الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم بين الدول المضيفة والمستثمر الأجنبي / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36 / تنازع الجنسيات أمام مركز تحكيم واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار  بين الدول ورعايا الدول الأخرى

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 35-36
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    281

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

أدى تطور المجتمع الدولي وزيادة حركة انتقال الأفراد والأموال عبر الحدود واعتراف القانون الدولي بحرية كل دولة في تنظيم جنسيتها إلى انتشار ظاهرة ازدواج الجنسيات وتعدّدها بطريقة غير مسبوقة إلى إثارة الكثير من المشاكل القانونية المعقّدة أمام القضاء الوطني وفي المحافل الدولية . فهذه الظاهرة لا ينطوي تحققها على ثمة تعسف من قبل الدول المعنية متى تمت وفق قوانينها والمعاهدات الدولية. فتباين وتعدد الروابط المؤدية لمنح أو اكتساب كثير من الاشخاص للصفة الوطنية لدولتين أو أكثر وبطريقة تبرر قانوناً انتسابهم في عين الوقت لكل منهما متى قدر قانونا كفاية تلك الروابط لذلك لا مساس فيه للاعتبارات الداعمة للقوانين المنظمة للجنسية .

ويتحقق ازدواج الجنسية بثبوت جنسيتين لشخص ولد لاب تأخذ دولته – فيما يخص منح جنسيتها- بحق الدم على إقليم دولة تأخذ بحق الإقليم، فيحصل بذلك على جنسيتين. وقد يحدث أن يكون للشخص ثلاث جنسيات فأكثر. فمن ولدت على إقليم دولة تأخذ بحق الإقليم لأبوين مختلفي الجنسية، دولة كل منهما تأخذ بحق الدم من جهة الأب ومن جهة الأم وتزوجت بأجنبي ودخلت في جنسيته تصبح متعددة الجنسية. كما يتحقق في من ولد لأب متمتع بجنسية دولة تأخذ بحق الدم، على إقليم دولة تأخذ بحق الإقليم فيثبت له جنسية والده بناءً على رابطة النسب وجنسية دولة مولده بناءً على رابطة الإقليم . ومن ذلك أيضاً من ولد لأبوين متمتعين بجنسية دولتين تأخذ إحداها بحق الدم من جهة الأب والأخرى بحق الدم من جهة الأم، حيث يصبح من بين مزدوجي الجنسية متى ثبتت له جنسية هاتين الدولتين إعمالاً لحق الدم.

وتعدّد جنسية أحد الآباء ينتقل إلى الأبناء. فمن ولد لأب أو لأم من بين متعددي الجنسية المنتمين لدول تأخذ بحق الدم يمكنه بالتبعية "وبتوارثه" تلك الجنسيات أن يصبح من بين متعددي الجنسية. ومن ولد لأب غيّر جنسيته في ما بين الحمل بالمولود ووضعه، وكانت دولة الاب تمنح جنسيتها للابن استناداً إلى جنسية الأب وقت الحمل، بينما كانت الدولة محل الميلاد تمنح جنسيتها لمن ولد على أراضيها، يصبح مزدوج الجنسية. كذلك فعادة ما يؤدي الزواج المختلط إلى ازدواج أو تعدّد الجنسية . فأبناء الأب المصري والأم البريطانية قد تثبت لهم بالميلاد الجنسية المصرية (جنسية الأب) والبريطانية (جنسية الأم) بالإضافة إلى ما قد يؤدي إليه ميلادهم على إقليم دولة كفرنسا إلى تمتعهم بالجنسية الفرنسية. ويمكن أن ينتج ازدواج الجنسية عن ضم جزء من إقليم دولة إلى أخرى  أو عن تجنّس شخص بجنسية دولة أجنبية مع احتفاظه بجنسيته الأولى  أو عن دخول الزوج والأولاد (في الزواج المختلط) في جنسية الزوج الجديدة بالتبعية شريطة أن تُبقي لهم دولتهم الأولى على صفتها الوطنية

