الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم في منازعات سوق الأوراق المالية - الكويت / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / التحكيم في منازعات الميراث المالية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    269

التفاصيل طباعة نسخ


مقدمة:

 لا نسمع في البلاد العربية والاسلامية عن امكانية اللجوء الى التحكيم في حل منازعات الأحوال الشخصية عموماً والميراث خصوصاً، رغم أن الكل يجمع على شرعيته، مصداقاً لقوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً (سورة النساء – الآية 56)". بينما هو معمول به  أو على الأقل معوّل عليه كثيراً في المستقبل في البلدان الغربية في المجال ذاته .

يقصد بالتحكيم هنا تلك الاجراءات التي تضعها الأنظمة القانونية عبر العالم ومراكز متخصصة رهن إشارة المختصمين، بمختلف فئاتهم وصفاتهم، من أجل حل خلافاتهم خارج أروقة المحاكم من طرف أشخاص عاديين يعيّنهم الأطراف أنفسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والتي في غالب الأحيان تعكس الثقافة السائدة في المجتمعات التي تحكمها تلك الانظمة أو تعمل في ظلها تلك المراكز، فنجد كل أنواع التحكيم: طائفي خاص ببعض الطوائف التجارية المتخصصة في مادة من المواد، أو بحري ينصب على المنازعات البحرية أو خاص بالاستثمار والتجارة الدولية، وهناك توجه نحو إعادة الاعتبار للتحكيم في المسائل الأُسرية على النحو الذي كان معمولاً به في العهود السابقة.

أما منازعات الميراث فهي لا تقع تحت حصر، فمنها ما هو مرتبط بقضايا جزائية تخرج بطبيعتها عن نطاق الطرق البديلة، لتخضع لسلطة المحاكم العقابية، مثل: جريمة الاستيلاء على التركة وجريمة التزوير في المحرّرات المتعلقة بها، والتي ترمي في غالب الأحيان إلى إقصاء وارث أو إضافة آخر أو إخفاء مال من أموال التركة بدون وجه حق...الخ. ومع ذلك ليس هناك ما يمنع من حل الدعاوى المدنية المرتبطة بالدعوى العمومية بالطرق الودية، متى أمكن التراضي بشأنها، رغم أنّ الأمر مستبعد عملياً، لما تكون قد احدثته المتابعة الجزائية من شرخ بين الورثة، يستحيل التجاوز عنه بصلح أو مصالحة أو الاتفاق بينهم على تحكيم.

من قضايا الميراث ما يتصل كذلك بالمنازعات الادارية، كان ينازع الورثة في وقف (حبس) الميراث أو جزء منه على جهة عمومية، فيخضع التحكيم بشأنها لما بات يعرف اليوم بطرق التحكيم في المواد الادارية ، والتي تقتصر حالياً على منازعات الصفقات العمومية ومختلف الشراكات بين الادارة والقطاع الخاص ولا تمتد الى قضايا مثل الوقف (العام) أو ما شابه ذلك، رغم أنّ الادارة المكلفة شؤون الوقف تظهر في هذه الحالة بمظهر الشخص العادي.

منازعات الميراث التي تطرح بشأنها مسألة التحكيم هي المنازعات الخاصة، التي تطرأ بين الورثة أو من جرى مجراهم من موصى لهم وحتى الموقوف لهم متى كانوا من الخواص. وهي منازعات في معظمها مدنية منقولة أو عقارية، ولا تكون تجارية إلاّ في حالات نادرة، حينما يتعلق الأمر بورثة كان يجمعهم بمورِّثهم شكل من أشكال الشركات التجارية التي يكتسب فيها الشريك صفة التاجر .

منازعات الميراث الخاصة، قد تكون وطنية بحتة، حينما يكون كل أطرافها وطنيين، بما في ذلك المتوفي (الهالك) وتكون كل عناصر الذمة المالية داخل التراب الوطني وتفتح التركة في اقليم الدولة بناءً على وفاة الهالك على اقليمها. وتكون المنازعة الميراثية دولية، ينظِّمها القانون الدولي الخاص ، إذا ما دخل عليها عنصر أجنبي يتصل إمّا بجنسية الهالك أو الورثة أو مكان فتح التركة في الخارج أو تواجد الأموال كلها أو بعضها في الخارج أو تشتت الورثة بين دول مختلفة يقيمون فيها وربما اكتسبوا جنسياتها.

