التحكيم / التحكيم الإجباري في منازعات القطاع العام / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / أسس إقرار المحكمة الدستورية للتحكيم الإجباري في منازعات القطاع العام
أسس إقرار المحكمة الدستورية للتحكيم الإجباري في منازعات القطاع العام
استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على إضفاء عدم الدستورية على التشريعات التي تحمل في طياتها تحكيماً إجبارياً تنعدم معه إرادة الأطراف الأمر الذي يتعارض معه تحقيق التحكيم الإجباري لأهدافه المرجو تحقيقها، والسابق الإشارة إليه.
بيد أن المشرع قد يفرض نوعاً من التحكيم على بعض أنواع المنازعات التي يكون أحد أطرافها شركات أو جهات حكومية لا يترتب عليه أية أضرار أو بمعني أدق لن يستفيد منه إلا المخاطبون بأحكامه من أشخاص القانون العام وهو ما دفع المحكمة الدستورية العليا إلى الإقرار بدستورية التحكيم الإجباري في منازعات القطاع العام في كثير من أحكامها، حيث ذهبت المحكمة في أحد أحكامها إلى أن: "النزاع بين تلك الجهات لا يثور بين أشخاص اعتبارية تتناقض مصالحها أو تتعارض توجهاتها إذ تعمل جميعها باعتبار أن ثمار نشاطها عائدة في منتهاه إلى المرافق العامة التي تقوم الدولة على تسييرها وتكفل انتظامها وتطويرها لضمان وفائها بالأغراض التي ترمي إلى إشباعها، ولا يكون الأمر كذلك إذا كان أحد الأشخاص الطبيعين طرفا في ذلك النزاع، إذ لا يجوز أن يدخل في هذا النوع من التحكيم إلا بقبوله".
ويتضح من أحكام المحكمة الدستورية السابقة، أنها أجازت في البداية التحكيم الإجباري في المنازعات التي تكون إحدى شركات القطاع العام طرفا فيها، سواء كان الطرف الآخر شركة قطاع عام أم جهة حكومية أم هيئة عامة ، وذلك خروجا على المبدأ السابق للمحكمة الذي قررت فيه عدم دستورية التحكيم الإجباري - عموما - ويبدو أن المحكمة قد استثنت منازعات القطاع العام من عدم الدستورية.
بيد أن المحكمة الدستورية العليا استندت في قضائها بإقرارها بدستورية التحكيم الإجباري في هذه المنازعات في البداية إلى عدة | اعتبارات:
(1) إن منازعات القطاع العام لا تعتبر منازعات حقيقية بين مصالح متعارضة إذ أيا كان من يكسب القضية أو يخسرها فإن الأمر في النهاية يعود إلى صاحبه وهو الدولة صاحبة جميع شركات القطاع العام.
(2) راعت المحكمة عند صدور أحكامها بالدستورية الغرض الأساسي من نظام التحكيم الإجباري في دعاوى القطاع العام. وهو وضع حد لصور من المنازعات لا لمصلحة الدولة في استمرارها، حيث إن بقاء تلك المنازعات معروضة مدة كبيرة أمام قضاء الدولة من شأنه أن يؤثر على الخطة الاقتصادية للدول، فهي منازعات تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، حيث يعمل التحكيم الإجباري على حسن سير المرافق العامة بانتظام واضطراد بحل المنازعات التي تثور بين وحدات القطاع العام أو بينها وبين إحدى الجهات الحكومية والهيئات العامة والوحدات المحلية من خلال قيامها بأنشطتها، والعمل على إزالة تلك المنازعات مما يساعد على إقرار الشرعية القانونية، حيث يجعل تلك الهيئات والوحدات تعمل على الحفاظ على المبادئ القانونية التي سبق إقرارها بمعرفة هيئات التحكيم التي تنظر تلك المنازعات .
