من أشق الأمـور علـى المتعمق في فكرة "عـدم التنـاقض" عامـة... و"الإسـتوبل" خاصة... وفي "علم التحكيـم". وفي عصـر العولمـة بمعناهـا الـشمولي الواسـع... الخروج اللاإرادي عن المألوف. والقدر الكبير من الجرأة والتهيب. نظراً لما توجبه هكـذا دراسة شيقة شائكة معقدة من منهجية خاصة في المقاربـة والبحـث والعـرض والتحليـل والتعليل. فهي تدفع بالباحث إلى أعماق الفكر القانوني... الداخل إليها حتما مفقود. والخارج منها مولود.. هذا إن خرج... إلا أننا سنسعى في هذا المقام لإستكشاف أبعاد هذه المؤسـسة النظر لما إستحوذت عليه –وما زالت- من إهتمام ملحوظ في الفكر القانوني.. فهي ما زالت مدينة للماضي الذي أوجدها. وللحاضر الذي طورها. وللمستقبل الذي لا بد أن يحافظ عليها وإن بقالب جديد. هذا ليس بمستغرب. فليس اليوم كالأمس. ولا أدوات الماضي تصلح بذاتها حكم روابط الحاضر أو المستقبل إن لم يطلها تحديث وتبديل وتطوير... ولا ضير إن كانت هذه المستجدات نابعة من مقاربة موضوعية علمية لما تكتنزه نظم أخـرى مـن مـفـاهيم ومعتقدات قانونية.
إصطلاحـا، "الإستوبل" قاعدة إجرائية شكلية تطبق في سياق المنازعـة القـضائية لمنـع التناقض في الأقـوال والأفعال وهذا ما تؤكده مجمل المجـامع القانونيـة وتؤيـده التعريفـات الفقهية ..
ويقصد بالتناقض "قول" الشيء وعكسه، كمن يعد بالوفاء والإخلاص ثم يخون أو كمن يلتزم ثم يتراجع. و"القول" هنا لا يؤخذ بمعناه الضيق أي الجمل والعبارات، بـل بمعنـاه الواسـع أي بالإشارة والسلوك. وكما أنه لا يفيد عن "عدم تنفيذ" أو "تقلب" بل "عدم تطابق" و"عدم تجانس" بين سلوكين أو موقفين أو تصريحين صادرين عن نفس الـشخص ومتـصلين بـذات الموضـوع والصورة الأكثر تداولا للإستوبل هي estoppel by representation ويقابلهـا فـي النظـام الفرنسي مصطلح interdiction de se contredire au détriment d'autrui الـذي تعـود أبوته إلى العلامة الفرنسي 3Emmanuel Gaillard.
برأي الفقيهـة Bénéditce Fauvarque-Cosson يعتبـر مـصطلح "الإسـتوبل" مـن المصطلحات القانونية الدخيلة والمرغوبة في آن معاً. أما الفقيه Olivier Moréteau فيـدعو إلى عدم تكبد عناء البحث عن أصل الكلمة أو ترجمتها، معتبراً أنها قاعدة محض إنكليزية بعبارة فرنسية Une règle bien anglaise designée par un mot français.
"الإستوبل "... معضلة "الفائدة" و"الضرورة" في ظل تساؤلات وإشكاليات.. بنيوية وعملية..
من ثوابت المجتمع القانوني الحديث، ومنذ أن إستقرت فكرة القانون، تكـريس جملـة مـن المبادىء والقيم نظراً لدورها المحوري في صون إستقراره فضلاً عن تصويب مسار العلاقـات في الداخل ومع الخارج على الوجه الأمثل: الوفاء، الصدق، النزاهـة، التنـاغم، الإخـلاص، الإستقامة، التجرد، الثبات على المواقف والأقوال، الأمانة، حسن النية. .. هي... مع ما يماثلها في القيمة والدور والأهمية، في جوهر أية علاقة إنسانية إجتماعية إقتصادية قانونية... والقانون يدرك من خلال أوجه الحياة... يستمد مضمونه لا من ذاته، بل من الظروف الواقعيـة المحيطـة وقواعده بأساسها قواعد سلوك وأخلاق، تهدف إلى تحقيق خير المجتمع والسمو بالإنسانية إلـى مستوى أفضل.
ولا تخرج فكرة "عدم التناقض" – بغض النظر عن تنوع مفرداتها في كل نظام قانوني حلت - عن دائرة هذه الحقائق السالفة الذكر، بل هي في صميم مساحتها المشتركة... تجمع بـين الواجب الأخلاقي والتكليف القانوني... تختصر في ذاتيتها قيم سلوكية رديفة لمجتمـع متماسـك البنيان لتصحح حالة شاذة في التعامل القانوني – المحلي أو الدولي - وتعيد العلاقة إلى مـسارها الحقيقي.. رغم التوافق على محورية دورها بالنظر لما تكتنزه من قيم ومبادىء أخلاقية، تبـرز إشكاليات ومعضلات عديدة تتصل أهمها في "تبرير" وجود "الإستوبل" بخاصة جنباً إلـى جنـب مبادىء مشابهة راسخة في أية منظومة قانونية؟ وهل -حقاً – يؤدي تكريسه إلى "إبتلاع" - كـي لا نقول إجتياح- ما بات ثابتاً وراسخاً في الثقافة القانونية من قواعد ونظريات؟ أم هنــاك فـائـدة وضرورة ملحة لـ "مبدأ" يؤمن – بدقة الثبات والإستقرار والتناسق في المواقف والسلوكيات؟ وفي إطار السعي لتكريسه، ألن ترتسم في الأفق ملامح أزمة قانونية حقيقية "أزمة وجود" تتعدى نطاق "البحث عن حيز" إلى "تثبيت مشروعية هذا الحيز" جنباً إلى جنب مؤسسات قانونيـة وإن تماثلت الأدوار والغايات؟
وهل نحن ـ حقاً – أمام نظرية قانونية جديدة أم مبدأ قانوني قديم جديد يسعي إلى موقع جديد في عالم القانون؟ وهل هو مبدأ تشريعي أم مبدأ قضائي أم مبدأ عرفي؟ وهل يتناول قاعدة شكلية إجرائية أم قاعدة موضوعية؟
وتزداد الإشكالية دقة وصعوبة في عالم التحكيم الملازم بصورة خاصة للتجارة الدولية والإستثمارات العابرة للقارات الأمر الذي قد يستدعي "إعادة النظر" بالمفاهيم القانونية السائدة محلياً ودولياً بما يسهل عبور الإستثمارات من جهة، ويضمن من جهة أخرى إعتماد قوالب قانونية "تحد" قدر الإمكان – من التعارض في مقاربة التحكيم في مختلف الدول و"توفـق" بـين "مقتضيات" القانون و"إيقاع" التعامل التجاري الدولي الدائم التغير.
"الإستوبل".. في سيرتها الذاتية العربية... حتماً... هي "بضاعتنا" عادت إلينا...