إنّ عدم اعتماد التحكيم في حل خلافات الميراث على المستوى المحلي قد يدفع البعض، كلما سمحت الظروف، بأن يستعملوا فرص التحكيم  التي توفِّرها أنظمة ومراكز في بلاد الغرب ، لعرضها على محكمين لا يأبهون بالقوانين الوطنية ولا بالجانب الشرعي فيها، فتبرم مصالحات وربما تتخذ قرارات تحكيمية طبقاً لقوانين اجنبية، بعيدة كل البعد عمّا يفرضه الشرع والقانون المحلي ، كتمكين المرأة من نفس نصيب الرجل، عملاً بما تدعو اليه بعض الاتفاقات الدولية ، أو توريث الابناء غير الشرعيين باسم حقوق الطفل ، أو توريث غير المسلمين بإسم منع التمييز ، والامثلة كثيرة في عالمنا اليوم.

ولا غرابة في بدء الاهتمام لدى بعض المنظمات الدولية التي تعنى بحقوق المرأة بميراث هذه الاخيرة في بعض من البلدان العربية التي درج فيها بعض من العرف المخالف للشرع على حرمان المرأة من ميراثها من قبل افراد العائلة من الذكور، وهو ما حاولت فعله عن طريق انشاء لجان وساطة تتكون من ائمة مساجد ودعاة ومثقفين ، وما هي إلاّ خطوة قد يستحسنها البعض، لكن قد تكون أبعادها خطيرة في المستقبل.

لذا وجب الأخذ بالتحكيم في هذا المجال من باب سد الذرائع وهو ما يعني ضرورة النص صراحة على امكانية حل المنازعات المالية المتعلقة بالميراث بواسطة التحكيم وربما تنظيم العملية بنصوص خاصة. في السياق نفسه وجب على المراكز المتخصصة في المصالحة والتحكيم في البلاد العربية والاسلامية أن توسِّع نشاطها لكي لا يقتصر فقط على الصناعة المالية الإسلامية، بل التفكير كذلك في كيفية الاستفادة من الطرق البديلة كوسيلة لحل منازعات الميراث المالية، نظراً لما تدفعه من مفسدة وما تجلبه من منافع ومزايا قد لا يحققها طرق باب القضاء في مثل هذه الأحوال (أولاً) ولأن العراقيل التي تساق عادة ضد عدم الأخذ بها في معظمها وهمية (ثانياً).

 

أولاً- المزايا التي يحققها التحكيم في منازعات الميراث المالية:

لا تختلف مزايا التحكيم في منازعات الميراث عنه في القضايا المدنية الأخرى، سواء أكانت وطنية صرفة أم دولية، كل ما هنالك هو أن حاجة المجتمع اليها أكثر ومنافعها تطرح بإلحاح أكبر في مواد الميراث. هذه المزايا يمكن تلخيصها في منافع اجتماعية (أ) وأخرى متعلقة بالاستعانة بالعلم والدراية التقنية في حل منازعات الميراث، أي: بالخبرة عموماً (ب).

 

أ‌-المزايا الاجتماعية:

بالإضافة إلى السرعة المفترضة عادة في التحكيم عن البطء الذي يسم عمل القضاء عموماً، وكذلك سبيل المعالجة الشاملة للتركة الذي يهيّئه التحكيم ولا توفِّره المحاكمة القضائية حينما تختص بها محاكم مختلفة، لوجود الأموال والاشخاص في مواقع عديدة من التراب الوطني، بل في دول متعددة في بعض الأحيان، يحقق التحكيم مزايا اجتماعية جمة يمكن تلخيصها في السرية (1) والجوارية (2).

 

1-السرية:

 السرية التي تتم بها اجراءات التحكيم والتي ينشدها الأطراف في كل علاقاتهم القانونية، خاصة في المسائل التجارية، هي مطلوبة من باب أولى في منازعات الميراث، طالما أنّ القرابة بكافة أنواعها والزوجية، هما سببا الميراث. فهي تكتسي فيها طابعاً جوهرياً، لكون منازعات الميراث تثور بالأساس بين افراد العائلة الواحدة، فيخشى أن تطرح هذه الخلافات أمام الملأ بسبب العلنية التي تميّز الاجراءات القضائية، فتكون محل حديث العام والخاص.

