إن لكل مهنة آدابها ودستورها الخلقي، سواء أكان هذا الدستور مكتوباً أو غيـر مكتـوب. والتحكيم نظام يقوم على ثقة في المحكمين الذي يشاركون جميعاً فيه، ولكنه أيضاً معركة علـى الغالب ما تدور حول مصالح ضخمة متعارضة.
ولهذه المعركة قوانينها التي يجب أن يلتزمها الأطراف، فإذا التزموها كان التحكيم معزوفـة رائعة متناغمة تؤدى في محراب العدالة، وإذا لم يلتزموها قام الخطر في أن يتحول التحكيم إلـى ما يشبه معركة بين الأشرار لا تراعي فيها أصول ولا حرمة.
التعريف الفقهي
المحكم هو شخص يتمتع بثقة الخصوم، أولوه عناية الفصل في خصومة قائمة بينهم. وقد يـتم تعيينه من قبل المحكمة المختصة في الحالات التي نص عليها القانون للقيام بذات المهمة المتقدمة .
والمحكم هو المحور الأساسي الذي تدور حوله خصومة التحكيم وبقدر دقة المحكم ومهارته تكون سلامة إجراءات التحكيم وصحة الحكم الصادر. وفي الواقع العملي، فإن حسن أداء المحكم مهمته يتوقف على ما يحمله من مؤهلات وخبرات.
أولا- المحكم يشغل مركز الفرد العادي:
يرى هذا الاتجاه أن المحكم ما هو إلا فرد عـادي عهـد إليـه الأطـراف بتـولي مهمـة الفصل في النزاع، فالمحكم لـيـس قاضـياً وليس هنـاك أي وحـدة بـين مهمـات القاضـي والمحكم.
والقول بأن المحكم قاض، ولكنه غير مزود سلطة الأمر، إنما هو قول غير سليم، لأن سلطة المحكم ليست قضائية بالمرة، كما أن المحكم ليس في مركز قضائي، ومن المسلم به أن المحكم لا يخضع للضمانات القانونية التي يتمتع بها القاضي. ومثال ذلك ضمانات عـدم القابليـة للعـزل وقواعد دعوى المخاصمة. كما لا تسري عليه جريمة إنكار العدالة إذا امتنع عن إصدار الحكم في الميعاد المحدد للتحكيم، كما لا يلزم أن تتوافر في المحكم الشروط التي تطلبها القانون في القاضي ومثال ذلك شرط الجنسية الوطنية.
ثانياً- المحكم يشغل مركز القاضي:
يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن المحكم قاض، ولكنه قاض خاص سماه الخصوم بأنف وقراره ذو طابع قضائي، فالمحكم قاض بكل معنى الكلمة، ومن ثم فإنه يخضع حتماً لكل ما ينص عليه القانون من قيود وقواعد ولحكمه خصائص الأحكام القضائية.
فالمحكم بحكم وظيفته في فض النزاعات، وفقاً للقانون والعدالة، يعتبر قاضياً، وهو يـصـدر حكماً حقيقياً في المنازعة يحوز حجية الأمر المقضي، وهو يستند في عمله إلى اتفـاق التحكـيم وإرادة المشرع التي تعترف به وتجعل حكمه قابلاً للتنفيـذ الجبـري بعـد اسـتيفاء الـشروط والإجراءات المحددة، لذا يعتبر حكم المحكم بمجرد صدوره ورقة رسمية .
فالمحكم يتمتع بسلطة قضائية في إصدار حكم التحكيم، وهذه السلطة مصدرها المباشر اتفاق التحكيم، ومصدرها غير المباشر القانون الذي يضع التحكيم في إطار المشروعية .
وحتى تتوافر في عمل المحكم، الضمانات التي يتطلبها القانون، فإن قراره لا يقبـل التنفيـذ الجدي، إلا إذا خضع للرقابة من قبل سلطة القضاء، لأن المحكم لا يملك سلطة الأمر. وللارتقاء به إلى مصاف العمل الصادر من قضاء الدولة يجب أن يأمر بتنفيذه، وذلك لا يتم إلا بعد ممارسة رقابة معينة على الحكم الصادر منه.
ويؤكد البعض من أنصار هذا الاتجاه، أن المحكمين يعتبرون ممثلين للدولـة أو لقـضائها، وأنهم يؤدون مهمة مماثلة لوظيفة القضاء ويتحملون المسؤوليات ذاتها.