إن اللغات كائنات حية نامية.. ما تجددت عاشت.. وإن جمدت ماتت.. وعلى قدر توفيقها في المزاوجة بين الحفاظ على تراثها ومسايرة زمانها وإحتياجاته يكون حظوها من الحياة.. والقانون ظاهرة إجتماعية تتكيف وفقا لمقتضيات البيئة والزمان والمكان... الملاحظ أن كثيراً من الـنظم القانونية الحالية يعتبر في الواقع "تهذيبا" لنظم قانونية سابقة... لذلك لدرس جديدها لا بد من فهـم القديم وتفهم أسباب تطوره. إذا تأملنا بدقة في الخارطة الجغرافية القانونية، سندرك، بدون أدنى شك، أهمية فكرة "عدم التناقض" كحقيقة وضعية ثابتة من مسلتزمات الأمن القانوني وإسـتقرار التعامل. فهي لم ولن تكون حبيسة حقبة قانونية معينة أو أسرة قانونية محددة أو فـرع قـانوني بذاته، بل "توارثتها" النظم على إمتداد الحقبات التاريخية حتى العصر الحاضر، يدلل على ذلـك الإهتمام المحلي والدولي على السواء على نحو ما تفيده الجـولات، بـل والـسجالات الفقهيـة والتشريعية والقضائية التحكيمية منها حيث برزت بقوة بصورتها "الإسـتوبلية"... وهـذا لـيس بمستغرب.. فهل من المنطق والمقبول أن لا "يترجم" مطلق نظام قانوني تقنياً فنيـا فـي اللغـة القانونية واجب الثبات على الأقوال والتصرفات والإنسجام مع الغير والذات وإحتـرام الوعـود وحسن النية في تنفيذ العقود؟ وهل من نظام قانوني لا "يحاسب" من يخون الثقة وينكث العهود؟ أو لا "يصحح" بصورة متلازمة مفاعيل التصرف الشاذ عن منطق المألوف قبل منطق القانون؟
أوليس بالصدق نأمن التناقض، فلا نقول ما لا نعتقد، ولا نعتقد ما لا نؤمن، ولا نعالج ما لا نعلم، ولا ننتقد ما لا نفهم، ولا ندعي ما لا نثبت؟
المتتبع لأصول "الإستوبل" التاريخية يلحظ أنه عرف بصياغات متنوعة ودرجـات متفاوتـة وتسميات متعددة تفيد عن نفس المعنى رغم إختلاف المصطلح والمبنى. فلـرب فـكـرة بـدت جديدة مبتكرة في حين أن الأسلاف إهتدوا إليها من قبل وأبرزوها في صورتها الحاضرة أو فـي صورة أخرى تبتعد عنها بعض البعد.. ما يهمنا الإشارة إليه في هذا المجال، أن القول بأن النظم القانونية العربية لم تعرف فكرة "الإستوبل" تعوزه الدقة.. صحيح أن المصطلح (إستوبل) أجنبـي ولم يشر إليه لا نصاً ولا إجتهاداً إلا حديثاً على نحو ما سنشير لاحقا، إلا أن المعنى القاضي بمنع التناقض في الأقوال والسلوكيات والرجوع عن العهود يكاد يكون مماثلا فـي الـنظم القانونيـة العربية إن في الحقبة العثمانية حيث وردت في مطلع مجلة الأحكام العدلية عام 1876 ميلادية- التي تعتبر حدثاً مهماً في تاريخ التشريع في البلاد الإسلامية - مجموعة مـن المبـادىء العامـة القانونية بلغت المائة أطلق عليها "القواعد الكلية" ومنها مـا يتعلـق بالتناقض فـي الأقـوال والتصرفات في مسائل الإثبات ومنها المادة 100: "من سعى في نقض ما تم من جهتـه فـسعيه مردود عليه" ، أو حين إستقلت البلاد العربية وأفردت نظم خاصة بها تتفق مـع الحالـة التـي أصبحت عليها فكرست قاعدة الصدق في الإلتزام ومنع التنـاقض فـي الأقـوال والتـصرفات، صراحة في متن القوانين الوضعية العربية أو ضمناً عبر الإحالة الى مبادىء الشرع الإسـلامي وسواها من مصادر أساسية للقاعدة القانونية.
إذ ورد في قانون الموجبات والعقود اللبناني الصادر في آذار عام 1932 والمعمول بـه إعتبارا من 11 تشرين الأول سنة 1934، المادة 1106 منه الآتي:
"ألغيت وتبقى ملغاة جميع أحكام المجلة وغيرها من النصوص الإشتراعية التي تخالف قانون الموجبات والعقود أو لا تتفق مع أحكامه".
نلاحظ في هذه المادة الفريدة بمضمونها والمتمايزة عن غالبية مواد التشريعات العربيـة، إحالة واضحة إلى مجلة الأحكام العدلية التي تعد جزءاً لا يتجزأ من القانون الوضعي اللبنـاني في المسائل التي لا تتعارض مع ما يتضمنه القانون المدني اللبناني. ويفيد ذلك إستطراداً إحالـة إلى المادة 100 من المجلة لكونها لا تتعارض مع القانون اللبناني، بل على خلاف ذلك تكـرس مبدأ عاماً أساسياً يساهم في إستقرار المعاملات والروابط القانونية
ونص قانون المعاملات المدنية الإماراتي رقم 5 لعام 1985 في مادته 70 على الآتي:
"من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه".
وكذلك نص الفصل 547 من مجلة الإلتزامات والعقود التونسية الصادرة بالأمر المؤرخ لسنة 1906 وتعديلاتها، على الآتي:
"من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه إلا إذا أجاز القـانون ذلـك بوجـه صريح.
"الإستوبل".. في سيرتها الذاتية الأجنبية... إتجاهات، أزمات، تحفظات.. و"وهج خاص"!!!
إن الإجماع على دور وأهمية فكرة عدم التناقض بصورتها الإستوبلية، خاصة لـم يـنعكس توافقاً على المفهوم والنظام القانوني، بل تبايناً حاداً تلمسناه بدقة ليس فقط بين الأسـر القانونيـة (سواء أكانت لاتينية جرمانية، إنكلوسكسونية، مختلطة..) بل ضمن نظم الأسرة الواحـدة: مـن جدلية في أسبقية الوجود القانوني... إلـى تبـايـن فـي التوصـيف، والتعريـف، والـشروط، والإستقلالية، والطبيعة، والأساس القانوني، والمفاعيل، وميادين الإعمال الصريح تارة والضمني طورا مما يدفع للتساؤل – بحق – عن "أعجوبة" إعتمادها إزاء كم من إتجاهات ونزعات وأزمات وتحفظات وإنقسامات "رافقت" ولادتها وما زالت "تنقل" بلورة بنيتهـا علـى إمتـداد المحطـات التاريخية والحقبات القانونية والإجتهادية.
وحيث أن المقام لا يتسع لتناول مختلف النظم القانونية الأجنبية ومنحى إعمالهـا للإسـتوبل بخاصة، نكتفي بالإشارة الى بعض منها من كلتا الأسـرتين القـانونيتين الرئيسيتين اللاتينيـة الجرمانية والإنكلوسكسونية لما يشكله هذا البعض من نماذج قانونية يحتذى بها.
"الإستوبل"... والنظام القانوني الإنكليزي... هنا يقال كانت البداية...
ترتبط نشأة "الإستوبل" في النظام القانوني الإنكليزي بالمنحى القضائي في معالجـة "حالـة التناقض" في السلوكيات والأقوال والتصرفات على إختلاف أنواع المحاكم ودرجاتهـا وبتطـور نظام الإثبات المعتمد والمتسم طوال حقبات ماضية بكثير من الشكلية والقساوة. فإتخـذت منـذ بدايات ظهورها في القرن الثاني عشر، ثم في مراحل تطورها المختلفة، صـوراً وأدواراً تنفـق وواقع حال كل حقبة من حقبات تطور القانون الإنكليزي التي أفضت في نهايـة المطـاف الـى تكوين نظرية قانونية متماسكة قائمة بذاتها إحتلت ولا تزال حيزاً مهماً في الداخل كما لقيت قبولاً في الخارج وإن بدرجات متفاوتة.