قد يتم النص صراحة على هذه السرية في صلب القوانين التي تنظّم التحكيم وقد تستفاد ضمناً، كما هو الحال في التحكيم حيث السرية أمر مسلّم به، رغم عدم النص عليها صراحة في نصوص القوانين الخاصة بالتحكيم رغم حداثتها. فهي منصوص عليها في ما يعرف بأنظمة التحكيم (Arbitration Rules) لضبط الاجراءات التي تصدرها المراكز المختلفة والمتواجدة عبر العالم، والتي تغطي مختلف صور النشاط. هذه الأنظمة غالباً ما تدعو المحكِّمين إلى التوقيع على وثيقة تضمن استقلاليتهم وحيادهم وتفرغهم، وعلى وجه الخصوص، ضمان سرية الاجراءات التي سيقومون بها قبل تسلّمهم مهمتهم .

 

2-الجوارية:

يقصد بالجوارية (proximity) امكانية اختيار المحكم من أقارب الورثة غير المعنيين بالميراث وبالتركة، متى توافرت لديهم صفة النزاهة و الحياد ليكونوا على مسافة واحدة بالنسبة لكل أطراف المنازعة الميراثية. وقد يكون هذا الغير جاراً من الجيران المشهود لهم بالحكمة والوقار ويسري هذا الأمر على أئمة مساجد الأحياء وشيوخ القبائل والقرى والمداشر وحتى الزوايا المعروفة في بلدان المغرب الكبير والتي تزاول مثل هذا النشاط منذ قرون .

ولعل ما جعل الطرق التقليدية في التقاضي لا تحقِّق الغرض منها في مثل هذه المنازعات هو عدم استغلال الوازع الديني في المجتمعات العربية والاسلامية والمتمثل في النزوع إلى احترام كل ما يمت بصلة للدين وللمسجد بصورة طبيعية، الشيء الذي لا يلامسه علماء الاجتماع بنفس الدرجة حينما يتعلق الأمر بالخضوع للقانون الوضعي والجهات القضائية الرسمية.

فإستغلال العامل الديني قد يسهّل الحصول على حل خارج الأطر القضائية، وهذا ما تسعى اليه بعض المنظمات الدولية التي تعمل في بعض البلدان العربية التي جرت فيها عادة مخالفة للشرع تحرُم المرأة الميراث تفادياً لانتقال الثروة العقارية، خاصة إلى عائلة الأصهار، وإنّ النساء في هذه الربوع لا يتجرّأن على رفع دعاوى ضد أقاربهن من الذكور أمام القضاء.

اللجوء إلى التحكيم قد يسهّل كذلك عملية الاثبات خارج الأطر الجامدة التي يفرضها القانون الوضعي والمحاكم الرسمية، ذلك لأنه كثيراً ما تثور بين الأقارب مسألة المانع الادبي الذي يحول دون أن يطالب أعضاء الأسرة الواحدة بوثيقة مكتوبة اثناء القيام بالتصرفات القانونية في ما بينهم، مما يفتح الباب أمام الاستعانة بشهادة الشهود في حالة نشوب نزاع. شهادة الشهود في مثل هذه المواضيع كثيراً ما يطالب الفرقاء أن تتم بعد حلف اليمين في المسجد أمام جمع من المسلمين أو في حضور أئمة أو مشايخ وهذا متيسّر في التحكيم أكثر من القضاء.

 

ب‌-المزايا المتعلقة بالخبرة:

منازعات الميراث على درجة من التعقيد تتطلب في بعض الأحيان تدخّل أهل الخبرة (expertise) من الناحية الشرعية والقانونية (1) وحتى الفنية في مجال المالية والمحاسبة والجباية (2).

 

1-الخبرة الشرعية والقانونية:

في ما يخص الجانب الشرعي والقانوني، رغم أن الفقهاء المسلمين اجتهدوا في قضايا الميراث إلى درجة اعتبار علم الفرائض نصف العلم، وأنّ معظم هذه الاجتهادات افرغت في نصوص التشريع، فإنّ الاجتهاد ما زال مطلوباً في باب الميراث اليوم أكثر من أي وقت مضى.

