الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم في منازعات سوق الأوراق المالية - الكويت / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / التحكيم في مجال الأسواق المالية المنظمة في ضوء القانون المغربي والمقارن

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    365

التفاصيل طباعة نسخ

   ترتّب على الازمة المالية العالمية لسنة 2007/2008 تصاعد وتيرة المنازعات المرتبطة بالأسواق المالية المعروضة على القضاء. غير أنّ خاصية التعقيد التي تتميز به يجعل من الصعب على قضاء الدولة معالجتها، ولا سيما أن طبيعة تكوين القضاة المحدود غالباً في المجال القانوني لا يسعفهم في الفهم والإدراك الجيد لخبايا هذا النوع من المنازعات الذي تتداخل فيه مجموعة من الحقول المعرفية: القانون، الإقتصاد والرياضيات المالية.

   لذلك، يصحّ في الوقت الراهن، وبالأخص في الفترة الزمنية ما بعد الأزمة المالية العالمية لسنة 2007/2008، التساؤل عن مدى جواز إخضاع هذا النوع من المنازعات للتسوية عن طريق التحكيم، خصوصاً إذا علمنا أنه في حالة ما إذا بت المحكم نزاعاً لا يمكن أن يكون موضوع تحكيم، يمكن الطعن بالإلغاء في الحكم التحكيمي الصادر عنه .

   في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ الكتابات في هذا الموضوع تظل قليلة بالنظر إلى أهميته البالغة، كما أنّ مقاربته تتم غالباً من زاوية التركيز على التحكيم، في حين أنّ التطرق لمادة الأسواق المالية يكون عرضياً ولا يتم التعمق فيه بالدرجة المطلوبة. لذلك، سأتناول دراسته من خلال التركيز على مادة الأسواق المالية مع ربطها بمجال التحكيم. لهذا الغرض، سيتم تحليل العديد من منازعات الأسواق المالية المنظمة المحتملة من زاوية إمكانية فضّها عن طريق التحكيم بغرض تحديد نطاق إختصاص هذا الأخير، وذلك إنطلاقاً من النصوص القانونية المؤطِّرة لها (II). لكن قبل ذلك، ينبغي التأكيد على أنّ الإطار القانوني العام المنظِّم للتحكيم يسمح بذلك دون أن يعني ذلك أن كافة هذه المنازعات يمكن فضّها عن طريق التحكيم (I). 

(I  وجود إطار قانوني ومؤسساتي مشجّع يسمح بتسوية منازعات الأسواق المالية عن طريق التحكيم:

   يعتقد البعض أنّ منازعات الأسواق المالية لا يمكن فضّها عن طريق التحكيم لاعتبارات متعدّدة. لعل أهمها أن المقتضيات القانونية التي تنظِّم هذا المجال هي قواعد آمرة، وأن الأوساط المالية لا تحبِّذ تسويتها عن طريق التحكيم، بل تفضّل حلّها بالطرق الودية وخارج كل إطار منازعاتي.

   غير أنّ العراقيل القانونية التي يتم تقديمها على أنها تحول دون إمكانية فضِّها عن طريق التحكيم ليس لها أي أساس قانوني سليم، على اعتبار أنه بالرغم من تضمّن قانون الأسواق المالية لمقتضيات آمرة فإنّ هذا لا يعني عدم قابليتها للتحكيم. لذلك، فالعديد من المنازعات المذكورة يمكن حلّها عن طريق التحكيم.

  في هذا الصدد، سيتم تحليل مدى صحة تسوية منازعات الأسواق المالية عن طريق التحكيم الداخلي (1) والدولي (2). بعدها، سيتم الوقوف على النصوص القانونية للعديد من الدول التي تم وضعها من طرف هيئات الأسواق المالية أو الشركات المكلّفة بتسييرها بهدف تشجيع الفاعلين الاقتصاديين والماليين على اللجوء إلى التحكيم لفضّ منازعاتهم الناشئة عن معاملاتهم المالية (3).

1) قابلية منازعات الأسواق المالية للتسوية عن طريق التحكيم الداخلي:

   في مادة التحكيم الداخلي المغربي، يقوم المحكم بنفسه بتحديد قابلية المنازعة المعروضة عليه للتحكيم ويستند في ذلك الى مقتضيات القانون المغربي، وبالأخص الفصول  308،  309، 310  و311 من قانون المسطرة المدنية المغربي. وقد أخذ المشرّع المغربي بنفس المعيار الذي اعتمده نظيره الفرنسي في تحديد المجالات التي يمكن أن يشملها التحكيم، وهي الحقوق التي يمكن التصرف فيها بكل حرية، والمنصوص عليها في الفصل 2059 من القانون المدني الفرنسي

   إلى جانب الأحكام القانونية العامة المذكورة أعلاه، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار المقتضيات القانونية الخاصة عند تحديد نطاق اختصاص التحكيم، وبالأخص المادة 18 من القانون رقم 31.08 المتعلق بتحديد تدابير حماية المستهلك . هذه الأخيرة تصنّف ضمن الشروط التعسّفية، تلك الشروط الواردة في العقود المبرمة بين المورد والمستهلك، والتي يكون الغرض منها أو يترتب عليها إلغاء أو عرقلة حق المستهلك في إقامة دعاوى قضائية أو اللجوء إلى طرق الطعن، وذلك بالحدّ بوجه غير قانوني من وسائل الإثبات المتوافرة لديه أو إلزامه بعبء الإثبات الذي يقع عادة على طرف آخر في العقد، طبقاً للقانون المعمول به .

   فمقتضيات المادة 18 المذكورة أعلاه تجد أهميتها العملية عندما تربط العلاقة التعاقدية الوسيط المالي بأحد المستثمرين في مجال الأدوات المالية، كما تثير تساؤلين على قدر من الأهمية: أولهما يتعلق بتحديد نطاق تطبيقها، وبالأخص معرفة ما إذا كان المستثمر في الأدوات المالية يدخل ضمن نطاق المستفيدين من الأحكام القانونية التي تستهدف حماية المستهلك، أي إدراجه ضمن فئة المستهلكين. وثانيهما، معرفة ما إذا كانت مقتضياتها تفيد منح الإختصاص حصرياً لقضاء الدولة، وما قد يترتب على ذلك من آثار قانونية متمثلة في منع اللجوء إلى التحكيم.

  فمن جهة أولى، المادة 2 من القانون المغربي رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير حماية المستهلك تنص على ما يأتي: " (…) يقصد بالمستهلك كل شخص طبيعي أو معنوي يقتني أو يستعمل لتلبية حاجياته غير المهنية منتوجات أو سلعاً أو خدمات معدّة لاستعماله الشخصي أو العائلي (...)".

   فإنطلاقاً من مقتضيات المادة 2 المشار إليها أعلاه، يتضح أنّ نطاق تطبيق الأحكام القانونية التي تستهدف حماية المستهلك لا تنحصر فقط في "السلع" المستهلكة، بل تشمل أيضاً "الخدمات" التي يستفيد منها المستهلك، بما فيها "الخدمات المالية" التي يقدّمها الوسطاء الماليين. غير أنّ المعيار الجوهري المحدّد لمفهوم "المستهلك للخدمات المالية" هو أن لا تكون إستفادته منها تندرج في إطار تلبية إحتياجاته المهنية.