ففي ظل ما ساد من "الشكلية" بأقصى صورها من جهة وميل تدريجي نحو "الموضوعية" من جهة ثانية، برز الإثبات عبر "التدوين" record فتجلت بنتيجته أولى أشكال "الإسـتوبل" ونعنى
Estoppel by record... كما أنه تناول العقود الممهورة بتوقيع الأطـراف أو الdeeds فكانت صورة ثانية للـ "إستوبل" هي: Estoppel by deed. فضلاً عن بعض العقـود التـي تتناول أموالاً غير منقولة إنما موثقة رسمياً والتي يقر سكان البلاد وجودها فعلا عند المنازعة في شأنها وذاك هو الشكل الثالث للـ "الإستوبل": Estoppel by matter in paiis. إن ظهـور "الإستوبل" بهذه الصور الأولى، لم يؤد لأي تحول جذري في نظام الإجراءات المتبـع... لـذلك كانت موضع نقد فقهي قاس في القرنين الثامن عشر والتاسـع عـشر، كـالقول أنهـا بغيـضة لإستبعادها الحقيقة وبأنها نظرية تقنية بشكل مفرط ومبالغ به.. الأمر الذي إسـتدعى تطويرهـا وتهذيبها... وحديثاً يجمع الفقه على وجود صورتين أساسيتين لـ "إستوبل" هما Estoppel by representation و Estoppel by res judicata. نستحضر هنا، الوصف المجازي الدقيق الذي قدمه القاضي Denning عام 1980 عن "الإستوبل":
" There has been built up over the centuries in our law a big house with many rooms. It is the house called "estoppel" ... By our time we have so many rooms that we are not apt to get confuse between them:
Estoppel per rem judicatam, issue estoppel, estoppel by deed, estoppel by representation, estoppel by conduct, estoppel by acquiescence, estoppel by election or waiver, estoppel by negligence, promissory estoppel, proprietary estoppel, And goodness knows what else. These several rooms have this much in common: they are all under one roof: Someone is stopped from saying something or other, or doing something or other, or contesting something or other. But each room is used differently from the others: If you go into one room, you find a notice saying: "estoppel is only a rule of evidence". If you go into another room you will find a different notice: "estoppel can give rise to a cause of action. Each room has its own separate notices. It is a mistake to suppose that what you find in one room, you will also find in the others".
ويقصد بالـ representation (التصوير) بحسب القانون الإنكليزي، التصريحات (سـواء أكانت مكتوبة أم شفهية) والتصرفات (سواء كانت إيجابية أم سلبية) والسلوكيات، والتي ينجم عنهـا بمجملها "تصوير" يحمل الآخر بعد الوثوق به إلى التحرك أو عدمه. من هنا يهدف Estoppel by representation لصون الثقة المشروعة من خلال عدم قبول إدعاء كل من يحاول نقض أقوالـه أو تصرفاته أو سلوكياته إضرارا بالغير. أما بالنسبة الى طبيعة المصطلح القانوني فقـد إنقـسم الفقه في أربعة إتجاهات أساسية ، إتجـاه أول إتجـاه أول صـنف الـ صــف الــــــــ Estoppel by representation بقاعدة إثبات بينما إعتبره إتجاه ثان دفع بعدم قبول الدعوى، في حين حبذ إتجـاه ثالـث وصـفه بقاعدة موضوعية، بينما مال إتجاه رابع لإعتباره مزيجاً من قاعدتين موضوعية وإجرائية في آن.
من جهة أخرى، واجه الفقه صعوبات في تحديد أساسه القانوني إذ نادى البعض بنظرية حسن النية، والبعض الآخر بنظرية المسؤولية التقصيرية، في حين أيد إتجاه ثالث نظرية العقد الضمني –وهو التوجه الغالب- كأساس قانوني.. فضلاً عن ذلك إمتـد التبـاين الفقهـي حـول إستقلالية Estoppel by representation وما إذا كانت مطلقة أم نسبية بحيث برزت تيـارات فقهية منادية بتقريبه من آليات قانونية مشابهة...
وعليه، بعد هذا العرض الموجز لمفهوم الـ Estoppel by representation في النظـام القانوني الإنكليزي – يصح القول – أنها (قاعدة الإستوبل) قاعـدة مبتكـرة ذات بنيـة قانونيـة متماسكة تستخدم كآلية دفاعية mécanisme défensif لحماية أمانة وصدق وحسن نية طـرف من إدعاءات وتصرفات تنم في ظاهرها عن سوء نية. فبحسب القاضي Denning العادة على إستخدامها كمتـراس ولـيـس كــسيف"، to be used as a shield and not as a" "sword وأيده بذلك الفقيه Cababe: -
"L'estoppel est une arme défensive, accessoire dans l'arsenal de la procédure."
وهي إن تمايزت بين الحين والآخر في بعض الفروع القانونية إلا أن هذا لا ينفي بأية حال من الأحوال الفرادة التي تتمتع بها مما يجعل منها نظرية قانونية قائمة بذاتها وبديلة مـن مبـدأ حسن النية – أقله في القانون الإنكليزي *...
"الإستوبل"...والنظام القانوني الفرنسي... بين "التحفظ" ومدلولات "ظهور" المصطلح...
ما يسترعي الإنتباه "التحفظ" الذي أبداه النظام القانوني الفرنسي تجاه "الإستوبل" أقل المنازعات الوطنية غير التحكيمية.. وتلك مفارقة لم نعهدها في نظام قــانوني يـصنف بـالأكثر مواكبة لمقتضيات الواقع العملي الدائم التغير كالنظام القانوني الفرنسي. إن هذا الموقف لا يفيد أن "الثقة" غير مصانة أو أن التناقض على إطلاقه مباح ومشروع ، بل بخلاف ذلك... هناك وفرة الآليات والمؤسسات والمبادىء القانونية الفرنسية الضامنة لإستقرار المعـاملات والمـستتبعة حماية للرابطة العقدية، وفي الصدارة، مبدأ حسن النية الذي يفضي على نحو ما هو محدد بخاصة
في المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي لموجبات مهمة منها موجبا "الإستقامة" و"التناسـق" اللذان يفرضان على المتعاقدين النزاهة والسلوك المستقيم إتقاء لأي ضرر قد يترتب على الخروج عن المسار العقدي الصحيح، إنما رغم ذلك، نتلمس في النظام القانوني الفرنسي "مقاومة" لإستقبال "الإستوبل" التي سميت في اللغة القانونية الفرنسية بقاعـدة "منـع التناقض إضـراراً بـالغير" interdiction de se contredire au détriment d'autrui. وقد يكون مرد ذلـك، "الـشعور الحذر" لدى بعض الفقه الفرنسي "المتحفظ" في شأن دور محوري لمبدأ "الثقة المـشـروعة" فـي قانون العقود الفرنسي والذي لم يتولد من فراغ، بل له عوامله وأسبابه ومبرراته.. مـن تحفـظ تقليدي لا يخفيه الفكر القانوني الفرنسي لنظريات ومفاهيم قانونية من خارج الحدود، إلـى عـدم الترحيب بفكرة الأخذ بنظريات وقواعد يغلب عليها طابع المرونة والإبهام، إلى ما قد يؤديه ذلـك من تعريض مفاهيم قانونية ومبادىء عامة ثابتة راسخة للإرباك، إلى إفتقـاره (أي مبـدأ الثقـة المشروعة) لبنية قانونية سليمة متماسكة ولاسيما لناحيتي الأساس القانوني والنظام القانوني، إلـى ما يحكى حديثا عن تراجع "وهج" الثقافة القانونية الفرنسية أمام ما تفرضه الـشركات المتعـددة الجنسيات من مفاهيم قانونية إنكلوسكسونية مما يبرر، بطبيعة الحـال، الـتحفظ الفرنسي إزاء إستقبال مبدأ الثقة المشروعة وإستطراداً صورته الإستوبلية إلى رفض المجلـس الدسـتوري الفرنسي تصنيفه "مبدأ دستورياُ" ، إلى الموقف السلبي لمجلس شورى الدولة الفرنسي من الأخذ به ولا سيما في أحدث رأي إستشاري عام 2010.
هذا الشعور الحذر قابله "إهتمام ملحوظ" به من قبل جانب آخر من الفقـه وإعتبـاره مـن متممات القوة الإلزامية للعقد من هنا تبدو مقاربة الموقف الفقهي الفرنسي من فكرة "الإستوبل" مسألة شديدة التعقيد والصعوبة. وما يزيد من ذلك أن الإجتهاد بدوره لم يكن "عدائيا"، بـل علـى خلاف ذلك، بذل ما في وسعه لحصر نطاق مبدأ "الثقة المشروعة" وضبط أطره منعا لأي "تداخل" أو "لغط" قد يثار في منهجية وأصول وقواعد حل المسائل النزاعيـة ذات الصلة، فهـو – أي الإجتهاد- وإن استند في معاقبة فعل التناقض في مختلف المراحل العقدية الى مبادىء ونظريات قانونية عديدة إلا أنه إستند كذلك، وبصورة مباشرة، الى مبدأ "عدم التناقض إضرارا بـالغير" و"الثقة المشروعة".
