التحكيم المؤسسي في دول الخليج العربية الضرورات.. والتوقعات.. والتوجهات
الراصد بعناية للتطورات التي يشهدها التحكيم المؤسسي في دول الخليج العربية خلال السنوات الأخيرة، وخاصة منذ جائحة "كوفيد 19" وحتى تاريخه، سوف يدرك أن هناك "موجة" جديدة وحراكا نحو الإنتقال إلى الإصدار التالي لمنظومة التحكيم المؤسسي، يمكن أن نسميه حراك "فقه الضرورة أقرب منه إلى توجهات مرتبطة بأدبيات "التحديث والتطوير"، خاصة بعد أن مضت سنوات ما قبل الجانحة - على العديد من مراكز التحكيم المؤسسي الخليجي وهي لم تبرح التنظير، وحضور الرغبة، وغياب المقدرة، وتفادي التصدي بشفافية وفاعلية للإشكاليات العملية والفجوة القائمة بين المفهوم والممارسة التي يشويها أحيانا القصور وغياب الأصول المرتبطة بطبيعة قضاء التحكيم المحافظة الأمر الذي كان له الأثر على ثقة الأطراف في بعض مراكز التحكيم المؤسسي الخليجية بل حدا بنسية من المتنازعين أن يختاروا وفق سلطان الإرادة اللجوء إلى مراكز ومؤسسات تحكيمية دولية خارج دول المجلس ليولوا وجوههم شطرها، لتكون المقر القانوني التحكيمي المختار لتسوية نزاعاتهم المرتبطة بعقود وإتفاقيات يتم تنفيذها في النطاق الجغرافي لدول الخليج، وعلى ما سنرى بايجاز في هذا المقال.
ونظرا لمحدودية الوقت، وعلى أمل أن يتم تخصيص مقال مستقل لكل محور من محاور هذا المقال، فسوف ينحصر حديثنا في ثلاث نقاط محورية: أولا : بعض شواهد ومعالم واقعنا التحكيمي المؤسسي الخليجي، ثانيا: أهم التطورات في السنوات الأخيرة على مستوى التحكيم المؤسسي الخليجي، وأخيرا: نظرة استشرافية برؤية موضوعية للإنتقال إلى ما يمكن أن يحقق إحتياجات أطراف التحكيم ويلبي توقعاتهم، ليكون للتحكيم المؤسسي الخليجي مكانته الريادية على خارطة التحكيم المؤسسي الدولي.
أولا: بشأن أهم معالم وشواهد واقعنا التحكيمي المؤسسي الخليجي الحالي ويصورة شمولية وموضوعية، يمكن أن نرصد عدة وقفات على النحو التالي :
الوقفة الأولى: هذا الوجود العددي لمراكز التحكيم في دول الخليج، التي يبلغ عددها أكثر من (20) مركرا، فهل هي حقا منصات فاعلة لقضاء التحكيم المؤسسي بمفهومه الفني الدقيق أو وفق الفكر القضائي البريطاني بشأن العدالة التحكيمية، الذي ينظر إلى مراكز التحكيم المؤسسي باعتبارها "مقدم خدمات عدلية إتفاقية بفاعلية وموثوقية"، أم هي مراکز قائمة " وليست "موجودة بفاعلية "؟ وليس أدل على ذلك من أن قضايا التحكيم من أطراف خليجية شكلت نسبة 12 % في مركز سنغافورة في عام 2019، وتجاوزت النسبة 13 % في عام 2018 الأطراف من الإمارات وقطر وعمان. وفي محكمة لندن للتحكيم الدولي تخطت النسبة 10 % في عام 2020. والسؤال : لماذا هذا التوجه للأطراف الخليجية نحو مراکز التحكيم في سنغافورة ولندن وباريس؟ وهل ستشهد دول الخليج في المستقبل القريب عودة التحكيمات المهاجرة؟
الوقفة الثانية: هل المفهوم العملي وفق أسسه ومعاييره الدولية المعمارية التحكيم المؤسسي حاضر وماثل في أذهان صناع القرار وواضعي خطط وسياسات النمو الإقتصادي والجذب الإستثماري وتعزيز صناعة بدائل تسوية المنازعات بدول المجلس ، سواء على مستوى المراكز التابعة للغرف التجارية أو غيرها؛ ولهذا يتعين علينا | أن تتريث حال إستخدامنا مصطلح "مركز تحكيم"، فنحن نرى أنه لا يجب أن يكون الحديث عن مركز تحكيم، ولكن كي يكون هذا التوصيف قائما حصريا على منظومة تحكيم متكاملة " فيجب على كل مرکز تحكيم أن يشتمل بنيانه التنظيمي المؤسسي على قواعد التحكم المحدثة، وقائمة المحكمين المعتمدين وفق معايير دولية، ومستشاري وإداريي القضايا التحكيمية، الذين يقومون على متابعة شؤون الدعوى التحكيمية منذ تسجيل طلبات التحكيم وحتى صدور الحكم النهائي، ولجان الفصل في الطلبات الإدارية، والمراجعة الشكلية للأحکام، وشفافية تعيين ورد وإستبدال المحكمين، ومستوى إستقلال المركز، وفاعلية مجالس الإدارة والأمناء والمجالس الإستشارية ومدى التكاملية مع النظام القضائي في الدولة، والشراكات المثمرة، وليست فحسب مذكرات التفاهم مع شركاء الموثوقية في المجتمع الدولي التحكيمي، والتحديث الدوري للقواعد، هذه اللبنات مجتمعة تكاد تمثل ممكنات الحد الأدنى المراكز التحكيم المؤسسي الفاعلة إن أرادت أن تنصهر في بوتقة المجتمع الدولي وتكون جزءا منه.
