يتفق إنشاء "ألمركز المصري للتحكـيم الإختيـاري وتسوية المنازعـات الماليـة غيـر المصرفية" مع التطور الذي يرصده المتابعون والمحللون لأنشطة الأسواق المالية والمصرفية العالمية. لقد كانت نظرة المؤسسات المالية والمصارف للتحكيم، على مدى عقود طويلة، نظـرة المتشكك في جدواه، إذ لم تسعف الحجة المروجين له والقاطعين بمزاياه المتعددة في إقناع تلـك المؤسسات بنجاعته، كما أسعفتهم في مجالات أخرى مثل التشييد والطاقة. فقد سادت حتى وقـت قريب، ألرأي الذي عبر عنه أحد المصرفيين بقوله: "إذا كان أحدهم مديناً لنا بمال فإننا نقاضـيه. فلم نشغل أنفسنا بـ [اللجوء إلى[ التحكيم.
فكان لجوء المؤسسات المالية والمصارف إلى التحكيم محدوداً، إذ كانت تفضل اللجوء إلـى محاكم الدولة في منازعاتها مع شركائها أو عملائها المستفيدين من خدماتها، وكان التفضيل فـي المعاملات المالية الدولية لقوانين المملكة المتحدة أو ولاية نيويورك ولمحاكمهمـا، لمـا هـو معروف عنهما من تطور القواعد القانونية التي تنظم المعاملات الماليـة فيهمـا ووضـوحها، بالإضافة إلى الثقة بكفاءة النظم القضائية الوطنية فيهما.
لكن بعد الأزمة المالية في عام 2008 وما تلاها من منازعات ماليـة ومـصرفية دوليـة مصرفية دولية لا تُحصى عدداً، تزايد توجه المتنازعين إلى التحكيم بدلاً عن المحاكم الوطنية.
ويحاول بعض الباحثين تفسير ذلك التحول في ضوء تزايد أعداد المتعاملين فـي الأسـواق المالية العالمية القادمين من أسواق حديثة النمو (emerging markets) في آسيا وأفريقيا علـى وجه الخصوص، وهي أسواق معروف أنها تشهد قلاقل سياسية متكررة يترتب عليها تغييـرات قانونية، وما يظن بتلك الدول -حقاً أو هما من ضعف المؤسسات القضائية وإنخفاض كفاءتها – كل ذلك حدا بالمؤسسات المالية والمصرفية إلى أن تولي وجهها شطر نظام التحكـيم بإعتبـاره وسيلة أكثر أمناً لفض المنازعات؛ تفادياً لما قد تواجهه من مشكلات في أثنـاء التقاضـي أمــام المحاكم الوطنية، في تلك البلدان، أو الصعوبات القانونية والعملية التي تعرقل تنفيذ أحكام المحاكم الوطنية في نيويورك أو لندن أو غيرها، خاصة عندما تكون الأصول أو الأموال المطلوب التنفيذ عليها موجودة في بلد غير ذلك الذي صدر فيه الحكم المراد تنفيذه .
من ناحية أخرى فإن المعاملات المالية تنفرد بمصطلحات فنية خاصة يعرفها أهل الخبـرة وتركيب العلاقات القانونية وتعقيدها لا يسهل لغير المتمرس في هذا المجال فهمها. كما أنه ليس لدى كل قاض في المحاكم الوطنية الدربة والمعرفة الفنية المتراكمة اللازمة للفصل فـى المنازعات بالسرعة الملائمة لطبيعة الأسواق المالية ومعاملاتها.
أما التحكيم فإنه يتيح للأطراف مزية إختيار محكمين متخصصين في هذا المجال هـم مظنـة القدرة على فهم تفاصيل منازعاته والقضاء فيها بسرعة وكفاءة. ذلـك بالإضـافة إلـى المزايـا التقليدية للتحكيم من مرونة في الإجراءات، وسرية العملية التحكيمية ومستنداتها، ونهاية الحكـم الصادر فيه وعدم قابليته للطعن إلا بطريق دعوى البطلان – في معظم البلدان- وقابلية الحكـم للتنفيذ في دولة صدوره وفي غيرها وفق أحكام إتفاقية نيويورك للإعتـراف بأحكـام التحكـيم الأجنبية وتنفيذها 19587- هكذا يروج للتحكيم في مجال المنازعات المالية وف وفـي كـل مـجـال آخر(!)