غير أن هذا الاعتبار الأخير قد ذهبت إليه المحكمة، وهي بصدد تأكيد عدم دستورية التحكيم الإجباري المنصوص عليه في بعض القوانين؛ منها على سبيل المثال قانون إنشاء بنك فيصل الإسلامي، حيث فرض هذا القانون تحكيما إجباريا على أطراف المنازعات التي تدور بين البنك وعملائه دون أن يكون لإرادة المتعاملين مع البنك أي دخل في قبول التحكيم أو رفضه، وهو ما جعل المحكمة تقر بعدم دستورية التحكيم الإجباري المنصوص عليه في قانون إنشاء البنك، لأن أطراف المنازعة التي تخضع لهذا النظام في مراكز قانونية متغايرة، وأن الأمر ليس كذلك في منازعات القطاع العام"). (3) كما أن المحكمة راعت أن تجعل هذه المنازعات بمنأى عن بعض الإجراءات التي تتسم بها الخصومات بالمحاكم القضائية كبطء إجراءات التقاضي وتوفير الوقت والجهد، وبالتالي تخفيف العبء عن كاهل هذه المحاكم.
(4) غير أن المحكمة الدستورية العليا تمسكت برفض دستورية التحكيم الإجباري إذا كان أحد أطراف المنازعة شخصا طبيعيا، كما هو واضح من الحكم السابق المشار إليه ، حين انتهت المحكمة إلى أنه إذا كان أحد أطراف منازعات شركات القطاع العام من الأشخاص الطبيعين، فلا يجوز إدخاله في هذا النوع من التحكيم إلا بقبوله، بل أن الأمر لا يتوقف على كون الشخص من الأشخاص الاعتبارية فقط، بل إنه إضافة إلى ذلك يجب أن يكون من الأشخاص الاعتبارية العامة؛ فالمنازعات التي تقع بين شركات القطاع العام مع الأشخاص الخاصة سواء كانوا أشخاصا طبيعين أو اعتباربين وطنيين أم أجانب، فإن المشرع جعل لهم التحكيم الاختياري وسيلة لفض المنازعات المثارة بينهم .
(5) أخيرا فإن الأسس التي استندت إليها المحكمة في تبرير دستورية التحكيم الإجباري في منازعات القطاع العام تسري فقط على التحكيم الإجباري الذي ينظمه القانون ۹۷ لسنة ۱۹۸۳- المعدل بالقانون رقم 4 لسنة 2020 - بشأن هيئات القطاع العام وشركاته، ولا تسري على المنازعات التي تقوم بين شركات قطاع الأعمال العام التي ينظمها القانون رقم ۲۰۳ لسنة ۱۹۹۱ - المعدل بالقانون رقم 185 لسنة 2020 -. أو بينها وبين غيرها حيث يسري عليها تحكيما اختيارياً وفقا لأحكام المادة 40 منه، غير أن المادة الأولى من هذا القانون قد نصت على إلغاء العمل بالمواد 56 وما بعدها من القانون ۹۷ لسنة ۱۹۸۳، والتي كانت تنظم هيئات التحكيم الإجباري، مع ملاحظة أن المادة 41 من قانون ۲۰۳ لسنة ۱۹۹۱ نصت على سريان هذه المواد التي تم إلغائها على حالات التحكيم المقدمة قبل تاريخ العمل بأحكام القانون رقم ۲۰۳ لسنة ۱۹۹۱. فإذا كانت هناك منازعة لا زالت متداولة قبل صدور قانون قطاع الأعمال العام السابق فإنما تسري عليها هذه النصوص الملغاة الواردة بالقانون رقم 97 لسنة ۱۹۸۳.
كما أن تلك الأسس والمبررات لا تسري أيضا على التحكيم الإجباري الوارد في خصوص القانونين 32 لسنة 1966 و60 سنة 1971. حيث إن شرعية فرض التحكيم كوسيلة لحل المنازعات بدلا من اللجوء إلى قضاء الدولة صاحبة الاختصاص الأصيل مرتبط بتمتع شركات القطاع العام بالشخصية المعنوية العامة حتى تكون مع الدولة في ذمة مالية واحدة وشركات القطاع العام وفقا للقانونين السابقين، هي شركات تجارية تهدف إلى تحقيق الربح، ولا تتمتع بالشخصية القانونية التي تخول لها سلطات و امتیازات السلطة العام .
