التحكيم / التحكيم الاختياري / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / دور التحكيم في فض المنازعات الإدارية ( دراسة مقارنة ) / الضوابط الدستورية التحكم الاختياري في مصر
مما لا شك فيه أن الآثار التي خلفها تطبيق نظام التحكيم الإجباري بفرض اللجوء إليه بنصوص تشريعية، أدت إلى إقامة العديد من الدعاوى التي دفعت بعدم دستورية تلك النصوص، كما أدى ذلك إلى إلغاء تلك النصوص التي كانت تتضمن فرض اللجوء إلى التحكيم واستبدالها بنظام تحكيم آخر، يقوم على حرية الأطراف في اللجوء إليه أو الرجوع إلى قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 .
لكن التحكيم الاختياري المنصوص عليه في قانون 27 لسنة 1994 سالف الذكر لم يثبت تعارضه مع الدساتير، وذلك من خلال بعض السوابق القضائية النزاعات عرضت على المحكمة الدستورية حيث يقوم على حرية أطراف في اللجوء إليه أو اللجوء إلى أي من الوسائل الأخرى كطريق للتقاضي ومع هذا تم إثارة الطعن عليه بعدم دستورية القانون رقم 27 لسنة 1994 بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية بخصوص مدى جواز حسم المنازعات الإدارية لأن المنازعات الإدارية التي تكون الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة طرفاً فيها قد استقر الرأي في البداية على جواز الجزء لحسمها عن طريق التحكيم.
أولا : بعض الأسباب التي قد تثير شبهة عدم دستورية التحكيم الاختياري:
قبل استعراض موقف كل من المشرع الدستوري والمحكمة الدستورية العليا، يجب أو البحث في الأسباب التي أدت إلى الدفع بعدم دستورية هذا النوع من التحكيم، لا سيما أنه تحكيم يقوم على مبدأ الرضائية وحرية الأطراف، أي ليس فيه ما يجبر أطراف المنازعة على اللجوء إليه بشكل تسعى الدفع بعدم دستوريته.
بيد أن هناك أسبابا أخرى قد تؤدي إلى إثارة شبهة عدم الدستورية، ومنها:
1- عدم استناد التحكيم باعتباره وسيلة من وسائل حسم المنازعات الإدارية إلى نص صريح في الدستور، بعكس القضاء الإداري الذي يستند في وجوده واختصاصاته إلى نصوص دستورية صريحة، كذلك الحال بالنسبة إلى مجلس الدولة الفرنسي الذي يستند في وجوده واختصاصاته إلى مبادئ ذات قيمة دستورية؛ ففي مصر نص الدستور المصري الصادر سنة 2014 في المادة 190 منه على أن: "مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه، كما يختص بالفصل في الدعاوى والطعون التأديبية، ويتولى الإفتاء في المسائل القانونية للجهات التي يحددها القانون، ومراجعة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية، التي تحال إليها، ومراجعة مشروعات العقود التي يحددها ويحدد قيمتها القانون وتكون الدولة أو إحدى الهيئات العامة طرفاً فيها، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى "، وهو تأكيد لما نصت عليه الدساتير المصرية السابقة منها دستور 1971 طبقاً للمادة 172 منه.
2- إن تطبيق أسلوب التحكيم لحسم المنازعات الإدارية يتطلب خروج هذه المنازعات عن نطاق ولاية القضاء الإداري، وهذا الأمر قد اعتبره جانب من الفقه وبعض أحكام القضاء، فيه شبهة مخالفة قواعد الدستور ومبادئه و مخالفاً للمادة 190 من دستور 2014 .