2- ألمركز المصري للتحكيم الإختياري:
أُنشئ "المركز المصري للتحكيم الإختياري والتسوية في المنازعات الناشئة عـن تطبيـق أحكام القوانين الخاصة بالمعاملات المالية غير المصرفية" بالقرار الجمهوري رقـم 335 لسنة 2019م، ألذي صدر إعمالاً لنص المادة رقم (10) من القانون رقـم 10 لـسنة 2009 لتنظ الرقابة على الأسواق والأدوات المالية غير المصرفية التي يجري نصتها على أن:
"ينشأ بقرار من رئيس الجمهورية مركز للتحكيم والتسوية في المنازعات التي تنشأ بسبب تطبيق أحكام القوانين الخاصة بالمعاملات المالية غير المصرفية، يجوز لأطراف المنازعة اللجوء إليه إذا ما إتفقوا إبتداءاً أو لاحقاً على تسوية النزاع عن طرق التحكيم وذلك كله مع مراعاة أحكام القوانين المصرية المنظمة للتحكيم وتسوية المنازعات.
ويصدر بالنظام الأساسي لمركز التحكيم وتسوية المنازعات وبتحديد القواعد والإجـراءات المنظمة له والرسوم التي يتقاضاها قرار من الوزير المختص".
وفي 2020/12/10 نشر في الجريدة الرسمية قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2597 لسنة 2020 بإصدار النظام الأساسي للمركز المصري للتحكيم الإختياري، على أن يعمل به من اليوم التالي لتاريخ نشره.
3- في طبيعة المركز:
تنص المادة الأولى من القرار الجمهوري رقم 335 لسنة 2019 على أن تكـون للمركـز شخصية إعتبارية مستقلة، دون أن تنص صراحة على نوع هذه الشخصية، أهي شخصية عامة أم خاصة، ولكن يستظهر بمراجعة باقي نصوص القرار أن: ألهيئـة العامـة للرقابـة الماليـة ("ألهيئة") – وهي هيئة إعتبارية عامة بحسب القانون المنشئ لها- هي التي توفر مقر المركـز وتجهزه، وأن مجلس أمناء المركز المصري للتحكيم يشكل من رئيس الهيئة رئيساً، ونائبين له وأربعة من الخبراء يصدر قرار بإختيارهم من مجلس إدارة الهيئة"، وأول مـصادر المـوارد المالية للمركز هو ما تخصصه له "ألدولة" أو "ألهيئة" من أموال و/أو أصـول وتكـون موازنـة المركز على نمط الموازنة العامة للدولة، وتبدأ سنته المالية وتنتهي مع الـسنة الماليـة للدولـة ويكون له حساب خاص لدى البنك المركزي ضمن حساب الخزانة الموحد، ويخـضع لأحكـام قانون المحاسبة الحكومية ألذي تسري أحكامه، طبقاً لنص المادة الأولى منه، علـى: "وحـدات الجهاز الإداري و... و... وكافة الأجهزة الأخرى التي تشملها الموازنة العامة للدولة... ويطلق على الوحدات والهيئات والأجهزة التي تسري عليها أحكام هذا القانون الجهات الإدارية".
كما أن المادة رقم (10) من النظام الأساسي للمركز الصادر به قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2597 لسمة 2020 تنص على أن يكون للمركز لجنة إستشارية تتكون من سبعة أعـضاء على أن يكون من بينهم عضوان من مستشاري مجلس الدولة يندبان وفقاً للأحكـام المنصوص عليها في قانون مجلس الدولة.
وتنص المادة (14) من النظام نفسه على أن يزود المركز بعدد كاف من العاملين بطريـق الندب من بين العاملين بالهيئة أو من خارجها.
إن ما سبق كله قرينة دامغة على أن المركز المصري للتحكيم الإختياري يتمتع بشخـصية إعتبارية عامة، وأنه في حقيقته تابع للهيئة العامة للرقابة المالية أي لأحد أجهزة الدولـة، وإن سكت المشرع عن النص على ذلك صراحة.
وتثير هذه التبعية شكاً كبيراً حول كفاءة وسرعة العمل في المركز، وهـو الـذي يرأسـه ويديره، كما يظهر من نصوصه، موظفون حكوميون، وينتدب للعمل فيه موظفون يعملـون فـي أجهزة الدولة، التي لا يخفى على أحد طبيعة العمل فيها والتعامل معها؛ فهو "ما قد علمتم وذقــتم وما هو عنها بالحديث المرجم". فالحقيقة الواقعية التي يعرفها كل من تعامـل مـع الأجهـزة الحكومية بأنواعها المختلفة في بلادنا، وغيرها من البلدان، أن السرعة في الأداء ليـسـت أحـد خصائصها، بل إن العمل فيها يمتاز – في أحيان كثيرة- بالبطء والتراخي. وإذ كانت السـرعة هي إحدى المزايا الأساسية للتحكيم، مما دفع المشرع المصري لأن يضمن قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 نصتاً لا مقابل له في القانون النموذجي- ألذي إحتذته لجنة مع عدم جواز أن تقـرر الهيئة منفردة إطالة هذه المدة بأكثر من ستة أشهر إلا إذا إتفق الأطراف على غير ذلك.