ولعل من المسائل التي ما انفكت تؤرق المختصين من موثقين وقضاة هو مسألة التنزيل، بحيث ينقسم حوله الاجتهاد بين من يعتبره من قبيل التوريث ومن يعتبره من قبيل الإيصاء (الوصية الواجبة).

ما يتطلب الاجتهاد كذلك تواجد المسلمين في بلدان من غير دار الاسلام، بفعل الهجرة الطوعية وغير الطوعية وبفعل انفتاح بلاد الاسلام على غير المسلمين من باب الاستثمار ونحوه وهو ما يجعل الميراث يطرح إشكالات لا عهد للقدامى بها.

إنّ قضايا كهذه يستحسن عرضها على أهل العلم الشرعي، يجتهدون فيها كمحكمين يفصلون فيها بقرارات إلزامية، وأنّ في ذلك خير قد لا يتحقق حينما يطرق باب القضاء. فالقضاة قد يكون اجتهادهم محدوداً حينما يتعلق الأمر بالمسائل الشرعية، وقد لا تسمح لهم كثرة الملفات والقضايا التي تعج بها المحاكم على أن يوفوا هذا النوع من القضايا ما تستحقه من بحث واستقصاء للأمور من باب الشرع.

 

2-الخبرة في المالية والمحاسبة والجباية:

قد لا تخلو كذلك قضايا الميراث من التعقيد من الناحية التقنية لما تتطلبه من دراية بأمور الحساب من جمع وطرح وضرب وعَوَل...، فضلاً عن المعرفة التي قد تصل الى ضرورة الخبرة بأمور المالية والمحاسبة وحتى الجباية، خاصة حينما يتعلق الأمر بتصفية تركة تتكون من مؤسسات اقتصادية وأسهم وبراءات اختراع وأصول أخرى ذات قيمة مالية كبيرة، فيستحسن في مثل هذه الأحوال تعيين خبير أو عدة خبراء ضمن تشكيلة المحكمة التحكيمية المدعوة للفصل في النزاع دون اللجوء الى القضاء ودونما إغفال القواعد الشرعية. وقد يكون في ذلك خير لما يتيحه التحكيم من امكانية الفصل بالصلح "en amiable compositeur" من استمرار المؤسسة أو المزرعة أو المصنع في مزاولة النشاط وبقاء المال  داخل الدورة الاقتصادية بما يحقِّق مصلحة الجميع من ورثة وعمال كان يستخدمهم المورِّث ومصلحة الدولة من خلال رفع الجباية وهو ما لا يتحقق في الخصومة القضائية لما تحدثه من تنافر وتقاسم بين الورثة قد يؤدي الى تلاشي الأموال وتوقف الاستغلال وبين هذا وذاك ضياع مصالح لا تعدّ ولا تحصى.

ونظراً الى التداخل بين ما هو شرعي وما هو قانوني وما هو مالي ومحاسبي وحتى جبائي، يستحسن في قضايا الميراث الشائكة، عرض النزاع على هيئة جماعية للتحكيم، تجمع بين كل هذه التخصصات، كأن يكون رئيسها من المتمرسين في القانون والقضاء والعضو الثاني ممن تضلعوا في العلوم الشرعية والعضو الثالث من هم أهل الخبرة في شؤون المحاسبة والمالية والجباية.

إنّ عرض هذا النوع من المنازعات على القضاء لا يوفِّر الخبرة اللازمة، بحيث كثيراً ما ينتدب القاضي الذي رفع اليه النزاع، خبيراً أو عدة خبراء وهو ما يتسبب عادة بتطويل الاجراءات قبل صدور الحكم التمهيدي وبعده في إطار إعادة السير في الدعوى بعد الخبرة، ثم خبرة مضادة... وكل هذا قد يكون سبباً في بعث القلق وعدم اطمئنان في نفوس الورثة من أفراد العائلة الواحدة وما قد يؤدي بهم في آخر المطاف إلى الدخول في صراع لا تحمد عقباه.