فتلك الحالات وغيرها - التي يمكن أن تكون مصدراً لازدواج الجنسية أو تعدّدها والتي – بصرف النظر عما أحدثته من "خلل على المفهوم المعتاد للجنسية"  – أثارت وتثير الكثير من المشاكل القانونية. ومن حيث أننا لسنا -في إطار هذا البحث- منشغلين بخطورة هذه الظاهرة من حيث كونها "مشكلة عالمية" ليس لدولة واحدة أن تتحمل عبئها ولا يوجد حرج في إقرارها "من أجل مصالح الدولة ومصالح رعاياها، ولو تمت التضحية بأصول التشريع ومصالح الدول الأخرى" ، ولا بالمخاطر الناجمة عنها بوصفها "خطر على الهوية الوطنية" ، ولا حتى بالمشاكل التي تمسّ جوهر الرابطة ذاته ، فقد اكتفينا باستعراض حالاتها كركيزة ضرورية لدراستنا المنصبّة على تنازع الجنسيات أمام هيئات مركز تحكيم واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعاية الدول الأجنبية. ذلك أنّ المحاكم الدولية وكثير من هيئات التحكيم المختلط – كالمحاكم الوطنية - حينما تتعرض لتلك المشكلة إنما تواجه الأثار المترتبة عليها قاصدة إيجاد حلٍّ عادة ما يرتكز على ترجيح إحدى الجنسيات دون أن تعبأ بإيجاد حل جذري لها. وآية ذلك أنه ليس من اختصاص القاضي الوطني أو الدولي ومن باب أولى المحكم أن يقضي باعتبار إحدى الجنسيات المتنازع فيها كأن لم تكن أو أن ينتهي إلى سحبها أو إلى التقرير بفقدها. فالمفترض بشأن مزدوج الجنسية أو متعددها أنه اكتسب جنسيتيه أو جنسياته بطريقة سليمة وفق قانون الدولتين أو الدول المانحة أو المكسِبة لها. إذ التمتع بجنسية أكثر من دولة يفترض وجود درجة من الارتباط بين الشخص والدولتين أو الدول التي ينتمي إليها تم التعبير عنه بقرار سلطات الأخيرة المانح للرعوية.

