الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / القوانين الأوربية والأمريكية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 11 / ما الذي يجري في فرنسا حول الاستوبل؟ (تعليقا على المنحى القضائي والتشريعي المستجد من "الإستوبل"  Estoppel)

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 11
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    135

التفاصيل طباعة نسخ

    عود على بدء، مع فكرة عدم التناقض وما تدعو إليه من إحترام الأقوال والتعهدات والإنسجام مع الغير والذات والثبات في المواقف والسلوكيات، بصور تكريسها المتنوعة وبخاصة "الإستوبلية" منها داخل النظم وخارجها، "شاغلة الدنيا"، إلى حد "أربكت" الحقوقيين، و"إجتاحت" لوائح المحامين، و"إقتحمت" قصور العدل بلا إستئذان، فارضة وجودها، محصنة موقعها، مؤكدة دورها – ولو إلى حين

    لا شك في أن "الشغف الغريب" بالإستوبل بخاصة لدى مريديها لم ينطلق من فراغ أو من "عشق أعمى" لكل ما هو أجنبي لمجرد أنه أجنبي – أقله هذا ما أقنعنا أنفسنا به – بل يعود الى مآثر مهمة منتظرة من إعتمادها، لذا نعتقد، أن الأوان آن، بعد كل ما قيل ويقال عن "الإستوبل"، للفت النظر إلى مستجدات قضائية وتشريعية تستحق التأمل ملياً في أبعادها وإرتداداتها داخلياً ودولياً، ولا سيما لدى النظم التي تحذو حذو النظام القانوني الفرنسي.

    ولا نود أن يفهم من وقع كلامنا، أننا من رافضي الإستوبل بالمطلق، كما أننا، حكماً، لسنا من "المتيمين" بها بالمطلق، فلا ضير، بعد الدرس والبحث والتحليل والتدقيق، من الجهر بضرورة إعتمادها إذا وجد فيها تمايز يفيد، أو من الإعتراف بتعذر إعمالها، إذا وجد بديل منها يغني من كل جديد... فالثابت أن أدوات الماضي لا تصلح بذاتها لحكم روابط الحاضر أو المستقبل إن لم يطلها تحديث وتبديل وتطوير... والمسألة أبعد من مجرد الرفض والتأييد.. كما أنها – والحق يقال – لا تتصل "بأسبقية الوجود القانوني" في النظم – عربية كانت أم أجنبية – دون إهمال دلالات ذلك على مستوى رقي الحضارات المؤثرة بطبيعة الحال في بنية وتركيبة القواعد القانونية المتفاعلة مع البيئة ومقتضياتها وأحوالها.. ليست المسألة مسألة "فخر" للشرق أو "تقدم" للغرب في سباق مكتشف قانوني.. ليست مسألة "تقليد" أو "إقتباس" أو "تصدير" أو "إستقبال" أو "تحفظ" أو "تبعية" أو "تعصب" أو "تفوق" أو "إستعمار قانوني" مهما لطفت العبارات وإستنسخت المصطلحات.. المسألة في جوهرها "حوار" حضارات وثقافات... و"تعايش" مفاهيم ومعتقدات.. و"أولوية" مستلزمات تقنية فنية لمواجهة جديد إيقاع الحياة... هي كذلك... وستبقى حكماً.

فكرة "عدم التناقض" interdiction de se contredire... أنموذج حوار بين الثقافات القانونية:

   لا شك أن اللغات كائنات حية نامية.. أن تجددت عاشت.. وإن جمدت ماتت.. وعلى قدر توفيقها في المزاوجة بين الحفاظ على تراثها ومسايرة زمانها وإحتياجاته تكون حظوتها من الحياة.. والقانون ظاهرة إجتماعية تتكيف وفقاً لمقتضيات البيئة والزمان والمكان... فالملاحظ أن كثيراً من النظم القانونية الحالية يعتبر في الواقع "تهذيباً" لنظم قانونية سابقة... لذلك لدرس جديدها لا بد من فهم القديم وتفهم أسباب تطوره وإذا تأملنا بدقة في الخارطة الجغرافية القانونية، سندرك، بدون أدنى شك، أهمية فكرة "عدم التناقض" كحقيقة وضعية ثابتة من مسلتزمات الأمن القانوني وإستقرار التعامل. فهي لم تكن ولن تكون حبيسة حقبة قانونية معينة أو أسرة قانونية محددة أو فرع قانوني بذاته، بل "توارثتها" النظم على امتداد الحقبات التاريخية حتى العصر الحاضر يدلل على ذلك الإهتمام المحلي والدولي على نحو ما تفيده الجولات، بل والسجالات الفقهية والتشريعية والقضائية التحكيمية منها حيث برزت بقوة بصورتها "الإستوبلية"

   وهذا ليس بمستغرب.. فهل من المنطق والمقبول أن لا "يترجم" مطلق نظام قانوني تقنياً فنياً في اللغة القانونية واجب الثبات على الأقوال والتصرفات وإحترام الوعود وحسن النية في تنفيذ العقود؟ وهل من نظام قانوني لا "يحاسب" من يخون الثقة وينكث العهود؟ أو لا "يصحح" بصورة متلازمة مفاعيل التصرف الشاذ عن منطق المألوف قبل منطق القانون؟ أوليس بالصدق نأمن التناقض، فلا نقول ما لا نعتقد، ولا نعتقد ما لا نؤمن، ولا نعالج ما لا نعلم، ولا ننتقد ما لا نفهم، ولا ندعي ما لا نثبت؟