 

ثانياً- العقبات التي تحول دون اللجوء إلى التحكيم في منازعات الميراث المالية:

كثير من الناس ومن بينهم متخصصون يعتقدون أنّ منازعات الميراث هي مما لا يجوز حلّه عن طريق التحكيم ولا محيد فيه عن الاختصاص القضائي لعدة أسباب. فهناك من يرجع ذلك لعدم قابلية منازعات الميراث برمتها لا للصلح ولا للوساطة ولا للتحكيم لتعلق الميراث بالدين (أ) وهناك من يعزو هذا المنع لأسباب قانونية بحتة، يمكن تلخيصها في تعلق أحكام الميراث بالنظام العام (ب).

 

أ‌-تعلق أحكام الميراث بالدين:

يرى البعض أنّ قواعد الميراث لا يجوز فيها اللجوء الى التحكيم لأنها ترتبط بالمقدس (1) ومن ثمة فهي من صميم الأحوال الشخصية (2).

 

1-الميراث والمقدس:

لعل من نافلة القول الاشارة الى أنّ معظم قواعد الميراث وأهمها على الاطلاق حدّدتها آيات من القرآن الكريم وتناولتها السنة النبوية الشريفة واجتهد فيها الصحابة والفقهاء، مما يحيطها بهالة من الاحترام تدخلها في دائرة المقدس (le sacré)، الذي لا يسمح الخوض فيه لكل من هبّ ودبّ. وهو ما قد يعني بالنسبة للبعض، في باب فضِّ المنازعات، عدم جواز أن يتولى الفصل في المنازعات المترتبة على إنفاذ قواعد الميراث أشخاص عاديون يعيّنهم الورثة بمحض ارادتهم، قد لا تتوافر فيهم شروط القضاء وإنما إسنادها للقضاة وذلك أضعف الإيمان، لأنّ القضاة يفترض فيهم تمثيل الأمام أي: الدولة  ويحظون بضمانات من قبلها من حيث النزاهة والحياد وحتى من حيث دين القاضي الذي يعتبر شرطاً ضمنياً في دول جعلت الاسلام دين الدولة في دساتيرها.

والواقع أنه ليست كل أحكام الميراث تدخل في هذا الصنف. فمما لا شك فيه أن الأحكام المتعلقة بالأنصبة المحدّدة بنص من القرآن بأحكام قطعية الدلالة لا مجال للاجتهاد فيها واحترامها يقع في مقام التعبد وليس مقام التعامل. أمّا المنازعات الناتجة من إنزال هذه القواعد على التركة من حصر لعناصرها وتقييمها وتوزيعها بين الورثة ومن جرى مجراهم، فهي ولئن تعلّقت بالشريعة فهي من صميم المعاملات. والدليل على ذلك أنّ معظم البلدان العربية افرغت أحكامها في تشريعات وضعية تضمّنت اجتهادات فقهية في أبواب كثيرة.

 

2-الميراث والأحوال الشخصية:

على عكس ما يعتقده البعض، فإنّ التفرقة بين الأحوال الشخصية والأحوال العينية لا

علاقة لها بالفقه الإسلامي، وأنّ مصدرها هو القانون الروماني، حيث كان يفرق بين

statitus personalibus  / statitus realibus والتي تسربت الى قوانين العائلة اللاتينية الجرمانية التي تفرق اليوم بين:/ le statut personnel ou des personnes  statut réel ou des biens، كما هو الحال في القانون الفرنسي الذي أثّر على عديد القوانين العربية في هذا الصدد.

حقيقة منازعات الميراث قد تتقاطع مع مسائل هي من الأحوال الشخصية، متى ارتبطت بمسألة تتعلق بحالة الاشخاص وأهليتهم، كما هو الحال في قضايا النسب لتحديد القرابة (الحالة العائلية) أو الجنسية للتأكد مما إذا كانت المنازعة وطنية بحتة أو دولية (الحالة السياسية) أو تحديد الدين (الحالة الدينية)، لأنّ اختلاف الدين يعتبر من موانع الميراث. اما كل ما يتعلق بعناصر التركة سواء اكانت عقارات أو منقولات، أموالاً مادية أو معنوية، فهي من صميم المعاملات التي تدخل ضمن الأحوال المالية ووجود أحكام الميراث ضمن قانون الأسرة لا يغير في الأمر شيئاً، لأنه حتى وإن كان الصلح غير جائز في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام فهو جائز في المسائل المالية الناجمة عن الحالة الشخصية". ومن المتعارف عليه كذلك أنّ ما يجوز فيه الصلح تجوز فيه الوساطة ويجوز فيه التحكيم من باب القياس.