من هذا المنطلق وبصرف النظر عن مختلف المشاكل القانونية المصاحبة لازدواج الجنسية وتعدّدها على المستوى الداخلي ، فكثيراً ما تثير هذه الظاهرة – في إطار العلاقات الخاصة الدولية- مشاكل أخرى لا تقل تعقيداً وخصوصية. إذ عادة ما ينتج من تمتّع المستثمرين بجنسية أكثر من دولة مشاكل قانونية تزداد حدّة عندما يكون مزدوجو الجنسية منتمين الى الدولة التي أقاموا على أراضيها استثمارات أصبحت محلاً للتقاضي في المحافل الدولية. إنّ مشكلة تنازع جنسيات المستثمر الشخص الطبيعي أمام هيئات تحكيم مركز واشنطن تقودنا للتساؤل عما إذا كان للمستثمر مزدوج الجنسية اختصام دولة جنسيته أمام مركز تحكيم واشنطن متى كان متمتعاً بجنسية دولة أجنبية؟ أليس لدولة الاستضافة أن تعتبره من وطنييها وأن تدّعي بانتفاء الصفة الأجنبية عنه بطريقة تلزمه بولوج طريق التقاضي أمام محاكمها الوطنية؟ أليس لتلك الدولة أن تعتبره من وطنييها وأن تدّعي بانتفاء الصفة الأجنبية عنه بطريقة تلزمه بولوج طريق التقاضي أمام محاكمها الوطنية؟ وهل نصوص الاتفاقية المنشئة لمركز تحكيم واشنطن والسوابق الصادرة – في هذا الخصوص -عن هيئات الأخير قد تصدّت لهذه المشكلة القانونية؟ وإذا كانت نصوص تلك الاتفاقية التي وضعت منذ ما يدنو من نصف قرن قد باتت غير ملائمة للتطورات المعاصرة في مجال الاستثمار الدولي، فهل يمكن استعارة الحلول المستقرة في المحاكم الدولية في منازعات مشابهة لتلك المعروضة أمام تلك الهيئات التحكيمية؟ هل يمكننا اعتماد الحلول التي أقرّتها محاكم التحكيم المختلط في قضايا مشابهة أو تلك التي أقرّتها محكمة العدل الدولية في مجال الحماية الدبلوماسية؟ وإن كان الأمر كذلك، فما المعيار المأخوذ في الحسبان عند قيام القضاء الدولي بتحديد المركز القانوني لمزدوج أو متعدِّد الجنسية؟ وإذا كان المستقر عليه أنّ لقضاء الدولة "الغير" الترجيح بين الجنسيات المتنازعة تطبيقاً لحكم المادة الخامسة من اتفاقية لاهاي لسنة 1930 الذي ورد به أنه " في الدولة الغير يجب أن يعمل الشخص الذي يتمتع بعدة جنسيات، كما لو لم تكن له إلاّ جنسية واحدة" ، فهل يمكن - بطريق القياس - الاعتراف لهيئات تحكيم مركز واشنطن بسلطة الفصل في ما يثور أمامها من منازعات بخصوص تحديد جنسية المستثمر متعدّد الجنسية أو مزدوجها؟ وإن كان كذلك، فهل أحكام التحكيم الصادرة في المنازعات المثارة أمام تلك الهيئات قد تصدّت بجدارة لهذه المشكلة القانونية؟ وهل يمكن للأسانيد التي أتى بها الفقه المعني والسوابق التي أقرّتها محاكم التحكيم المختلط ومحكمة العدل الدولية أن تسهم بإسهاب في حل المشاكل المشابهة والخاصة بتنازع جنسيات المستثمرين المثارة أمام هيئات تحكيم مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأجنبية؟ وإذا بات للمحكم أن يقوم بالتعرض لتنازع الجنسيات فصلاً في أمر اختصاص هيئات مركز تحكيم واشنطن بها، فما هو الأساس المتّبع لذلك، بمعنى آخر أيمكن اعتماد المستقر عليه دولياً من ضرورة الأخذ بنظرية الجنسية الغالبة أو الفعلية؟

غني عن البيان أنّ مسألة ازدواج وتعدّد جنسية المستثمر وبصفة خاصة تلك المتعلقة بفرض دولة الاستضافة لجنسيتها من بين المسائل الشائكة التي على درجة بالغة من الأهمية. وآية ذلك أنها كانت قد شغلت بال واضعي اتفاقية واشنطن الذين كانوا أثناء الأعمال التحضيرية للاتفاقية قد أيقنوا بمخاطر قيام دول الاستضافة بفرض جنسيتها واستخدام نظامها القانوني للجنسية بغية حماية مصالحها أو تحقيق مآربها بطريقة تعسفية. فالمشكلة كانت قد أثيرت أثناء الأعمال التحضيرية للاتفاقية حيث انتهى الرأي بعدم جواز منح الدولة مكنة التنصل من التزامها بعرض منازعاتها (الاستثمارية) على هيئات تحكيم المركز"  وهذا ما أكد عليه الفقيه ميشيل شيرور Schreuer بقوله – آنذاك -أنه "لا يجوز للدولة المضيفة أن تفرض جنسيتها على المستثمر الأجنبي بغرض سحب موافقتها ". وإذا كان قد تقرر أن تترك "هذه المسألة لقرار لجنة التوفيق أو هيئة التحكيم" ، فيجب - في الحالات التي تسعى فيها الدولة إلى فرض جنسيتها على المستثمر - أن يتم تحديد الجنسية بالرجوع إلى قانون الدولة المتنازع في جنسيتها وعند الاقتضاء إلى قواعد القانون الدولي المعمول بها. فهيئة التحكيم أو لجنة الطعن "سوف تضطر إلى التعامل بشكل مناسب مع الحالات التي تكون فيها الدولة المضيفة قد فرضت جنسيتها على المستثمر" .