إلا أن الفقيهة Martine Touchais لم تحبذ هكذا منحى، إذ وجدت فـي تنـوع الأسـس المعتمدة وفي تباين العقوبة المقررة ما يعيق بلورة مفهوم "عدم التناقض إضرارا بالغير"، وبالتالي
ظهوره كمبدأ قانوني متماسك في النظام القانوني الفرنسي.. ففي رأيها، نحن أمـام مبـدأ غيـر واضح المعالم إن من حيث الأسس أو الشروط أو العقوبة المقررة، فلا سبيل – والحال كـذلك - الى تكريسه والأخذ به على حالته الراهنة وإعتماده كمبدأ عـام ثابـت إلا بعـد معالجـة تلـك الإشكاليات البنيوية .
ولكن.. حديثاً... يفيد الواقع العملي أن مفهوم "الثقة المشروعة" –الأساس القانوني لفكرتـي "التناسق العقدي" و"منع التناقض إضراراً بالغير" – بدأ يشق طريقه شيئاً فشيئاً في فرنسا حيـث يتوقع له مستقبل باهر " وإن لم يصل بعد في المرتبة والدور الى مصاف المبـادىء القانونيـة العامة الأساسية، إنما قد يعد الأكثر "مواءمة" مع فكرة "الإستوبل" الإنكليزية في ظل غياب آليـة قانونية فرنسية مطابقة... حتى اللحظة...
محكمة التمييز الفرنسية... تثبيت "إختراق" "الإستوبل" الثقافة القانونية الفرنسية
إن القول أن "الإستوبل" Estoppel "دخيل" ذو "دور استنسابي" في النظام القانوني الفرنسي تعوزه الدقة، فـ "وجوده العملي" و"موقعه العلمي" و"دوره المحـوري" أمـسى حقيقـة قـضائية ملموسة إعترفت بها بقوة أعلى مرتبة في السلطة القضائية ونعنـي محكمـة التمييـز الفرنسية بإجتهادها الحديث (بين عامي 2005-2010) في معالجة ما قد يسود العلاقـات القانونيـة مـن تناقضات غير مشروعة. وقد عبر عن ذلك بوضوح الفقيه Philippe Pinsole بقوله: on est en présence d'une réalité .
فالقرارت التمييزية ذات الصلة تعتبر بحق نوعية لكونها بغالبيتها "تكرس "الإسـتوبل" فى الإجتهاد التحكيمي الفرنسي كمبدأ مستقل في قانون التجارة الدولية، و"جريئة" و"ملفتة" و"تـدعو" إلى الإستغراب" لإشارتها الى المصطلح الإنكليزي بذاته بمعزل عن أي رديف لـه فـي النظـام القانوني الفرنسي.
فلقد إنتهزت محكمة التمييز الفرنسية، بحـسب المحامي Ortscheidt، الفرصـة لـتعلن بوضوح "الإستوبل" كقاعدة جوهرية في التحكيم صالحة للتطبيق في كل مسار تحكيمي يتـصل، بشكل أو بآخر، بالنظام القانوني الفرنسي.. وأيده في ذلك المحامي Pinsolle الذي وجد فـي المنحى التمييزي المعتمد سعياً واضحاً لـ "إدخال" الإستوبل في القانون الفرنسي، إنما في ظـل ضوابط وأطر محددة ترتكز، في جوهرها، على معاقبة "عدم التجانس" في المواقف والتصريحات والسلوكيات من جهة وعدم "إقصاء" وسائل عديدة يغتني بها النظام الفرنسي من جهـة أخـرى، محبذا إستيعاب "الإستوبل" ضمن مجموعة الأدوات الإجرائية الفرنسية الهادفة قبل كل شيء الـ حماية الثقة المشروعة :
المحاكم الإستئنافية الفرنسية.. من "روان" Rouen إلى "باريس" Paris... "إستقبال" "الإستوبل الفرنسية"!
لا شك أن لمحاكم الإستئناف الفرنسية دوراً محورياً في "الإستقبال القـضائي "للإســتوبل.. ورغم مساهمتها الجلية في "إنطلاقة" "تغلغل" المفاهيم الإنكلوسكسونية، إلا أنها بقيت "ثابتة" علـى إحترام الخصوصية الفرنسية فكرست "إستوبل فرنسية مبتكرة" في منحاها "المتوقع" في تـصويب مسار الروابط القانونية عامة بما يضمن التجانس في المواقف والسلوكيات خاصة مكتفية بتـوافر "السلوك التناقضي الضار "بمعزل عن شرط" التعديل بالموقف "المترتب على فعل التناقض.
وبالإجمال، نتلمس لدى النظام القانوني الفرنسي "معالجة دقيقة خاصة" للسلوكيات المتناقضة عبر إعمال مبدأ "عدم التناقض إضراراً بالغير "تارة أو الأخذ بمصطلح "الإستوبل" بذاته، إنما ليس بمفهومه الإنكليزي – ولاسيما لجهة "التعديل في الموقف" كأحد الشروط الأساسية لإعمالـه، بـل عبر "التشديد" على توافر "السلوك التناقضي الضار". وهذا إن دل على شيء فإنما يـدل علـى "خروج واضح" عن حالة "التردد" و"الحذر "في قبول" الإستوبل"... فالنظام القانوني الفرنسي قـد حقق بذلك نوعا من "المواءمة" بين خصوصيات بنية الداخل وأدواته التقنية الفنيـة مـن جهـة و"مرتبة" "التحكيم التجاري الدولي" من جهة أخرى، والتي تتطلب – بطبيعة الحال – منه وسـواه من نظم قانونية، بعض "التنازلات" التي تترجم في عدم فرض المفاهيم الوطنية الخاصة لـصالح بلورة أرضية مشتركة بين مجمل النظم القانونية تعكسها – بوضوح - "المبادىء العامـة" لـدى مجتمع التجارة والأعمال.
"الإستوبـل"... في المجتمـع التجاري الدولي ومؤسساته القضائية والتحكيميـة "ميـدان خصب"...
يتصدر قائمة مبادىء المجتمع التجاري الدولي، مبدأ حسن النية، العصب الرئيسي والـركن الأساسي في حقل الروابط القانونية والذي تتمحور عليه مختلف المعاملات القانونية على إختلاف أشكالها وأوجهها. فالواقع العملي والمنطق القانوني أوجبا توفير درجة أعلى مـن "التخصـصية" للقواعد التجارية الدولية بغية تكيفها مع تعقيدات روابط مجتمع التجار من جهة، وتأمين أكبر قدر من "التوقع" و"الأمن القانوني" من جهة أخرى، بحيث تطبق مباشرة على المنازعات المطروحـة دون إستنتاج الحلول تقليديا من مبدأ حسن النية. من تلك المبادىء المتخصصة: مبدأ عدم التناقض إضرارا بـالغير interdiction de se contredire au détriment d'autrui أو مـا يعـرف بـ"الإستوبل" الذي ما زال يتكامل وإن بصورة نسبية- مع "مبدأ المبادىء" le principe desprincipes، حسن النية، والذي كرس (أي الإستوبل) في كم ملحوظ من القرارات التحكيمية مما يدل على دوره المحوري في حسم المنازعات التجارية الدولية .
الملفت في هذا الصدد، أن المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص Unidroit قد تبنـى فـي دورة إنعقاده الثالثة والثمانين لعام 2004 لائحة جديدة من مبادىء العقود التجارية الدولية والتي من جديدها بخلاف اللوائح السابقة "تثبيت" "عـدم التنـاقض" interdiction de se contredire كمبدأ قانوني مستقل في المادة 8/1 منه (دون الإشارة للإستوبل)، في حين خصص المـادة 7/1 منه لمبدأ "حسن النية".