    يلحظ المتتبع لأصول "الإستوبل" التاريخية أنه عرف بصياغات متنوعة ودرجات متفاوتة وتسميات متعددة تفيد عن المعنى نفسه رغم إختلاف المصطلح والمبنى. فلرب فكرة بدت جديدة مبتكرة في حين أن الأسلاف إهتدوا إليها من قبل وأبرزوها في صورتها الحاضرة أو في صورة أخرى تبتعد عنها بعض البعد.. ما يهمنا الإشارة إليه في هذا المجال، أن القول بأن النظم القانونية العربية لم تعرف فكرة "الإستوبل" يعوزه الدقة.. صحيح أن المصطلح (إستوبل) أجنبي ولم يشر إليه لا نصاً ولا إجتهاداً، إلا حديثاً، إلا أن المعنى القاضي بمنع التناقض في الأقوال والسلوكيات والرجوع عن العهود يكاد يكون مماثلا في النظم القانونية العربية، إن في الحقبة العثمانية حيث ورد في مطلع مجلة الأحكام العدلية عام 1876 ميلادية، التي تعتبر حدثاً هاماً في تاريخ التشريع في البلاد الإسلامية، مجموعة من المبادىء العامة القانونية بلغت المائة أطلق عليها "القواعد الكلية" ومن تلك القواعد الكلية، ما يتعلق بالتناقض في الأقوال والتصرفات في مسائل الإثبات ومنها المادة 100: "من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه" ، أو حين إستقلت البلاد العربية وأفردت نظماً خاصة بها تتفق مع الحالة التي أصبحت عليها فكرست قاعدة الصدق في الإلتزام ومنع التناقض في الأقوال والتصرفات، صراحة في متن القوانين الوضعية العربية أو ضمنا عبر الإحالة الى مبادىء الشرع الإسلامي وسواها من مصادر أساسية للقاعدة القانونية. إلا أن الإجماع على دور وأهمية فكرة عدم التناقض بصورتها الإستوبلية خاصة لم ينعكس توافقاً على المفهوم والنظام القانوني، بل تباين حاد تلمسناه بدقة ليس فقط بين الأسر القانونية (سواء أكانت لاتينية جرمانية، إنكلوسكسونية، مختلطة..) بل ضمن نظم الأسرة الواحدة: من جدلية في أسبقية الوجود القانوني... إلى تباين في التوصيف. والتعريف... والشروط... والإستقلالية... والطبيعة... والأساس القانوني... والمفاعيل... وميادين الإعمال الصريح تارة والضمني طوراً مما يدفع الى التساؤل – بحق – عن "أعجوبة" إعتمادها إزاء كم من إتجاهات ونزاعات وأزمات وتحفظات وإنقسامات "رافقت" ولادتها وما زالت "تنقل" بلورة بنيتها على امتداد المحطات التاريخية والحقبات القانونية والاجتهادية..

جديد منحى القضاء العدلي الفرنسي... أخيراً.. تعريف الإستوبل الفرنسية... وتثبيت ستقلاليتها:

    بالإجمال، نتلمس لدى النظام القانوني الفرنسي "معالجة دقيقة خاصة" للسلوكيات المتناقضة عبر إعمال مبدأ "عدم التناقض إضراراً بالغير "تارة أو الأخذ بمصطلح "الإستوبل" بذاته، إنما ليس بمفهومه الإنكليزي – ولا سيما لجهة "التعديل في الموقف" كأحد الشروط الأساسية لإعماله، بل عبر "التشديد" على توافر "السلوك التناقضي الضار". وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على "خروج واضح" عن حالة "التردد" و"الحذر" في قبول "الإستوبل"... فالنظام القانوني الفرنسي قد حقق بذلك نوعاً من "المواءمة" بين خصوصيات بنية الداخل وأدواته التقنية الفنية، من جهة، و"مرتبة" "التحكيم التجاري الدولي"، من جهة أخرى، والتي تتطلب – بطبيعة الحال – منه وسواه من نظم قانونية، بعض "التنازلات" التي تترجم في عدم فرض المفاهيم الوطنية الخاصة لصالح بلورة أرضية مشتركة بين مجمل النظم القانونية تعكسها – بوضوح "المبادىء العامة" لدى مجتمع التجارة والأعمال. –

    لا شك أن لمحاكم الإستئناف الفرنسية من روان Rouen إلى باريس Paris دوراً محورياً في "الإستقبال القضائي التدريجي" للإستوبل.. ورغم مساهمتها الجلية في "إنطلاقة" "تغلغل" المفاهيم الإنكلوسكسونية، إلا أنها بقيت "ثابتة" على إحترام الخصوصية الفرنسية، فكرست "إستوبل فرنسية مبتكرة" في منحاها "المتوقع" في تصويب مسار الروابط القانونية عامة، بما يضمن التجانس في المواقف والسلوكيات خاصة، مكتفية بتوافر "السلوك التناقضي الضار" بمعزل عن شرط "التعديل في الموقف" المترتب على فعل التناقض

    كما أن لمحكمة التمييز الفرنسية، منذ عام 2005، دوراً في تثبيت "إختراق" الإستوبل للثقافة القانونية الفرنسية، وقد عبر عن ذلـك بوضـوح الفقيـه Philippe Pinsole بقوله: on est en présence d'une réalité. فالقرارات التمييزية ذات الصلة تعتبر بحق نوعية لكونها بغالبيتهـا "تكرس "الإستوبل" في الإجتهاد التحكيمي الفرنسي كمبدأ مستقل فـي قــانون التجـارة الدوليـة و"جريئة" و"ملفتة" و"تدعو" الى الإستغراب" لإشارتها إلى المصطلح الإنكليزي بذاته بمعزل عـن أي رديف له في النظام القانوني الفرنسي .

     فلقد إنتهزت محكمة التمييز الفرنسية، بحسب المحامي Ortscheidt، الفرصة لتعلن بوضوح "الإستوبل" كقاعدة جوهرية في التحكيم صالحة للتطبيق في كل مسار تحكيمي يتصل، بشكل أو بآخر، بالنظام القانوني الفرنسي.. وأيده في ذلك المحامي Pinsolle الذي وجد في المنحى التمييزي المعتمد سعياً واضحاً لـ "إدخال" الإستوبل في القانون الفرنسي، إنما في ظل ضوابط وأطر محددة ترتكز، في جوهرها، على معاقبة "عدم التجانس" في المواقف والتصريحات والسلوكيات من جهة وعدم "إقصاء" وسائل عديدة يغتني بها النظام الفرنسي من جهة أخرى، فحبذا إستيعاب "الإستوبل" ضمن مجموعة الأدوات الإجرائية الفرنسية الهادفة قبل كل شيء لحماية الثقة المشروعة .