من أجل ذلك وللإجابة عن التساؤلات التي اشرنا إليها سنبادر بالبحث عن حلول قانونية لهذه المشاكل المعقّدة باستعراض موقف الفقه والقضاء الدوليين الخارج عن مركز تحكيم واشنطن من مشكلة تنازع الجنسيات (الفصل الأول) قبل تحليل آراء الفقه المعني باتفاقية واشنطن وموقف السوابق التحكيمية للمركز الذي أنشأته الأخيرة من الأخذ بالمستقر عليه في القضاء الدولي لحل هذه المشكلة سواء من حيث مدى اتساقه وأهداف الاتفاقية ومدى تجاوبه والتطورات المعاصرة للمعاملات الدولية أو من حيث إمكانية استعارة المبادئ التي أرستها منذ عقود محاكم التحكيم المختلط ومحكمة العدل الدولية (الفصل الثاني)*.

 

الفصل الأول: استقرار فقه القانون الدولي وقضائه الخارج عن اتفاقية واشنطن على الأخذ بالجنسية الفعلية لحل مشاكل تنازع الجنسية

بعد خلاف طويل دام بين قائل بضرورة مراعاة التكافؤ والمساواة بين السيادات 

ومتّبع لنظرية الجنسية الأقرب لقانون القاضي أو لتلك الأقدم تمتعاً أو الأحدث اكتساباً

ومنادى باستبعاد ضابط الجنسية كلية وإحلال فكرة الموطن محلاً لها  استقر الوضع في فقه القانون الدولي الغالب على الأخذ بنظرية الجنسية الفعلية التي ترعرعت مبادئها أمام القضاء الدولي.

ويقصد بهذه الجنسية "الفعلية أو المهيمنة أو المسيطرة"، تلك التي يعيشها الشخص فعلا وواقعا من بين الجنسيات التي يتمتع بها . وللمحكمة المثار أمامها أمر متعدد الجنسية أن تميط اللثام بالكشف عنها وبحسب ظروف كل حالة. والكشف عن تلك الجنسية من مسائل الواقع الذي يقوم به القاضي مستعرضا الشواهد على ارتباط الشخص بأي من الجنسيات المتنافسة. وليس معنى ذلك أن يقوم القاضي أو المحكم بالترجيح بين الجنسيات على أساس من الواقع فحسب، بل عليه - حين البحث عن الجنسية الفعلية - التثبت من وجود "جنسية قانونية فعلية". من أجل ذلك يكون "المزج بين الواقعية الموضوعية (الارتباط المادي) والواقعية الشخصية للكشف عن الجنسية الفعلية" . ومن بين العناصر الموضوعية التي يمكن الاستعانة بها الموطن، محل الإقامة، المقارنة بين مدد الإقامة التي يقضيها الشخص في هذه الدولة أو تلك. أما العناصر الشخصية التي من شأنها الكشف عن الجنسية الواقعية فمن بينها " الروابط التي تربط الشخص بكل دولة من الدول التي يحمل جنسيتها، كأن يكون له في احدى هذه الدول مصالح تجارية أو توجد له فيها روابط عائلية أو أن يزاول فيها حقوقه السياسية أو العامة أو أن يلتحق فيها بإحدى الوظائف العامة أو أن يؤدى فيها الخدمة العسكرية أو أن تكون لغتها هي لغته الأساسية أو أن يخضع على الدوام لقانونها..."  أو "البحث عن الملابسات والظروف التي تم فيها اكتسابه للجنسية الثانية أو أن يستقرئ نية صاحب الشأن ويستشف رغباته في أن يعامل وفق هذه الجنسية" . تلك هي العناصر التي من شأنها مساعدة القاضي أو المحكم في تكوين عقيدته في البحث عن الجنسية الفعلية التي يعيشها الشخص، فيعامله على أساس منها. ومعيار الجنسية الفعلية الذي قال به الفقه، هو السائد في القانون المقارن، إذ تأخذ به غالبية الأنظمة القانونية  وتواترت عليه السوابق القضائية ، مسايرة في ذلك الحلول التي انتهى إليها القانون الدولي والتي تطورت تدريجياً نحو الأخذ بهذه النظرية. فالقضاء الدولي، ابتداءً من أحكام محاكم التحكيم المختلط، كان من بادر بصياغة بإثارة فكرة الجنسية الفعلية التي لم تعد تثير شكاً حول ثباتها وارتقائها لترسخ بين قواعد قانونه مكاناً لها. فقد كانت هذه النظرية سبيلاً لتأسيس طلبات اللجوء الى محاكم التحكيم المقدمة من مزدوجي أو متعدّدي الجنسية في ظل ما كان مستقراً عليه من عدم قبول طلباتهم المقامة أمام تلك المحاكم التحكيمية (المبحث الأول) قبل أن تنحسر في بعض الأحكام لبعض الوقت لتعود تارة أخرى في ظل تطور مجال الحماية الدبلوماسية لتصبح الأساس الذي أقام عليه القضاء الدولي سوابقه بوصفها الحل الحاسم للمشاكل المرتبطة بازدواج الجنسية وتعددها (المبحث الثاني).