ولعل من أشهر الاجتهادات في تطبيق أحكام الميراث ما درج العمل به من اتفاق بين الورثة، بموجبه يتخارج أحدهم أو بعضهم في مال معلوم يدفع أحد الورثة أو كلهم من مالهم الخاص مقابلاً له، فيحل أو يحلون محل المتخارج يوزع عليهم نصيبه على قدر انصبتهم، وهو ما اعتبره البعض بمثابة صلح بين الورثة، لأنه لا ينعقد إلاّ بموافقة كل الورثة وتسري عليه أحكام التعاقد في القانون المدني.

 

ب– تعلّق أحكام الميراث بالنظام العام:

اجمعت كل النصوص القانونية على أنه لا يجوز حل المنازعات عن طريق التحكيم إذا كانت تمسّ النظام العام. والنص على النظام العام كقيد يرد على حرية الاطراف في اللجوء الى التحكيم يغني عن التفصيل في المسائل الجزئية التي توردها التشريعات، لأنها مجرد أمثلة يطرح ربما فيها المنع بحدة أكثر مما يطرح في غيرها، كالأهلية والحالة والمؤسسات العامة أو الأموال العامة.

والنظام العام في التحكيم نوعان سنتفحص مدى تأثيرهما على قابلية منازعات الميراث للتحكيم تباعاً، وهما: النظام العام الوطني (1) والنظام العام الدولي (2).

 

1-النظام العام الوطني:

إنّ منع الطرق البديلة في كل ما يتصل بالنظام العام فيه نوع من الغلو، لأنّ تعلق القضية بالنظام العام وحده غير كافٍ حسب الرأي الراجح في الفقه الوضعي لمنع الطرق البديلة في هذا المجال . فلا مانع في باب الميراث أن يطبِّق المحكم قواعد النظام العام، بل هو مطالب بها تحت رقابة القضاء بطبيعة الحال في مرحلة التنفيذ، سواء لكونها من صميم العقيدة، كاحترام الأنصبة التي قرّرها الشارع لكل وارث ومانع الدين، أو من صميم القانون الوضعي كانعدام اهلية أحد الورثة أو نقصها، لأن هذا الوضع لا يسمح بإبرام صلح أو المشاركة في وساطة أو الاتفاق على تحكيم.

لكي يكون النظام العام عائقاً يحول دون اللجوء الى التحكيم يتعيّن أن يكون طرح القضية على محكمين فيه في حد ذاته خرق للنظام العام. من أمثلة ذلك أن تتعلق القضية بمصالح الغير الذي لم يستدعِ ولم يشارك في ابرام اتفاق التحكيم، لأنه لا يجوز لا الصلح ولا التحكيم إلاّ في الحقوق التي للشخص مطلق التصرف فيها، كما نصّت على ذلك معظم القوانين الوضعية الاجرائية في العالم العربي والاسلامي

لا يجوز كذلك لا الصلح ولا التحكيم حينما يكون رفع النزاع الى شخص غير القاضي يمثّل، في حد ذاته، مساساً بالنظام العام. فالقاعدة المعتدى عليها يجب أن تكون إذاً من القواعد الاجرائية المتعلقة بالاختصاص النوعي الذي يعتبر من النظام العام. من أمثلة ذلك منازعات العمل التي هي من اختصاص القضاء العمالي بصورة الزامية والتحكيم فيها في إطار قوانين الاجراءات المدنية ممنوع، لأنها تخضع لمصالحة وتحكيم من نوع خاص نصّت عليه قوانين العمل أمّا الصلح فيقوم به مفتش العمل، والتحكيم معمول به لفضّ المنازعات الجماعية للعمل بنصوص خاصة في غالب الأحيان.