  في هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى أنّ المستثمرين في الأسواق المالية يتم تصنيفهم إلى فئتين: المستثمرين المؤسساتيين (الأبناء، شركات التأمين...) والمستثمرين غير المؤسساتيين.

  فبالنسبة للفئة الأولى من المستثمرين، لا تطرح أي إشكالية في ما يتعلق بصحة شرط التحكيم الوارد في العقود الداخلية، على إعتبار أن إبرامها مع الوسطاء الماليين يدخل غالباً في إطار عملهم المهني.

   فالإشكال القانوني يطرح في حالة تضمين شرط التحكيم في العقود التي يكون أحد أطرافها المستثمرين غير المؤسساتيين. ففي هذه الحالة، يتعيّن التمييز بين الذين يلجؤون إلى السوق المالية لأول مرة وأولئك الذين تعودوا اللجوء إليها بصفة اعتيادية. ففي هذا الإطار، تواتر الإجتهاد القضائي الفرنسي على تصنيف عمليات البورصة المنجزة بشكل اعتيادي بهدف المضاربة ضمن الأعمال التجارية، معتبراً أنّ شرط التحكيم هو شرط جائز حتى ولو تم تضمينه في عقد مبرم مع طرف غير التاجر. في نفس الاتجاه، أجازت محكمة النقض الفرنسية اللجوء إلى شرط التحكيم في عمليات البورصة حتى ولو كان مصدر أوامر البورصة شخصاً غير تاجر، على إعتبار أنّ هذا الأخير خبر التعامل مع البورصة . نفس الموقف اتخذته باقي المحاكم الفرنسية. هكذا، أصدرت محكمة الإستئناف بليون قرار بتاريخ 31/10/1991 يقضي بصحة شرط التحكيم الوارد في عقد مرتبط بعمليات البورصة المبرم من طرف غير التاجر، على إعتبار أنّ المعاملة المالية المتنازع عليها لها طابع المضاربة وأنّ الطرف غير التاجر معتاد على مثل هذه العمليات

   فالفلسفة العامة التي تدور في فلكها الأحكام العامة لقانون الإستهلاك تروم حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية، ولا سيما الطرف الذي يتعاقد بشأن معاملة يجهل عنها الكثير. إلاّ أنه بحكم الإعتياد والتكرار، يكتسب المعني بالأمر التجربة والخبرة والدراية الكافية التي تؤهله لمعرفة خبايا المعاملة المالية وما تنطوي عليه من مخاطر ومزايا. وبالتالي، فالإعتياد يرفع عن المستهلك الجهالة بالمعاملة المالية ويرقّيه إلى درجة العارف بها ويكسبه مع مرور الوقت الاحترافية الكافية لجعله طرفاً متفطناً في العلاقة التعاقدية

   فإذا ما تمّ الأخذ بعين الإعتبار عنصر "المضاربة" إلى جانب "الإعتياد" عند النظر في مؤهلات الشخص المعني بالمعاملة المالية، فإنّ نتيجة ذلك تجعل هذا الأخير يصنّف ضمن الأشخاص المحترفين.

  من جهة ثانية، تشير المادة 18 (17°) المذكورة أعلاه إلى نقطتين محوريتين:

    1) الشرط الذي بموجبه يتم إلغاء حق المستهلك في إقامة دعاوى قضائية أو اللجوء إلى طرق الطعن يعتبر شرطاً تعسفياً؛

    2) يعتبر كذلك شرطاً تعسفياً الشرط الذي بمقتضاه تتم عرقلة حق المستهلك في إقامة دعاوى قضائية أو اللجوء إلى طرق الطعن، وذلك بالحد بوجه غير قانوني من وسائل الإثبات المتوافرة لديه أو إلزامه بعبء الإثبات الذي يقع عادة على طرف آخر في العقد، طبقاً للقانون المعمول به.

   ففي ما يخص النقطة الأولى، وضعت المادة 18 (17°) لتحارب الممارسة السائدة عند بعض المورّدين الذين يدرجون في العقود المبرمة مع زبائنهم بنداً يمنع عليهم نهائياً اللجوء إلى القضاء لفضّ المنازعات التي قد تنشأ بينهما نتيجة خلاف في تفسيرها أو تنفيذها أو إنهائها. وبالتالي، فمضمونها لا يسعى إلى تحديد الجهة المختصة لتسوية المنازعات التي قد تنشأ بين المستهلك والمورّد، وحصرها بشكل مطلق في قضاء الدولة، بل يروم إبطال كل شرط يمنع عن المستهلك الحق في رفع دعواه سواء أكانت مقدّمة أمام قضاء التحكيم أم قضاء الدولة.

   أما في ما يتعلق بالنقطة الثانية، في إعتقادي الشخصي، لا يمكن أن يشكِّل اللجوء إلى التحكيم عرقلة في وجه المستهلك الذي يسعى إلى المطالبة بحقوقه مستحقة. إلاّ أنّ القواعد القانونية المطبّقة من طرف المحكم على النازلة المعروضة عليه يجب أن لا تتضمّن ما من شأنه أن يحد من وسائل الإثبات المتوافرة لدى المستهلك أو يلزمه بعبء الإثبات الذي يقع عادة على عاتق الطرف الآخر في العقد

   من الناحية الأخرى، في القانون الفرنسي، يشترط لصحة شرط التحكيم تضمينه في عقد مبرم في إطار النشاط المهني. ويترتب على الإخلال بهذه القاعدة القانونية بطلان شرط التحكيم . إلاّ أنّ المشرع الفرنسي إستبدل هذا الجزاء بجزاء أخفّ منه وهو عدم مواجهة (inopposabilité) شرط التحكيم للطرف الضعيف في العقد. مما يعني أنه يمكن للطرف الذي لا يدخل العقد في إطار نشاطه المهني أن يلجأ إلى القضاء دون أن يكون ملزماً بإحترام شرط التحكيم .  أمّا في حالة إختياره التحكيم كوسيلة لفضّ المنازعات الناتجة من العقد الذي أبرمه، فإنّ شرط التحكيم يعتبر صحيحاً في هذه الحالة.

   من بين الإشكاليات القانونية التي تم الحسم فيها بفضل الفصل 2061 من القانون المدني الفرنسي الجديد هو صحة إنتقال شرط التحكيم . فالمبدأ الأساسي الذي تم تبنّيه من طرف المشرّع الفرنسي هو ضرورة قبول شرط التحكيم من قبل الطرف الذي سيتم مواجهته به . إلاّ أنّ هذا المبدأ يعرف إستثناء في الحالة التي يتم فيها تفويت العقد الذي يتضمّن شرط التحكيم إلى الأغيار ؛ مما يعني أنّ شرط التحكيم يلزم الطرف المفوّت له حتى ولو لم يتم القبول به.