ولذلك فإن تكوين المركز المصري للتحكيم وإختيار موظفيه على النحو الذي نص عليه في قرار إنشائه ونظامه الأساسي سيتطلب من الجهة القائمة عليه أن ترتب لهم جميعاً برامج تدريب مكثفة عالية المستوى عن التحكيم. ألغاية من هذه البرامج المقترحة أن يتعرفوا على طبيعة نظام التحكيم، والأسس التي يقوم عليها، والقانون الحاكم له، والغاية المرجوة من اللجوء إليه، ليكـون بإمكانهم أن يقوموا بعمل المركز على نحو يساعد على إنجاحه، ويؤستس للثقة بـه فـي أوسـاط المؤسسات المالية بإعتباره مؤسسة تحكيمية قادرة على القيام بدورها بكفاءة وسرعة دون إخـلال بإحتياجات أطراف التحكيم ومتطلباتهم المشروعة التي من أجلها لجأوا إلى التحكيم إبتداءاً.
كما تثير تبعية المركز المصري للتحكيم للجهاز الحكومي مشكلة كبرى إذ تخل هذه التبعية بصفتي الإستقلال والحياد الواجب توافرهما في المحكمين ومركز التحكيم على حد سواء.
فإن للمركز المصري للتحكيم جداول وقوائم للخبراء والمحكمين المعتمدين، والمدير التنفيذي للمركز هو المسؤول عن إقتراح أو تسوية المنازعات، ويتولى مجلس أمناء المركز إعتماد هذه القواعد مقترحة، ويتولى الجهاز الإداري للمركز إعداد سجل إلكتروني يتضمن قوائم المحكمين والوسطاء.
ولا يتضح من نصوص النظام الأساسي من هي الجهة أو الشخص المنوط به تحديداً قبـول قيد الخبراء في هذه القوائم، ولكن المادة (87) من النظام الأساسي للمركز تنص على إختصاص مجلس أمناء المركز بتلقي التظلم المقدم من أي شخص إستبعد إسمه أو شطب من القيد في جدول المحكمين أو الخبراء والبت فيه، على أن يقدم التظلم في خلال خمسة عشر يومـاً مـن تـاريخ إخطار الشخص المعني بقرار شطبه أو إستبعاده -حسب الأحوال- أو علمه اليقيني به. إذا؛ فإن هناك جهة، لم يسمها النظام الأساسي للمركز هي صاحبة الإختصاص بشطب الأسماء وإستبعادها من الجداول المذكورة، ربما هي ذاتها الجهة المنوط بها قبول قيد الأفراد في قـوائم المحكمـين والخبراء المعتمدين، ألتي لم يحددها النظام الأساسي للمركز(!) .
وهذه كلها أعمال بالغة الأهمية إذ يتوقف عليها إمكان إختيار المرء وتعيينه محكماً أو وسيطاً تحت مظلة المركز؛ فالمادة (86) من النظام الأساسي للمركز تنص على أنه: "لا يجوز أن يكون محكماً أو وسيطاً في إجراءات تحكيم أو وساطة تتم وفقاً للقواعد المنصوص عليها فـي هـذا النظام إلا من كان مقيداً بالجداول المعدة لذلك بالمركز".
ومن ثم فإن استقلال الشخص الذي يعين محكما في ظل هذه القواعد وحياده يكونان محـل تساؤل وشك كبيرين، ولا أعني بهذا استقلال عن المركز فحسب بل عن الدولة أيضاً؛ إذ يتحكم في قيده، وشطبه أو إستبعاده من هذه القوائم والنظر في تظلمه من أي من هذه الأمور، ومـا يترتب على ذلك من إمكان إختياره محكماً موظفون منتدبون من الجهاز الحكومي أو أشـخاص يشرف على عملهم موظفو الدولة(!) إن ذلك يضع علامة استفهام كبيرة على حيـاد إجـراءات العملية التحكيمية التي تجري في ظل هذه القاعدة – أي ألمـادة (86) مـن النظـام الأساسـي للمركز- وعلى حياد القائمين بها. إن ذلك يدعونا إلى التساؤل عن جدوى وضع هـذه القواعـد والفائدة المرجوة من تقريرها. إذ يخل هذا التنظيم بضمانة إستقلال المحكمـين عـن المؤسـسة التحكيمية وهي مسألة فاصلة؛ إذ أن الثقة فـي المحكمـين – مـن حيـث الخبـرة والكفـاءة والإستقلال والحياد هي الباعث على إختيارهم وليس كونهم مقيدين في قوائم خبراء مركـز أو مؤسسة للتحكيم. ويختل ميزان هذه الثقة إذا كان تعيين المحكـم معلقـا علـى قبـول موظـف إداري - منتدب من أحد أجهزة الدولة- قيده في جدول المحكمين، خاصة أن الدولة نفسها كثيراً ما تكون طرفاً في التحكيم أو يكون لها مصالح – ظاهرة أو خفية- مترتبة على ما يقـضـي بـه حكم التحكيم.
