التحكيم / التحكيم المدني والتحكيم التجاري والتحكيم الإداري / المجلات العلمية / مجلة التحكيم من آكت لحل النزاعات - العدد الأول / جائحة كورونا: ما بين التوازن الاقتصادي للعقد والقوة الملزمة للعقد«
تستمد القوة الملزمة للعقد وجودها من كونه مصدرا من مصادر الالتزام، تحكمه قـاعـدة العقد شريعة المتعاقدين؛ وهــذه الـقـوة الملزمة تراعي الاستثناءات التي تفرضها الظروف والاحـوال المتقلبة، وفي الاصل ألا تتجاوز حدود نظرية الظروف الطارئة أو نظرية عقود الاذعان، فذات القاعدة التي تحكم القوة الملزمة للعقد، وهي ذاتها التي تعطي هذه القوة لما يتفق عليه في العقد؛ ومنها ما يمكن أن يكون مرتبطا بأحكام المسؤولية العقدية.
إن ما تتميز به المسؤولية العقدية المرونة ومراعاة األحوال المتقلبة، فيمكن للمتعاقدين حين إبرامهما العقد، أن يتفقا على التخفيف من المسؤولية العقدية، وكذلك يحق لهما أن يذهبا في اتفاقهما إلـى أبعد من ذلك؛ كالاتفاق على اإلعفاء منها، وكذلك لهما » تشديدها«.
ومع أن مجلة الاحكام العدلية لم يرد في منطوق نصوصها الصريح إباحة هذا الامر للمتعاقدين، إلا أنه واستنادا إلى قاعد أن » العقد شريعة المتعاقدين«، فإنه سيكون لهما تحرير اتفاقهما وتضمينه؛ » التخفيف من المسؤولية« أو » اإلعفاء منها« أو » تشديدها«، شرط أن ال يكون في ذلك مخالفة للنظام العام. إن هذا يستند على القول بأن أحكام المسؤولية العقدية بذاتها ليست أمرا مرتبطا بقواعد آمرة، وفق أحكام المجلة، وبالتالي فإن الاتفاق على ما يخالف قواعد المسؤولية العقدية، هو في حقيقته جزء من العقد الذي يؤسس الالتزامات المتعاقدين؛ شرط لا يكون حكم العقد أو مقتضاه، مما يقتضي عدم جواز االتفاق على إعمال مثل هذه الاشتراطات.
وبالرجوع إلى الاستثناءات التي ترد على قاعدة » العقد شريعة المتعاقدين«، فيما هو مرتبط بها من قوة ملزمة للعقد، فإن مجال نظرية عقود الاذعان باعتبارها واحدة من الاستثناءات ال يمكن إعمالها في نطاق وحدود جائحة كورونا، ذلك أن اللجوء إلى المحكمة، وطلب تدخلها للتخفيف من الشروط التعسفية في عقد الاذعان؛ مرتبط بعيب لحق بالعقد منذ تكوينه، وليس عند تنفيذه، على عكس طلب إعمال نظرية الظروف الطارئة، التي يطلب إعمالها وتطبيق أحكامها في مرحلة تنفيذ العقد.
وفي الوقت ذاته، يترتب على وجود الظروف الطارئة التفريق بين فرضيتين؛ الاولى: أن العقد أصبح مستحيل التنفيذ، وبالتالي يعتبر في هذه الحالة الظرف الطارئ بحكم القوة القاهرة، مما يترتب عليه انقضاء الاتزام، والثانية؛ أن الظرف الطارئ أصبح مرهقا للمدين بحيث يلحق بالمدين خسارة غير وبالتدقيق في » جائحة كورنا« فإنه من الممكن أن ينطبق عليها مألوفة الفرضيتان؛ إذا جعلت تنفيذ العقد مستحيلا فهي ستكون » قوة قاهرة«، وإذا جعلته مرهقا، بقي الامر في حدود ما ترتبه الحوادث الطارئة من آثار .تترافق وتنفيذ العقد في ظل وجودها ويرى الباحث أن من يتمسك أمام القضاء » بجائحة كورونا« باعتبارها قوة قاهرة، فإنه حكم يطلب من المحكمة الحكم بانقضاء الالتزام، أما من يتمسك » بجائحة كورونا« باعتبارها حادثا طارئا جعل تنفيذ الالتزام مرهقا؛ فإن هذا يعني بأنه ما زال متمسكا بالعقد، ولكنه يرغب بتدخل القضاء للحد من إرهاق تنفيذه.