   بالإضافة إلى ما سبق، فقد أدرج الفصل 10  R132-2 من مدوّنة الإستهلاك الفرنسية ضمن الشروط التعسفية الشرط الذي يمنع أو يعرقل على المستهلك اللجوء إلى قضاء الدولة، وذلك بإلزامه بعرض دعواه حصرياً على التحكيم أو الوسائل البديلة لفضّ النزاع. وتجدر الإشارة إلى أن مقتضيات هذا الفصل قد تم الإستدلال بها في منازعة أصدرت بشأنها الغرفة المدنية بمحكمة النقض الفرنسية قراراً بتاريخ 25/02/2010 يقضي بأنّ عقد التحكيم الموقع بين المؤمّن والمؤمّن عليه، بعد نشوء المنازعة، لا يعتبر شرطاً وارداً في عقد مبرم بين مهني ومستهلك، وبالتالي لا يمكن أن يطلق عليه وصف التعسف بالمفهوم المنصوص عليه في الفصل R132-2 10° المشار إليه أعلاه

2) قابلية منازعات الأسواق المالية للتسوية عن طريق التحكيم الدولي:

   كما هو الشأن بالنسبة للتحكيم الداخلي، تقوم الهيئة التحكيمية، المعروضة عليها منازعة تتعلق بمصالح التجارة الدولية، بالنظر في موضوع إختصاصها من زاوية إمكانية تسويتها عن طريق التحكيم. فمن أجل تفادي بطلان الحكم التحكيمي الصادر عنها وضمان بالتالي فعاليته عند التنفيذ، تبت في إختصاصها بناءً على المعايير المحدّدة بمقتضى قانون الدولة التي ستعقد على ترابها جلسات التحكيم ، وكذا قانون الدولة التي سينفّذ على ترابها الحكم التحكيمي . وفي حالة ما إذا كان الحكم التحكيمي يهم أكثر من دولتين، التي تعتمد غالباً على معايير مختلفة من أجل تحديد نطاق إختصاص التحكيم، فإنه من الأفضل الأخذ بعين الإعتبار موقف أنظمتها القانونية إزاء التحكيم ليكون الحكم التحكيمي قابلاً للتنفيذ وغير معرّض للبطلان

   فعلى سبيل المثال لا الحصر، فالمعيار الذي يعتمده القاضي الألماني لبت دعوى بطلان الحكم التحكيمي المعروضة عليه أو في طلب تنفيذ الحكم التحكيمي هو معيار المصلحة الإقتصادية، وذلك وفقا لمقتضيات الفصل 1030 من قانون المسطرة المدنية الالمانية. أما في حالة ما إذا كانت إتفاقية التحكيم تصب في قضايا غير الاقتصادية، فإنها تكون صحيحة ما دامت الأطراف المتعاقدة تستطيع فضّ المنازعات المتعلقة بها

   وفي ميدان استهلاك الخدمات المالية، إبتداء من سنة 2002، ضيّق المشرّع الألماني من نطاق إختصاص التحكيم، وذلك من أجل حماية المستهلك -المستثمر في المجال المالي. في هذا الإطار، ينص الفصل 37 (h) من القانون المتعلق بالقيم المنقولة على أنّ إتفاقيات التحكيم المتعلقة بالنزاعات التي تهم العمليات المالية ليس لها طابع إلزامي إلاّ إذا كان طرفا العقد تجاراً أو شخصاً من أشخاص القانون العام .

  فأمام تنوّع وتعدّد المعايير المعمول بها من طرف الدول في تحديد نطاق إختصاص التحكيم، يرتئي بعض الفقهاء أنه يجدر بالمحكم، الذي ينظر في إختصاصه لبت موضوع النزاع، أن يستند إلى إعتبارات تتعلق بإحترام النظام العام الدولي . ففي هذا الصدد، تجب الإشارة إلى أنّ هذا العنصر تم إعتماده من طرف القانون الفرنسي ، وكذا القانون المغربي المنظِّم للتحكيم الدولي الذي جعل منه شرطاً أساسياً يتعيّن إحترامه للإعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي الدولي .

  فتأثير إحترام مبدأ النظام العام الدولي على تحديد نطاق إختصاص التحكيم مرّ بثلاث مراحل أساسية .

    المرحلة الأولى: إخراج من نطاق إختصاص التحكيم كل المنازعات التي يكون موضوعها قضايا تعتبر من النظام العام. إلاّ أنّ إعتماد هذه المقاربة لم ينبنِ على أساس صلب ومتين، على إعتبار أن الدفوع التي يتم التحجج بها يغلب عليها عنصر عدم الثقة في التحكيم. فوفقاً لهذا المنظور، فالأحكام التحكيمية التي تبت قضايا تهم النظام العام الدولي قد تتعارض والمصالح العليا للمجتمع، مما يحسن معه إخراج هذا النوع من المنازعات من مجال إختصاص التحكيم. لكن هذه المقاربة تم تجاوزها لتبدأ مرحلة ثانية تسودها مقاربة جديدة.

   المرحلة الثانية: إخراج من مجال إختصاص التحكيم المنازعات التي يكون موضوعها قضايا تم الإخلال بشأنها بمبادئ النظام العام الدولي. فحسب هذه المقاربة، إبطال إتفاقية التحكيم لا يقوم على أساس أنّ النزاع يتصل بمسألة النظام العام الدولي، بل لأنّ مبادئ هذا الأخير قد تم الإخلال بها . فهذه المقاربة تحاول أن تتفادى المخاطر التي قد ينزلق فيها التحكيم والمتمثلة أساساً في إمكانية إصدار بعض الأحكام التحكيمية التي تكرّس التصرفات المخلّة بمبادئ النظام العام الدولي. فتبعاً لذلك، لا يختص المحكم في النظر في صحة العقد الذي يتضمّن بنوداً تخلّ بقواعد النظام العام، لأنّ ذلك من شأنه أن يعطيها الشرعية من خلال بعض الأحكام التحكيمية التي تزكي ممارستها، عوضاً عن معاقبتها. إلاّ أنه يعاب على هذا المعيار الصعوبة في التطبيق لكونه يتطلب من المحكم دراسة موضوع النزاع من جميع جوانبه قبل بت موضوع الإختصاص. لذلك، تم التخلي عن هذا المعيار لفائدة معيار آخر أكثر مرونة.

   المرحلة الثالثة: يسمح للتحكيم ببت المنازعات التي تتعلق بالنظام العام مع إخضاع الأحكام التحكيمية لمراقبة قضاء الدولة أثناء النظر في دعوى بطلانها أو تذييلها بالصيغة التنفيذية. فعندما لا تراعي هذه الأحكام قواعد النظام العام الدولي يمكن إصدار بصددها أحكام قضائية تقضي ببطلانها أو بعدم قبول تذييلها بالصيغة التنفيذية. ويستثنى من هذه القاعدة المنازعات التي تتصل بحالة الأشخاص وأهليتهم والقضايا الشخصية التي لا تكون موضوع تجارة .

   خلاصة القول، الأحكام القضائية الفرنسية مرّت تدريجياً بالمراحل الثلاث لتستقر أحكامها أخيراً على المقاربة الثالثة . كما أنّ الإتجاه العام ينحو منحى توسيع نطاق إختصاص التحكيم سواء في القانون الفرنسي أو القانون المقارن.

3) إنتشار التحكيم في مادة الأسواق المالية على المستوى العالمي:

   إنّ اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لتسوية منازعات الأسواق المالية ليس وليد اللحظة، بل هو قديم نسبياً.  لعل أهم دليل يمكن الاستعانة به لتأكيد هذا المعطى هو أن اللجوء إلى هذه الوسيلة في مجال الأسواق المالية يرجع إلى سنة 1817 (كان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية). كما أنّ محكمة النقض (الغرف مجتمعة) بفرنسا أصدرت قراراً سنة 1865 قضى بجواز الاتفاق التحكيمي في مادة الأسواق المالية .