وتأخذ محكمة النقض الفرنسية بهذا الاتجاه، حيث يتردد في قضائها القول: بـأن المفهـوم الحقيقي لعملية التحكيم هو اتجاه الأطراف إلى منح المحكم سلطة قضائية.
رأينا الخاص:
إنني أرى أن المحكم يشغل في الواقع مركز القاضي، ولكنه لا تنطبق عليه صفة القاد وذلك باعتبار أن الدستور السوري لا يعتبره من عداد السلطة القضائية. وقد خول الـشعب فـي الدستور قضاة السلطة القضائية المنبثقة من الدولة أن يحكموا باسمه، وأنه وإن كان المحكمون لا يعتبرون من عداد السلطة القضائية المنصوص عليها في الدستور والتي تمارس عملها القـضائي في نطاق المحاكم.
فإن قيام المحكمين بعملهم الموازي لعمل القاضـي يـستوجب مراعـاة أن يحكـم هـؤلاء المحكمون باسم الشعب وفق ما استقر عليه الاجتهاد القضائي.
الشروط الواجب توافرها في المحكم
باعتبار أن المحكم يتولى وظيفة قضائية تحتم عليه أن يتحلى بما يتحلى بـه القاضى من نزاهة واستقلال وحياد. وقد عبرت محكمة النقض الفرنسية عن هذا المبدأ أجمل تعبير في حكمها الصادر بتاريخ 13 نيسان 1972 الذي جاء فيه أنه لا غنى عن الاستقلال المعنـوي والروحى لممارسة أي سلطة قضائية، أياً كان مصدرها، وإن هذا الاستقلال المعنوي هو إحـدى الـصفات الأساسية للمحكمين.
وينطلق الفقه والتشريع من هذا المبدأ العام مفصلاً ومحللاً ليتطلب في المحكـم شـرطين: أحدهما شرط موضوعي محسوس هو استقلال المحكم عن الطرفين، بينما يقوم الـشرط الآخـر على عنصر شخصي يصعب ضبطه هو شرط الحياد وعدم الانحياز .
وتتجه معظم تشريعات التحكيم إلى وضع بعض الشروط التي يجب توافرها في من يتـولى مهمة التحكيم، وذلك نظراً للطبيعة القضائية التي يضطلع بها المحكم، وحتى لا يترك أمر ممارسة القضاء الخاص لأي شخص، ويجب توافر هذه الشروط سواء كان المحكم من اختيار الأطـراف أو بواسطة سلطة من الغير كمركز تحكيم أو بواسطة القضاء .
أولاً- الشروط القانونية في المحكم:
وهي تتمحور على ثلاث صفات في المحكم:
الصفة الأولى: ضرورة تمتع المحكم بالأهلية المدنية.
الصفة الثانية: ضرورة أن يتوافر في المحكم الاستقلال.
الصفة الثالثة: ضرورة تحقق الحياد وعدم الانحياز.
1)- الأهلية المدنية: يجب توافر ما يلي:
أ- أن يكون المحكم بالغا سن الرشد.
ب- ألا يكون المحكم محجوراً عليه أو مجرداً من حقوقه المدنية.
ج- عدم إشهار إفلاس المحكم .
ويرى جانب من الفقه أنه كان من الأفضل إضافة شرط آخـر، وهـو ألا يكـون المحكم محجوراً عليه.
المادة /13/ من قانون التحكيم السوري رقم /4/ لعام 2008 نصت على أنـه لا يجـوز أن يكون المحكم قاصراً أو محجوراً عليه أو مجرداً من حقوقه المدنية بسبب الحكم عليه بجنايـة أو جنحة شائنة، ما لم يكن قد رد إليه اعتباره.
شرط أن يكون المحكم شخصاً طبيعياً.
- ولا بد من أن يكون المحكم شخصاً طبيعياً. والعلة في ذلك أن المحكـم يـصـدر حكمـاً يماثل أحكام القـضاء والمعـروف أن سلطة القـضاء لا يباشـرها، إلا الأشخاص الطبيعيون .
ولقد كان تحديد شخصية المحكم غائباً عن الذكر في النص السابق لقانون التحكـيم الـسابق (ضمن قانون الأصول) ولكن القانون الجديد رقم /4/ لعام 2008 قد فصل جذرياً ذلـك بـالنص بالمادة التاسعة منه على:
(1- لا يجوز الاتفاق على التحكيم، إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف في حقوقه وفقا للقانون الذي يحكم أهليته).