وفي كلتا الحالتين فإن قرار المحكمة بتكييف » جائحة كورونا« على أنها » قوة قاهرة« أو » حادث طارئ« يكون من خلال تلمسها حكم العقد، ومن ثم تحديد ما إذا كان تنفيذه » مستحيلا« أم » مرهقا«، بقطع النظر عما يسوقه الخصوم من أسباب أو مسوغات تؤكد طلباتهم، أو تنفي طلبات خصومهم، ويبقى الامر خاضعا لرقابة محكمة النقض، باعتبار أن تكييف الواقعة سيترتب عليه تحديد القانون الواجب التطبيق، وبالتالي - وإن كان يبدوا لنا بأن الامر متعلق بتكييف واقعة مادية- إلا أنها في نطاق تطبيقها سترتبط بالتطبيق السليم لنصوص القانون. وتجدر اإلشارة في هذا المقام، يتوجب على المحكمة وهي تطالع طلبات الخصوم في فرض كون الحادث الطارئ جعل تنفيذ الالتزام مرهقا، أو أنه » قوة قاهرة« جعلته مستحيلا، أن تتحقق من كونه قد نشأ بعد إبرام العقد وكان عاما، وكذلك أنه لم يكن بالامكان توقعه، ومن ثم جعلت تنفيذ الالتزام مرهقا أو مستحيلا وفق ما تم بيانه أعلاه.
هذا بالاضافة إلى كون العقد يفصل ما بين انعقاده وبين تنفيذه مدة زمنية؛ سواء أكانت من عقود المدة التي تنفذ بشكل مستمر أو دوري، أو من العقود الفورية التي يكون أطرافها قد اتفقوا على أجل الحق لالنعقاد من أجل تنفيذها. إن الباحث سيقتصر الحديث في » التوقع« من عدمه كشرط إلعمال أحكام » القوة القاهرة« أو » الظرف الطارئ« الذي جعل تنفيذ الالتزام مرهقا. ذلك أن الشرط الاول والشرط الثالث وقائع مادية تقاس بمعيار موضوعي، أما الشرط الثاني؛ فإنه حالة ذهنية مرتبطة بمعيار شخصي؛ وذلك ألن الفرض في هذه الحالة، أن متعاقدين قد أبرما عقدا بينهما، وكان هذا بعد إعالن حالة الطوارئ بسبب جائحة كورونا، وتوقعوا ما يمكن أن يحدث في ظلها، إال أن مقدار ما توقعوه من آثار تجاوز حدود هذا التوقع؛ كما لو توقعوا أن مدة إعالن حالة الطوارئ في حدها الاقصى لن تتجاوز مدة شهرين لعدم توقعهما مخالفة القانون الاساسي -بمثابة الدستور- في هذا الشأن، وتحديدا نص المادة 110 منه، ولكن تم تجاوز هذه المدة، وقد أدى عدم توقعهم إلى عدم تحقق التوازن الاقتصادي في العقد، بحيث أصبح تنفيذ الالتزام مرهقا نتيجة لتجاوز حدود ما توقعوه. ويرى الباحث أنه لم ينطبق الشرط الاول المتمثل في كون الحادث الطارئ يجب أن يكون قد وجد بعد إبرام العقد، ولكن تحقق الشرط الثاني، فلم يكن بالامكان توقع أن يصل الحد في جائحة كورونا إلى ما وصلت إليه، وكذلك تحقق الشرط الثالث، الذي من خالله تبين بأن هذا التفاقم أصبح فيه إرهاق للمدين، بحيث انتفى مع عدم التوقع التوازن الاقتصادي في العقد. فهل يمكن للقضاء أن يتدخل بغرض إعادة هذا التوازن بالاستناد إلى تفاقم آثار جائحة كورونا بما لم يكن متوقع أو يمكن توقعه؟ وهل يمكن أن يكون ُ للمحكم إذا ما عرض عليه النزاع، أن يعيد النظر من قبله في التزامات أطراف العقد، على سند من القول بأن ظروفا لم يكن بالامكان توقعها قد وقعت، وبالتالي يبرر لحكمه بخروجه عن نطاق قاعدة » العقد شريعة المتعاقدين« فيما يعرض عليه من نزاع؟ ويرى الكاتب في الاصل أن »عدم التوقع« وحده، ال يكون مبررا للمحكمة بأن تقوم بإعادة النظر من قبلها في الالتزامات التعاقدية المحكومة بشكل أساسي بقاعدة »العقد شريعة المتعاقدين«، بحجة أن عدم التوقع من قبل المدين في الالتزام، جعل تنفيذه له مرهقا، لدرجة سيفقد معه هذا المتعاقد المصلحة الاقتصادية في العقد،أو بتعبير آخر، عدم تحقق التوازن الاقتصادي في العقد«، حتى وإن كان يبدو للمحكمة من قرارها، بأنه سيكون منصفا، مهما بدا الامر لها من تلمسها للعدالة، فليس لها أن تقيم وزنا لرغبتها في تحقيق العدالة، مقابل ما يمكن أن تمس به قاعدة » العقد شريعة المتعاقدين«.
ولكن قد يكون المتعاقدان قد اتفقا ومن خلال بنود العقد، على أنه يحق لهما طلب إعادة النظر في بعض شروط العقد، وإعادة التفاوض عليها في حالة تطور ظروف معينة، كأن يتفق الفريقان على أنه وفي حال استمرار جائحة كورنا وما هو مرتبط بها من إجـراءات، تمتد إلى ما بعد تاريخ معين، وارتباط ذلك بارتفاع تكاليف المواد الاولية، لما يقدمه من خدمة على سبيل المثال، فيكون بإمكان من يرى منهم أن التزامه أصبح مرهقا، أن يطلب إعادة التفاوض على بنود العقد، وخاصة فيما يتعلق بالبند والبدل المادي للخدمة المتفق على تقديمها.
إن وجود مثل هذا البند في العقد، وإن كان يتوقع معه الفريقان إمكانية حصول حدث، إلا أن هذا ال يعني بأنهم توقعوا تحققه، وما يمكن أن يرتب عليه من أثر، بمعنى؛ أنه يمكن توقع الحدث، ولكن ال يمكن توقع حدود نتائج الحدث، التي يمكن أن تؤدي إلى أن يصبح تنفيذ العقد مرهقا، لدرجة ال يستقيم معها تنفيذ العقد مع المصلحة الاقتصادية المرجوة منه، وهذا التوقع الذاتي من قبل أطـراف العقد لمثل هذه الحوادث، وما يمكن أن يرافقها من ظروف، ومن ثم انعكاس ذلك على ما ترتبه من نتائج، قد يؤدي في حالة عدم التزام األطراف بالطريقة الودية إلى إعادة التفاوض على بنود العقد، إلى خلق نزاع قضائي يجعل أحد أطراف العقد يلج إلى ساحات القضاء، أو أن يكون الفرقاء في العقد قد اتفقوا على أنه؛ وفي حالة تعثرهم في االتفاق في حالة إعادة المفاوضة، أن يلجئوا إلى التحكيم.
وفـي حالة اللجوء إلـى القضاء في حالة عـدم رغبة أحـد الفريقين بإعادة التفاوض على شروط العقد، فإنه ليس للمحكمة أن تتدخل في التفاوض بين الفريقين، وال أن تفرض عليهما ذلك، وليس لها أن تدعي بأنها في حالة تدخلها ستكون مطبقةُ لقاعدة أن » العقد شريعة المتعاقدين«، على علة من القول بأن بند إعادة التفاوض قد كان جزءا من العقد، وأن لها أن تتحقق من تحقق حالة وجوب إعادة التفاوض حول بنود العقد، والذي بموجبه، تنازل الفريقان عن القوة الملزمة للعقد، في حالة وجود ظرف توقعوه، ولكن لم يكن بإمكانهم توقع نتائجه التي أدت إلى الارهاق أثناء التنفيذ، وبالتالي، يكون للمحكمة أن تتدخل محل إرادة الطرفين المتعاقدين، لغاية أن تعيد للعقد توازنه.