    إلا أن ما يسترعي الإنتباه، بحق، مدلولات القرار الصادر عن الغرفة المدنية الأولى لمحكمة التمييز الفرنسية في 3 شباط 2010 الذي يتميز، بتعريف واضح للإستوبل (لأول مرة) من جهة وتأكيد إستقلاليته عن العدول من جهة ثانية، والذي نعتقد أنها مهدت له بقرارها الصادر عن هيئتها العامة في 27 شباط 2009 حيث أكدت على إمتداد تطبيقه في مجمل الأصول المدنية، مشددة على دورها المحوري في الرقابة على توافر شروط إعماله .

وتتصل وقائع القضية بالآتي:

    أبرمت الشركة الفرنسية Merial عقداً مع الشركة الألمانية Klocke يتضمن بنـدأ تحكيميـاً يلحظ اللجوء إلى تحكيم غرفة التجارة الدولية. وإثر صعوبات طرأت أثناء تنفيذ العقـد، تقـدمت شركة Merial لدى هيئة التحكيم بطلب إستيفاء المبالغ المستحقة لها والذي قبل جزئيـاً بقـرار تحكيمي صادر بتاريخ 22 شباط 2007 بسبب مقاصة أجريت بناء على طلب مقابل تقدمت بـه شركة Klocke، والذي أعلن قبوله بموجب أمر إجرائي. فتقدمت شركة Merial لـدى محكمـة إستئناف باريس بطلب إبطال القرار التحكيمي الصادر لمخالفته الفقرتين الأولى والثالثة من المادة 1502 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي الجديد متذرعة بأن صك المهمة يحصر دور المحكمين بالنظر في الإلتزامات التعاقدية في حين أن الطلب المقابل يستند الى أساس تقـصيري. بتاريخ 9 تشرين الأول 2008، ردت محكمة إستئناف باريس طلب الإبطال مستندة الى الإستوبل لعدم منازعة شركة Merial في الأمر الإجرائي الصادر أثناء المراجعة التحكيمية ولا سيما قبـل توقيعها محضر الجلسة التحكيمية بتاريخ 12 أيار 2006 الذي تقـرر فيـه إختتـام المحاكمـة التحكيمية. إلا أن محكمة التمييز الفرنسية بقرارها الصادر بتاريخ 3 شباط 2010 رفضت التحليل الإستئنافي مؤكدة مخالفة القرار التحكيمي للمادتين 1502 (الفقرة الثالثة) و 1504 مـن قـانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي الجديد ، معللة ذلك بالآتي:

   "...إن السلوك الإجرائي لشركة Merial لا يشكل تعديلاً في الموقف من شأنه أن يوقع شركة Klocke في الغلط بشأن نواياها.. وبالتالي لا يشكل إستوبل. ومن جهة ثانية، إن عدم منازعة شركة Merial بشأن قبول الطلب المقابل لشركة Klocke بين صدور الأمر الإجرائي بتاريخ 12 نيسان 2006 وتوقيع محضر إختتام المحاكمة التحكيمية بتاريخ 12 أيار 2006، لا يشكل بحد ذاته عدولا عن التمسك بعدم القبول في سياق مرحلة الإبطال..".

    لقد كان على محكمة التمييز، بحسب الفقيهة Weiller، أن تحدد كيفية محاسبة فعل التناقض ففرضت من خلال قرارها التمييزي الأخير بعض المعايير والضوابط اللازمة لإعمال الإستوبل أقله في القانون الفرنسي. إذ تهدف (أي الإستوبل) لدى الإنكليز خاصة لحماية الثقة المشروعة لأحد الأطراف درءا لإرتدادات السلوك المتناقض على الطرف الآخر، في حين يركز النظام القانوني الفرنسي عامة على تكريس موسع لمبدأ التناسق والإستقامة الإجرائي... فلا مجال لحماية الثقة الخائبة، بل لا بد من معاقبة التناقض.. فالقانون لا يكافئ سيء النية... وعليه، نعتقد أن الرسالة وصلت بوضوح لقضاة الأساس. فقد حدد لهم هذا القرار الذي استبعد الأخذ بالإستوبل، معالم طريق إستعمالها، إن لجهة التثبت من التعديل في الموقف القانوني ܟܠ الأطراف أو لجهة التأكد من أن يأخذه الخصم بعين الإعتبار مما يوقعه في الغلط في شأن نواياه. إلا أن هذا لا ينفي بعض الغموض والحذر ولا سيما لجهة التنبه لإرتدادات إستخدام "الإستوبل" لغايات تسويفية بهدف المماطلة، فضلاً عن تبني تفسيرها (أي الإستوبل) بشكل موسع ولا سيما لناحية مخالفة حقوق الدفاع وحرمان المدعي من حق اللجوء الى القضاء! فالحرص على معالجة التناقض ومواجهة الطرف "الشقي السيء النية" يجب بطبيعة الحال أن لا يؤدي الى محاصرة مبادرة الطرف "الضحية" في ممارسة حقوقه الدفاعية أو الهجومية بحسب معطيات المنازعة صوناً لحقوقه وتحقيقاً للعدالة وضماناً لإستقرار التعامل. ومن خلال القراءة الدقيقة للقرار، لم يظهر الإستوبل كأداة لحماية الثقة المشروعة لأحد الأطراف، بل لمحاسبة الطرف المتناقض. مما يسمح بالقول، وبحق، على نحو ما ذهبت الفقيهة Weiller أنه يفقد في مداه ومرماه ما يكسبه موضوعياً وتقنياً. بالتالي، يعتبر دور محكمة التمييز في هذا الصدد بالغ الدقة والصعوبة في السعي لإيجاد مخرج مناسب يوفق ضمن المستطاع بين "حتمية معالجة التناقضات الشاذة عن منطق المألوف والقانون" من جهة و"تفادي الثمن المتوقع لحلول منصفة" من جهة ثانية.