3- كما أنه من الأمور التي أثارت بالفعل شبهة عدم الدستورية، ودفع بها بالفعل أمام المحكمة الدستورية العليا ، هو مساس قانون التحكيم بمبدأ المساواة أمام القانون، وذلك فيما يتعلق بدعوى البطلان الأصلية؛ حيث إن الفقرة الثانية من المادة 54 من القانون رقم 27 لسنة 1994، تعقد الاختصاص بدعوى البطلان المحكمة الدرجة الثانية التي تتبعها المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع؛ فهذا النص - وكما دفع به بعدم الدستورية - يرتب تمييز في المعاملة بين من يلجئون إلى التحكيم الفض ما يثور بينهم من منازعات و أولئك الذين يعرضون منازعاتهم على جهات القضاء، وإن كانت المحكمة قد ردت على هذا الدفع بأن قانون التحكيم سالف الذكر لا يتعارض مع نص المادة 40 من الدستور - يقابله نص المادة 53 من دستور 2014 - الذي يقر مبدأ المساواة أمام القانون، على اعتبار أن المبدأ الأخير لا يقوم على معارضة جميع صور التمييز بين المواطنين، إذ إن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية، حيث ذهبت المحكمة إلى أنه: "... ولما كان ذلك وكان إسناد الفصل في دعوى بطلان حكم التحكيم إلى محكمة الدرجة الثانية، وفقاً للنص الطعين، مرده اعتبارات موضوعية تتصل بطبيعة المنازعة التحكيمية، وما تفرضه من ضرورة سرعة حسمها وتقويض أية محاولات لتعطيل الفصل فيها، تحقيقاً للمصلحة العامة في التقاضي، وكفالة للثقة الواجب توافرها في المعاملات، ومراعاة لإرادات المتحاكمين أنفسهم، وهو ما هدف المشرع إلى تحقيقه جميعاً دون إخلال بالضمانات الأساسية في التقاضي، فإن المعالجة التشريعية هذه وعلى الرغم من انطوائها على بعض الاختلاف عما تضمنته القواعد العامة المنظمة الدعوى البطلان الأصلية أمام المحاكم القضائية، إلا أن هذا الاختلاف وقد اقترن بتلك الاعتبارات الموضوعية التي تبرر وجوده من الناحية المنطقية، وقصد إلى تحقيق المصلحة العامة ولم يخل بضمانات التقاضي الأساسية؛ يكون اختلافاً مقبولاً ومبرراً، ولا يؤدي اعتماد المشرع له إلى خروج على مبدأ المساواة أمام القانون، الأمر الذي يضحي منه الادعاء بخروج النص الطعين على هذا المبدأ منتحلا، وحيث إن النص الطعين لا يخالف أي حكم آخر في الدستور".
4- كما أن للتحكيم تأثيراً على نظريات القانون الإداري ومبادئ هذا القانون ومستقبله، ومن أهم هذه النظريات نظرية العقود الإدارية. باعتبارها من أهم نظريات القانون الإداري، لما لهذه العقود من أهمية كبرى في تحقيق أهداف الخطة الاقتصادية للبلاد من خلال تنظيم العلاقات القانونية بين الإدارة وعملائها الذين يفضلون اللجوء إلى أسلوب التعاقد، باعتباره وسيلة رضائية يوفر لهم الضمانات الكفيلة بحماية حقوقهم، ويسعون إلى إدراج شرط التحكيم كوسيلة لحسم منازعات هذه العقود بدلا من اللجوء إلى القضاء الوطني.
خلاصة القول:
أن الأسباب السابق ذكرها والتي قد تثير شبيهة عدم دستورية التحكيم الاختياري الوارد النص عليه في قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، تستدعي ضرورة وضع ضوابط دستورية للتحكيم في المنازعات الإدارية تتناسب مع طبيعة تلك المنازعات، وتبعد عن قانون التحكيم شبهة عدم دستورية بعض قوانينه، وإلا سوف يكون مصير تلك النصوص كمصير النصوص التي فرضت التحكيم قسراً على الأطراف، أي التحكيم الإجباري، كبعض نصوص قوانين القطاع العام والجمارك والضريبة العامة على المبيعات - والتي سبق تناولها بالتفصيل -، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة الثقة في نظام التحكيم، ويؤثر عليه بشكل سلبي، ويهدم هدف الدولة الأساسي من إقرار نظام التحكيم عموماً، والخاص بجلب استثمارات أجنبية إلى البلاد، والحكم بعدم دستورية نص أو قانون يمثل عاملاً طارئاً لهذه الاستثمارات؛ لذا يجب الاهتمام بوضع هذه الضوابط الدستورية، والتي من أهمها الحفاظ على الطابع الاختياري للتحكيم، وكذلك المحافظة على الضمانات والمبادئ الأساسية للتقاضي.
ثانيا: موقف المشرع الدستوري:
خلت الدساتير المصرية القديمة من النص صراحة على إقرار نظام التحكيم للفصل في المنازعات فقبل إنشاء مجلس الدولة المصري كان القضاء العادي يفصل في كل أنواع المنازعات الإدارية والعادية، وبعد إنشاءه بالأمر العالي الصادر بتاريخ 23 أبريل عام 1879 عهد إليه بولاية التعويض والإلغاء للقرارات الإدارية المخالفة للقانون، أما التحكيم فقد تناول أمره في ذلك التوقيت قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالأمر العالي المؤرخ في 13 نوفمبر 1883، حتى أفرد له الفصل السادس من الباب العاشر (المواد من 702- 727). وبالنسبة للدساتير الحديثة، فإنها أكدت على عدم جواز حرمان أي شخص من الحق في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، حيث إن هذا الحق ينبثق من ضمانة دستورية أساسية وهي ضمانة استقلال القضاء، كما أن المواثيق الدولية خاصة بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكدت تلك الضمانة أيضا، كما أكدتها كثير من المواثيق العالمية والدولية.
خلاصة القول
نخلص مما تقدم من موقف المشرع الدستوري إلى أن التحكيم لا يستند إلى نص صريح في الدستور بإقراره باعتباره وسيلة من وسائل حسم المنازعات الإدارية، وهذا لا يعني عدم دستوريته، لأن معظم الموضوعات التي تنظم بقانون سوف ترتبط بشكل أو بآخر بقاعدة دستورية كلية يجب أن تتوافق معه ولا تخالفه، وإلا كان مصيرها في النهاية الحكم بعدم الدستورية.