ويمكن للفرقاء بالتالي في مادة التحكيم الدولي العهدة بالنزاع إلى شخص معنوي للفصل في النزاع، وهي صلاحيات أوسع بكثير من تلك المعطاة للمحكم في قضايا التحكيم الداخلي، الأمـر الذي يؤكد على الاختلاف القائم بهذا الصدد بين كل من التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي .
2)- شرط الاستقلال:
يعتبر استقلال المحكم عنصراً خارجياً محسوساً يقيم قرينة قوية على توافر الشرط الجوهري غير المحسوس وهو شرط الحياد وعدم الانحياز، ومن الواضح أن روابط الأسرة أو الاشـتراك في العمل الحر أو وجود رابطة وظيفية بين المحكم وأحد الطرفين أو كلاهما هي أمـور تنفـي الاستقلال وتصلح أساساً قوياً لرد المحكم. ولذلك يتعين على المحكم المقتـرح وقبـل تعيينـه أن يكشف للطرفين عن قيام أية روابط من هذا القبيل، وسواء أكانت تلك الروابط حالية أم سابقة، كما أن نشأة مثل هذه الروابط بعد بدء التحكيم توجب على المحكم أن يتنحى عن التحكيم ما لم يتقبـل الطرفان استمراره، والمعيار الأساسي ضمن هذا الإطار هو معيار موضوعي لا شخـصي عبرة في ما يراه المحكم ذاته.
ويكتسب المحكم لدى قبوله مهمة التحكيم، صفة القاضي وليس صفة وكيل للفرقاء ويلتـزم إزاءهم واجب الاستقلالية الذي يعد الحياد نتيجة حتمية له. وقد أظهرت التجربـة، سـواء علـى صعيد المؤسسات القضائية الرسمية أو على صعيد المؤسسات التحكيمية، صعوبة تأطير التحكـيم في قواعد وأسس خاصة.
وفي نطاق الخضوع الإداري نشأ التساؤل عن التحكيم الذي يكون أحد أطرافه مشروعاً في دولة اشتراكية، وهل يجوز أن يكون المحكم موظفاً في الدولة أو لدى مشروع آخر يخضع فـي نهاية الأمر لسلطة الدولة التي تسيطر على المشروعين؟ وقد نظرت منظمات التحكيم إلـى هـذه الصعوبة نظرة واقعية، إذ لا يمكن أن تطلب درجة من الاستقلال لدى المحكم لا يمكن لمجمـوع النظام القائم في الدولة أن يوفرها.
أما إذا كان النظام القائم يسمح بالدرجة المطلوبة من الاستقلال فلا محل للتساهل. ويختلـف الأمر في حالة الشركات القابضة في الغرب، إذ يمكن استبعاد المحكم المقترح من شركة تابعة أو مرتبطة بالمجموعة وطلب ترشيح محكم آخر من خارج مجموعة الشركات كلها.
وفيما يتعلق بجنسية المحكم، فقد جرت منظمات التحكيم على ضرورة أن يكون المحكم الفرد المرجح من جنسية تختلف عن جنسية الطرفين، ولكن هذا الشرط على بساطته قد يثير مسائل دقيقة فيما يخص الشركات يجري الرأي السليم على أنه لا محل للوقوف عند جنـسية الـشركة وحدها، بل يجب البحث عن حقيقة المصالح القائمة وراء الشركة وجنسية أصحابها.
وهناك صعوبة أخرى ترجع في الواقع إلى أن تكون كتل إقليمية مترابطة اقتصادياً كالسوق الأوروبية المشتركة وغيرها من التجمعات الاقتصادية. ففي ظل هذه التجمعات يـصبح الـولاء الاقتصادي للتجمع لا للدولة العضو فيه ويصبح شرط اختلاف الجنسية موضع شك كبير. فهـل يمكن أن يقال اليوم أن اختيار رئيس إنكليزي أو فرنسي أو هولندي لهيئة تحكيم في نزاع قائم بين طرف ألماني وطرف سوري مثلا يحقق الهدف من شرط اختلاف الجنسية؟ نرى أنه لا بد مـن إعادة النظر في هذا الشرط كله في ضوء المتغيرات الحاصلة، وإعطائه مفهوماً أوسع يتمشى مع التطور الحالي، يتم فيه التركيز علـى الـصفات الشخصية للمحكمـين واشـتهارهم بالعـدل والموضوعية، مهما كانت صفتهم.