     فضلاً عن ذلك، يفيد الواقع الإجتهادي، بالإجمال، عن تباين في تصنيف بعض المعطيات النزاعية بين "إستوبل" و"عدول" في آن معاً تارة أو إعتبارها خارجة عن هاتين الفئتين طوراً أو إدراجها أحياناً ضمن إحداها مع إغفال مناقشة أية إحتمالات أخرى. أما الفقه، فيعتبر أن العدول عن إثارة مخالفة إجرائية يعاقب التصرف الأحادي لأحد الأطراف بمعزل عن مفاعيل أخذه (أي التصرف) بالإعتبار من قبل الطرف الآخر، في حين تستلزم الإستوبل، حكماً، تحليل سلوك الطرفين تحقيقا لغايتها المنشودة في حماية الثقة المشروعة للطرف الضحية بسبب تناقضات خصمه .

    بالتالي، تبدو الحاجة ملحة لتحديد الحد الفاصل بين هاتين الآليتين ذات التطبيق المشترك أحياناً. فإزاء "سكوت ملفت" للقضاة الكبار إلى اليوم وللأسف حول تمييز الإستوبل عن العدول، نتلمس، في حيثيات القرار التمييزي المشار إليه أعلاه، مبادرة محكمة التمييز الفرنسية في تثبيت إستقلالية وتمايز الإستوبل من جهة ، ومن جهة ثانية ثباتها، بحسب الفقيهة Weiller، لمحاولات تأسيس نوع من "التضامن الإجرائي" الهادف الى تجميد الإفراط في السلوكيات الإجرائية المعتمدة محققة توازناً مقبولاً في عالم التحكيم، مؤكدة بمنحاها الأخير مقدرتها الإبداعية الدائمة على التوفيق بين "الإكتفاء الذاتي" في الداخل و"التكييف مع جديد أدوات" الخارج بما يتناسب مع إيقاع الحياة المتغير دوماً.. فمن غير المنطقي تفسير إستنادها السلبي الى الإستوبل بـ"إستيراد مشوه" – إن صح التعبير - لمفهوم إنكلوسكسوني عامة أو لأداة إنكليزية بخاصة بقدر ما هو "إستقبال مبدع" لمفهوم دولي متنقل فريد مجرد مستقل متحرر من أية أغلال إنكليزية ما زال نظامه القانوني غير محدد أقله حتى اللحظة لدى النظم المستقبلة له حديثاً .

جدید منحى مجلس الدولة الفرنسي... رفض شبه مطلق للإستوبل.... فما السبب؟!:

     لا خلاف على أهمية الأمن القانوني في صون المجتمعات وإستقرار المعاملات نظراً إلى ما يوفره من بيئة قانونية آمنة وثابتة تضمن سهولة التحرك وسرعة التكيف مع إيقاع التحولات في مجمل نواحي الحياة.

     فالإعتراف بمبدأ الأمن القانوني، بإعتباره قاعدة أساسية في كل نظام قانوني، لا يفيد عن جمود النظم ووقف تطورها، بل يتيح التعرف مسبقاً الى البعد القانوني لما قد يتخذ من توجهات فردية أو جماعية بمعزل عن أي تحفظ أو قلق أو إرتياب، ومقياس التوفيق المنطقي والفعلي بين "الحاجة للتحديث" وأهمية "الإستقرار المنشود" يكمن في مبدأ لصيق بالأمن القانوني هو الثقة المشروعة المكرس في غالبية النظم كمبدأ جوهري والذي لم يلق حتى اللحظة قبولاً فرنسياً بخاصة بالرغم من بعض مؤشرات إجتهادية تلوح في الأفق تعزز الأمل في تحولات قضائية مرتقبة في تعزيز مكانته في العلم الإداري. أما "الإستوبل"، الذي لا خلاف على تماثله – أقله في الجوهر - مع مبدأي الأمن القانوني والثقة المشروعة، فيبدو أنه لم يكن في أغلب الأحيان، على نحو ما تفيده بعض الشواهد القضائية، "ضيفاً مرحباً به" لدى القضاء الإداري.. ولعل أحدثها عهداً وأبرزها دلالة، الرأي الإستشاري الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 1 نيسان 2010 (أي بعد مرور شهرين فقط على القرار التمييزي المشار إليه سابقا الذي عرف الإستوبل وثبت استقلاليتها) بمعرض إستشارته من قبل المحكمة الإدارية في Dijon. وتتصل وقائع القضية بالآتي:

    بعد أن سددت شركة Marsadis التي تستثمر مركز Leclerc في منطقة Cote-d'Or الرسوم المتوجبة عليها لشراء اللحوم عن أشهر كانون الثاني وشباط وآذار 2003، تقدمت بتاريخ 16 نيسان 2004 لدى الدائرة المالية بطلب إسترداد الرسوم المسددة لتعارضها مع القانون الأوروبي. فأبلغ مدير الدائرة المالية الى الشركة بقرار غير معلل صادر بتاريخ 27 آب 2004، النية برفع التكاليف المطالب بها.

     بتاريخ 30 تشرين الثاني 2004، وعبر رسالة غير معللة، أبلغت الإدارة الى الشركة عدولها عن موقفها السابق متذرعة بأن التعارض المدعى به مع القانون الأوروبي يتناول حصراً الفترة السابقة للأول من كانون الثاني 2001. وبتاريخ 17 كانون الثاني 2005 أبلغت الشركة قرار الإدارة برفض طلب إسترداد الرسوم المسددة. فلجأت إلى المحكمة الإدارية في Dijon بطلب إبرائها من الرسوم متذرعة في لائحتها المقدمة بتاريخ 22 تشرين الأول 2009 بسبب جديد يتعلق بإهمال الإدارة المالية لمبدأ الإستوبل نظراً إلى التناقض المزعوم بين موقف مدير الدائرة المالية والموقف المعتمد من قبل وزير المالية أثناء المناقشات البرلمانية المتعلقة بإلغاء الرسوم على اللحوم متجاوزة بذلك حجتها السابقة المستندة إلى تعديل المدير لموقفه أثناء التدقيق بالطلب المقدم إليه. وإستناداً الى الفقرة الأولى من المادة 113 من قانون القضاء الإداري، طلبت المحكمة الإدارية في Dijon 29 رأي مجلس الدولة الفرنسي حول ثلاث نقاط أساسية:

أولاً- هل في إستطاعة المستدعي التمسك بالإستوبل في المنازعة المالية؟

ثانياً- هل يشكل رفع التكاليف المقرر والذي جرى العدول عنه لاحقاً في سياق النزاع أمام المحكمة الإدارية، فضلاً عن تصريح وزير المالية أمام الهيئة الوطنية المستقل في مضمونه عن مضمون المنازعة القضائية، "إدعاءات متناقضة" وفق المعنى المقصود لإعمال "الإستوبل"؟

ثالثاً- وفي حال الإيجاب على كلا السؤالين السابقين، ما هو تأثير السبب المتذرع به على مجمل مطالب الشركة المستدعية ولا سيما أن رفع التكاليف يقتصر على الفترة السابقة لـ 31 كانون الأول 2000؟

     لقد استبعد مجلس الدولة الفرنسي في رأيه الإستشاري الملفت الصادر بتاريخ 1 نيسان 2010 مجدداً "الإستوبل"، مبيناً أن المنازعات المالية بالإجمال تقتصر على تحديد الضرائب المستحقة قانوناً والفصل في الدعاوى المتعلقة بالإجراءات المتبعة من الإدارة لضمان تحصيل الضرائب والتأكد من صحة تطبيق العقوبات المالية الملحوظة في النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصلة. فإلتزامات المكلف محددة بنصوص واضحة لا تستطيع الإدارة التنازل عن تطبيقها مع مراعاة ما تلحظه مواد قانون الإجراءات المالية من ضمانات. بالتالي لا يشكل سلوك الإدارة سواء السابق للإجراء النزاعي أو في مرحلة التحقيق بالطلب المقدم أو في سياق المنازعة القاضي المالي ومهما يكن مداه أو تناقضاته المحتملة عائقاً أمام القاضي يحول دون إعماله للقانون المالي على نحو ما تفيده القرارات القضائية ذات الصلة .

فضلاً عن ذلك، إن سلوكيات الإدارة القابلة لأي تصنف "كتعديل في الموقف" محصنة واجبة بضمانات تشريعية وقضائية لصالح المكلف (ولا سيما المادتين L.80A et L.80 B) الإحترام من قبل القاضي المالي الذي لا يستطيع التنصل من إعمال القانون المالي عامة، أياً تكن الظروف والمعطيات وأياً تكن فحوى إدعاءات الأطراف. فالطابع التناقضي إن وجد والممتد زمنياً للإدعاءات لا يمكن أن يحول دون إعمال القانون. إلا أن هذا لا يفيد أن الإدارة مجردة بالمطلق من كل حماية ولا سيما إزاء المكلف سيء النية، بل يمكنها من خلال نظرية الظاهر التمسك بضريبة ما إنطلاقاً من الحالة التي أعلنها المكلف

    وإذا كان من حق الإدارة المالية في أية مرحلة من مراحل النزاع، وضمناً لأول مرة إستئنافاً، التمسك بأسس جديدة لفرض ضريبة منازع بشأنها أمام القاضي المالي، فيشترط ذلك حكماً أن النزاع أثير في شأنها فعلاً أمام القاضي المالي من جهة، وأن الأساس الجديد المتذرع به لا يحجب عن المكلف الضمانات الإجرائية المشار إليها سابقا من جهة ثانية.

     أما المواد المشار إليها أعلاه، فتتيح من جهة للمكلف ضمن شروط وضوابط محددة الإعتراض لدى الإدارة في شأن تفسيرها المعتمد صراحة لنص مالي أو في شأن موقفها الصريح إزاء حالة واقعية تندرج ضمن نطاق إعمال نص مالي، فضلاً عن أن الإدارة ملزمة، في حال قررت تخفيض الضريبة، إعلام المكلف مسبقا عن إستمرار نيتها بفرض ضريبة جديدة وفق ذات الشروط والأسس.

    لقد أثار هذا الموقف اللافت لمجلس الدولة الفرنسي ردوداً فقهية "حادة" خرجت أحياناً عن المألوف في التعليقات القانونية. فلم يلمس الفقيه Houtcieff من خلاله إستبعاداً مطلقاً لمبدأ التناسق في الأصول الإدارية، بالرغم من المكيافيلية الغالبة للنزاع المالي حيث الغاية – تطبيق القانون - تبرر للإدارة كل الوسائل ، أما الفقيه Melleray فيعتبر أن من الصعوبة بمكان إعتماد الإستوبل في النزاع المالي حيث التعديل في موقف أحد الأطراف دون أي إنعكاس على العلاقات القانونية بين أطراف النزاع، فخصوصية النزاع المالي مستقلة تماماً عن إرادة المكلف والإدارة المعنية، محبذا تطبيقه (أي الإستوبل) في الميادين التي تكون فيها للإرادة دوراً محورياً وقاطعاً (قانون العقود، قانون التحكيم، القانون الدولي العام) ، ويؤيده في ذلك الفقيه Collin الذي ذهب بعيداً في تعليقه جازماً بصعوبة تطبيق الإستوبل في القانون الفرنسي لخلوه من أية قاعدة دستورية أو تشريعية تتيح للقاضي الوطني تطبيق مطلق "قاعدة " أو "مبدأ " معتمد في قانون أجنبي. وإذا حصل وإستند القاضي الفرنسي في قضية ما الى قاعدة أجنبية، فإنما يفعل ذلك بغية التأكد، وإن بصورة غير مباشرة، من توافر شروط إعمال النصوص الواردة في إتفاقية دولية ما، مما يسمح بإستبعاد نصوص معينة من القانون الوطني. كما شدد على أن تكريس الإستوبل كـ "مبدأ من مبادىء القانون الدولي العام" لا يعني بالضرورة إعتماده في القانون المالي. فبالرغم من أن المادة 14 من الدستور الفرنسي لعام 1946 تلحظ أن الجمهورية الفرنسية وفية لتقاليدها وملتزمة بقواعد القانون الدولي، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي أكد في مناسبات عدة غياب أية قاعدة دستورية ملزمة للقاضي الإداري الفرنسي بتغليب العرف الدولي على القانون في حال التعارض بينهما كما أن إعتماد الإستوبل في القانون الداخلي بإعتبارها مبدأ عاماً في القانون الدولي العام لا يحول دون التطبيق الموضوعي للقانون المالي لأسباب عدة أبرزها ضرورة إحترام تسلسل النظم والقواعد القانونية. ومن جهة ثانية، وعلى فرض أن المبدأ مكرس في القانون الأوروبي، إلا أنه ليس من السهل تمييزه عن مبدأ الثقة المشروعة الذي أكد مجلس الدولة في مناسبات عدة حصر تطبيقه على المسائل الخاضعة مباشرة للقانون الأوروبي. . ومن جهة ثالثة، وعلى فرض أن المبدأ مكرس في القانون الوطني، إلا أنه يبدو من الصعوبة بمكان إعتماده في المنازعات المالية نظراً إلى الطابع الموضوعي للنزاع المالي. فضلاً عن ذلك، أكد الفقيه Collin أن حق المكلف في تعديل الحجة القانونية المتذرع بها في السياق النزاعي معترف به، أسوة بالوزير والإدارة المالية، منذ عام 1987 سنداً إلى المادة 199 من قانون أصول المحاكمات المالية مستبعداً بالإجمال إعمال الإستوبل في النزاع المالي لكونه (أي النزاع المالي) يهدف الى تثبيت حقيقة قانونية ذات طابع موضوعي صرف بما يحقق توازنا بين الأطراف ما زال يسعى المشرع والقضاء في بنائه محبذا إبتداع مبدأ عام جديد مستوحى من هذا الأخير (أي الإستوبل) يمنع الأطراف من التناقض ويلزمهم بالإستقامة في المسار النزاعي.