إن هذه المسوغات التي يمكن للمحكمة أن تسوقها حتى تبرر تدخلها، وإن كانت من حيث ظاهرها صحيحة وسليمة، إال أنه ال يمكن القبول بها؛ لما يترتب على تدخلها تعديل لبنود هي جزء في العقد، وبالتالي ستحل نفسها محل المتعاقدين في تحديد الالتزامات ألا منهما، وهذا أمر فيه خرق للقوة الملزمة للعقد دون مسوغ قانوني، وبالتالي يبقى العقد األولي هو المحدد لالتزامات المتعاقدين. ولكن ماذا لو كان الفريقان قد اتفقا على اللجوء إلى التحكيم في حالة عدم اتفاقهما، أو في حالة عدم التزام أي منهما بإعادة التفاوض؟ يرى الباحث في هذه الحالة يجب التفرقة بين كون اتفاقهم على اللجوء إلى التحكيم كان فقط متعلقا بنزاعهم حول إعمال شرط إعادة التفاوض من عدمه؛ ُ وهنا تكون صالحية المحكم إجرائية، وبالتالي ال يمكن أن يتدخل إلعادة التوازن االقتصادي للعقد.
أما لو تم االتفاق على أنه يكون للمحكم في حالة عدم اتفاق المتعاقدان على إعادة التوازن للعقد، حيث يقوم المحكم بإعادة هذا التوازن للعقد بطريقة وفي هذه الحالة األخيرة يكون عادلة وهو ما يسمى » التحكيم بالصلح« للمحكم الحق في النظر في هذا النزاع، ومن ثم يقرر في حكمه إعادة النظر في العقد من قبله كمحكم لغاية إعادة التوازن الاقتصادي للعقد، إذا وجد أن ذلك أقرب للعدالة. ويــرى الباحث في هـذا الجانب أن على من يرغبون بالتعاقد في عقود ليست فورية، أو في عقود فورية؛ ولكن حددت تواريخ الحقة لتنفيذها، أن يضمنوا عقودهم بنودا مرتبطة باإلحالة إلى التحكيم، في حالة ظهور ظروف غير متوقعة، والتي لا يمكن أن تؤسس في قيامها وحدها لاعمال نظرية الظروف الطارئة، وأن يكون بند هذه اإلحالة إلى التحكيم يمنح الصلاحية للمحكم في أن يتبين ما إذا كانت حالة » عدم التوقع« متحققة أم لا، ومن ثم له في حالة تحققه من ذلك أن يقوم وبالاستناد إلى تحققها بالعمل على إعادة التوازن الاقتصادي للعقد من خلال قراره التحكيمي، خاصة في هذه المرحلة الحساسة من انتشار » لجائحة كورونا« والتي في ظل وجودها سيكون هنالك العديد من العقود التي تنعقد، ومن الممكن ألا تنطبق عليها أحكام الظروف الطارئة، وبالتالي يمكن التعامل مع مبدأ » عدم التوقع« المرتبط باختلال الالتزامات المتقابلة في العقود لغاية إعادة التوازن العقدي. كما يرى الباحث أمرا هاما وهو أن يتبنى مشروع القانون المدني الفلسطيني مسألة عدم التوقع كمبدأ أساسي فيه، مواكبة للتطورات التنازعية التي تحدث، نتيجة لما يرافق » الجوائح« من مسائل مرتبطة بعدالة المعاوضة في العقود، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوازن الاقتصادي فيها، مع ضبط هذا الامر بطريقة لا تؤدي إلى خرق مبدأ » القوة الملزمة للعقد«، وألا تؤدي إلى تدخل قضائي متعسف.