   في الوقت الحالي، تتضمّن قواعد السوق للعديد من البورصات العالمية بنوداً تجيز للفاعلين الاقتصاديين والماليين اللجوء الى التحكيم لتسوية المنازعات التي قد تنشأ عن التعاملات في الأسواق المالية. الأمر الذي يدل على أنّ الفاعلين في مجال الأسواق المالية يدركون أهمية التحكيم كوسيلة ملائمة وفعالة لتسوية منازعاتهم بطريقة تستجيب لانشغالاتهم وإنتظاراتهم، وذلك بإدخال المهنيين الملمين بالممارسة المالية في فضّ المنازعات المعروضة عليهم.

   فدراسة قواعد الأسواق المالية تكشف عن أنّ اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لتسوية منازعات الأسواق المالية هو منتشر جداً على المستوى العالمي.

    ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تقترح أغلب الأقطاب المالية على الفاعلين الإقتصاديين والماليين قواعد الوساطة والتحكيم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت "الجمعية الوطنية للمتعاملين بالأوراق المالية" (National Association Of Securities Dealers) بإنشاء مركز للتحكيم والوساطة متخصص في تسوية النزاعات المالية، والذي يعتبر حالياً من أهم مراكز التحكيم في المجال المالي في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يعالج العديد من الملفات قد تصل سنويا إلى 7.000 ملف (6.000 ملف التحكيم و 1.000 ملف الوساطة) ؛ الحالات المعالجة هي في تزايد مستمر لكون هذا العدد تضاعف منذ سنة 1990. كما أنّ بورصة "ناسداك"  إختارت التحكيم كوسيلة لفضّ المنازعات التي من الممكن أن تنشأ في إطار معاملتها مع أعضائها .

   كذلك، في لندن، هيئة الخدمات المالية(Financial Services Autority) ، المكلفة بمراقبة الأنشطة المالية في لندن، وضعت قواعد التحكيم قصد فضّ المنازعات المحتملة بين المهنيين وأدرجتها في مدوّنة حسن السلوك. ومن بين المؤسسات الإنجليزية التي تضطلع بدور أساسي في تسوية المنازعات المالية بالأساليب البديلة هناك "لجنة المنازعات للمركز المالي بلندن" (City dispute Panel) التي تم تأسيسها سنة 1994 بلندن.

   أيضاً في أوروبا الغربية، الفصل 1701 من "قواعد السوق المنسجمة" (les règles du marché harmonisées) الصادرة عن "شركة أورونكست"  تنص على أنّ المنازعات المتعلقة بأوامر السوق المالية أو المعاملات المالية المنجزة في إطار الأسواق المالية المسيرة من طرف "شركة أورونكست" يتم فضّها عن طريق قضاء الدولة. بحكم أن هذه الشركة تقوم بتسيير العديد من الأسواق المالية الأوروبية (هولند، بلجيكا، البرتغال، فرنسا  وإنجلترا)، فإنّ الإختصاص المحلي ينعقد لمحكمة الدولة التي قام النزاع في نطاق إختصاصها الترابي. غير أنّ الفصل المذكور أعلاه، أعطى الأطراف المتعاقدة الحق في اللجوء إلى شرط التحكيم أو عقد التحكيم في حالة إتفاقهما على ذلك. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ أغلبية الأطراف المتعاقدة تُعيِّن "المركز الأوربي لفضّ المنازعات"  للفصل في المنازعات التي قد تنشأ بينهم. كم أنّ أحد بنود اتفاقية العضوية المبرمة بين "شركة أورونكست" وأعضائها المكلفين بالتداول تنص على إختيار نفس المركز للقيام بنفس المهمة.  

   كذلك، جميع المنازعات القائمة بين "غرفة المقاصة كليرنت"  وبين أعضائها المكلفين بالمقاصة يتم الفصل فيها عن طريق التحكيم، وذلك وفقاً للمادة 1.2.4.1 من "قواعد المقاصة" الصادرة عن غرفة المقاصة "كليرنت".

   وفي الدول العربية، نصّت القوانين المتعلقة بهيئة الأسواق المالية أو بالأسواق المالية على مقتضيات قانونية تتيح للأطراف المعنية اللجوء إلى التحكيم لتسوية المنازعات الناشئة عن معاملاتهم في الأسواق المالية. على سبيل المثل لا الحصر، أستحضر تجارب الدول الآتية: الكويت ، العراق ، مصر ، السعودية ، الإمارات العربية المتحدة  وقطر ...

II) تحديد نطاق إختصاص التحكيم في تسوية منازعات الأسواق المالية:

   طبيعة منازعات الأسواق المالية تختلف حسب نوعية السوق المالية التي يتم فيها تداول الأدوات المالية. هكذا، يمكن التمييز بين المنازعات التي تنشأ في الأسواق المالية المنظمة والأسواق المالية التفاوضية.  فدراسة التسوية عن طريق التحكيم للمنازعات التي يمكن أن تنشأ في كلا السوقين سيتطلب تحرير أكثر من مقال واحد. لذلك، سيتم التركيز في هذا المقال على التحكيم في مجال الأسواق المالية المنظمة

   في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ إبرام العقد المالي في الأسواق المالية المنظمة (شراء الأسهم، السندات أو المنتجات المالية المشتقة...) وتنفيذ الالتزامات التعاقدية الواردة فيه يتطلب القيام بالعديد من العمليات (إستلام الأمر بشراء الأدوات المالية من طرف الأشخاص المكلفين بذلك والقيام بإرساله فوراً لأعضاء السوق المالية المكلفين بالتداول، التداول، المقاصة...). كما أنه قد تنتج منها أصناف متعددة من المنازعات إلى درجة يصعب حصرها: المنازعات المتعلقة بصحة العقد المالي، المنازعات المرتبطة بالوساطة المالية، المنازعات المتعلقة بتنفيذ الالتزامات التعاقدية الناشئة عن المعاملة المالية (المقاصة، تسليم الأوراق المالية وأداء المبلغ المتفق عليه)، المنازعات الناشئة عن تنفيذ وكالة التسيير بين المستثمر والمقاولة المسيرة لمحفظة الأدوات المالية، المنازعات الناشئة عن استعمال تكنولوجيا المعلومات...إلخ. فتعدد هذه المنازعات يجعل من الصعب الجزم بأنه يمكن إخضاعها جميعاً وبدون استثناء للمادة التحكيمية، على إعتبار أن إطلاق مثل هذه الاستنتاجات العامة والمطلقة ستؤدي لا محالة إلى إدراج خاطئ لبعض المنازعات ضمن المادة التحكيمية. لذلك، يتعيّن دراسة هذا الموضوع بشكل مفصل، مع الأخذ بعين الاعتبار الإطار القانوني لكل عملية على حدة، وكذا الأطراف المتدخلة في المعاملات المالية وعوامل أخرى.

   فبالفعل، إجراء العمليات على الأدوات المالية المدرجة في السوق المالية المنظمة تستدعي تدخل العديد من الوسطاء الماليين من أجل إنجازها (الأشخاص المكلفين بجمع أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية، أعضاء السوق المكلفين بالتداول، أعضاء السوق المكلفين بالمقاصة، شركة المقاصة...): أنظر إلى الرسم البياني 1.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرسم البياني 1: المسارات التي  يمكن أن تتخذها أوامر شراء وبيع الأدوات المالية

   لذلك، فالمنازعات المرتبطة بالسوق المالية تتميز بتعدّد المؤسسات القانونية التي يمكن أن تكون طرفاً في الخصومة.  ومن أجل تسهيل مقاربة هذا الموضوع، سيتم تصنيفها حسب الأطراف المتخاصمة. هكذا، يمكن أن يكون أحد أطراف الدعوى هيئة الأسواق المالية (1)، الشركة المسيّرة للسوق المالية (2)، غرفة المقاصة (3)، الوسطاء الماليون (4) أو مصدرو أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية (المستثمرون الخواص) (5).