وآية ضرورة إستقلال المحكمين، بل ومركز التحكيم نفسه، عن الدولة وأجهزتها الحكوميـة لينجح في أن يصبح ملجاً موثوقاً به للمتنازعين لتنظيم وإدارة فض منازعاتهم – آيـة ذلـك أن منظمات التحكيم الأكثر نجاحا وشهرة في العالم هي منظمات مستقلة عن حكومات البلاد التـي تمارس أنشطتها التحكيمية على أراضيها، فلا تتبع تلك الدول من أي وجه كان. فنجـد – علـى سبيل المثال- أن غرفة التجارة العالمية ICC هي منظمة غير حكومية أنـشأها مجموعـة مـن التجار بعيد الحرب العالمية الأولى، ما زالت تتمتع بإستقلالها حتى الآن رغم منحها صفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2016م. أما محكمة لندن للتحكيم الدولي فهي شـركة لا تهدف للربح ذات مسؤولية محدودة، أي أنها شخص إعتباري من أشخاص القانون الخاص وعلى المستوى الإقليمي نجد أن مركز تحكيم دبي هو هيئة مستقلة دائمة غير ربحية، فإذا يممنا وجهنا شطر القاهرة نفسها نجد أن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي – وهو مركز التحكيم الأكثر شهرة ونجاحاً في مصر- هو منظمة دولية مستقلة لا تهدف للربح، وكذا الحـال في جميع مؤسسات التحكيم ومراكزه التي تمكنت من نيل ثقة أصحاب الأعمـال والمتنـازعين للإستعانة بها في فض المنازعات.
لذلك نقول: إن تبعية المركز المصري للتحكيم لأجهزة الحكومة المصرية على النحو الذي تقطع به نصوص القرارات المنشئة له والمنظمة لعمله- يلقي بظلال ثقيلة على إحتمـال نجـاح المركز في أن يوجد لنفسه موطئ قدم ثابتاً على الساحة العملية المزدحمـة وأن يـؤدي الـدور المرجو منه في مجال فض المنازعات المالية غير المصرفية.
فلا بد – في تقديرنا - من إعادة النظر في هذا التنظيم القانوني للمركز المـصري ولكيفيـة إختيار العاملين به من موظفين إداريين ولجنة إستشارية ومجلس أمناء ليتسق ذلك كله مبـدأ الحياد والإستقلال الذي يتطلبه نظام التحكيم والمحتكمون في المحكمين وفي مراكز التحكيم علـى مع السواء.
4- إختصاص المركز المصري للتحكيم:
تنص المادة الثانية من القرار الجمهوري رقم 335 لسنة 2019م ألـسالفة الإشارة إليـه على أن:
"يختص المركز بالتحكيم وتسوية المنازعات التي تنشأ بسبب تطبيق أحكـام القـوانين الخاصة بالمعاملات المالية غير المصرفية، وعلى الأخص التي تنشأ فيما بين الـشركاء، أو المساهمين، أو الأعضاء في الشركات والجهات العاملة في مجال الأسـواق الماليـة غيـر المصرفية، سواء فيما بينهم، أو بينهم وبين تلك الشركات والجهـات، وكـذلك منازعـات المتعاملين أو المستفيدين من الأنشطة المالية غير المصرفية تلك الشركات والجهـات بمناسبة مباشرتها لنشاطها، وذلك بمراعاة أحكام القوانين المصرية المنظمة للتحكيم وتسوية مع المنازعات."