    وعليه، يبدو أن مجلس الدولة الفرنسي، في موقفه الأخير بخاصة، لم يوصد أبواب القضاء الإداري أمام الإستوبل، بل إكتفى بالإشارة الى عدم توافر شروط تطبيقها مع المعطيات النزاعية المثارة.

    أليست تلك "بداية ما" –وإن خجولة - تعزز الشعور - بـ "تحول قضائي مرتقب" من الإستوبل في العلم الإداري؟!

"الإستوبل"... والعلم الإداري الفرنسي... بين "الترحيب الحذر".... و"الإكتفاء الذاتي"!؟

    لم يجد الفقيهان Frank Ciaudo من سبب يحول دون الترحيب بالإستوبل في العلم الإداري الفرنسي فعدة عوامل تشجع على الإعتراف بهكذا آلية ". فمن جهة تبرز مصلحة جدية وعملية في إعتماد الإستوبل بوصفه معيارا تقنيا لمواجهة الإدعاءات المتناقضة لأحد الأطراف الذي إعتمد سلوكاً مخالفاً لمواقفه السابقة. فطابعه التقني على نحو ما هو مكرس في القانون الدولي العام والقانون القضائي الخاص يتخذ صورة دفعين بعدم القبول مكرسين أساساً الأصول الإدارية، هما الدفع بالأسباب الجديدة والدفع بإنتفاء المصلحة. من جهة أخرى، يفيد الإستوبل في جوهره عن إعتراف واضح لا لبس فيه بإحترام واجب الإستقامة في السياق النزاعي مما يسمح بإعتباره "مبدأ توجيهيا" principe directeur إلى جانب المبادىء المعتمدة في الأصول الإدارية من مبدأ وجاهية المحاكمة والمساواة في حق الدفاع وسواها.... بالتالي، يبدو أن إستخدام هكذا آلية في المنازعات الإدارية ليس مسألة "بنيوية" بحتة بقدر ما هي "علاجية" لمعاقبة الطرف الذي يظن أنه قد يستفيد من تناقضاته في سلوكياته ومواقفه. فهكذا إستخدام – الذي لا يتطلب ثورة أو إنقلاباً قضائياً- ما زال برأيهما حتى اللحظة في مرحلة "التمني"، فبالرغم مما يوفره "الإستقبال المشرف" لهذه التقنية من مزايا قد يفضل القضاء عامة – ومجلس الدولة بصورة خاصة- الإكتفاء بأن يكون أكثر واقعية في تعامله مع الطرف المتناقض وأكثر تمسكاً بالجذور القانونية والقضائية وما تفرضه من أدوات وآليات علاجية إستقر على إعتمادها إزاء سلوكيات ومواقف شاذة. إلا أن هذا لا ينفي بأية حال من الأحوال أن الإستخدام المجرد والواقعي للإستوبل سيكون حتماً مفيداً وفعالاً، إذ سيجد نفسه المدعي المتناقض وغير المستقيم "متوقفاً" عن دعواه أو دفاعه. –