1) الدعاوى المقامة ضد هيئات الأسواق المالية:

   باقتضاب شديد، تتمتع هيئات الأسواق المالية بمجموعة من امتيازات السلطة العمومية تعمل على توظيفها للقيام بالمهام المنوطة بها والمتمثلة أساساً في ضمان حسن سير السوق المالية  ومراقبة الهيئات والأشخاص الخاضعين لها للتأكد من إحترامهم الأحكام التشريعية والتنظيمية التي تخضع لها أنشطتهم . من بين هذه الإمتيازات، أذكر على سبيل المثال سلطة تقنين السوق المالية، وذلك عن طريق إصدار مجموعة من النصوص التنظيمية (مثلاً، إصدار الدوريات من قبل الهيئة المغربية لسوق الرساميل ، النظام العام للهيئة ...)، اتخاذ مجموعة من القرارات الفردية، مراقبة العمليات المالية، القيام بعمليات البحث عن المخالفة (القيام بزيارات بعين المكان وعمليات التفتيش والحجز قصد البحث عن الوثائق وجميع العناصر المادية المثبتة لوقوع مخالفة للأحكام القانونية...) ومعاينتها (معاينة وقائع من شأنها إحداث خلل في السوق...) وإصدار قرارات العقوبة التأديبية والمالية.

   الإمتيازات التي خوّلها القانون لهيئات الأسواق المالية تسمح لها بالتدخل في السوق المالية لتحقيق المهام المسندة إليها. هذا التدخل لا يمكن أن يكون دائماً وفي جميع الحالات مطابقاً ومحترماً للنصوص القانونية السارية المفعول. ففي بعض الأحيان، قد يخلّ هذا التدخل بأحد الضوابط القانونية أو ببعض الشكليات الإجرائية، الأمر الذي قد يدفع الطرف المتضرِّر إلى رفع دعوى الإلغاء في مواجهة القرار الصادر عنها. فهل يجوز مخاصمة مثل هذه القرارات عن طريق التحكيم.

  للإجابة عن هذا السؤال، يتعين الإستناد إلى المقتضيات القانونية الواردة في الفصل 56 من القانون رقم 43.12 المتعلق بالهيئة المغربية لسوق الرساميل، وكذا الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية المغربية.

   فخلافاً للقانون الفرنسي الذي يعطي الإختصاص للمحاكم العادية (وبالضبط لمحكمة الاستئناف بباريس) والإدارية (مجلس الدولة الفرنسي) للفصل في الطعون الموجهة ضد قرارات هيئة الأسواق المالية الفرنسية ، فالقانوني المغربي، من خلال الفصل 56 من القانون المشار إليه أعلاه، يمنح الإختصاص للقضاء الإداري للنظر في طلب الطعن بالإلغاء في القرارات الصادرة عن الهيئة المغربية لسوق الرساميل .

   لكن التساؤل الذي يظل مطروحاً حول ما إذا كان من الجائز للأطراف المتخاصمة الإتفاق فيما بينهما لإخضاع المنازعة المتعلقة بالقرارات الصادرة عن الهيئة المذكورة للتسوية عن طريق اللجوء إلى التحكيم.

   الجواب عن هذا التساؤل جاء بشكل واضح من خلال المقتضيات القانونية الواردة في الفقرة الأولى من المادة 310 التي تنص على ما يأتي: "لا يجوز أن تكون محل تحكيم النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة أو الجماعات المحلية أو غيرها من الهيئات المتمتعة بإختصاصات السلطة العمومية". 

   فبإعتبار الهيئة المغربية لسوق الرساميل شخصاً معنوياً عمومياً ، أناط بها المشرع المغربي العديد من الاختصاصات التي تستهدف تحقيق مصلحة السوق المالية (حماية الادخار الموظف في الأدوات المالية، ضمان حسن سير سوق الرساميل...) التي تتقاطع مع المصلحة العامة، على إعتبار أنّ الآثار السلبية لأي خلل قد يطرأ على السوق المالية تتعدى الفئات المتدخلة أو المستثمرة به لتشمل جميع فئات المجتمع (خير مثال يمكن الإستدلال به في هذا السياق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب على الأزمة التي تلحق بالأسواق المالية...). لذلك، يمكن إعتبار الهيئة المغربية لسوق الرساميل من "الهيئات المتمتعة باختصاصات السلطة العمومية".  

   بناءً على ما سبق، يمكن الجزم بأن طلبات الطعن بالإلغاء ضد القرارات التنظيمية أو الفردية الصادرة عن الهيئة المغربية لسوق الرساميل يتعين تقديمها حصرياً أمام القضاء الإداري

   فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما يرتكب العضو المكلف بالتداول مجموعة من الإخلالات بواجباته القانونية أو التنظيمية التي من شأنها الإضرار بمصالح العملاء أو تهدد حسن سير السوق المالية، فإنّ حدوث ذلك من شأنه أن يدفع الهيئة المغربية لسوق الرساميل إلى التدخل وإصدار قرار يقضي بوقف أنشطته، وذلك إستناداً إلى المادة 85 من القانون المغربي رقم 12.42 المتعلق بالسوق الآجلة للأدوات المالية. لربما تنشأ عن مثل هذه الوقائع منازعة بين "الهيئة المغربية لسوق الرساميل" و"العضو المكلف بالتداول الموقوف" يكون موضوعها مناقشة مدى شرعية القرار الصادر عن الهيئة: إحترام مبدأ التدرج في العقوبة التأديبية (تحذير...). فالفصل في مثل هذه المنازعات لا يجوز أن يكون موضوع إتفاق تحكيم.

   كذلك، يمكن للهيئة المغربية لسوق الرساميل أن تستند الى مقتضيات المادة 13 من القانون المغربي رقم 42.12 المشار إليه أعلاه لتقرِّر عدم التأشير على بيان المعلومات المتعلق بالأدوات المالية الآجلة المراد إدراجها من طرف الشركة المالية الآجلة. هذا القرار يمكن أن يكون بدوره موضوع طعن بالإلغاء أمام المحكمة الإدارية بالرباط...

   إذا كانت الهيئة المغربية لسوق الرساميل تختص بالمراقبة المباشرة لسوق المالية، فإنّ إعطاء الإختصاص الحصري للقضاء الإداري لمراقبة شرعية القرارات الإدارية الصادرة عنها يجعل السوق المالية تخضع للرقابة الفعلية لقضاء الدولة. وبالتالي، ليس هناك أي مجال لتدخل التحكيم في تسوية المنازعات المتعلقة بطلبات إلغاء القرارات الصادرة عن الهيئة.