لقد حصر المشرع –إذا - إختصاص المركز في المنازعات المالية غير المصرفية، وحددها بتلك التي تنشأ عن تطبيق أحكام القوانين الخاصة بتلك المعاملات. ويلاحظ أن القرار لم يتضمن قائمة بتلك القوانين، ويحمد ذلك للمشرع نظراً لتشعب الأعمال المالية وتنوعها وسرعة تطورهـا وتغيرها، وما ينتج عن ذلك –حتماً- من وضع تشريعات جديدة تنظم ما يطرأ من أنواع جديـدة منها أو إحتمال أن تلغي قوانين معينة لخروج ما تنظمه من معاملات من السوق الـواقعي أو أن يستبدل بها أحدث منها يناسب التغير في المعاملات المالية. ومن ثم فإن وضع قائمـة حـصرية بالقوانين المنظمة لتلك المنازعات يوقع القائمين على أعمال المركز، والمحكمين المعينــين فـي ظله، في حرج إذا تبين لهم بعد البدء في نظر منازعة ما أنها تخرج عن نطاق القوانين التي تحدد نطاق إختصاص المركز، ومن ثم إختصاص هيئات التحكيم التي تشكل وتمارس عملها في قواعده.
ولكن لا يتبين لنا من النص السابق، ولا من غيره من النصوص ألـواردة فـي القـرارات المنشئة والمنظمة لعمل المركز، ألعلة التي من أجلها إستثنى المشرع المعاملات المالية المصرفية من إختصاص المركز المصري للتحكيم الإختياري. إذ البنوك لاعب أساسي في مجال المعاملات المالية ومنها -على سبيل المثال لا الحصر - التمويل والإستثمار والإقراض، ومن حقهـا طبقـاً لقانون البنك المركزي المصري أن تشتري حصصاً في الشركات المختلفة ومن بينها تلك تقوم بالمعاملات المالية ألواقعة في نطاق إختصاص المركز المصري للتحكيم.
ولا يماري مشتغل في مجال المعاملات المالية في أن تتشابك وتتداخل في الواقع العملي مع المعاملات المصرفية، وإذا أمكن الفصل بينهما من حيث النظرية فإن التطبيق يختلـف؛ فـسيجد المحكم والمحتكم أنفسهم أمام منازعات متشابكة يتعذر أو يستحيل الفصل بينها، فتضطر هيئـة التحكيم، التي شكلت تحت مظلة المركز المصري للتحكيم، إلى القضاء بعدم إختصاصها بنظـر بعض المنازعات التي تتصل إتصالاً وثيقاً بتلك المنازعات التي تدخل في نطاق سلطتها. ويكون القضاء بذلك واجباً عليها على الرغم من تيقنها أن الفصل فيها من قبل هيئة واحدة هـو الحـل الأوفق والأكثر رعاية لحقوق المحتكمين ومصالحهم، بسبب النص الذي أخرج المنازعات المالية المصرفية – دون علة واضحة تبرر هذا التمييز - من نطاق إختصاص المركز المصري للتحكيم وقصره على المنازعات المالية غير المصرفية.
ولا نزداد إلا حيرة إذا علمنا أن المادة (223) من القانون رقم 194 لسنة 2020 بإصـدار قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي في مصر، تنص على أن: "ينشأ مركز مستقل للتحكيم والتسوية في المنازعات التي تنشأ بسبب تطبيق أحكام هذا القانون والقـوانين ذات الصلة بالمعاملات المصرفية وغيرها من الأنشطة التي تباشرها الجهات المرخص لها، وتكـون لـهـذا المركز شخصية إعتبارية وميزانية مستقلة... ويجوز لأطراف المنازعة اللجوء إلى المركز إذا ما إتفقوا إبتداءاً أو لاحقاً على تسوية النزاع عن طريق التحكيم أو التسوية... وذلك مع مراعـاة القوانين المصرية المنظمة للتحكيم وتسوية المنازعات".
فالمشرع المصري، على مقتضى هذا النص، قد قرر صراحة جواز التحكيم في المنازعـات الناشئة عن المعاملات المصرفية – أي المنازعات التجارية والمدنية لا الجنائية بطبيعـة الحـال - وقرر إنشاء مركز تحكيم يختص بها. أفلم يكن الأجدر بالمشرع وأقرب لتحقيق مصالح المتنازعين أن يكون هناك مركز واحد يختص بالمنازعات المالية كافة، مصرفية أم غير مصرفية(؟!) .
إن جل ما نخشاه هو أن يكون لهذا الإختـصاص المـضيق للمركـز المـصري للتحكيم الإختياري أثر سلبي على نشاطه، هو إحجام المتنازعين عن اللجوء إليه في منازعتهم الماليـة، وأن يلجأوا إلى مراكز أخرى لا تقيد قواعدها إختصاص هيئة التحكيم الموضوعي وتترك تحديد ذلك إلى الأطراف أنفسهم ليقرروه وفق ما يحقق مصالحهم كما يرونها هم.
