار القاعدة القانونية من النظام العام عدم جواز مخالفتها أو الاتفاق على خلاف حكمها، وإلاّ وقع هذا الاتفاق باطلاً بطلاناً مطلقاً لا تصححه إجازة ولا يرد عليه قبول، وجواز إثارة السبب القانوني المتعلق بالنظام العام من أي من الخصوم وفي أي حالة تكون عليها الدعوى، وعلى المحكمة أن تتعرض له من تلقاء نفسها ولو لم يدفع بذلك أي من الخصوم، بل على الرغم منهم. فقد اعتبر الفقه ومحكمة النقض المصرية أن سعر الفائدة المقضي بها يجب ألا يزيد على سبعة في المائة المنصوص عليها في القانون المدني، وهو أمر يتعلق بالنظام العام. والأمر المستقر قانوناً أنّه إذا تعدّدت الأجزاء التي فصل فيها الحكم وكانت مستقلة ومتميزة بعضها عن البعض الآخر، بحيث يجوز الحكم على بعضها، كالحكم بالفوائد، بالسلب (البطلان) والبعض الآخر بالإيجاب، فإنّ البطلان هنا لا يكون إلا جزئياّ، في ما يتعلق بالقدر الزائد من الفوائد المحكوم بها . هذا البطلان أو الاستبعاد الجزئي لا يزيل الحكم كله، وإنما يزيل فقط جزءه الخاص بالفوائد الزائدة، ولا يمتد البطلان إلى باقي أجزاء الحكم الصحيحة التي لم يقضَ ببطلانها، وكذلك فإنه يمكن شمول الحكم بأمر التنفيذ فيما عدا الزيادة المتعلقة بالحد الأقصى للفوائد.

20.   في إطار المفاهيم المتقدمة ، فالذي نراه أنّ القواعد القانونية الخاصة بالحد الأقصى للفوائد - أياً كان مُسمّى فرع القانون الذي يتناولها– وإن كانت لا تزال في نظر المشرع والفقه من القواعد الآمرة الملزمة للجميع إلاّ أنّها لا تعتبر من قواعد النظام العام ذات الصبغة المرنة . وتظهر أهمية هذا الرأي في أن مخالفة حكم التحكيم، سواء أكان التحكيم داخلياً أو دولياً، هذه الحدود القانونية القصوى للفائدة لا يترتب عليه أي بطلان، كما إن تلك المخالفة لا تؤدي في ذاتها إلى رفض الأمر بتنفيذ حكم التحكيم. بمعنى أنه نتيجة لعدم اعتبار التنظيم القانوني لسعر الفائدة من قواعد النظام العام المتصلة بكيان المجتمع ومصالحه الأساسية، فإن حكم التحكيم الصادر بالمخالفة للسعر القانوني للفائدة لا يعد باطلاً ولو جزئياً ولا يجوز رفض تنفيذه - ولو جزئياً- بسبب تلك المخالفة ذاتها.

21.   فعلى الرغم من تطور المجتمع وتغيّر الظروف، ودون فلسفة ظاهرة، فإنّ المشرّع (إرادة الدولة وبالتحديد سلطتها الحاكمة القادرة وحدها على الاختيار) لا يزال يعدّ سعر الفائدة من القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على خلاف حكمها، هنا تحدث مفارقة جليّة بين التشريع في وضعه الثابت من ناحية وبين مقتضيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة والضمير الشعبي للجماعة من الناحية الأخرى، وعلى القضاء في كل الأحوال أن يواجه ظروف الواقع بأن لا يتقيد بالتطبيق الحرفي للنص التشريعي، بل عليه تطويعه بما يحقق العدالة بين المتقاضين. وفي كل النظم القانونية لم يكفّ القضاء بمجهوده العقلي عن تطوير القانون من خلال احترامه "الظاهر" للنصوص التشريعية، وبذلك استطاعت بعض القوانين والدساتير أن تستمر مئات من السنين رغم التطورات الهائلة التي حدثت في مجتمعاتها. الصحيح في ما نرى أنّ مسألة أسعار الفائدة وإن كانت آمرة فإنها لا تدخل في نطاق النظام العام المصري.