 

المبحث الأول: التردّد في تبنّي نظرية الجنسية الفعلية لفضّ تنازع الجنسيات

المثار أمام محاكم التحكيم المختلط أو المحاكم الدولية

بالنظر الى التاريخ القانوني لمنازعات ازدواج الجنسية التي ثارت في اروقة المحاكم الدولية في العقود الاولى من القرن الماضي يبين لنا تطور الحلول التي أتى بها القانون الدولي لمشاكل ازدواج الجنسية وتعددها. فقد كان الأمر مستقراً على عدم قبول اختصام مزدوج الجنسية لأي من دولتي جنسيته لاعتبارات عديدة، بعضها مستمد من المساواة بين السيادات في العلاقات الدولية بطريقة أدت إلى رفض الأخذ بنظرية الجنسية الفعلية (المطلب الأول). ثم تباين الحال بعد ذلك إذ اتجهت أحكام التحكيم لإعمال مفترضات تلك النظرية والقبول بالأخذ بها وهو ما حدا مجالس الصلح والتحكيم المختلط على تطوير مواقفها والانتهاء إلى الارتكان إليها لتسوية ما أقيم أمامها من دعاوى من مزدوجي الجنسية ومتعدديها (المطلب الثاني).

 

المطلب الأول: رفض الجنسية الفعلية مراعاة للتكافؤ بين السيادات بشأن الجنسية

طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات النصف الأول من القرن العشرين استقرت أحكام محاكم التحكيم المختلطة ومجالس الصلح التي شكّلت آنذاك لتسوية منازعات أثيرت أمامها بين عدد من الحكومات وأشخاص طبيعية من بينهم العديد من مزدوجي الجنسية ومتعدديها على رفض الطلبات المقدّمة من الفئة الأخيرة متى ثبت تمتعهم - بالإضافة الى الجنسيات الأخرى - بجنسية الدولة المدّعى عليها احتراماً للمساواة والتكافؤ في السيادات في مادة الجنسية .