مفترضات استقلال القضاء:
مما تقدم نستنتج أن ذلك ينحصر بما يلي:
1- انتفاء صلة المحكم بالنزاع.
2- استقلال المحكم عن الأطراف.
3- استقلال المحكم عن الغير.
وبالنسبة للحالة الثالثة، فإنه يحدث اعتداء على استقلال المحكم من الغير بصفة خاصة فـي حالات معينة من قبل مؤسسات أو مراكز التحكيم الدائمة، عندما تفرض تعليمات معينـة تتعلـق بشكل الحكم أو مضمونه. إذ أن هذا التدخل في عمل المحكم يعد اعتداء خطيرا علـى اسـتقلاله وعلى حريته في اتخاذ القرار .
وضمن هذا الإطار، لا بد من التنويه إلى أن المادة 3/34 من الاتفاقيـة العربيـة للتحكـيم التجاري لعام 1987، تنص على إبطال الحكم إذا وقع تأثير غير مشروع على المحكمين أثر في الحكم. وإذا كانت بعض النظم القانونية تذهب إلى اشتراط أن يكون المحكم وطنياً علـى اعتبـار أن التحكيم نوع من القضاء ينبغي ألا يتولاه الأجانب، كما هو الحـال ألا يتولاه الأجانب، كما هو الحـال فـي قـوانين كولومبيـا والإكوادور.
وقانون التحكيم السعودي الصادر في 1985/3/27. فإن بعض الاتفاقيات الدوليـة تـنص صراحة على إمكانية قيام الأجنبي بمهمة المحكم، وهذا ما نجده في الاتفاقيـة الأوروبيـة لعــام 1961، حيث تنص المادة الثالثة على أنه: «في التحكيم الخاضع لهذه الاتفاقية يمكن للأجانب أن يعينوا كمحكمين».
وبعض الاتفاقيات تشترط عدم تمتع المحكم بالجنسية الوطنية للأطراف. وهذا ما نصت عليه المادة /18/ من الاتفاقية العربية للتحكيم التجاري لعام 1987، حيث تنص الفقرة الرابعـة منهـا على أنه: «لا يجوز أن يكون المحكمون الذين يعينهم المكتب من مواطني أحد الطرفين».
والحكم نفسه نجده في المادة /38/ من اتفاقية واشنطن لعام 1965.
وقانون التحكيم السوري لا يشترط في المحكم أن يكون من جنس أو جنسية معينـة، إلا إذا اتفق طرفا التحكيم على غير ذلك /مادة 2/13/.
3)- شرط الحياد وعدم الانحياز:
والواقع أن ذلك يمثل شرطاً جوهرياً في المحكم يصل إلى أعماق ضميره، ويرى الأستاذان ردفرن وهنتر إن اللفظين ليسا مترادفين، فقد لا يكون المحكم محايداً بالنسبة لشخص أحـد الطرفين، ومع ذلك فإنه يكون موضوعياً في حكمه. وهما ينتهيان في جميع الأحوال إلى وجـوب توافر عنصري الحياد والموضوعية في كل محكم فرد أو محكم مرجح.
ولما كان المحكم يقوم بوظيفة قضائية، فقد كان من البديهي اشتراط ألا تكون له مصلحة في النزاع، وترتيباً على ذلك لا يجوز أن يكون محكماً من كان خصماً في النزاع المعروض علـى التحكيم، ولا يجوز أن يكون محكماً من كانت له مصلحة غير مباشرة في النزاع المعروض على التحكيم على أي وجه من الوجوه. ومن ثم فلا يجوز للدائن أو الكفيل أو الضامن أن يكون محكماً في النزاع الواقع بين المدين أو المضمون وبين الغير. ولا يجوز للشريك أو المساهم في شـركة أن يكون محكماً في نزاع بين الشركة والغير، ولا يجوز للمهندس الذي أشرف على عملية ما أو قام بتهيئتها للتنفيذ أن يكون محكماً في الخصومة بين رب العمل والمقاول الذي نفذها، باعتبـاره كان مشرفا على عمل المقاول .
ويلاحظ أن هذا الشرط المطلوب في المحكم هو من أسباب عدم صلاحية الـشخص يكون محكماً في النزاع الذي له مصلحة فيه دون باقي الأنزعة.