الوقفة الثالثة: على الرغم من أن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) قد أقرت الوساطة أو التوفيق ؛ إذ اعتبرت أنهما يشيران إلى المفهوم ذاته في التطبيق العملي؛ حيث إعتمدت اللجنة قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التوفيق التجاري الدولي (2002)، الذي تم تعديله في وقت لاحق بقانون الأونسيترال النموذجي بشأن الوساطة التجارية الدولية و اتفاقات التسوية الدولية المنبثقة من الوساطة العام 2018، المكملة الإتفاقية الأمم المتحدة بشأن إتفاقات التسوية الدولية المنبثقة من الوساطة، التي فتح باب التوقيع عليها في سنغافورة في 7 أغسطس 2019، وإنضمت حتى الآن إلى الإتفاقية (56) دولة؛ حيث كانت آخر الدول حتى تاريخه هي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أعلنت عن إنضمامها | في شهر مارس 2022، على الرغم من ذلك، ومع إقرار المجتمع الدولي مفهوم وآلية "الوساطة" لتكون اللغة المشتركة والبديل الإتفاقي الرضائي لعدالة توافقية خلاقة ، فلا تزال بعض مراكز التحكيم في دول الخليج يجب على كل مرکز تحكيم أن يشتمل بنيانه التنظيمي المؤسسي على قواعد التحكيم المحدثة، وقائمة المحكمين المعتمدين وفق معايير دولية، ومستشاري وإداريي القضايا التحكيمية، الذين يقومون على متابعة شؤون الدعوى التحكيمية.
تركز على المسميات دون آليات التفعيل والتطبيق، بينما العالم، وخاصة ما أفرزته تداعيات الجائحة، أدرك أن المجتمع الدولي يجب أن يجعل "الوساطة أولا" في تراتبية بدائل تسوية المنازعات؛ لأنها البديل المناسب في ظل تحديات إقتصادية ومالية ومجتمعية غير مسبوقة.
بعبارة أخرى، الوساطة هي من أهم ما أفرزته الجائحة في صناعة بدائل تسوية المنازعات، لسبب بديهي وبسيط، هو أن الدائن والمدين في حاجة إلى إيجاد حلول من خارج منصات العدالة التحكيمية وما يعتريها من تحديات التكلفة المرتفعة أو العدالة القضائية التي لا تكون الأنسب الطبيعة المنازعات التجارية التي تحتاج إلى موجبات السرية والتكلفة الاقتصادية؛ ومن هنا، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتجد مقرات التحكيم ذات المكانة التنافسية الدولية، مثل لندن وباريس وسنغافورة وهونغ كونغ، على موعد مع فعالية أو مبادرة لتطوير قواعدها المؤسسية وينيتها التشريعية، لتكون "الوساطة" حاضرة وفاعلة، وكان آخر تلك المبادرات في لندن، التي احتضنت في منتصف مايو لهذا العام 2022 إجتماعا على مستوى مجموعة بدائل تسوية المنازعات بمجلس العموم لمناقشة تحديث الإطار التشريعي الخاص بالوساطة في المملكة المتحدة؛ لتكون إلزامية في بعض المنازعات وقبل اللجوء إلى التحكيم أو التقاضي، وهذه الوقفة بذاتها تحتاج إلى مقال مستقل لسبر أغوار منطلقاتها التشريعية وتكامليتها المؤسسية والقضائية، وغايتها على مستوى التنافسية العالمية لتعزيز مراتب الدول في العدالة متعددة الأبواب " -Multi Doors Justice"، وبالتالي يتعين على مراكز التحكيم الخليجي أن تمنح منصة "الوساطة المؤسسية" مكانتها وأهميتها الأسهم في سد الفراغ الحالي في إحتياجات أطراف المنازعات وتوقعاتهم، التحقيق التكامل مع باقي بدائل تسوية المنازعات.
والآن ننتقل إلى النقطة الثانية في هذا المقال ليكون السؤال : ما أهم التطورات ضمن جدارية الحراك المؤسسي لمراكز التحكيم المؤسسي الخليجية؟
وسوف يقتصر الحديث على ثلاثة أمثلة، على أمل إجراء نسخة محدثة في مقال لاحق.
وللحديث عن التطورات، فمن الملاحظ أن هناك مراکز خليجية أدركت أن قوة "التقدم" حتما تهزم شیخوخة "التقادم"؛ لهذا سارعت بعض تلك المراكز في خطاها التطويرية برؤية إستشرافية، ويأتي على رأس قائمة تلك المراكز مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية "دار القرار"؛ حيث إنطلق بالتطوير عبر جناحين، أولهما "البيت الداخلي"، وثانيهما "منظومة لوائح المركز"، وتلك نظرة عملية وواقعية؛ لأنه لا يمكن الجهاز سيادي له طبيعة دولية ترتكز إلى منصة قضائية تحكيمية إقليمية مستقلة إلا أن يحقق التوازن بين حوكمة العمل داخل المركز وبين تحديث اللوائح الخاصة بالنظام والقواعد والتكاليف والتحكيم المعجل ومحكم الطوارئ، وغير ذلك من تحديثات حتما ستلبي متطلبات الواقع الدولي والإقليمي الجديد، أو ما يطلق عليه "The."New Norm
والمثال الثاني هو المركز السعودي للتحكيم التجاري، فعلى الرغم من حداثة النشأة مقارنة بباقي مراکز دول الخليج العربي ، فإن ثمة إهتماما بتطوير منظومة التحكيم والوساطة، ووضع رؤية إستشرافية لريادة إقليمية، وبذل جهود ترسخ البعد العملي الصناعة التحكيم من خلال إصدار التقارير الدورية في مجلات ونشرات عالمية واحتضان منافسة التحكيم الطلابية وخاصة في إصدارها الدولي الأول باللغة العربية.