وبالتالي لا نستطيع الجزم بأن المنازعات القائمة فيما بين تلك الشركات وبين شركات قطاع عام أخرى، أو بينها وبين أحد اشخاص القانون العام منازعات بين مصالح واحدة، حيث إنها تتعلق بالذمة المالية للدولة، بل هي منازعات بين مصالح متعارضة وذمم مالية مختلفة، وعليه فيكون التحكيم الإجباري بشأن المنازعات سالفة الذكر تحكيما غير دستوري يتعارض مع نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة التي تعطي للمواطنين الحق في اللجوء إلى محاكم القانون العام، ويؤيد ذلك أحكام المحكمة الدستورية العليا، التي ذهبت إلى ضرورة توافر رضاء الأطراف على اللجوء إلى التحكيم على نحو ما سنعرضه له عند بحث التنظيم التشريعي للتحكيم الإجباري في القانون .1966/32 ،1971/60
وأخيرا يمكننا أن نذهب إلى القول بأن الأسس التي استندت إليها) المحكمة الدستورية العليا لإضفاء الشرعية الدستورية علي التحكيم الإجباري لا تسري إلا في ظل قانون هيئات القطاع العام رقم 97 لسنة 1983 ، نظراالتمتع هيئات القطاع العام في ظله بالشخصية المعنوية واعتبارها في ظله من أشخاص القانون العام، وعليه فهي تشكل مع الدولة ذمة مالية واحدة.
وفي هذا الصدد يجب التنويه على أن التحكيم أيا كان نوعه إجباريا أم اختياريا فإن المشرع لم يقصد بتقريره سوى استبعاد خضوع المنازعات المثارة من ولاية القضاء، حيث يحظر عليه النظر لتنظيم الفصل فيها بقانون خاص ، كما هو الحال في التحكيم الإجبارى الوارد بنصوص قوانين القطاع العام جميعها ما عدا قانون قطاع الأعمال العام رقم ۲۰۳ لسنة ۱۹۹۱،المعدل - وينطبق هذا الأمر كذلك في حالة كون التحكيم اختياريا لحسم المنازعات التي قد تنشأ بين شركات قطاع الأعمال. لأن المشرع حينما أصدر قانون قطاع الأعمال العام جعله عوضا عن رفع الدعوى أمام المحاكم العادية، ولم يمنع به التحكيم الاختياري الذي يملكه الخصوم أطراف النزاع وفقا للقواعد العامة المنصوص عليها في قانون المرافعات قبل إلغائها بموجب القانون رقم 27 لسنة 1994، وهو ما أكدته محكمة النقض بأن: "اختصاص هيئات التحكيم بنظر المنازعات التي قد تنشأ بين شركات قطاع الأعمال العام أو بينها وبين غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة أو الخاصة أو الأفراد، شريطة الاتفاق عليها فيما بينها على التحكيم، ويترتب على ذلك انحصار اختصاص القضاء العادي" .
وباعتبار أن التحكيم في تلك المنازعات إجباري استثناء من الأصل العام الذي يعتبر أن التحكيم وسيلة اختيارية لتسوية المنازعات - يمكن للخصوم التصالح فيما بينهم أو أن يتفقوا على تحكيم اختياري فيما بينهم، وبالتالي تستبعد أحكام التحكيم الإجباري المنصوص عليها في القانون رقم ۹۷ السنة ۱۹۸۳، ويتم تطبيق أحكام التحكيم الواردة بقانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994. حيث إن التحكيم الإجباري الذي فرضه المشرع بالقانون رقم ۹۷ لسنة ۱۹۸۳، من شأنه أن يمنع الأطراف من عرض النزاع على قضاء الدولة فقط، وعلى المحاكم إذا عرض عليها مثل هذا النزاع أن تقضي بعدم قبول الدعوى لانقضاء ولايتها بشأنها، كما يمكن لشركات القطاع العام وهيئاته اللجوء إلى التحكيم الدولي في المنازعات التي تنشأ عن رابطة عقدية دولية.