لكن السؤال يبقى مطروحاً بالنسبة لاختصاص قضاء شؤون الأسرة عموماً. فلا شك في أنّ قضايا النسب والقرابة ومانع الدين سواء إن طرحت بصورة أصلية أو تمت معالجتها كمسألة قبلية (Prejudicial) فإنّ اختصاص قاضي الأسرة بها من النظام العام. ضِف إلى ذلك وجود سبب آخر يقف وراء منع التحكيم في قضايا الطلاق وهو إلزامية العمل بالصلح الذي نصّ عليه قانون الأسرة، عملاً بالآية الكريمة "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما" (الآية 35 من سورة النساء).

 

2-النظام العام الدولي:

يفرّق اليوم في القانون الدولي الخاص بين نوعين من النظام العام: فهناك النظام العام الدولي، ثم النظام العام العابر للدول (transnational) الذي يفضِّل البعض تسميته النظام العام الدولي الحقيقي  (l’ordre public réellement international).

أما النظام العام الدولي الذي نصّت عليه قوانين الاجراءات المدنية في باب رقابة القاضي الوطني على قرارات التحكيم الدولية فيقصد به قواعد النظام العام الوطني المخفف التي يمكن التمسك بها حتى لو تعلّق الأمر بعلاقات تدخل في إطار القانون الدولي الخاص وقضايا الأحوال الشخصية جزء لا يتجزأ منها، كما هو الحال بالنسبة للأهلية وللأنصبة المحدّدة لكل وارث وسبب الميراث وموانعه.... لكن هذه القيود لا يتأتى احترامها إلاّ إذا تم طلب تنفيذ القرار التحكيمي أمام القاضي الوطني ويفترض كذلك أن تكون أموال التركة موجودة على الاقليم الوطني.

أما إذا كانت أموال التركة في الخارج والورثة موجود بعضهم أو كلهم في الخارج فيصعب تصور اللجوء إلى القضاء الوطني في كل الأحوال، حتى لو كان كل الورثة من الوطنيين. ففي هذه الحالة ما يخشى هو أن يكون اللجوء إلى التحكيم في الخارج وسيلة لما يعرف في القانون الدولي الخاص بالغش نحو القانون La fraude à la loi »  « للالتفاف على مقتضيات النظام العام الدولي (الوطني)، بل تجنّب تطبيق الشرع الاسلامي برمته، تحقيقاً لوهم المساواة المادية بين الرجل والمرأة في الميراث أو التسوية بين الابن الشرعي وغير الشرعي والولد بالتبني، التي يدعو اليها بعض المنظمات الدولية وتكرسها الاتفاقيات الدولية التي تطبَّق تحت غطاء النظام العام العابر للدول.

في الخاتمة، لا يسعنا إلاّ أن ننبِّه إلى أنّ الاعتراف بالتحكيم أمر أضحى حتمياً في المسائل المالية المترتبة على الميراث من باب سد الذرائع ضد من يجد في المنع مخرجاً لعرضها على المحكمين خارج البلاد العربية والاسلامية والهدف هو الالتفاف على مقتضيات القانون الوطني والنظام العام، وربما الالتفاف كلية، تحت شعار حقوق الانسان والحريات العامة، على ما أتى به الشرع بنصوص قطعية في هذا المجال

من هنا يظهر أن التحكيم، ليس محض قواعد اجرائية، شكلية محايدة بالضرورة. فهو ولئن كان محايداً من حيث المساواة المادية بين الأطراف المتنازعة، فإنه غير محايد "عقدياً"، لأنه يتأثر بالسياق الايديولوجي الذي يأتي فيه. فمراكز الوساطة والصلح والتحكيم في الغرب ليبرالية في توجهاتها الاقتصادية، علمانية في تصوراتها السياسية ووجودية في نظرتها للدين والاخلاق. لذا وجب اعتبار التحكيم في مجال الميراث رافداً جديداً يضاف إلى الصناعة المالية الاسلامية، لإعطائه مضامين جديدة لا تتعارض والشرع الإسلامي، وما يصدق على الجوانب المالية للميراث يمكن تمديده الى مواضيع أخرى مرتبطة كالوصايا والوقف والهبات.... ومن هنا نساهم في ايجاد طرق بديلة متشبعة بقواعد موضوعية من وحي ثقافتنا ونظرتنا للكون والحياة.