أما لدى منظمة التجارة العالمية، فنتلمس عدم بلوغ إعمال "الإستوبل" لدى جهـاز تـسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، الأهمية والدور المنشودين، لا سيما في تبسيط الإجراءات النزاعية رغم الإستشهاد به مراراً وإن غلب على ذلـك الطـابـع الـسلبي- إن فـي تقـارير المجموعات الخاصة أو الجهاز الإستئنافي أو في طلبات الدول الأعضاء رفعا لتظلم أو حمايـة لإجراء متخذ.. ومما لا شك فيه، أن لإثارة الفكرة في حد ذاتهـا بمعـزل عـن الأخـذ بـهـا أو إستبعادها، إيجابية تفيد عن "إمكانية إختراق" القواعد والأصول المتبعة مما يساهم فـي إكــسابها "موقعاً ما" متميزاً في المجتمع التجاري الدولي أسوة بالنظم الوطنية بالنظر الى دورها المحوري في ضبط مسار العلاقات في إطار من الثقة والإستقامة والصدق والأمانة.
"الإستوبل"... والنظام القانوني اللبناني... "لزوم ما لا يلزم".. أين المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية؟... حتماً سقطت سهواً!
لم تكن "الإستوبل" غائبة عن النظام القانوني اللبناني في مختلف وجوهه.. فعلـى الـصعيد التشريعي، يتمايز النص اللبناني شكلا ومضمونا عـن سـائر النصوص القانونيـة العربيـة والأجنبية... فبشيء من التمعن في النص القانوني اللبناني، نجد أن "الإستوبل" مكرس منـذ مـا يقارب 75 سنة، في الجوهر والمضمون، في عدد من نصوص قانون الموجبات والعقود ولاسيما المادة 1106 من قانون الموجبات والعقود اللبناني الصادر عام 1932 والمطبق بدءا مـن عـام 1934 والتي تنص على أن "ألغيت وتبقى ملغاة جميع أحكام "المجلة" وغيرهـا مـن النـصوص الإشتراعية التي تخالف قانون الموجبات والعقود أو لا تتفق مع أحكامه" وضمنا المادة 100 مـن مجلة الأحكام العدلية التي تنص على أن "من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه" وفي هذه الإحالة دلالة صريحة على "وجود" "الإستوبل" إنما بثوب قانوني لبناني فريد ومتمايز.
أما على الصعيد الفقهي، فلم تحظ فكرة "عدم التناقض" أو مبدأ "الإسـتوبل" خاصـة بـأي إهتمام.. كما لم يبادر أحد من الفقه اللبناني –الى حد علمنا- لتدارسه... وكأنه بمنحاه السلبي لـم يستشعر بعد أهميته وضرورته وفائدته في النظام القانوني اللبناني أسوة بسائر النظم القانونيـة الأجنبية.
أما القضاء، والعدلي بخاصة، فكان أكثر حماسة وجرأة في معالجة السلوكيات المتناقضة بصدد المنازعات غير التحكيمية والتحكيمية على نحو ما تفيده مجمل القـرارات ذات الصلة الصادرة عن محكمتي التمييز والإستئناف، مما يؤكد "أهمية" و"ضـرورة" تـصويب المـسارات التعاقدية حماية للروابط القانونية وضمانا لإستقرار التعامل في المجتمع، ولكن بين "إعمال" المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية تقليديا... و"إعتماد "الإستوبل" حديثاً. بين إقرار "مبدأ عدم التناقض" کسند مستقل إلى حد كبير الصلة بفكرة التحايل.. وبين إعتباره "مبدأ مستقلاً تماماً" كـسبب لـرد الدعوى في الموضوع وكسبب لعدم سماعها عندما يتعلق الأمر بمجال التحكيم... بين ضـرورة وضع ضوابط لتلك القاعدة برأي القاضي الدكتور سامي منصور وأهمها عدم إتـصـال العلاقـة بالنظام العام وأن تكون مما يعود الى الأفراد التصرف بها... وبين تركها على إطلاقهـا بـين "وضوح صورة العيب" المشكو منـه كحد لإعمالها، وبين "الإكتفاء بإمكانية تحققه" بمعزل عـن العلم بحد ذاته "... ما يثير "الدهشة" ويستدعي "التأمل" ويدعو إلى "التساؤل" عن سبب هكـذا تباین!!!
* محكمة التمييز اللبنانية... و"إعمال" المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية...
يبدو أن محكمة التمييز اللبنانية لم "تتأثر أقله شكلاً حتى اللحظة – بمنحى محكمة التمييز الفرنسية من تبني "الإستوبل" – بوجهيه السلبي والإيجابي – في عالم القانون عامة وعالم التحكيم خاصة.
وقد لا نبالغ إذا وصفنا الواقع التمييزي اللبناني في معالجة المنازعات التحكيمية – المحليـة والدولية – بين أشخاص القانون الخاص بــ "الرافض" آنيا للآليات المعتمدة خارج الحدود... ففي مناسبات عديدة أكدت محكمة التمييز "إحترام" ما تلحظه القوانين اللبنانية من قواعد وآليـات ولا سيما "إعمال" المادة 100 من مجلة الأحكام اللبنانية ومبدأ حسن النية منسجمة بذلك مع منحاها المعتمد في المنازعات الوطنية غير التحكيمية.
* محكمة الإستئناف اللبنانية.... و"إعتماد" "الإستوبل"... إنما "اللبنانية"!
"يتمايز" المنحى الإستئنافي عن "الواقع التمييزي" المشار إليه آنفا. فقد "تأثرت" – علـى مـا يبدو – الغرفة الثالثة لمحكمة الإستئناف اللبنانية – وحديثا الغرفة الأولى – بمعطيـات قانونيـة وقضائية من خارج الحدود، "متجاوزة" المسار التمييزي، و"معتمدة" آلية جديدة لم يألفها بعد النظام القانوني اللبناني عامة والقضائي خاصة، ونعني "الإستوبل" المتوافق مع المادة 100 مـن مجلـة الأحكام العدلية بحسب منطوق بعض القرارات الإستئنافية التي نتلمس في حيثياتها "تباينا واضحا" في حسم تكييفه القانوني "بين "مبدأ" تارة و"قاعدة" طورا و"نظرية" أحياناً. وكـأن فـي الأمـر"مسعى إستئنافي" لفرض "واقع قضائي جديد" من خلال بلورة "إستوبل لبنانية" "تتلاقى" مع المنحى القضائي الأجنبي في الشكل وبشيء من المضمون و"توفق" بين الخصوصية القانونية اللبنانية من جهة وما يوجبه عالم التحكيم من "حتمية الإنفتاح" على نظم وأدوات الخارج من جهـة أخـرى.
ولعل التساؤل الأبرز يكمن في معرفة إرتدادات هكذا منحى إستئنافي على مسار الإجتهاد اللبناني عامة و"الواقع التمييزي الثابت" خاصة؟ تساؤل تستدعي الإجابة عنه مزيدا من "الترقب" و"المتابعة الدقيقة" لمسار الإجتهاد اللبناني المتباين على ما يبدو حتى اللحظة.