ويؤيد رأينا هذا أن مؤسسات التحكيم الدولية القديمة منها والحديثة المختصة بالمنازعـات المالية، لم تتبن هذا التمييز بين المنازعات المالية غير المصرفية والمصرفية في تحديـد نطـاق الإختصاص بنظر المنازعات أو إدارتها. فهذا التمييز معياره شخصي، لا يجـد سـنده إلا فـي شخص مقدم الخدمة دون النظر إلى طبيعتها وتفاصيلها، وهو تمييز لا يتبين من مطالعة قواعد مركز القاهرة للتحكيم الإختياري ما يجنيه منه المحتكمون من فائدة تدعوهم إلى تفضيل المركـز المصري للتحكيم على ما سواه من مراكز تحكيم لا يوجد فيها هذا النوع من التمييز الذي لا نتبين حكمته من النصوص الصادرة به.
وجدير بالملاحظة أنه لا يزال بإمكان المشرع، أن يستدرك هذا الأمر؛ بأن يعدل -غـداً، لا بعد غد - من إختصاص المركز المصري للتحكيم الإختياري بأن يدخل فيه المنازعـات الماليـة المصرفية، وأن يصدر قراره هذا بإشارة إلى نص المادة (222) من قانون البنك المركزي سالف الذكر. فإن فعل، كان هذا التعديل مظنة تحقيق رواج أكبر لمركز التحكيم المـصري، ورعايـة مصالح المتقاضين وتوحيد جهود الخبراء في هذا المجال، وتوفير النفقات الكبيرة التي ستنتج عن إنشاء مراكز التحكيم المختلفة التي تتداخل مجالات إختصاصها دون فائـدة واضـحة يجنيهـا مستخدمو هذه المراكز من ورائها.
5- قواعد التحكيم الخاصة بالمركز:
لقد استقي السواد الأعظم من قواعد التحكيم الخاصة بالمركز المصري للتحكيم الإختيـاري من قواعد التحكيم الخاصة بمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، وأقلها من نصوص قانون التحكيم المصري، وهذا توجه صائب من المشرع.
إذ إن أحد العوامل الأساسية التي تجعل المحتكمين يقررون اللجوء إلى مركـز أو مؤسـسة تحكيم دون سواها هو أن "قواعد التحكيم المؤسسي تكون معدة بشكل كامل مـن قبـل جـهـات متخصصة وتكون مجربة سلفاً وأثبتت التجربة نجاحها على نحـو يطمـئـن الخـصوم إلـى أن تحكيمهم سوف يمضي في الطريق المرسوم له. ولا مراء في أن قواعـد مـركـز القاهرة الإقليمي قد أثبتت نجاحها وقدرتها، عبر عقود من الزمان، على أن تبلغ بالمنازعـات التحكيميـة غايتها ألا وهي إصدار الحكم التحكيمي المنهي للخصومة.
ولكن المشرع عاد فنقض غزله من بعد قوة أنكاثاً بإدخال تعديلات متعـددة علـى نـصوص قواعد مركز القاهرة للتحكيم عند إعتمادها قواعد للتحكيم في المركز المصري للتحكيم الإختياري. إن معظم هذه التعديلات لم تضف جديداً إلى مضمون القواعد، وبعضها كان مجـرد تغييـر فـي أماكن الفقرات في المادة الواحدة، أو إفراد حكم معين بمادة مستقلة بعد أن كان جـزءاً مـن مـادة أخرى في قواعد مركز القاهرة. ومما يؤسف له أن بعض هذه التعديلات جاء في مواضع شـديدة الأهمية مغيراً تعبيرات قانونية إستقر" معناها في فهم الممارس للتحكيم والمستخدم له واضعة بـدلاً عنها تعبيرات لا يتبين على وجه التقة ألمقصود منها، ولا نعرف لم إستخدمت هـي ومحـي إستقر عليه فهم الناس من عبارات إصطلح عليها الفقه والقضاء فـي الـنظم القانونيـة. إن هـذه التعديلات – إتفقنا مع المحكمة حول إدخالها أم إختلفنا- تنزع عن قواعد المركز المصري للتحكيم الإختياري مزية "ألقواعد المجربة"، التي يثق الناس بنجاحها، وتدفعهم دفعاً للتساؤل عـن التعـديل الذي طرأ على معنى القاعدة نتيجة هذا التغيير في لغة صياغتها، ولا يستبعد أن يتسبب هـذا ترتد المحتكمين في اللجوء إلى المركز المصري للتحكيم خشية فقدان مزية القواعد المجربة.