22.   هذا المعنى أكدته أحكام الدائرة السابعة التجارية بمحكمة استئناف القاهرة، خاصة في الحكم الصادر عنها في الدعوى القضائية رقم 49 لسنة 133 قضائية (تحكيم تجاري) بجلسة 9 نوفمبر 2016. وفيها تمسكت الشركة الطاعنة ببطلان حكم التحكيم المطعون عليه لتضمنه إلزامها بفوائد "ربوية" تزيد عن الحد الأقصى المسموح به بمقتضى المادة 227 من القانون المدني المصري التي تُحرّم صراحة الاتفاق على هذه الزيادة ولو ستره العاقدان تحت ستار اتفاق أخر، وهو ما يؤدي إلى بطلان الحكم وفقاّ لنص الفقرة الثانية من المادة 53 من قانون التحكيم وذلك لمخالفته قاعدة من قواعد النظام العام، تلك المتصلة بسعر الفائدة. في حكمها المذكور أكدت الدائرة السابعة عدداً من النقاط القانونية على النحو الآتي:

"لا تملك محكمة البطلان التعرّض بشكل مباشر للموضوع الذي تناوله حكم التحكيم أو مناقشة مدى صواب أو خطأ ما ذهب إليه في تصديه لفهم الواقع أو تكييفه أو تفسير القانون أو تطبيقه. وانطواء حكم التحكيم على مخالفة قانونية تتعلق بتجاوز الحد الأقصى لسعر الفائدة -أيا كان وجه الرأي فيها- لا يستطاع معه القول بأن الحكم قد خالف أو أهدر قاعدة جوهرية تتصل بمصلحة عامة وأساسية للمجتمع المصري، تلك المعروفة بقواعد النظام العام.... واشتمال حكم هيئة التحكيم على فوائد تزيد على الحد الأقصى للسعر المقرر لها في القانون لا يعدو أن يكون في كل الأحوال مجرد خطأ في تفسير القانون أو تأويله أو تطبيقه لا يصلح سبباً لبطلان حكم التحكيم.

هذا، ولئن كانت التشريعات قد خلت من تحديد المقصود بالنظام العام فإنه من المتفق عليه أنه يشمل القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الخُلقية، والتي تتعلق بالوضع الطبيعي المادي والمعنوي لمجتمع منظم تعلو فيه مصالحه الجوهرية على المصالح الشخصية لأفراده. هذه القواعد التي تتوخى حماية المصلحة العامة غير محدّدة إنما تختلف باختلاف الظروف والمقتضيات، إلا أن قوامها حماية مصالح المجتمع العليا، المعتبرة من أركان بنيانه التي لا يجوز إهدارها أو استبعادها بما ينال منها أو الإخلال بمضمونها. قاعدة النظام العام قد لا يجري بها نص تشريعي أو نصوص قانونية بذواتها، فقد تأتي من مصدر أخر من مصادر القانون كالعرف أو الشريعة الإسلامية أو مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة".

23.   ويقول العلامة السنهوري، فإنه من غير المستطاع حصر النظام العام في دائرة دون أخرى، فهو شيء متغيّر، يضيق ويتسع حسب ما يعده الناس في حضارة معينة "مصلحة عامة". ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام والآداب العامة تحديداً مطلقاً يتمشى وكل زمان ومكان، لأنه شيء نسبي، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معياراً مرناً يكون هو معيار "المصلحة العامة" وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة (مجتمع ما)، وبحيث أن لا يكون معيار النظام العام معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو معيار اجتماعي موضوعي يرجع فيه الشخص (القاضي) لما تواضع عليه الناس.

24.   النظام العام والآداب العامة -والكلام لا يزال للسنهوري- هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، فتؤثر في القانون وروابطه، وتجعله يتماشى مع التطورات الحاصلة في المجتمع (الجيل والبيئة التي يحيا فيها النص القانوني). وتتسع دائرة النظام العام أو تضيق تبعاً لهذه التطورات وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم. وكل هذا يترك للقاضي أن يفسّره التفسير الملائم لروح عصره، فالقاضي يكاد يكون مُشرعاً في هذه الدائرة المرنة، بل هو مُشرّع يتقيد بآداب (وقيم) عصره ونظم أمته ومصالحها الأساسية.

25.   "فكرة النظام العام هي فكرة نسبية ليست عصية على التعديل أو التبديل بحيث يتم تحديد مضمونها وأبعادها من منظور اجتماعي ذلك أنها تتوخى بمضمونها وخواصها التعبير عن القيم الجوهرية المشروعة السائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محدّدة. لذلك لا يجوز النظر إلى النظام العام إلاّ من زاوية الحدود المنطقية وضوابط الاعتدال التي تقتضيها هذه القيم المجردة التي ترتدّ جميعها إلى المصلحة العامة وتبعاً لتغيّر الزمان والأوضاع العالمية والمحلية، وما يقبله منطق الزمن وشعور المجتمع في زمن ما أو في جيل ما".