"موقـف" الغرفة الإبتدائية في بيروت عام 2004.. المادة 100 من مجلة الأحكام العدليـة.. لم لا؟ **
لم يخرج القضاء التحكيمي اللبناني عن المنحى العام المتبع في علم التحكيم لجهة إمتداد البند التحكيمي إلى الغير مع أنه حتى اللحظة لم يذهب مذهب القـضاء الأميركـي فـي إسـتخدام "الإستوبل" كأساس قانوني جديد يبرر هذا الإمتداد. إلا أن المثير للإستغراب، الموقف السلبي للقضاء اللبناني – النظامي الرسمي والتحكيمي - سنة 2004، بمعرض منازعة "شركة المبـاني ش.م.م/ شركة" قرية معوض برمانا ش.م.ل" و"شركة معوض للإدارة والتسويق ش.م.ل" والـسيد روبير معوض"، حيث يرتدي القرار المتخذ بشأنها الصادر عن المركز اللبناني للتحكـيم طابعـاً إستثنائياً بنظر الدكتور هادي سليم.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الجهتين المدعية والمدعى عليها إستندتا فى شـأن مدى صحة البند التحكيمي لجملة من المعطيات القانونية والواقعية، منها "الإستوبل". أمـا الهيئـة التحكيمية، فقررت، بالأكثرية، في قرارها النهائي الصادر بتاريخ 19 آب 2004 إخراج السيد روبير معوض من القضية التحكيمية لعدم توافر أي أساس قانوني لربط صلاحيتها به ولعدم ثبوت إلتزامه البند التحكيمي أصولاً... ولكن... ألم يكن من الأسلم تبني ما إقترحه الدكتور هادي سليم في إمتداد البند التحكيمي إلى السيد روبير معوض عبر الأخذ بمبدأ "حسن النية" الذي يستند إليـه العديد من القواعد القديمة والحديثة المعتمدة فقها وقانونا وإجتهادا ومن ضمنها مبدأ "عدم التناقض" الذي يقابله في الأنظمة الإنكلو-أميركية المبدأ المعروف بالـ Estoppel المعتمد من الإجتهـاد اللبناني في قرارات عديدة مسندا إياه أحيانا إلى القاعدة الكلية الواردة في المادة 100 من مجلـة الأحكام العدلية؟
المنازعات التحكيمية وأشخاص القانون العام.. هل من "دور" للمادة 100 من مجلـة الأحكـام العدلية؟
ما يهمنا "إبرازه" في هذا المقام هو "إستبعاد" المادة 100 مـن مجلـة الأحكـام العدليـة أو "الإستويل اللبنانية" عن بعض منازعات على قدر من الأهمية والحساسية بالنظر الى ما "إستثارته" من "ممانعة حمائية ذات طبيعة قضائية" ناتجة من "الحصانة" المعترف بها في النظم القانونيـة، المحلية والدولية، لأشخاص القانون العام يمكن أن تشكل ميدانا صالحا لإعمالها.
المنظمة الدولية.. بين وجوب إحترام "الحصانة".... وقدسية" "حق التقاضي"... أليس البـديل المادة 100 من الأحكام العدلية؟
يبدو أن الغرفة الثالثة لمحكمة الإستئناف اللبنانية قد تأثرت حديثاً بمنحي المحكمة الإستئنافية الباريسية عام 2003 52، فأكدت في قرارها الصادر بتاريخ 26 تشرين الأول 2004 بمعـرض منازعة محمد وليد الفنج بصفته متولي وقف الأمير الدامرداش/وكالة هيئة الأمم المتحدة لإغاثـة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 53UNRWA "سمو" حق التقاضي على أي مبدأ أو نص قانوني ولو إتصل بالنظام العام وذلك بهدف عدم حرمان أي كان من المداعاة تحت ستار الحماية القضائية التي توفرها الحصانة للمنظمة. ويتبين من الحيثيات المهمة التي إستندت إليهـا الغرفـة الثالثة لمحكمة إستئناف بيروت مدى "فرادة" و"تمايز" قرارها الذي وصفه القاضي الدكتور سامي منصور، بحق، بالقرار الجديد والنوعي ... ولكن... الصحيح أن في القـرارين الإستئنافيين الفرنسي واللبناني "حرصاً شديداً" على إحترام حق التقاضي بإعتباره مـن الحقـوق الإجرائيـة الجوهرية الأساسية التي تسمو بأهميتها على أي نص أو مبدأ آخر مهما كانت طبيعتـه ومهمـا كانت صلته بالنظام العام، إنما الصحيح أيضا أن "الحصانة" لم تمنح أشخاص القانون العام مـن باب الترف، بل من باب الضرورة والحاجة لتأدية المهمات بحرية وإستقلالية وفعاليـة، إنمـا إعمالها سيؤدي تلقائيا إلى تقييد حق التقاضي وحرمان الحق في محاكمة منصفة وعـدم إحقـاق الحق. وهنا موطن الإشكالية وجوهرها... هناك حقان مهمان وضروريان في كفتي ميزان، حـق التقاضي حق أساسي وجوهري في الحياة القانونية والحق بالحـصانة حـق إسـتثنائي تمليـه إعتبارات وظروف ومعطيات خاصة. فهل يبقيان "يتزاحمان" عند كل حقبة إجتهادية أم سـتكون الغلبة لأحدهما؟ وما سيكون عليه منحى القضاء اللبناني في حال أثيرت أمامه بـصورة مباشـرة قضية أحد أطرافها منظمة دولية؟ هل سيأخذ بالحصانة كما درج على ذلك في الماضي أم سيذهب مذهب محكمة الإستئناف في قرارها المستجد عام 2004 منعا لأية عدالة ناقصة على نحـو مـا ذهب القاضي الدكتور سامي منصور؟ وهل بحق، "تراجع" موقع "الحصانة القضائية" أمام "هجمة" الحقوق الجوهرية والسيادية على نحو ما ذكر الدكتور نصري دياب! بالتـالي... أمـا كـان بالإمكان إلزام المنظمة الدولية بالتحكيم عبر إعمال المادة 100 من مجلة الأحكام العدليـة – أو "الإستوبل اللبنانية" – بدل الدخول في مجادلة قديمة – جديدة حول أي من الحقـين يتقـدم علـى الآخر الحق بالتقاضي أم الحق بالحصانة القضائية؟ فوكالة الأمـم المتحـدة لإغاثـة وتـشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (UNRWA) إلتزمت في العقد باللجوء إلى التحكيم لحسم الخلاف مع علمها أن العقد التأجيري أبرم في ظل قانون استثنائي خاضع للتمديد مما يستتبع بطبيعة الحال أن إثارة مسألة حصانتها بالذات لاحقاً للتهرب من المسار التحكيمي مردودة. فالواجب يقضي بأن تحترم التزامها عند الخلاف لا أن تنقضه وتتراجع عنه.
الدولة... بين إحترام "سلطان الإرادة".... والتمسك "بإرادة السلطان"... "معضلة" قضية الخليوي اللبنانية.. أين المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية؟
"دولة" تتعاقد مع القطاع الخاص، المحلي أو الدولي، وتوافق على التحكيم كمـسـار قـضائي لحل المنازعات.. ثم عند الخلاف تعود عن التزامها وترفض المسار التحكيمي متمسكة بمفـأهيم الحصانة والسيادة وإمتيازات السلطة العامة... من هنا نبدأ. فإذا كان القضاء النظامي الرسمي السيادي – مجلس شورى الدولة- هو المختص، فبمـاذا يفيد موافقة الدولة على التحكيم؟ وأين الصدقية في تنفيذ الإلتزام؟ أين سلطان الإرادة؟ مع الإشارة أننا نتكلم عن "دولة" لا عن أفراد.. في المقابل.. إذا كان القضاء الخاص الإتفاقي - التحكـيم هو المرجع الصالح لحسم النزاع إنفاذا لما تم الإلتزام به في العقـد، فـأين حـصانة الدولـة وسيادتها؟ وهل من الجائز "إستحضارها" أمام القضاء التحكيمي وهي -الدولة-؟
نعم... بين لبنان والتحكيم في العقود الإدارية بخاصة علاقة حساسة أخذت مداها من التـدارس في الداخل.... وأثارت تساؤلات مشروعة عديدة نتيجة "عمق الـصلة" و"التفاعـل مـع الحـضارة القانونية الفرنسية مصدر الإلهام الرئيسي للمنظومة القانونية اللبنانية... فتولد عن ذلك تباينات فقهيـة محتدمة... وجولات قضائية متباعدة... أعظمها شأناً.. وأخطرها تأثيراً – منازعة الخليوي الشهير-التي إستدعت ردا "عنيفا" و"موجعا" من أنصار تشريع أبواب القطاع العام بـصورة مطلقـة أمـام التحكيم. فكان "تحول" في المسار التشريعي... سيستتبع حتماً تغيراً في المسلك القضائي..