    وبالإجمال، يتيح إعتماد الإستوبل في المنازعات الإدارية برأي الفقيهين Ciaudo و Frank لمجلس الدولة الفرنسي الفرصة، بأن يرفع من شأن مبدأ الإستقامة لمصاف "المبادىء التوجيهية" مع إعتماد بعض قواعد الأصول المدنية بما يعزز فعاليته، ويؤيدهما في ذلك الفقيهين Guinchard و Boursier اللذين لمسا تكريسه كمبدأ توجيهي للأصول المدنية من قبل القاضي العدلي بخاصة. أما الفقيه Chaudet فيرى في الإعتراف القضائي بمبدأ الإستقامة مبدأ عاماً من مبادىء أصول المحاكمات الإدارية في حين يعتبره الفقیهان Cadiet و Miniato مشابهاً لمبدأ "وجاهية المحاكمة". وبالرغم من أن مجمل فقه القانون العام ولا سيما الفقيه Chapus  يعتبر أن "الوصايا العشر" للقضاء الإداري الواردة في قانون القضاء الإداري الفرنسي ليست إلا تقنيناً للمبادىء التوجيهية للأصول الإدارية وتتعلق بمجملها بإختصاص القضاء الإداري دون الإشارة لأية قاعدة عامة تفرض على المتداعين ضبط وإحترام سلوكياتهم في السياق النزاعي والذي مرده بلا شك وبحسب الفقيه Lombart للطابع الإستقصائي أو التحقيقي للمراجعة الإدارية ، إلا أنه ليس من شأن ذلك أن يحول دون إعتماد مبدأ الإستقامة في الإجتهاد الإداري بمعزل عن أي نص تقنيني. فنظرية المبدأ التوجيهي وإن كانت غير مكرسة بنصوص محددة، إلا أنها معتمدة في التفسيرات الفقهية. بالتالي بالإمكان مبدئياً تصنيف المبادىء التي يفرض من خلالها القاضي الإداري على الأطراف ضبط سلوكياتهم خلال المسار النزاعي بـ "مبدأ توجيهي". إلا أن إحدى الصعوبات المتعلقة بتكريس مبدأ الإستقامة في المراجعة الإدارية تكمن بحسب الفقيه Jeuland في ضرورة تحديد القاضي للحدود الفاصلة بين "غياب الإستقامة" لدى أحد الأطراف و"إحترام الإستراتيجية" النزاعية. أما لدى الفقيهة Boursier فالصعوبة أعمق وأدق وتكمن في مصدر مبدأ الإستقامة الإجرائي وما يستتبعه من تهذيب للأصول الإدارية ودور محوري للقاضي الإداري بإعتباره الضامن لإستقامة الأطراف والحارس لأخلاقيات المراجعة الإدارية ، ويؤيدها في ذلك الفقيه Schwartz الذي شجع القاضي الإداري على إعتماد آليات قضائية مكرسة ومعتمدة في الأصول المدنية ضبطاً للسلوكيات المعيبة (كشطب الدعوى، شطب التعابير المهينة أو التي تفيد عن قدح وذم في لوائح الأطراف، التعويض في حال الطعن التعسفي، عزل المحامي عند تجاوز حدود الوكالة أو الإساءة في إستخدامها..).

    وعليه، نتلمس من مجمل الآراء الفقهية المتباينة، عمق الإشكالية ودقتها في إستقبال الإستوبل في العلم الإداري. فهل ستلقى دعوات المؤيدين أصداءا إيجابية تشريعاً وقضاءا؟! المسألة تستدعى مزيداً من الترقب.

تقنين الإستوبل الفرنسية... منذ 13 كانون الثاني 2011.... نعم... تلك هي فرنسا!

     بتاريخ 13 كانون الثاني 2011 صدر المرسوم رقم 48 الذي كان حدثا في تاريخ التحكيم وتقدماً مهماً بالنسبة إلى التحكيم الفرنسي سواء الداخلي أو الدولي كونه يؤدي إلى تحديث النظام القانوني للتحكيم الفرنسي ويجعله أكثر ليبرالية بما ينسجم مع إيقاع الحياة المتغير دوماً ويسهل عمل الممتهنين وذوي الخبرة ويساهم في المحافظة على جاذبية موقع باريس كعاصمة عالمية للتحكيم. ولعل من أبرز المؤشرات الدالة على إنفتاح قانون التحكيم الفرنسي الجديد وفرادته، تكريس "إستوبل فرنسية" من خلال المادة 1466 التي نصت على الآتي:

     "يعتبر الطرف الذي يتلكأ، عن سابق دراية ودون سبب مشروع، عن إثارة مخالفة أمام الهيئة التحكيمية في الوقت المناسب، أنه قد تنازل عن التمسك بهذه المخالفة".

    تجدر الإشارة إلى أنه من أجل تعريف مبدأ الإستوبل، إستلهم التقرير المرفوع إلى رئيس الوزراء الفرنسي التعريف الذي إعتمده العميد Cornu في قاموسه القانوني:  

   "إستثناء إجرائي مخصص لمعاقبة تناقضات وسلوك طرف معين بإسم حسن النية، كون هذا الطرف يكون ملزما بما صدر عنه سابقا، وبالتالي غير قادر على التمسك بإدعاء جديد" .

ماذا عن البلاد العربية عامة.. ولبنان خاصة.. نجدد النداء... فهل من مجيب؟!

     لا يسعنا في ظل الواقع القانوني العربي عامة واللبناني خاصة سوى تجديد النداء بإقتراحات مفيدة وضرورية في مقاربة فكرة "عدم التناقض"... فـ"الإستوبل" بثوبها القانوني العربي عامة واللبناني خاصة في حاجة إلى "قالب قانوني جديد" يتناسب ورقي المدنية وتعدد وجوه العلاقات القانونية.

بداية... لا بد من مصطلح قانوني عربي جديد :

     سبق أن بينا أن "الإستوبل" مصطلح قانوني أجنبي يصعب تحديد أصوله وجذوره بدقة... بالتالي.. إذا أدخلناه ولو معرباً إلى لغتنا القانونية العربية سيبدو مهما صقلناه كالرقعة المختلفة عن نسيج الثوب.. هذا من جهة.. ومن جهة ثانية، لا مجال لترقيع الثوب القانوني العربي من نسيج الرقعة الأجنبية نفسها.. فهذا من ضروب الخيال... فضلاً عن ذلك.. بدا لنا من سياق الدراسة، أن المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية "غير قادرة" – بصياغتها المتوراثة منذ عهود على الإحاطة بمجمل ما إستجد في الحياة القانونية المعاصرة من أوجه معاملات ومنازعات.... كما أن "إبقاءها على قدمها" قد "يرتد" على "منحى تفاعل" النظم القانونية العربية مع مستجدات الحياة المعاصرة الضاغطة وما تفرضه من آليات ومفاهيم قانونية وقضائية... وبالتالي .. قد يبدو "الحل الأنسب" – أقله عربياً – إما "الإقتداء" بالنموذج التونسي... أو "تطوير" صياغة المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية بإضافة "قد" في متنها بحيث تصبح من سعى لنقض ما تم من جهته فسعيه قد يكون مردوداً عليه.... إلا أن المساس بـ "قاعدة فقهية إسلامية"- ونعني المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية- ليس بالأمر اليسير ويتطلب كثيراً من "الحذر" و"التنبه"، نظراً الى خصوصيتها و"دقة" حيثيتها التاريخية والعلمية والعملية (مع العلم أن واضعي المجلة أنفسهم لم ينكروا صراحة في المادة 39 منها تغير الأحكام بتغير الأزمان).