   إلاّ أن الإختصاص الحصري للقضاء الإداري سرعان ما يختفي بعد صدور القرار القضائي القاضي بإلغاء القرار الإداري الصادر عن الهيئة المغربية لسوق الرساميل. هكذا، يمكن للطرف المتضرر من القرار الإداري الذي تم إلغاؤه أن يتقدم بدعوى التعويض عن الأضرار التي لحقته نتيجة القرار المشوب بإحدى عيوب عدم الشرعية (عيب عدم الإختصاص، عيب الشكل، عيب الإنحراف في إستعمال السلطة، عيب مخالفة القانون، عيب السبب) إما أمام المحكمة الإدارية (القضاء الشامل) أو أمام الهيئة التحكيمية. فإمكانية منح الإختصاص للتحكيم لتسوية مثل هذا النوع من المنازعات يجد سنده القانوني في الفقرة الثانية من المادة 310 التي تشير إلى ما يأتي: "غير أن النزاعات المالية الناتجة منها (أي من النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة أو الجماعات المحلية أو غيرها من الهيئات المتمتعة باختصاصات السلطة العمومية)، يمكن أن تكون محل عقد تحكيم ما عدا قانون الجبائي".

   فبالتالي، يمكن على سبيل المثال للعضو المكلف بالتداول الموقوف بقرار صادر عن الهيئة المغربية لسوق الرساميل أن يرفع دعوى التعويض في مواجهة هذه الأخيرة في حالة ما إذا تم إلغاء هذا القرار بحكم قضائي بعلة وجود شطط في إستعمال السلطة.

   فبالفعل، قرار توقيف العضو المعني بالأمر يمنعه فورياً من ممارسة نشاط التداول بشأن المعاملات المالية التي سبق وأن تم تكليفه بها، بالإضافة إلى تلقي طلبات جديدة للتداول من قبل عملاء جدد؛ الأمر الذي يحرمه مبالغ مالية مهمة (عمولات التداول) بسبب قرار إداري مشوب بعيب عدم الشرعية. لذلك، فمن حقه المطالبة بالتعويض عن الخسائر التي تلحقه نتيجة فقدانه عملائه، وكذا عما فاته من كسب.

   ففي مثل هذه النوازل، الخطأ الموجب للمسؤولية المدنية للهيئة ثابت بمجرد إلغاء قرارها الإداري قضائياً. يبقى على الجهة التي تفصل في ملف النزاع بت نقطتين جوهريتين: وجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر اللاحق بالعضو المعني بالأمر وتقدير مبلغ الضرر. ففي هذه الحالة، يكتسي النزاع طابعاً مالياً محضاً يمكن تخويل الفصل فيه للتحكيم.

   بالإستناد دائماً إلى المادة 310 المشار إليها أعلاه، فإنّ تسوية المنازعات المالية الناتجة من النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للهيئة المغربية لسوق الرساميل يمكن أن تكون محل "عقد تحكيم" فقط دون "شرط تحكيم". فإشتراط إبرام عقد التحكيم يعتبر منطقياً لأنّ هذا النوع من الإتفاق لا يمكن تصوره إلاّ بعد نشوء المنازعة المتعلقة بالطعن بالإلغاء في القرار الإداري الصادر عن الهيئة وبعد إلغائه قضائياً.

   في إعتقادي، يتعيّن عدم توسيع نطاق إختصاص التحكيم ليشمل مجال مراقبة القرارات التأديبية الصادرة عن الهيئة المغربية لسوق الرساميل، على إعتبار أن قضاء الدولة هو المهيأ أكثر من غيره لمراقبة المسطرة التأديبية المتّبعة والقرار التأديبي ومدى إحترامهما للمبادئ الإجرائية الأساسية كحق الدفاع، مبدأ التواجهية، مبدأ الحياد، مبدأ التناسب بين الخطأ المرتكب والعقاب...

   في هذا الإطار، يمكن الاستدلال بنجاعة تجربة قضاء الدولة الفرنسي الذي ألغى العديد من العقوبات التأديبية التي أصدرتها "هيئة الأسواق المالية الفرنسية" لكون المسطرة التأديبية المتبعة من طرف هذه الأخيرة لم تكن تتلاءم مع الفصل 6 من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ، الأمر الذي دفعها إلى إعادة النظر في المساطر التأديبية المتبعة وجعلها تتصرف كهيئة شبه قضائية...

2) منازعات الشركة المسيِّرة لسوق المال:

   الشركة المسيرة للسوق المالية هي شخص من أشخاص القانون الخاص . إلاّ أنها تتمتع بمجموعة من إمتيازات السلطة العمومية تسخِّرها للقيام بتنظيم السوق المالية التي تشرف عليها .

   فبالنظر إلى كونها شركة توحي للدارس بأن تدخلها في السوق المالية هو ذو طابع تجاري محض يستهدف بالأساس تحقيق الربح. غير أن إستحضار معطيات أخرى حولها يضفي بعض التعقيد على عملية التكييف القانوني لطبيعة تدخلها في السوق المالية. فإمتيازات السلطة العمومية الممنوحة لها  واستهدافها تحقيق مصلحة السوق المالية، عوضاً عن مصلحتها الخاصة، بالإضافة إلى أن السوق التي تقوم بتسييرها ينظر إليها كمرفق عمومي، هي ثلاثة عناصر مهمة جداً تجعل تدخلها في السوق المالية يكتسي طابعاً إدارياً محضاً. لذلك، يمكن القول بأن تدخلها يكتسي تارة طابعاً تجارياً وتارة أخرى طابعاً إدارياً.

   هذا المدخل هو مهم جداً في تحديد نوعية المنازعات المتعلقة بالشركة المسيرة للسوق المالية التي يجوز تسويتها عن طريق التحكيم.

   فمن الناحية الأولى، فالمنازعات التي تنتج من تدخلها بصفتها تاجراً لا تطرح أي إشكال قانوني في ما يخص إمكانية فضّها عن طريق التحكيم، خصوصاً إذا كانت المنازعة تضع الشركة المسيّرة في مواجهة الفاعلين في ميدان السوق المالية (العضو المكلف بالتداول مثلاً)  . غير أن تحديد مجالات هذا التدخل ليس بالأمر الهيّن. لذلك، نجد نشوء مجموعة من المنازعات التي يكون موضوعها تحديد الطبيعة القانونية لتدخّلها في السوق المالية. وبالتالي، تحديد المحكمة المختصة لفضِّها: المحكمة العادية أم المحكمة الإدارية.

   من بين المنازعات التي تكتسي طابعاً تجارياً، والتي يمكن فضّها عن طريق التحكيم، يمكن ذكر، على سبيل المثال لا الحصر، العنصران الآتيان:

-  المنازعة الناتجة من إخلال الشركة المسيّرة للسوق المالية لواجب ضمان حسن سير المنظومة المعلوماتية للتداول (système électronique de négociation). في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنه بعد إدراج أوامر شراء وبيع الأدوات المالية للعملاء في هذه المنظومة، تقوم هذه الأخيرة بمقابلة كل أمر شراء بأمر بيع يوافقه ليتمخّض عن هذا الزوج ولادة معاملة مالية جديدة. فالأعطاب المتكرِّرة والمستمرة على مدى زمن غير معقول لهذه المنظومة قد يلحق أضراراً جسيمة بالفاعلين في ميدان السوق المالية، خصوصاً إذا كان إبرام المعاملات المالية عن طريق التفاوض المباشر بين الفاعلين ليس بالبديل الفعال للمنظومة المعلوماتية للتداول. الأمر الذي قد يدفع هؤلاء إلى تحميل الشركة المسيّرة للسوق المالية المسؤولية التقصيرية عن تفويت فرصة إتمام المعاملة المالية أو تفويت فرصة إبرام المعاملة المالية "بسعر السوق" الناتج من المنظومة الإلكترونية عوض عن "السعر التفاوضي" في حالة ما إذا وجد تفاوت بين السعرين...