29 تموز 2002 ... تاريخ لا ينسى في التشريع اللبناني... والسبب.. قضية الخليوي؟
لا ينسى تاريخ 29 تموز 2002 وما شكله من محطة مفصلية في منحى التشريع اللبناني من تبني آلية التحكيم في العقود الإدارية بصدور القانون رقم /440/ الذي عدل بعض نصوص قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني من أهمها المادة 762 الجديدة التي تنص على أنه "يجـوز للمتعاقدين أن يدرجوا في العقد التجاري أو المدني المبرم بينهم بندا ينص على أن تحل بطريـق التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح التي تنشأ عن صحة هذا العقد أو تفسيره أو تنفيذه. يجوز للدولة ولأشخاص القانون العام أيا كانت طبيعة العقد موضوع النزاع اللجـوء إلـى التحكـيم.
إعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون، لا يكون البند التحكيمي أو اتفاق التحكيم نافذا فـي الـعقـود الإدارية الا بعد إجازته بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء لإقتراح الوزير المختص بالنـسبة للدولة أو سلطة الوصاية بالنسبة للأشخاص المعنويين من القانون العام".
القضاء اللبناني... بين "ثبات" الإجتهاد العدلي... و"رفض" الإجتهاد الإداري...
"وضوح" النص سهل "ثبات" الإجتهاد العدلي / الذي لم يتعـرض لمـا واجهـه القـضاء الإداري الذي بنى موقفه في رفض التحكيم في العقود الإدارية على نصوص ومعطيات قانونية وقضائية مستقاة بغالبيتها من التطور اللاحق بهذا الميدان في فرنسا، والتي – في حقيقة الأمر لم تحظ بـ "إستحسان" الفقه اللبناني، وليس أدل على ذلك من "موجة النقد العنيف" لموقف مجلس شورى الدولة في منازعة الخليوي الشهيرة.
وجهة نظر... في قضية الخيلوي اللبنانية الشهيرة... هل "نسينا" المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية؟
لقد كان لمجلس شورى الدولة إجتهاد ملفت في قراريه رقـم 638 – 2000/639 – 2001 في منازعة الخليوي.. وكانت في المقابل لرجال القانون مواقف "رافضة" إلى جانـب بعـض المواقف "المتفهمة" و"المؤيدة" فخاض مجلس شورى الدولة "معركة قانونية" محتدمة تعرض مـن و خلالها لأقسى الإنتقادات محاولا – قدر الإمكان – تبرير موقفه.. فإرتد هذا المناخ على ما هو معتمد تشريعيا، كما سیرند حكما – على المسار القضائي المستقبلي فـي هـذا الميـدان... بالإجمال.. صحيح أن النقاش الفقهي المحتدم بشأنهما قـد "سـكن".. وصـحيح أن "الإشكالية المحورية" التي شغلت الوسط القانوني اللبناني قد "إنتهت" بصدور القانون رقم 440/2002 الذي كرس واقعاً تشريعياً جديداً... ولكن، إذا عدنا الى حيثيات هذه القضية بدقائقها وإذا تأملنا – بشيء التفصيل- في "الردود" و"الردود المقابلة" نلتمس ما يثير الإهتمام ويسترعي الإنتبـاه إن فـي من "مضمون" ما أنت به الدراسات والتعليقات الغزيرة ذات الصلة أو في "المعالجة التشريعية" التـ إعتمدت لاحقا، والتي- رغم صوابيتها- قد يكون بالإمكان "تأجيلها" أو "إستبدالها" بـ "دور مـا" للمادة 100 من مجلة الأحكام العدلية أو "الإستوبل اللبنانية "لفض منازعة الخليـوي بالـذات أو سواها من قضايا مماثلة قد تثار في المستقبل. فحقاً... أما كان بالإمكـان تفـادي هـذا "الجـدل الصاخب" وتلك التحليلات " القيمة " و" المفيدة " لكثير من المعطيـات والنصوص والمفـاهيم القانونية ذات الصلة؟ أما كانت الحاجة إنتفت – آنيا - للقانون رقم 2002/440 الذي أحدث "نقلة نوعية جريئة" في بنية علم التحكيم في النظام القانوني اللبناني؟ أفما كان بالإمكان "إجتـراح" دور للمادة 100 من مجلة الأحكام العدلية أو "الإستوبل اللبنانية" ولاسيما وأن طبيعة "المخاطب" عبـر المادة 100 من مجلة الاحكام العدلية غير محددة، إذ قد يكون المقصود بـ "من سعى في نقض ما تم من جهته... شخصاً طبيعياً، فرداً أو جماعة، أو شخصاً معنوياً من أشخاص القـانون الخاص أو العام، وطنياً أو أجنبياً. ودلالة ذلك صراحة الواقع القضائي اللبناني من إعمال المادة 100 من مجلة الاحكام العدلية في عالم التحكيم وخارجه، المشار اليـه آنفـاً... فبرأينـا، لـن يستطيع القاضي الإداري اللبناني بخاصة التهرب من إعمالها سواء نظـر بذاتـه فـي المـسألة النزاعية أو وصلت إليه لاحقا عند مرحلة إعطاء الصيغة التنفيذية ولاسيما أنهـا مكرسـة فـ في "الداخل اللبناني" نصا وإجتهادا منذ 75 عاما ونيف !
نظرة إلى المستقبل....
إن مستقبل فكرة "عدم التناقض" يتوقف على "مكانتها" و"موقعها" ومدى "تبنيها" في المنظومة القانونية محليا ودولياً.... فهي إنعكاس لما هـو "مثـالي" و"أخلاقـي".... تبعـث "روح القيم" و"المبادىء الفاضلة" في مجتمعات سيطرت عليها النظرة النفعية المادية الضيقة الحسابية وحيـث باتت "الفوضى في كل شيء" هي السمة السائدة: "فوضى في الأخلاق"، "فوضى في المعاملات"، "فوضى في ممارسة الحريات والدعوة إليها "... ليس من السهل إغفالها أو تجاوزهـا أو غـض الطرف عنها... فهي في صميم المساحة المشتركة بين عالم "القانون" وعالم "الأخـلاق" وعـالم "الإقتصاد" وعالم "الإجتماع".. تتأثر بجديد المعطيات والميادين والمفاهيم.. تؤثر فيما تفرضه من قيود وضوابط.. تجسد "حقيقة" القانون و"ما يجب أن يكون عليه" القانون.. تـساهم فـي إمتـداد القانون لميادين عجزت أية قاعدة قانونية عن الوصول إليها وضبطها وترشيدها...هي "مكملـة" لمبدأ العدالة.. "مقيدة" لمبدأ حرية الإرادة... "متممة" لمبدأ المشروعية.
إن التوجه بمزيد من الإنفتاح والإنعتاق من النزعة الضيقة يستوجب من المشرع "الـسرعة في الحركة".. ومن القضاء "سد الثغرة".. ومن الفقه "التوجيه" و"إستمرار اليقظة".. فعلـى عـالم القانون أن يواكب مستجدات الحياة ومتطلباتها... وهنا التحدي الأساس.. التحـدي فـي إيجـاد "الوازع" الذي قد يكون مبررا" تحقيقا لمواءمة قد تكون صعبة بين "الضرورة المنشودة والفائـدة المرجوة" من جهة و"الخوف المبرر" من جهة أخرى... فليس ذلك بخطأ... ولـيـس فـي ذلـك "إقصاء" لآليات قانونية معتمدة، أو "إخلالا" بمعتقدات ومعادلات راسخة، أو "تضحية" بإتجاهـات إجتهادية ثابتة، بل مواكبة لكل جديد، وتكيف مع إيقاع الحياة المتغير دوما.
"الإلتفاف" على الإستوبل "الإنكليزية" عبثي".. لا بد من العودة إلى الجوهر.. إلـى فكـرة عـدم التناقض...