ويظهر انحياز المحكم بصورة واضحة إذا كان قد سبق له إبداء الرأي في المسائل القانونية موضوع التحكيم، ولو كان غير عالم بقيام النزاع أصلاً وقت ابتداء هذا الرأي.
ولا يكون الانحياز لطرف، بل انحياز لفكرة مسبقة، وهو في رأي بعض الفقهاء أخطر مـن الانحياز لأحد الأطراف، ولكن من جانب آخر، فإنه ينبغي تجنب المبالغة في هـذا الـشأن، وإلا لأصبح إبداء الأستاذ لرأي علمي في محاضراته لطلابه سبباً في عدم صلاحيته للجلوس مجلـس المحكم في أي نزاع يثور حول الموضوع الذي فيه ذلك الرأي، مع أن العلماء كثيراً ما يعـدلون عن بعض آرائهم، ولاسيما في ضوء العمل والظروف الواقعية التي لم تدر بذهنهم عنـد تـكـوين رأيهم العلمي المجرد، حتى إن المحاكم العليا ذاتها قد ترجع عما قضت به في حالات سابقة.
ولما كان انحياز المحكم الذي يؤدي إلى بطلان الحكم أمراً يصعب إثباته على نحو يقيني فقد أخذ القضاء الإنكليزي في هذا الـشأن بمعيـار موضـوعي هـو معيـار الانحيـاز الحكمـي (Imputedbias)، فلا يزال الطاعن في حكم التحكيم على أساس الانحياز بأن يثبت حقيقة وقوع الانحياز المدعى به، بل يكفي أن يستشف من ظروف الدعوى- طبقاً لتقدير الرجل المعقول أن مسلك المحكم من شأنه أن يثير احتمالاً جدياً بأنه لم يكن موضوعياً، إن المحل في الإجابة عـن ذلك السؤال الصعب المتعلق بعدم موضوعية المحكم هو ما إذا كانت المحكمة مقتنعة بأن الإنحياز ربما يكون قد تسبب بالتوصل إلى النتيجة الخاطئة، ولا يلزم أن تقتنع المحكمة بأن إنحياز المحكم يكون قد تسبب في التوصل إلى النتيجة الخاطئة، ولا يلزم أن تقتنع المحكمة بأن انحياز المحكم لا بد من أنه كان السبب في تلك النتيجة، بل تأخذ المحاكم الايرلندية بمعيار أشد قسوة فلا أهمية في رأيها لكون الحكم قد صدر في النهاية سليماً أو غير متأثر بالانحياز، إذ أنه لا يجوز أن يـصـدر من المحكمين أي فعل لا يكون في ذاته عادلاً وغير منحاز. وهكذا يعتبر الانحياز في ذاته عيبـاً في الحكم يوجب الرد، ولو كانت النتيجة التي انتهى إليها الحكم سليمة.
إن المحكم كالقاضي، ومن ثم يتعين أن تتوافر فيه الحيدة والاستقلال عن الخـصوم حتـى يستطيع أن يمسك ميزان العدالة في منصة التحكيم ويحقق المساواة بين الطرفين، وإذا كان هـذا الشرط لا يتطرق إليه أدنى شك إزاء صراحة النص القانوني، إلا أن تقدير مدى توافر هذا الشرط في المحكم، إنما هو أمر يعتمد بصفة أساسية على تقدير الخصوم. ومن ثم فإن الأمر يختلف من حالة إلى أخرى، بالرغم من توافر الملابسات نفسها. وتنص المادة 1/17 مـن قـانون التحكـيم السوري على أنه:
((....ويجب عليه (أي المحكم) أن يفصح لطرفي التحكيم وللمحكمين الآخـريـن عـن أيـة ظروف من شأنها أن تثير شكوكاً حول استقلاله أو حيدته سواء أكانت هذه الظروف قائمة عنـد قبوله مهمته أم استجدت أثناء إجراءات التحكيم، ويكون لطرفي التحكيم في هذه الحالـة الخيـار لقبول استمراره بمهمة التحكيم أو مطالبته بالتنحي)).