26.   ولأنها فكرة تتغاير تبعاً لاختلاف الزمان، فإنّ بعض العقود كعقد التأمين على الحياة كان في وقت مضى مخالفا للنظام العام في مصر بسبب وجود فتاوى شرعية بتحريمه، ثم غدا اليوم مشروعاً تجري به نصوص في التشريع المدني نفسه، فاستقرّ الأمر في ضمير الجماعة بمشروعيته وقيامه على أسس من الإسلام الصحيح. في الزمن القديم ومجتمعات أخرى كانت الكنيسة تستنكر تقاضي الفائدة على المال، ثم أغضت عنه -لاختلاف الزمان والحال- بعين دينية وقور" .

27.   "وحيث إنه بالبناء على ما تقدم، ولئن كان المشرّع قد حرم بقواعد آمرة في القانون المدني زيادة الفائدة الاتفاقية على حد أقصى معلوم – ولو ستره العاقدان تحت ستار اتفاق آخر يخفي فائدة ربوية- ونص على ضرورة تخفيضها إليه. تجاوز الحد الأقصى للفائدة يعدّ في مجال تطبيقها مخالفة قانونية لقاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، بيد أن هذا الخطأ القانوني ذاته لا يشكّل -في الزمن الراهن- أي مخالفة فعلية للنظام العام وقواعده الجوهرية، وعلى ذلك فلا يخضع الخطأ في سعر الفائدة لرقابة القضاء الحاصلة على أحكام التحكيم".

28.   ذلك إنّه ولئن كان القانون المدني لم يُحرّم الفائدة (الربوية) بشكل مطلق، فإنّ الأحكام القضائية أطّردت على اعتبار القيود القانونية الخاصة بالحد الأقصى للفائدة الاتفاقية (والقانونية أياً كان مصدرها) أمراً متعلقاً بالنظام العام بما يؤدي إلى بطلان الاتفاق على ما يجاوز هذا الحد الأقصى، بطلان لا تلحقه الإجازة. إضفاء السيادة على أسعار الفائدة باعتبارها من أعمدة نظم المجتمع كان متشبعاً في الأساس بروح عصره، الكراهية والمقت للربا (كراهية متوارثة) وإشفاقاً على الناس من معاطب الإغراق في الاقتراض بفائدة ربوية "فاحشة" ودرء شبهة استغلال الدائن لمركز المدين الذي يكون عادة مركزاً ضعيفاً .

29.   "وحيث إنه ولئن كان من غير المقبول أن يصير معيار النظام العام عند تطبيقه معياراً شخصياً أو طائفياً أو تحكمياً، وإنما ينبغي أن يتسم تقديره بالموضوعية متفقاً وما تدين به الجماعة في الأغلب الأعم من أفرادها، فإنّ أمر إدراج القضاء التنظيم القانوني لسعر الفائدة ضمن قواعد النظام العام يرتدّ في مرجعه ومنبته إلى ما كان مستقراً في ضمير الجماعة المصرية وكاشفاً بالضرورة عن الصالح العام للمجتمع وفقاً لتضافر عوامل وظواهر اجتماعية واقتصادية ودينية كانت سائدة في حينها، عملت على ترجيح هذا الأمر في الحياة المجتمعية والحياة العقلية عامة، لذلك أنحاز له القضاء – في وقتها- واعتبر الفائدة داخلة في مسائل النظام العام".

30.   "ووقتاً بعد وقت اختلف الحال وتغيّر الزمان، كما أن حياة الناس قد تغيّرت، وافتقرت مسألة إدراج الفوائد القانونية وحدودها الجامدة بالنظام العام لمبرّراتها. في النهاية تقبّل المجتمع المصري منطق ومفاهيم ومناخ الزمن المتغيّر وسماته الظاهرة، وقبل أيضاً افتراضات مجتمع السوق الدولية وسطوته وطبيعة معاملاته التجارية وشروطها، والقبول بالتالي بالنتائج المترتبة على كل ذلك، هذا القبول صار أمراً مجتمعياً مطلوباً ولازماً".

31.   بتغيّر الأحوال والزمان، لم يعد الحظر الوارد في القانون المدني على سعر الفائدة أصلاً لازماً لزوماً مطلقاً. فوفقاً لظروف العصر ومتطلباته العملية المتطورة وما استحدث فيه من فتاوى شرعية بعدم تصادم الفائدة مع الشريعة الإسلامية في أصولها الثابتة ومبادئها الكلية. مع هذه الحقائق الجديدة وبغرض إشباع متطلباتها تجاوز المشرع ذاته الحد الأقصى للفائدة، كالحال فيما أتى به في قانون البنك المركزي المصري بالنسبة لقروض البنوك، وكذلك الحال بالنسبة للفوائد المستحقة عن كافة العمليات المصرفية. في الإطار ذاته سمح المشرع في قانون التجارة بتجاوز الحد الأعلى التقليدي لأسعار الفائدة عندما تكلم على العوائد التجارية.