وإذا كان قانون التحكيم ينظم أحد الحقوق الفردية، وهو الحق في التقاضي، والذي يشتمل في الأساس على الحق في اللجوء إلى القضاء، والحق في اللجوء إلى التحكيم، باعتباره طريقا موازيا لقضاء الدولة. وبالتالي فإن هذا القانون يأتي مطابقاً لأحكام الدستور، مستنداً إلى أحد أهم مبادئه، وهو مبدأ الحق في التقاضي.
ثالثا: موقف المحكمة الدستورية العليا
أقرت المحكمة الدستورية العليا مبدأ اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات بين الأطراف، ولم تر في ذلك ما يخالف الدستور ، كما هو واضح من بعض السوابق القضائية لبعض النزاعات التي تم عرضها على المحكمة، والتي سوف نعرض بعضاً منها بإيجاز ففي إحدى تلك المنازعات طالبت إحدى الشركات من محكمة جنوب القاهرة الابتدائية التصريح لها برفع دعوى الدستورية للمطالبة بعدم دستورية المواد ( 13، 1/22، 1/52) من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994؛ فبعد أن صرحت لها المحكمة برفع دعوى الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا، طالبت الشركة بعدم دستورية المواد سالفة الذكر؛ لمخالفتها لأحكام المواد (40، 65، 68، 165 من دستور 1971)، باعتباره هو الدستور القائم وقت إقامة هذا النزاع، واستندت الشركة في طعنها بعدم دستورية نصوص مواد التحكيم سالفة الذكر إلى مخالفتها لمبدأ تكافؤ الفرص، والمساواة أمام القانون، والاعتداء على استقلال القضاء وحصانته، وإهدار حق التقاضي الذي يكفله الدستور.
وعند تعرض المحكمة الدستورية العليا لتلك النصوص المطعون في دستوريتها، قضت المحكمة بأن: "الأصل في التحكيم هو عرض نزاع معين بين طرفين على محكم من الأغيار يعين باختيارهما أو بتفويض منهما وفقاً لشروط يحددانها، ليفصل في النزاع بقرار يقطع دابر الخصومة، بعد أن يدلي كل منهما بوجهة نظره، من خلال ضمانات التقاضي الرئيسية، وهو ما مؤداه اتجاه إرادة المحتكمين إلى ولوج هذا الطريق لفض خصوماتهم بدلاً من القضاء العادي، ومن ثم فإن المشرع - بما له من سلطة تقديرية في تنظيم الحقوق - قد حجب المحاكم - عن نظر المسائل التي يتناولها التحكيم استثناء من أصل خضوعها لولايتها، وإذا كان النص الطعين قد خول هيئة التحكيم الفصل في الدفوع المتعلقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع؛ فذلك لاعتبارات تتفق والمنطق القانوني، قوامها أن عرض نزاع ما على هيئة التحكيم يعتبر وسيلة قضائية يحسم من خلالها النزاع موضوع التحكيم برمته بما فيه من أوجه دفاع ودفوع فلا تتجزأ الخصومة محل التحكيم، بينما تفصل في دفوعها هيئة أخرى، وذلك حتى تتمكن من القيام بواجبها في الفصل في النزاع المطروح عليها دون أن تتمزق أوصاله، ما ذلك إلا تطبيقاً للقاعدة المتفق عليها فقها وقضاء، وهي أن قاضي الدعوى هو قاضي الدفع، كما أنه سبق للمحكمة أن قضت برفض الطعن بعدم دستورية المادة ( 1/13) من قانون التحكيم التي توجب على المحكمة التي يرفع إليها نزاع يوجد بشأنه اتفاق تحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعي عليه بذلك قبل إبدائه أي طلب دفاع في الدعوى، وهو ما مؤاده أن هيئة التحكيم أصبحت هي الجهة الوحيدة التي تستطيع الفصل في الدفوع التي يثيرها الخصوم بشأن اتفاق التحكيم.
واستطردت المحكمة قائلة: لما كان ذلك، وكان الاتفاق على عرض نزاع ما على هيئة التحكيم لا يحول دون أن تفرض جهة القضاء العادي رقابتها على قرارات هيئة التحكيم التي تنتهي بها الخصومة كلها؛ فقد جعل المشرع لجهة القضاء الأمر بتنفيذ حكم التحكيم والتظلم منه، كما جعل لها وحدها الاختصاص بنظر دعوى بطلان أحكام المحكمين، ليتمكن من خلالها الخصوم وغيرهم من ذوي الشأن الذين يستطيل حكم التحكيم إليهم من إبداء ما يعن لهم من مطاعن تؤدي إلى بطلان ذلك الحكم، ومن ثم لا يكون النص الطعين قد أخل بالحق في التقاضي أو تضمن عدوانا على استقلال القضاء أو حصانته.