   وعليه.. ونظراً إلى مجمل الإعتبارات السابقة... نعتقد أن "المخرج الأنسب" يكمن في البحث عن مصطلح قانوني عربي جديد.. ونقترح في هذا الصدد: مبدأ "منع نقض الإلتزام".

ثانياً. .. تعديلات تشريعية.. لتكون قوانين لبنان... بلغة لبنان.. تلبية لحاجات لبنان..

    أشرنا في ما سبق، أن غالبية التشريعات العربية بخاصة كرست جوهر "الإستوبل" في مادة قانونية ضمنتها قوانينها المدنية تارة أو قوانينها في الإثبات بصياغة مطابقة إلى حد ما لمنطوق المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية التي تنص على أن: "من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه".

    أما في القانون اللبناني، فلا بد من التمييز بين فرعيه الخاص والعام حيث بعض الإقتراحات:

     فيما يتعلق بالقانون الخاص اللبناني، فإن المادة 1106 من قانون الموجبات والعقود الصادر عام 1932، واضحة في إحالتها على مجلة الأحكام العدلية، وضمناً المادة 100 منها المتوافقة إلى حد بعيد وملفت مع مضمون "الإستوبل". يفيد هذا الواقع عن إعتـراف لا لبس فيـه بالقاعـدة المذكورة.

    إلا أننا نرى من المفيد تعديل قانون الموجبات والعقود اللبناني وإضافة باب تمهيدي تدرج أحكام فيه مجمل المبادئ الأساسية كسريان القانون من حيث الزمان والمكان إلى سواها من عامة، وضمناً النص الآتي:

   "يمنع على الأطراف نقض ما التزموا به إحتراماً لمبادىء حسن النية والإنصاف والعدالة في الروابط التعاقدية".

      أما فيما يتعلق بالقانون العام اللبناني، وبعيداً عن جدلية – قد تثار – في شأن توصيف فكرة "عدم التناقض" عامة و"الإستوبل" أو سند اعمالها في ظل خلو قانون المنازعات الإدارية من الإشارة التشريعية في شأنها... وإذا كانت الأولوية، كما دوماً، لنص تشريعي يتعامل معه القاضي الإداري ... ليكن نص تشريعي جديد يضاف الى نظام مجلس شورى الدولة الصادر بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 10434 لعام 1975 وتعديلاته، يكرس جوهر فكرة "عدم التناقض" المعبر عنها لبنانياً بالمادة 100 من مجلة الاحكام العدلية، وقد يؤمن" "مخرجاً لائقاً" يوازن بين "تأني" المشرع في إعتماد التحكيم في كافة العقود وبين حفظ "صدقية" الدولة و"إحترامها" لتعهداتها و"حسن نيتها" في تنفيذ التزاماتها، ويوفر للمستقبل أداة قانونية - تقنية لحسم المنازعات المماثلة، منطوقه الآتي:

    "يمنع على الدولة أو أحد أجهزتها العامة نقض التزاماتها تحت طائلة المسؤولية مراعاة لمبادىء حسن النية والعدل والإنصاف في تنفيذ التعهدات والإلتزامات". **

وماذا بعد ....

     لا شك أننا في عصر إتسعت فيه مناحي الحياة وتبدلت بتبدله إحتياجات الأفراد والجماعات وتشابكت المصالح وتنوعت المعاملات ورفعت القيود وإنطلقت الأفكار متجاوزة الحدود.. إلا أن لكل لغة قانونية في بيانها صبغة إذا زالت زال منها كل لون من ألوان عبقريتها.. كما أن لكل فكر قوانينه وأخلاقه وعاداته التي لا تستطيع أية حدود، بل ولا يستطيع التاريخ أن يوقفها أو يمليها فهو وحده الذي يضطلع بوصفها ومراعاتها.. فقد نتغذى بثقافة واحدة وقد تتجه وجوهنا شطر آفاق واحدة، ولكننا مع ذلك قد لا نتفق في النهاية إزاء ما نراه... لذلك، علينا أن نعتقد في الواقع في وجود معرفة لا شعورية وإرتباط لا شعوري بين الأفكار ومفارقات لا شعورية بين الآراء يمكن بموجبها لكل فكرة أن تستبدل دوماً بأخرى. كما علينا أن نعترف ببعض النتائج التي تمدنا بالكثير الذي يتطلب الروية والتفكير.. والسبيل إلى ذلك النقد الموضوعي المجرد البناء البعيد عن الإنفعال والتأثر بما مضى من أفكار ونظريات ومعتقدات.. النقد الذي لا يقف عند تحليل الأفكار وإعطاء الأحكام... النقد الحارس الأمين الحر النزعة المفتوح الآفاق الخارج من حدود الذات لتذوق مطلق فكرة والدعوة إليها أو هجرها حسب درجة الإقتناع أو الإقناع....

    ومن هذا المنطلق، نجد أنفسنا مدفوعين للتساؤل عما سيكون عليه موقف "سکاری" "الإستوبل" من الثورة القانونية الفرنسية مؤخراً ومن محطات سبقت كرست خلاف ما يأملون ولا سيما أن في جعبة غالبية النظم عربية كانت أم أجنبية أدوات وآليات وتقنيات تغني عما يشيرون ويروجون؟

    وما سيكون عليه موقف الفكر القانوني العربي "السائر" غالباً و"الثائر" أحياناً والذي يريد أن يكون في عالم الزمن لا على هامشه وأن يكون هو الصوت وليس مجرد صدى لسواه، وهو يعاني ما يعانيه لعدم التجاوب مع قرع الأجراس المنادية دوما بالتحديث والتطوير تكيفاً مع المستجدات في مختلف نواحي الحياة؟

..... تلك أسئلة جديرة بأن تسأل... وبأن يجاب عليها... ولو بعد حين. ... وإلى جولة جديدة مع أسرار عالم الإستوبل اللامتناهية... والله ولي التوفيق..