32.   هكذا تعامل المشرع "الحديث" وفق أسس موضوعية وواقعية وبقدر من المرونة مع الحد الأقصى للفائدة التجارية والمصرفية (القانونية أو الاتفاقية) مستجيباً في ذلك للتطورات الحاصلة في البيئة الاجتماعية والاقتصادية وحوائجها (تطور مجتمعي عام) متوخياً أيضاً مصالح التجار واحتياجاتهم المشروعة متقيداً بأعرافهم المتجددة محل الاعتبار. هذه المرونة – تجاوز حدود وقيود الفائدة في القانون المدني- ارتضاها وتواضع على العمل بها المجتمع بنظمه ومؤسساته وتجاره وأفراده.

33.   شيئاً فشيئاً وخلال فترة زمنية ما وجد الجميع أنفسهم كتيار جامع (الأكثر غلبة) مضطرون في معاملاتهم وعلاقاتهم التجارية الداخلية والخارجية، بالتراضي - تحت ضغط الحاجة والمصلحة- على هذا التجاوز (أو هذه المرونة) فيما يتصل بأسعار الفائدة بحسبانه من العادات التجارية غير القابلة للنقاش أو بوصفه شرطاً تفرضه اللوائح البنكية والمصرفية أو إتباعاً لما يجرى عليه عرف المعاملات الدولية أو تحت مُسمى الخضوع لقواعد السوق المفتوحة التي يعرفها ويأنس لها ويلزمها المجتمع التجاري الدولي. تغيّرت معايير وموازين وتوجيهات العقل الجماعي العام – مرجع ومعيار قاعدة النظام العام- وصار التغاضي عن الحد الأعلى للفائدة التجارية مذهباً عاماً تدين به الجماعة لاتصاله اتصالاً وثيقاً ومؤثراً بمصالحها على اختلاف وجوهها (نمط حياة).

34.   مع اختلاف الظروف وتطور قواعد السوق وتحول مصالح الجماعة ومزاجها العام ومن أجل الوفاء بحاجاتها الأساسية وتيسيراً لمعاملات أفرادها وصوناً لحرياتهم التعاقدية، لم تعد النصوص الواردة في القانون المدني التي تحرم بقواعد آمرة زيادة الفائدة الاتفاقية على حد أقصى معلوم متعلقة بالنظام العام الذي يحمي مصالح المجتمع العليا. الحدود والقيود الواردة في إطار هذه الفائدة (معيارها الجامد) فقدت حظوتها وموقعها في البنيان القانوني للنظام العام، وصارت على ضوء طبيعتها ووظيفتها الاجتماعية المشروعة، منفكة عنه خارجة عن محيطه ودائرته، لا يجوز فرضها عليه تحكماً أو إعناتاً وعسفاً .

35.   بمراعاة المصلحة العامة (المصالح العليا) التي لا يجوز التفريط فيها واستقصاء لحقيقتها تبعاً لتغير الزمان وبالنظر إلى التطورات الاجتماعية والدينية الملموسة وتبديل السياسات الاقتصادية واختلاطها وما صاحب ذلك من آثار اجتماعية عميقة، ومع سيادة مبدأ سلطان الإرادة والحريات التعاقدية الفردية، فإنه لا يمكن القول - في الوضع والزمن الحديثين- أن تجاوز سعر الفائدة الاتفاقية (معدلها الأقصى) ينطوي على عدوان على النظام العام وثوابت المجتمع المصري. مفهوم النظام العام ليس بمفهوم مطلق ثابت صلب، بل إن للنظام العام مفهوماً مرناً ومتغيراً وفقاً لمعايير الضمير الجماعي ومقاييسه المتطورة المعاصرة، مع تنوع مستوياتها، وإلاّ ظل المجتمع ثابتاً (عقيماً، متحجراً، متعطلاً) لا ينمو ولا يتطور.

36.   في ضوء المقاييس المعاصرة والتوجه المجتمعي العام، فإنّ مخالفة حكم التحكيم لقاعدة قانونية تتعلق بالفوائد وحدودها القصوى الضيّقة تعدّ مجرد خطأ في القانون لا شأن لمحكمة البطلان به لخروجه عن ولايتها. هذا الخطأ يخرج عن المجال الطبيعي للنظام العام ولا يُشكّل انتهاكاً لمصالح المجتمع أو قيمه الجوهرية أو قواعده المعتبرة من أعمدة بنيانه الحديث.