تبدو فكرة "عدم التناقض"، إزاء كم من المخاطر والمحاذير والإشكاليات والتساؤلات التـى بلغت حدها الأقصى من القساوة أو المبالغة أو التخوف المبرر التي أشرنا الى البعض منها فـي هذه الدراسة الموجزة، هي الأنسب دوما لمواجهة التجاوزات ومعالجة التناقضات فـي المواقـف والسلوكيات.. بعيدا عن أي "إجتياح" أو "قلق" أو "إرتياب"... فالمسألة والحق يقال- لا تتـصل "بأسبقية الوجود القانوني" في النظم -عربية كانت أم أجنبية - دون إهمـال دلالات ذلـك علـى مستوى رقي الحضارات المؤثرة بطبيعة الحال في بنية وتركيبة القواعد القانونية المتفاعلـة البيئة ومقتضياتها وأحوالها.. ليست المسألة مسألة "فخر" للشرق أو "تقدم" للغـرب فـي سـباق مكتشف قانوني.. ليست مسألة "تقليد" أو "إقتباس" أو "تصدير" أو "إستقبال" أو "تحفظ" أو "تبعية" أو "تعصب" أو "تفوق" مهما لطفت العبارات وإستنسخت المصطلحات.. المسألة في جوهرها "حوار" حضارات وثقافات و"تعايش" مفاهيم ومعتقدات، هي كذلك وستبقى حكماً.
نعم...
لقد آن الأوان، للإستجابة "لقرع الأجراس الفقهية والقضائية والتفاعل إيجابياً مع التحدي –إن صح التعبير - في "إبتكار" أو "تطوير" أو "إستقبال" مؤسسات قانونية تساهم في إستقرار المجتمـع وتصويب مسار علاقات أفراده على كافة الصعد والميادين.
لقد آن الأوان... لتطوير اللغة القانونية العربية عامة واللبنانية خاصة... تطوير يوفق بـين التمسك بالتراث القانوني ومسايرة الزمان.
إقتراحات مفيدة وضرورية، عربياً، ولبنانياً في مقاربة فكرة "عدم التناقض"...
إن "الإستوبل" بثوبها القانوني العربي عامة واللبناني خاصة في حاجة، إلى "قالـب قـانوني جديد" يتناسب مع رقي المدنية وتعدد وجوه العلاقات القانونية..
بداية... لا بد من مصطلح قانوني عربي جديد...
سبق أن بينا أن "الإستويل" مصطلح قانوني أجنبي يصعب تحديد أصوله وجذوره بدقـة... بالتالي.. إذا أدخلناه ولو معربا إلى لغتنا القانونية العربية سيبدو مهما صقلناه كالرقعة المختلفة عن نسيج الثوب.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا مجال لترقيع الثوب القانوني العربي من نسيج الرقعة الأجنبية نفسها.. فهذا من ضروب الخيال، فضلاً ذلك، بدا لنا من سياق الدراسة، أن المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية "غير قادرة" -بصياغتها المتوراثة منذ عهـود - علـى الإحاطـة بمجمل ما استجد في الحياة القانونية المعاصرة من أوجه معاملات ومنازعات، كما أن "إبقاءهـا على قدمها" قد "يرتد" على "منحى تفاعل" النظم القانونية العربية مع مستجدات الحياة المعاصـرة الضاغطة وما تفرضه من آليات ومفاهيم قانونية وقضائية... وبالتالي.. قد يبدو "الحل الأنسب" - أقله عربياً- إما "الإقتداء" بالنموذج التونسي... أو "تطوير" صياغة المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية بإضافة "قد" في متنها بحيث تصبح من سعى لنقض ما تم من جهته فـسعيه قـد يكـون مردودا عليه].... إلا أن المساس بـ "قاعدة فقهية إسلامية" – ونعني المـادة 100 مـن مجلـة الأحكام العدلية – ليس بالأمر اليسير ويتطلب كثيرا من "الحذر" و"التنبه" نظراً الى خـصوصيتها و"دقة" حيثيتها التاريخية والعلمية والعملية (مع العلم أن واضعي المجلة أنفسهم لم ينكروا صراحة في المادة 39 منها تغير الأحكام بتغير الأزمان).
وعليه.. ونظراً الى مجمل الإعتبارات السابقة، نعتقد أن "المخرج الأنسب" يكمن في البح عن مصطلح قانوني عربي جديد.. ونقترح في هذا الصدد: مبدأ "منع نقض الإلتزام".
ثانياً- تعديلات تشريعية.. لتكون قوانين لبنان... بلغة لبنان.. تلبية لحاجات لبنان.
لقد أشرنا فيما سبق، إلى أن غالبية التشريعات العربية بخاصة كرست جوهر "الإستوبل" في مادة قانونية ضمنتها قوانينها المدنية تارة أو قوانينها في الإثبات بصياغة مطابقة لحد ما لمنطوق المادة 100 من مجلة الأحكام العدلية التي تنص على أن: "من سعى في نقض ما تم مـن جـهتـه فسعيه مردود عليه".
أما في القانون اللبناني، فلا بد من التمييز بين فرعيـه الخـاص والعـام حيـث بعـض
أما الإقتراحات:
فيما يتعلق بالقانون الخاص اللبناني، فإن المادة 1106 من قانون الموجبات والعقود الصادر عام 1932، واضحة في إحالتها لمجلة الأحكام العدلية وضمنا المادة 100 منها المتوافقة إلى حد بعيد وملفت مع مضمون "الإستوبل". يفيد هذا الواقع عن إعتراف لا لبس فيه بالقاعدة المذكورة... إلا أننا نرى من المفيد تعديل قانون الموجبات والعقود اللبناني وإضافة باب تمهيدي تـدرج فيـه مجمل المبادئ الأساسية كسريان القانون من حيث الزمان والمكان إلى سواها من أحكام عامـة، وضمنا النص الآتي:
"يمنع على الأطراف نقض ما التزموا به احتراما لمبادىء حسن النية والإنصاف والعدالة في الروابط التعاقدية".
أما في ما يتعلق بالقانون العام اللبناني، وبعيداً عن جدلية – قد تثار – بشأن توصيف فكـرة "عدم التناقض" عامة و"الإستوبل" أو سند اعمالها في ظل خلو قانون المنازعـات الإداريـة مـن الإشارة التشريعية بشأنها... وإذا كانت الأولوية كما دوما لنص تشريعي يتعامل معـه القاض الإداري... ليكن نص تشريعي إنما ليس القانون رقم 440/2002 على أهميته، بل نـص جديـد يضاف الى نظام مجلس الشورى الصادر بالقانون المنفذ بالمرسوم رقـم 10434 لعـام 1975 وتعديلاته، يكرس جوهر فكرة "عدم التناقض" المعبر عنها لبنانياً مخرجاً لائقاً بالمادة 100 مـن مجلة الاحكام العدلية، وقد يؤمن" "مخرجاً لائقاً" (لقضية الخليوي بالذات) يــوازن بـين "تـأني" المشرع في إعتماد التحكيم في كل العقود وبين حفظ "صدقية" الدولة و"إحترامها" لتعهداتها و"حسن نيتها" في تنفيذ التزاماتها، ويوفر للمستقبل أداة قانونية - تقنية لحسم المنازعات المماثلة، منطوقه الآتي:
"يمنع على الدولة أو أحد أجهزتها العامة نقض التزاماتها تحت طائلة المسؤولية مراعـاة لمبادىء حسن النية والعدل والإنصاف في تنفيذ التعهدات والإلتزامات" .
ختاماً، لقد أبدع أحد المستظرفين في الإجابة عن بعض الإدعاءات المتناقضة بقول معبـر، فلقد جاءه أحد المتخاصمين يعرض عليه النزاع ويبرىء نفسه ويدين خصمه فقال له: "نعم إنـك على حق".. وبعد قليل.. جاءه المتخاصم الثاني وبدأ يشرح الأسباب فأجابه: "نعـم إنـك حق"... فإستغربت إمرأته من ذلك وقالت له: "لقد جاءك المتخاصمان وقلت لكل منهما إنك علـى حق ولئن كان أحدهما محقا في دعواه فإن الآخر ولا شك غير محق فيها".. فإلتفت إليها وتدارك الجواب: "نعم.. وإنك على حق".
حقا.. ما أعجب التناقض.. كمن يريد أن يستقل بالخروج عن الطاعة.. ولا يسعد إلا حين يجـد من يشعر بوجوب طاعته!
نكتفي في هذا المقام بهذا القدر الموجز مع فكرة عدم التناقض... وإن كان المداد لم ينضب بعد... إنما حتما سيكون لنا معها جولات وجولات.... والله ولي التوفيق...