وعلى هذا، فإن صلة المحكم بأحد الخصوم أو بهما معاً، في بعض الفروض لا تمس حيـاد المحكم واستقلاله طالما كان الطرفين على علم بها وقت الاختيار، إذ قد يكون الغرض من التحكيم هو وضع النزاع في يد شخص أمين حريص على علاقات الطرفين كصديق حميم للطـرفين أو مستشار قانوني لأحدهما، ويحترمه الطرف الآخر ويثق في نزاهته .
أوجه التقارب والاختلاف بين المحكم والقاضي
أولاً- مظاهر التقارب الالتقاء بين المحكم والقاضي:
1- الاختصاص بالاختصاص: حيث أن كل من المحكم والقاضي يختص بالفصل في دفوع تتعلق باختصاصه أو في مسألة لازمة للفصل في القضية المنظورة أمامه.
ویری جانب من الفقه أن هذا المبدأ أصبح من المبادئ المعترف بها عالميـاً والأكثـر شيوعاً في التطبيق العملي في مجال التحكيم .
وضمن هذا الإطار، نصت الفقرة (1) من المادة/21/ من قواعد التحكيم التي وضـعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي -نيويورك 1984- على أن «هيئة التحكـب هي صاحبة الاختصاص بالفصل في الدفوع الخاصة بعدم اختصاصها، وتدخل في ذلك الدفوع المتعلقة بوجود شرط التحكيم أو الاتفاق المنفصل على التحكيم أو بصحة هـذا الشرط أو هذا الاتفاق».
2- التزام المحكم والقاضي مراعاة حقوق الدفاع الأساسية للخصوم: ومثال هذه الحقـوق والضمانات التي يجب أن تمنح لأطراف النزاع، كفالة حق الدفاع لكل مـن الطـرفين، وأن يعاملا على قدم المساواة، وأن تتاح فرصة متكافئة لكل منهما في عرض دعـواه وطلباته وتقديم مستنداته، واحترام مبدأ المواجهة يقتضي أن تتاح للخصم الآخر فرصة الاطلاع والتعقيب والرد على دفاع ومستندات خصمه .
ويؤكد جانب من الفقه أن للتحكيم طبيعة قضائية، وأنه يسير موازياً لقضاء الدولة، وأن وظيفة المحكم تتطابق مع مهمة القاضي .
3- يجوز أن يتنحى المحكم من تلقاء نفسه عن نظر التحكيم مثل القاضي: وضـمن هـذه الحالة نجد أنه إذا كان التنحي متروك لتقدير المحكم المطلق ولا يخضع لمراجعـة أو تصديق، فإن المشرع رأى تعليق رغبة القاضي في التنحي على إقـرار المحكمـة أو رئيسها حتى لا يكون هذا التنحي وسيلة لعدم أداء القاضي واجبه في نظر الدعوى .
4- مراعاة الالتزام بسرية المداولة: يتفق التحكيم والقضاء في أن المداولة التي تـتم بـين المحكمين أو بين القضاة تكون سرية، ويلتزم المحكم والقاض بعـدم إفشاء سـرية المداولة.
وهناك تسليم راسخ بضرورة إجراء مشاورات بين المحكمين قبل إصدار حكمهم
5- تمتع الحكم الصادر من المحكم والقاضي بحجية الأمر المقضي: فحكم التحكـيم يتمتـع بخصائص الحكم الصادر من المحكم والقاضي بحجية الأمر المقضي ويكـون واجـب النفاذ بمراعاة ما تطلبه القانون من شروط.
ثانياً- أوجه الاختلاف والتباعد بين المحكم والقاضي:
1- لا يشترط في المحكم مؤهلات قانونية خاصة بعكس القاضي، وكذلك الحال بالنـسبة للأهلية القانونية حيث يشترط بالنسبة للقاضي إضافة إلى شرط الأهلية أن يكون سن محددة يجب أن لا تقل عنه.
2- حرية المحكم في القيام بأعمال أخرى بجانب التحكيم بعكس القاضي: لما كان القضاء وظيفة عامة، لذلك كان من المتوجب على من يعمل فيه أن يتفرغ للقيام به ويبتعد عن أي عمل آخر من شأنه أن يؤثر في تفرغ القاضي واستقلاله، في حين أن المحكم يقوم بعمل مؤقت لا يمكن أن يعتمد عليه كمورد رزق، ولذلك فالأصل أن المحكـم يقـوم بعمل آخر بجانب التحكيم، وغالباً ما يكون عملاً قانونياً أو متصلاً بالتجارة الدولية.