- المنازعة المتعلقة بإلغاء الشركة المسيّرة للسوق المالية لمعاملات مالية معيّنة ...

   أما من الناحية الثانية، فيصعب الحسم بشكل يقيني في مدى جواز إخضاع المنازعات المتعلقة بالشركة المسيّرة للتسوية عن طريق التحكيم عندما يكون تدخلها ذا طابع إداري. فمن أجل ضمان السير المنتظم للسوق المالية التي تشرف عليها ، تقوم الشركة المسيرة بإستغلال إمتيازات السلطة العمومية المخوّلة لها. ففي هذا الإطار، يمكن، على سبيل المثال لا الحصر، تحليل ذلك على مستويين:

فعلى المستوى الأول، المنازعة المتعلقة بالعضوية لدى الشركة المكلفة بتسيير السوق المالية. هكذا، يمكن لشركة معتمدة من طرف الوزارة المكلفة بالمالية أن تتقدم بملف ترشيحها للعضوية لدى الشركة المسيرة للسوق المالية، إلاّ أنّ طلبها قد يواجه بالرفض بدعوى عدم توافرها على الشروط القانونية المطلوبة. هذا الرفض يحرم هذه الأخيرة من الولوج إلى السوق المالية، وبالتالي ممارسة نشاط التداول للأدوات المالية. كذلك، يمكن للشركة المسيرة للسوق المالية سحب عضويتها إذا إرتأت أنها لم تعد تستجيب للشروط القانونية، وأن إستمرار ولوجها السوق المالية قد يهدد سيرها المنتظم .

  أما على المستوى الثاني، فالمنازعات التي قد تثيرها قرارات الشركة المسيّرة بشأن إدراج ، شطب  أو وقف تداول الأدوات المالية .

   فقبل إتخاذ قرارها بشأن إدراج أداة مالية آجلة للتداول، يتوجب على الشركة المسيرة أن تطلب موافقة مصدر الأصل الأساسي (actif sous-jacent). فإغفالها هذا الإجراء الهام قد يعرّض قرارها للطعن بالإلغاء. ترتفع درجة إحتمال رفع دعوى الطعن بالإلغاء في مواجهة القرار المذكور عندما يكون لإحداث أداة المالية الآجلة آثار سلبية على الأصل والسيولة.

   كذلك، قرار شطب أو وقف الأدوات المالية من التداول المتّسم بالتعسف والفجائية قد يلحق أضراراً ببعض الفاعلين الماليين؛ الأمر الذي قد يدفعهم إلى رفع دعوى الإلغاء في مواجهة القرار المذكور...

 

3) منازعات غرفة المقاصة:

   بعد إبرام العقد المالي، تأتي مرحلة تنفيذ الإلتزامات الواردة فيه. فتنفيذ هذه الإلتزامات (تسليم الأدوات المالية موضوع البيع، وكذا السداد النقدي للشيء المبيع) لا يتم بطريقة مباشرة وبينية بين البائع والمشتري للأدوات المالية، كما هو الشأن بالنسبة للعقود التقليدية، بل يعرف تدخل العديد من الوسطاء "كالأعضاء المكلفين بالمقاصة" و"غرفة المقاصة"  (أنظر الرسم البياني رقم 2).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرسم البياني 2: إجراء عملية المقاصة على الأدوات المالية المشتقة

 

    فغرفة المقاصة تقوم بالعديد من الأنشطة التي يمكن تصنيفها إلى صنفين.

   ففيما يخص الصنف الأول، يكتسي تدخلها في السوق الآجلة للأدوات المالية طابعاً إدارياً صرفاً. فتستعمل لهذا الغرض إمتيازات السلطة العمومية الممنوحة لها من أجل إنجاز مجموعة من الأنشطة التي تم تكليفها بها بمقتضى النصوص التشريعية، والتي تستهدف في نهاية المطاف تحقيق مصلحة السوق المالية .  فالمنازعات التي يثيرها تدخل غرفة المقاصة في السوق الآجلة بصفتها سلطة عمومية لا يمكن، في إعتقادي الشخصي، فضّها عن طريق التحكيم، إذ يرجع إختصاص الفصل فيها للقضاء الإداري (قضاء الإلغاء).

   إنّ تحديد المنازعات التي لا يجوز أن تدخل في نطاق إختصاص التحكيم تحّتم الخوض في موضوع متصل به، ألا وهو تحديد مجالات تدخل غرفة المقاصة في السـوق الآجلة للأدوات المالية بصفتها سلطة عمومية والذي يثير بدوره إشكالات قانونية عويصة.

   من بين المنازعات المتعلقة بغرفة المقاصة التي تخضع لولاية القضاء الإداري، أذكر العناصر الآتية:

- المنازعات المرتبطة بتسجيل المعاملات المالية التي سيكون على غرفة المقاصة مقاصتها . فهذه الأخيرة تقوم بتسجيل المعاملات المالية التي يتم إبرامها في السوق المالية المقننة في منظومة إلكترونية خاصة تسمى "منظومة المقاصّة"، وذلك بإسم العضو المكلف بالمقاصة. إتمام هذا الإجراء يعتبر جوهرياً لكونه يرتِّب آثاراً قانونية مهمة جداً. فبمجرد تسجيلها للعملية المعنية بالمقاصة، تتدخل غرفة المقاصة بين الأطراف المتعاقدة لتنفيذ الإلتزامات المتفق عليها، كما تضمن حسن نهايتها . غير أنّ تدخلها في المعاملة المالية المسجلة لا يضعها في علاقة مباشرة بين بائعي ومشتري الأدوات المالية بحكم تواجد أطراف أخرى تتدخل في عملية المقاصة، ألا وهما "العضو المكلف بالمقاصة للمشتري" و"العضو المكلف بالمقاصة للبائع". في هذا الصدد، تقوم غرفة المقاصة بمهام الطرف المقابل لكل منهما .  فخلاصة القول، تنفيذ المشتري والبائع لالتزاماتهما التعاقدية المتمثلة على التوالي في السداد النقدي وتسليم الأصول الأصلية يمر عبر كل من "العضو المكلف بالمقاصة" و"غرفة المقاصة" (أنظر الرسم البياني رقم 2). أما في حالة إخلال أحد الأطراف المتعاقدة بإلتزاماتها يجعل غرفة المقاصة مسؤولة عن تنفيذها بدل الطرف المخلّ، على إعتبار أنها الضامن لحسن نهاية المعاملات التي قامت بتسجيلها.

فتسجيل أو عدم تسجيل معاملة مالية ما يبتعد عن مواصفات الأنشطة التي يقوم بها الخواص. فإتخاذ مثل هذه القرارات يمكن تصنيفها ضمن إمتيازات السلطة العمومية الممنوحة بنصوص تشريعية لغرفة المقاصة، وذلك من أجل تحقيق مصلحة السوق. لذلك، فالطعن في قرار غرفة المقاصة القاضي برفض تسجيل معاملة مالية معينة يخضع لولاية القضاء الإداري (قضاء الإلغاء).