نضرب مثلاً واحداً لهذه التغييرات التي جاءت في مواضع مهمة من القواعد، وهـو نـص المادة (38) من قواعد المركز المصري التي تجري على أن: "تباشر هيئة التحكيم إجراءاته وفقاً للطريقة التي تراها مناسبة في هذا الشأن شريطة أن تعامل الأطراف بذات المعاملة وأن تهيئ لكلّ طرف في مرحلة مناسبة من الإجراءات فرصـة متكافئـة وكاملـة لعـرض دعـواه ودفاعـه ودفوعه..."، ويقابلها نص المادة (17) من قواعد مركز القاهرة الذي يجري على أنه: "... لهيئة التحكيم ممارسة التحكيم بالكيفية التي تراها مناسبة، شريطة أن تعامل الأطراف على قدم المساواة وأن تهيئ لكل طرف فرصة متكافئة وكاملة لعرض دعواه".
إستخدمت قواعد المركز المصري عبارة "بذات المعاملة" عوضاً عن عبـارة "علـى قـدم المساواة" التي إستخدمت في قواعد مركز القاهرة الإقليمي. وعبارة على قدم المساواة عبـارة قديمة، صكها القضاء والفقه، وتواترت على شرحها الأحكام والمراجع القانونيـة، فتألفهـا الأذن القانونية وتعرف المقصود منها بلا مزيد جهد ولا كبير عناء. فالمقصود بهـا هـو "أن يمـنـح الخصوم فرصاً متساوية لإبداء دفاعهم وطلباتهم. وعلى ذلك فإنه لا يجوز لهيئة التحكيم أن تمنح أحد الطرفين ميعاداً لتقديم مذكرة بدفاعه، وتمنح الطرف الآخر ميعاداً أطول أو أقـصر. ولا أن تسمح لممثل أحد الطرفين بالمرافعة الشفهية أمامها، وتمنع الطرف الآخر، من ذلك مكتفيـة بمـا قدمه من دفاع مكتوب. ولا أن تمكن أحد الطرفين دون الآخر من الإطلاع على تقرير الخبير، أو على المستندات المقدمة في الدعوى. ولا يجوز لهيئة التحكيم أن تتصل بأحد الطرفين أو تقابلـه في غيبة الطرف الآخر. ولا أن تأذن لأحد الطرفين بتوكيل محام عنه أو بحـضـور شـخص ذي خبرة فنية لمساعدته أمامها، ولا تمنح الطرف الآخر هذا الحق .
أما عبارة ذات المعاملة فلا يعرف المقصود منها قانوناً، ولا يتضح منها ما يجـوز لهيئـة التحكيم أن تقوم به أو ما يجب عليها أن تمتنع عنه بمقتضاها. فهل يجوز لها - مثلاً - أن تقابـل أحد الخصوم وتستمتع لبعض حججه ودفاعه في غياب الطرف الآخر، إذا هي قابلت ذلك الأخير في غياب الخصم الذي التقته أولا؟ إن هذا المسلك هو مما ينطبق عليه وصـف الذات المعاملـة" التي نصت عيها المادة (38) من قواعد التحكيم الخاصة بالمركز المصري للتحكيم، ولكن هذا لا يجوز بحال من هيئة تحكيم تنظر دعوى تحكيم طبقا للقانون المصري، بل إن الهيئة إن فعلت هذا بطل حكمها لبطلان إجراءاته، ذلك على الرغم من أن الهيئة قد التزمت بأن تعامل الأطراف ذات المعاملة كما تطلب نص المادة (38) المذكورة.
وما يضاعف الأثر السلبي المحتمل لهذه التغييرات أنه يغلب على تشكيل هيئات التحكيم التي تنظر هذه النزاعات التخصص الفنى لا القانوني، بل يحتمل أن يغيب عنهـا العنـصـر القـانوني تماماً، فيكون أعضاؤها متخصصين في المعاملات المالية والمصرفية، ولا يكونون، بالضرورة، ملمين بالقواعد الإجرائية والقانونية الواجب إتباعها في التحكيم، ومن ثم لا يكون بعيد الإحتمـال أن يقعوا في أخطاء تؤدي إلى بطلان حكمهم بسبب غموض عبارات من هذا القبيل أضيفت إلـى قواعد المركز دون تحرير معناها وبيان المقصود منها.