من ذلك الحكم الصادر عن Privy Council  في قضية Drummond عام 1818. وتتلخص وقائع القضية المشار إليها في أنّ ورثة السير Drummond، الذي كان قد ولد في مدينة آفنيون بفرنسا وعاش في الأراضي الفرنسية حتى عام 1792، كانوا قد تقدموا بطلب إلى الجهة المشار إليها التي اعتبرت أنه رغم كون "السير دريمون" فنيا techniquement

رعية بريطانية إلاّ أنّه كان "بصفة أساسية" رعية فرنسية منتهياً، نتيجة ذلك، إلى عدم قبول الطلب .

وعلى الرغم من استعراض هذه السابقة طوال القرن التاسع عشر في مناسبات متعدّدة إلاّ أنّ ذات الجهة التي أقرتها Privy Council اعتبرت، في أحكام أخرى، أنّ صفة الرعية الإنجليزية بالمعنى الوارد في معاهدة 1814 و1815 لا يرتبط بالجنسية، وإنما بالإقامة، منتهية إلى قبول بعض الطلبات التي قدمت من مدام اندريه André ومدام ويلسلاي wellesley اللتين كانتا أرملتين بريطانيتين مقيمتين بصفة دائمة في بريطانيا دون أن تفقدا جنسيتهما الفرنسية ودون أن تكتسبا الجنسية الإنجليزية .

كذلك عام 1871 تم تشكيل مجلس التحكيم المختلط " الأمريكي – المكسيكي "تطبيقاً لاتفاقية 4 يوليه 1868 للفصل في المنازعات التي أثارها عدد من رعايا الدولتين ضد الدولة الأخرى، والذي كان قد رفع إليه طلب قدّمه السير مارتان Sieur Martin الذي كان متمتعاً بالجنسية الأمريكية بوصفها الجنسية الأصلية قبل إكتسابه اللاحق للجنسية المكسيكية لعمله في خدمة الحكومة المكسيكية. ولقد قوبل طلب التحكيم الذي قدِّم ضد دولة المكسيك باسم السيد مارتان بعدم القبول اعتباراً بأنّ " كل الحكومات المتبصرة تتفق على أنها كانت دولياً ملتزمة الاعتراف بالتجنس المكتسب من جانب رعاياها في دول أخرى" . ولقد كان المحكم المرجح بنفس المجلس المختلط قد انتهى إلى الحكم في قضية schreck بأنّ المدّعين، لكونهم متمتعين بالجنسيتين الأمريكية – إعمالاً لحق الدم – والمكسيكية – تطبيقاً لحق الإقليم، " فما كان لهم حق التصرف أو المطالبة أمام المجلس المختلط، وما كان يمكنهم بصفتهم مواطنين أمريكيين أن يتقدّموا بمطالب ضد دولة ميلادهم" .

ومن بين السوابق التي كرّست لرفض دعاوى مزدوجي الجنسية ضد أي من الدول التي يتمتعون بصفتها الوطنية، الحكم الصادر سنة 1873 في قضية "Alexander"  عن مجلس المصالحة "الإنجليزي – الأمريكي" الذي تم تشكيله تطبيقاً للمعاهدة المبرمة في 1861 بين الولايات المتحدة وبريطانيا لتعويض البريطانيين ضحايا حرب التقهقر الشهيرة بـLa guerre de la récession حيث رفع أمام المجلس مطالبه بخصوص ميراث السيد Alexandre الذي كان متمتعاً بالجنسية البريطانية، إعمالاً لحق الإقليم، وبالجنسية الأمريكية تطبيقاً لحق الدم. ولقد كان ألكسندر الذي تقاسم إقامته بين ايكوس Écosse وكينتكي kentucky دائماً ما يعلن ولاءه للمملكة المتحدة. كما أنّه لم يكن قد اكتسب أراضيه في كينتكي إلاّ بفضل قانون خاص صادر عن الدولة مرخصاً له بذلك، رغم صفته الأجنبية وإقامته في إيكوس، وإن ثبت أنه وقت حصول تلك الأحداث كان مقيماً في كينتكي. ولقد أعلن مجلس التحكيم عدم قبول الطلب نظراً لأن " الفصل في الأسانيد المثارة من السيد ألكسندر ضد إحدى الدولتين اللتين يجب عليه الولاء لهما يؤدي إلى إقامة تنافس في الاختصاص بين الأمم التي يدين لها جميعاً بالولاء. ويترتّب على ذلك الكثير من الصعوبات لأنه لا توجد أية حكومة لا تعترف بحق التدخل في شؤونها الخاصة لدولة أو لحكومة أخرى باسم شخص تعترف به كأحد مواطنيها" .