- المنازعات التي تضع غرفة المقاصة في مواجهة الأعضاء المكلفين بالمقاصة. في هذا الصدد، تجب الإشارة إلى أنه بدعوى الحفاظ على سلامة السوق الآجلة للأدوات المالية، يمكن لغرفة المقاصة أن تقوم برفض طلب الإنضمام إليها المقدم من طرف إحدى الشركات المعتمدة من طرف الوزارة المكلفة بالمالية، كما يمكنها سحب عضوية أحد الأعضاء المكلفين بالمقاصة أو وتوقيفه توقيفاً مؤقتاً . في إعتقادي الشخصي، الطعن بالإلغاء في مواجهة مثل هذه القرارات لا يجوز الفصل فيه عن طريق التحكيم.

أما في ما يتعلق بالصنف الثاني من الأنشطة التي تزاولها غرفة المقاصة في السوق الآجلة للأدوات المالية، فلها طابع تجاري محض. فمهما قيل عن غرفة المقاصة، فهي في نهاية المطاف شركة تجارية . فعلى سبيل المثال لا الحصر، فضمانها لحسن نهاية المعاملات المالية التي قامت بتسجيلها  يشبه إلى قدر كبير للضمان البنكي مع وجود إختلاف في بعض الخصائص القانونية للضمانين... لذلك، فالمنازعات المرتبطة بضمان حسن نهاية المعاملات المالية المسجلة يجوز تسويتها عن طريق التحكيم.

4) منازعات الوسطاء الماليين ومصدري أوامر شراء وبيع الأدوات المالية:

   في البداية، ينبغي التذكير بأنّ إبرام العقد المالي في السوق المالية المنظمة يمر عبر سلسلة من العمليات المتصل بعضها ببعض. تبدأ بإصدار أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية من طرف "مصدّري الأوامر" (donneurs d’ordres). هذه الأوامر يتم إستلامها من طرف "مجمّعي الأوامر" (Collecteurs d’ordres) الذين يتكفلون بإرسالها إلى "الأعضاء المكلفين بالتداول". بعد تسجيلها في سجل الأوامر، يقوم هؤلاء بالبحث عن أوامر السوق المقابلة لخصائص الأوامر التي كلفوا بتنفيذها، وذلك عن طريق منظومة إلكترونية للتداول التي يتم إحداثها خصيصاً لهذا الغرض من قبل الشركة المكلفة بالتسيير. بعد مقابلة الأمر بالشراء بالأمر بالبيع الموافق له من قبل النظام الإلكتروني للتداول، يتم تنفيذ الأمر وتنعقد بالتالي المعاملة المالية.

   من أجل القيام بعملية مقاصتها، يتم تكليف أحد "الأعضاء المكلفين بالمقاصة" الذين يسهرون على تسجيلها لدى غرفة المقاصة.

    فالعلاقات المتعددة التي تربط بين الوسطاء الماليين أثناء إبرام أو تنفيذ العقد المالي قد يتمخّض عنها نشوء العديد من المنازعات التي تعزى إلى إخلال أحد الأطراف بإلتزاماتهم التشريعية أو التنظيمية أو التعاقدية. ففي مثل هذه الحالات، يتعلق الأمر بنزاع قائم بين شركات تجارية في ما يخص أعمالها التجارية. لذلك، يجوز تسويتها عن طريق التحكيم. في هذا الإطار، أخص بالذكر المنازعة التي قد تنشأ بين "العضو المكلف بالتداول" و"العضو المكلف بالمقاصة" فيما يرتبط بتنفيذ إتفاقية المقاصة التي تربط بينهما  أو تلك التي من الممكن أن تواجه "العضو المكلف بالتداول" بمجمعي أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية.

5) منازعات مصدري أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية:

   من المعلوم أن الإستثمار في الأدوات المالية يتطلب اللجوء إلى وسطاء ماليين توكل إليهم مهمة شرائها أو بيعها. فخلافاً للعقود التقليدية التي تربط البائع بالمشتري مباشرة ويعرف كل منهما الآخر، فإن بائعي ومشتري الأدوات المالية المدرجة في السوق المالية المنظمة لا تربطهم أية علاقة مباشرة بينهما؛ بل أكثر من ذلك لا يعرف بعضهم البعض. لذلك، فالمنازعات التي تنشأ بينهما تكون نادرة.

   في مقابل ذلك، يمكن أن تنشأ المنازعة بين مصدري أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية وأحد الوسطاء الماليين نتيجة إخلال أحدهما بواجباته القانونية أو التعاقدية (المسؤولية التقصيرية أو التعاقدية). ففي ما يخص هذا النوع من المنازعات تطرح إشكالية تطبيق مقتضيات قانون الإستهلاك على ملف النزاع، وبالأخص المادة 18 من القانون المغربي رقم 08.31 القاضي بتحديد تدابير حماية المستهلك. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه سبق التطرق إلى هذا الموضوع أعلاه.

   فبصفة عامة، يمكن إلقاء المسؤولية المدنية التعاقدية على أحد الوسطاء الماليين نتيجة عدم تنفيذه أو سوء تنفيذه لالتزاماته التعاقدية (عدم إرسال أوامر شراء الأدوات المالية إلى العضو المكلف بالتداول من قبل مجمّعي هذه الأوامر (collecteurs d’ordres)، التأخر في إرسالها، عدم قيام العضو المكلف بالتداول بالبحث عن مقابل أوامر شراء أو بيع الأدوات المالية المكلف بتنفيذها، عدم تسجيل المعاملة لدى غرفة المقاصة من طرف العضو المكلف بالمقاصة...). وتقوم هذه المسؤولية على ثلاثة أركان: الإخلال ببنود العقد، الضرر والعلاقة السببية بين الخطأ العقدي والضرر.

   أما عن المسؤولية التقصيرية للوسيط المالي، فتقوم على أساس الخطأ والضرر والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر. يعتبر خطأ إخلال المعني بالأمر بقواعد السلوك المنصوص عليها في القانون أو النصوص التنظيمية أو أعراف السوق. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عدم إحترام الوسطاء الماليين لقواعد النزاهة والحرص والسرعة وأولوية مصالح عملائهم يعرضهم للمسؤولية التقصيرية .

خاتمة:

   يمكن تنظيم العلاقة بين منازعة السوق المالية من جهة، وتسويتها عن طريق التحكيم من جهة ثانية، من خلال ثلاثة مقاربات مختلفة.

   المقاربة الأول، إخراج من نطاق إختصاص التحكيم جميع منازعات السوق المالية مهما كانت طبيعتها.

   المقاربة الثانية، إجازة التسوية عن طريق التحكيم لجميع منازعات السوق المالية كيفما كانت طبيعتها.

   لا أعتقد أنه من الصواب إعتماد إحدى هاتين المقاربتين لمناصرتهما العمياء إما للتحكيم وإما لقضاء الدولة. لذلك، أجد من المنطقي جداً تبنّي مقاربة وسطية تفسح المجال لكل منهما للمساهمة في فضّ منازعات السوق المالية. فالأخذ بعين الإعتبار خصوصية هذا النوع من المنازعة، ولا سيما تلك التي يكون موضوعها مساءلة قرارات ذات طابع إداري، يستحسن إعطاء صلاحية الفصل فيها حصرياً لقضاء الدولة، في حين يمكن السماح للتحكيم لتسوية المنازعات المتبقية، على أساس أن يكون اللجوء إليه إختيارياً وليس إجبارياً. هذا، وحتى ولو تم استثناء المنازعات الإدارية على النحو المذكور أعلاه، لي كامل اليقين أن نطاق إختصاص التحكيم سيظل واسعاً والمادة التي سيتولى مناقشتها ستكون لا محالة خصبة ومتنوعة جداً.