3- القاضي يحلف اليمين القانونية قبل مباشرته مهمته وفق قانون السلطة القضائية، وذلك بعكس المحكم الذي لا يلتزم ذلك، ولكن يجوز للأطراف الاتفاق على تحميل المحك بذلك .
4- قبول المحكم أداء مهمته كتابة بعكس القاضي، وقد يكون مرجع ذلك أن مهمة المحكم لها طابع مؤقت بعكس وظيفة القاضي، ولذلك يتعين بالنسبة للمحكم تنظيم كل وضـع تحكيم على حدة.
5- لا يتمتع المحكم بما يتمتع به القاضي من سلطة الأمر والقسر، ولذلك يطلب المحكـم المساعدة من القضاء الوطني، على الرغم من وجود اتفاق التحكيم. وهذا الواقع يؤكد أن هناك نوعاً من التكامل والتعاون بين كل من المحكم والقاضي، إذ لم تعد العلاقـة تنافسية بين القضاء الخاص المستند إلى إرادة الأطراف، والقضاء في الدولـة، كمـا كانت الحال في العديد من الدول في فترات سابقة، وإنما أصبحت علاقة تعاون تـام بين كل من القضاءين يصل في الكثير من الأحيان إلى حد التكامل، وهو مـا يظهـر بصورة أوضح بصدد تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة عن المحكم.
6- سلطات المحكم في حسم النزاع أكثر اتساعاً من سلطة القاضي، فالقاضي في الواقـع موظف عام في مرفق العدالة، وفي مقدمة واجباته الأساسية تطبيق حكم القانون تطبيقاً صحيحاً، بصرف النظر عن موقف الخصوم، وهو يخضع في ذلك لرقابـة محكمـة النقض.
أما المحكم فإن اختياره يعتمد على رضاء الخصوم به وعلى أساس هذا الرضـا يـت تحديد السلطة التي يتمتع بها المحكم.
وضمن هذا الإطار، فإما أن يعهد للمحكم بحسم النزاع استناداً إلى حكم القانون، وفي هذه الحالة عليه أن يتقيد بحكم القانون من كافة النواحي بصرف النظر عـن تقـديره الشخصي لمدى عدالة النتائج التي توصل إليها، كما يفعل القاضي ويسمى التحكيم في هذه الحالة التحكيم بالقانون.
أما الحالة الثانية فهي تتمثل في أن يرتضي الطرفان للمحكم صلاحية الفصل فـي النزاع، وفقاً لما يراه محققاً للعدالة، وصولاً إلى حكم يحفظ التوازن بين مـصالحهما، حتى ولو كانت في هذا الحكم مخالفة لأحكام القانون التي تحكم وقائع النزاع، والتـي يلتزم القاضي تطبيقها فيما لو عرض النزاع عليه. ويسمى التحكيم في هـذه الحالـة التحكيم بالصلح أو التحكيم، وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف. والتحكيم بالـصلح يلـزم المحكم بأن يبحث عن الحل الذي يكون الأكثر قبولاً من الطرفين، ومـن هنـا فـإن المحكم يجب أن يراعي في حكمه إرادة الطرفين الضمنية في أن يستمرا في التعاون معاً، ولذلك فإن المحكم يبحث عن حل وسط يحقق العدالة المبـصرة التـي تراعـي الظروف الشخصية لطرفين بعيداً عن عدالة القانون العمياء التي تطبق القانون بمعيار موضوعي مجرد، لأنها عدالة في محيط التجارة الدولية، ومن ثم فإن حل النزاع على نحو من شأنه القضاء على العلاقات الودية بين الطرفين في المستقبل سوف تترتـب عليه إصابة الطرفين بأضرار لا يمكن تجاهلها.
واستناداً إلى هذه المفاهيم، فقد أصبح القضاء الوطني والتحكيم الدولي لا يقومان بنفس الدور في تسوية منازعات العقود الدولية للإنشاءات، وذلك لأن سيطرة التحكيم وغلبته كوسيلة لفض منازعات هذه العقود ليست في حاجة إلى تبرير، بحيث أصبح المحكم الدولي على حد قول أحد الفقهاء هو القاضي الطبيعي لهذه العقود، حيث يقوم التحكيم بفض حوالي 90% من منازعات العقود الدولية للإنشاءات .