ودعماً لذلك لم يتوانَ المجلس عن الاستناد الى الحكم الصادر في قضية دريمون التي أبرزت سياسة الامتناع التي اتبعتها الحكومة البريطانية في حالة مماثلة، ولكن ممثل الحكومة الأمريكية frazer الذي كان قد أصدر حكم الكسندر، كان - في رأيه المقرّر الذي تبنّاه في قضية ferris  - في العام نفسه، قد أكد على أنّ الجنسية الأمريكية لم يتم التمسّك بها لأنها كانت متّسقة مع الإقامة.

ودائماً أمام مجلس المصالحة الإنجليزي الأمريكي المقرّر بمعاهدة 1871 كان السيد Boyed - من أصل أمريكي - قد اكتسب بطريق التجنّس، الجنسية البريطانية، واستقر في ايكوس، ثم طلب التعويض عن الأضرار التي ألمت به عند عودته الى الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن زوجته لاصطحابها إلى إيكوس، ولكن إقامته كانت قد طالت واستقر في الولايات المتحدة بصفة نهائية. وبالرغم من أنّ المجلس كان قد انتهى إلى عدم قبول الطلب الذي قدم إليه دون تسبيب رغم إمكانية ذلك، إلاّ أنّ ما يجدر ذكره أنّ الحكومة الأمريكية كانت قد دفعت أمام مجلس التصالح بأن Boyed لإقامته الدائمة بالولايات المتحدة قد بات فاقداً هويته البريطانية .

وفي ذات الاتجاه وتطبيقاً لاتفاقية 15 يناير 1880 التي كانت قد أُبرمت بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تم إنشاء المجلس الأمريكي-الفرنسي لتسوية منازعات الوطنيين التابعين لهاتين الدولتين، والذي كان قد عرض عليه طلبين خاصين بمزدوجي الجنسية لم يقم بتسبيب أحكامه بعدم قبولهما على الرغم من تعليقات تقدّم بها ممثلو الحكومتين. فدعوى لوبريه lebret كانت تتعلق بفرنسية أصلية اكتسبت الصفة الأمريكية بطريق الزواج وأقامت باستمرار في الأراضي الأمريكية طوال ما يزيد عن أربعين عاماً. وبحسب رأي ممثل فرنسا، فإنّ انتماء مدام لوبريه لدولتها الأصلية كان قد أصبح منفصماً، بينما كان ممثل الحكومة الأمريكية قد دفع باحتمال كون السيدة Lebret قد باتت فاقدة للجنسية الفرنسية، وأنه على فرض احتفاظها بها، فهذه الجنسية ما كان لها أن تقوى في مواجهة الصفة الوطنية للدولة التي اتخذت من أراضيها موطناً لها والتي كانت "الجنسية الأمريكية" . على نقيض ذلك، فإن طلباً كان قد قدِّم من شخص ما يدعى Petit تم الحكم بقبوله شكلا من المحكمة، اعتباراً بأنه، رغم كونه فرنسياً أصلياً، إلاّ أنه لم يتجنس بالجنسية الأمريكية إلاّ سنة 1868 عن عمر ناهز الخمسين عاماً، ولكنه بعد عامين من ذلك كان قد عاد إلى فرنسا دون أن يغادرها بعد ذلك .