ألأمر الآخر الجوهري، ألذي لا ينقضي منه العجب، هو الحكم الذي يقـرره نـص المـادة (86) من النظام الأساسي للمركز، ألا وهو أنه يمتنع على كل من لم يقيد فـي هـذه القـوائم ممارسة التحكيم وفقاً للقواعد المنصوص عليها في ذلك النظام. وسـبب العجـب أن التحكـيم قضاء خاص أساسه إرادة الأطراف التي تعلو على كل إرادة في إختيار كل شيء فيهبإستثناء قواعد النظام العام في مكان التحكيم. فالقوانين الحديثة كلها قد قننت "ألمبدأ الأساسي في تكـوين هيئة التحكيم، وهو الرجوع إلى إرادة الأطراف الذين يشكلون الهيئة ويختارون أو يصنعون ما تخضع له من أحكام إجرائية وموضوعية.... فهذا المبدأ هو أحد المزايا الكبرى التي تـدعو المؤسسات المالية، وكل محتكم آخر، إلى سلوك سبيل التحكيم بدلاً عن الجـوء إلـى المحـاكم الوطنية، وهو قدرتها في ظل على أن تكل الفصل في منازعاتها إلى شخص تثـق فـي كفاءتـه ونزاهته وحياده.
وقد جاء في تقرير لجنة غرفة التجارة الدولية عن المؤسسات الماليـة والتحكـيم الـدولي (2016) مؤيداً لذلك الرأي، إذ وجد في إستطلاع أجرته الغرفة، لخص هذا التقرير نتائجه، أنـه: "ينظر إلى القدرة على تعيين محكمين من ذوي الخبرة في قطاعات معينة على أنها مزية رئيسية للتحكيم في الأعمال المصرفية والمسائل المالية".
إن حكم المادة (86) يجرد المتنازعين من حقهم في إختيار من يرتضون بـإرادتهم الحـرة ليفصل في منازعاتهم، إلا أن يكون هذا الشخص مقيداً في قوائم المركز، فجعلت إختيار المحكمين جبراً عن المحتكمين -جزئياً على الأقل- فهي بذلك تخلق نظاماً جديداً يحمل من التحكيم إسمه لا رسمه، خاصة وأن التمعن في تفاصيل قواعد المركز المصري للتحكيم يبين أن إرادة المحكمـين مقدمة في مواضع عدة منها على إرادة الأطراف33، مما يزيد من أهمية أن يتمكن أطراف التحكيم من إختيار محكميهم بإرادة حرة خالية عن كل قيد سوى ما وضعوه هم أو نصت عليه القواعـد الآمرة في قانون مكان التحكيم.
6- وختاماً، متى يبدأ المركز في مباشرة أنشطته؟
لقد خلا النظام الأساسي للمركز من ذكر التاريخ الذي يشرع فيه المركـز فـي ممارسـة أنشطته المختلفة، أو الذي يكتمل فيه تشكيل مجلس أمنائه وإختيار رئيسه التنفيذي وتعيين موظفيه الإداريين، أو إعداد قوائم المحكمين المعتمدين والخبراء الذين يجوز لهم ممارسة أعمال الوساطة والتسوية في ظل قواعده. إن هذه كلها أمور أساسية لمن يريد اللجوء إلى المركـز فـي شـأن منازعاته المالية أو فهم كيفية ممارسته لأنشطته والمساهمة فيها بل والتقدم للقيد في قوائم محكميه وخبرائه. فيتعين الإعلان عن مواعيد ذلك كله على وجه السرعة ليكون هذا شاهد علـى كفـاءة العمل به والقائمين عليه وتخييباً لكل تشكيك في قدرته على القيام بالمهام التي أنشئ من أجل القيام بها.
** ** ** *
لقد بينت في هذا التعليق بعض ما بدا لي في القراءة الأولى لقواعد المركز المصري للتحكيم الإختياري من مسائل تستأهل – بل أظنها تستوجب- ألمراجعة والتعديل، لتعارضها مـع فلـسـفة نظام التحكيم ذاته ومع المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها، مع التأكيد على حيازته – أي المركز المصري- قصب السبق، في مصر، في التخصص في المنازعات المالية، دون الوقوف عنـد الأمور الأقل أهمية، التي يمكن إستدراكها عند تبين أوجه القصور أو العيب فيها في أثناء سـير العمل في المركز.
وليس هذا التعليق والنقد – مني – إلا حرصاً على أن يحقق المركز المساهمة الجادة المرجوة منه في مجال تسوية المنازعات المالية بالكفاءة التي تدعو للثقة فيه وفي القائمين عليه، وتساعد على تكوين الخبرات الوطنية الضرورية في مجال منازعات المعاملات المالية والمصرفية ليتبوأ هذا المركز، بذلك، ألمكانة التي هو جدير بها في مجال التحكيم الوطني والإقليمي،