8- عدم سريان جريمة إنكار العدالة على المحكم بعكس القاضي، وضمن هذا النهج فـإن الحكومة لا تسأل عن عمل المحكم، لأنها لا تسأل إلا عن أعمال تابعيها، وهو ليس تابعاً لها.
ولا يجوز تطبيق جريمة إنكار العدالة على المحكم على أساس القياس، لأنـه يؤدي وظيفة قضائية ويعد في حكم الموظف العام في جريمة الرشوة، ومرجع ذلك قاعـدة أصولية في القانون الجنائي تقضي بعدم جواز التوسع في تفسير الـنص الجنـائي أو القياس عليه.
9- يجوز إقالة المحكم باتفاق الأطراف بعكس القاضي، ويمكن أن يتم ذلك في أي مرحلة من مراحل سیر خصومة التحكيم طالما لم يصدر الحكم بعد، حتى ولو لم تتـوافر أي ظروف من شأنها أن تثير شكوكاً حول حيدته أو استقلاله. وذلـك بعك الوضـع القانوني للقاضي، إذ لا يملك الخصوم بالاتفاق على عزل القاضي.
10- يشترط في القاضي الصفة الوطنية بعكس المحكم، حيث نجد أن الغالبية العظمى مـن الدول تشترط في القاضي التمتع بالجنسية الوطنية باعتبار أنه يؤدي وظيفة عامة في مرفق العدالة، وباعتبار أن ذلك مظهر من مظاهر السيادة التي تحرص عليها الدول. وذلك بعكس ما اذا كان أجنبياً.
11- خضوع القاضي لنظام قانوني لا يخضع له المحكـم، وذلـك بـهـدف كفالـة الأمـن والطمأنينة له أثناء تأدية عمله وهو يؤدي وظيفة القضاء باسم عدالة الدولة.
وهذا النظام لا يسري على المحكم ولا يستفيد منه، إذ أنه يؤدي مهمة مؤقتة باتفـاق ورضاء الأطراف في مقابل أتعاب متفق عليها. ولذلك فإن المحكم لا يستند إلـى مـا يدعم القاضي من حصانة ودوام واستقرار حتى لو كان يؤدي عمله في إطـار هيئـة دائمة للتحكيم.
12- خضوع القاضي لنظام دعوى المخاصمة بعكس المحكم. فالقانون يرسم قواعد خاصة لمسؤولية القضاة المدنية عن أعمالهم تهدف لحماية القاضي عن طريقتين:
الأولى- تحديد الحالات التي يسأل فيها القاضي مدنياً على خلاف الفرد العادي.
الثانية- رسم إجراءات معينة لخصومة قضائية لا تخضع لكل القواعد العامة، وتسمى في الاصطلاح القانوني دعوى المخاصمة. إن هذه القواعد والضمانات لا يستفيد منها المحكم.
13- اختلاف نظام رد القاضي والمحكم، وسبب ذلك يرجع إلى أن المحتكم هو الذي اختار المحكم فلا يجوز طلب رده، إلا إذا اكتشف في وقت لاحق وجود سبب من شـأنه أن يؤثر على حياد المحكم واستقلاله بينما الخصم لا يعرف القاضـي أو يوافـق علـى اختياره، لذلك يمكن طلب رده في أي وقت قبل اقفال باب المرافعة.
ويجسد الخلاف بين الطريقتين بعبارة موجزة بعض الفقهاء قـائلا: إن التحكـيم أداة خصوصية للفصل في النزاع، ويتشكل في كل حالة على حـدة حـسب المقتـضيات الخاصة بالنزاع، أما القضاء فهو طريق عام لحماية الحقوق والمراكز القانونية تحكمه قواعد عامة مجردة موضوعة سلفاً لأية قضية.
لذا يرى أنصار استقلال التحكيم، أن التحكيم ليس نوعاً من القضاء، وإنما هو نظـام مختلف في وظيفته و طبيعته وفي غايته وبنائه الداخلي عن القضاء، بل هـو جـنس مواز له لا يجوز أن تطبق قواعد القضاء على مسائل التحكيم، إلا على سبيل القياس وبشروط القياس ولعدم وجود قاعدة خاصة تحكم المسألة المثارة في التحكيم... الخ، أما التطبيق الآلي لقواعد القضاء على مسائل التحكيم، فإنـه يمـسـخ نظـام التحكـيم ويشوهه ويخرج به عن طبيعته الأصلية ويؤدي إلى تنكب غايته السليمة البحتة.