ولقد كان لهذا الاتجاه صدى في بعض الأحكام الأكثر حداثة آنذاك كحكم محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي عام 1932، في قضية جورج سالم بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.  وتلخصت واقعات الدعوى في أن من حملت القضية اسمه كان قد لجأ الى المحاكم الأهلية بمصر طالباً التعويض عما أصابه من أضرار إلاّ أنّ هذه المحاكم قضت بعدم اختصاصها. فلجأ إلى المحاكم المختلطة المصرية التي انتهت إلى رفضها. وإزاء ذلك، طالب الولايات المتحدة بالتدخل اعتباراً لتمتعه بجنسيتها، فبادرت الأخيرة باختصام الحكومة المصرية أمام محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي مطالبة إياها بالتعويض نيابة عن جورج سالم الذي كان من أصل عثماني. ولم تسلم مصر بما طالبت به الحكومة الأمريكية، دافعة بأنه اعتباراً للأصل المشار إليه للمذكور، فإنه لا يمكنها الاعتراف بجنسيته الأمريكية التي ما استند إليها إلاّ بغية التمتّع بالحماية الدبلوماسية والاستفادة مما كان سائداً في مصر من نظام الامتيازات الأجنبية. وبعد استعراض المحكمة وقائع النزاع، انتهت إلى أنّ السيد سالم لم يكن مصرياً من أصل عثماني، بل إيراني الأصل تجنّس بالجنسية الأمريكية، وأن تنازع الجنسيات القائم بخصوصه كان منصباً على رعويته الفارسية والأمريكية. فالجنسية المصرية لم تكن من بين الجنسيات المتنافسة، ومصر لذلك تعتبر دولة من الغير. اعتباراً لذلك، ما كان يحق لدولة ليست جنسيتها من بين الجنسيات المتنافسة (مصر) أن تتولى الترجيح بين تلك الجنسيات، منتهية إلى إنكار تمتع الشخص المعني بإحداها (الولايات المتحدة الأمريكية) دون الأخرى لما ينطوي عليه ذلك من إهدار للمساواة بين السيادات المستقر عليه في العلاقات الدولية. فالمتعارف عليه في القانون الدولي، أنّه ليس للدولة التي لم تكن جنسيتها من بين الجنسيات المتنافسة، إلاّ الاعتراف بالجنسيات المتمتع بها قانوناً دون المفاضلة بينها واختيار إحداها .

وفي قضية Flegenheimer أمام مجلس المصالحة الإيطالية الأمريكية، رفضت فكرة الموازنة بين الجنسيات المتنافسة لكونها تمثل انتهاكاً لحرية كل دولة في اختيار وطنييها وإهداراً للمساواة بين السيادات وللاختصاص الاستئثاري للدولة بمسائل الجنسية: "فعندما يتمتّع الفرد بجنسية واحدة منحت له بناءً على حق الدم أو حق الإقليم أو بالتجنس والذي ينتج منه فقد الجنسية السابقة، فإنّ نظرية الجنسية الواقعية لا يمكن تطبيقها دون خشية الخلط، لافتقادها الأساس الذي يساعد على علوها على الجنسية المستندة إلى قانون دولة معيّنة. ... فلا يوجد - في الواقع - أي معيار لفاعلية محققة من أجل استخلاص واقعية الاتصال بجماعة سياسية معينه. وبالنظر الى سهولة الاتصال والانتقال في العالم الحديث فإنّ آلاف الأشخاص الذين لهم بطريقة قانونية جنسية دولة ما، ولكن يعيشون في دولة أجنبية حيث يوجد موطنهم ومركز حياتهم العائلية والاقتصادية، سيكونون معرّضين على المستوى الدولي لأن تنكر عليهم الجنسية التي يتمتعون بها بمقتضى قانون دولهم الوطنية إذا تم تعميم ذلك الفقه المؤيد للترجيح بين السيادات ولو على أساس الجنسية الواقعية" .

وبحسب وقائع الدعوى، فإنّ البير فليجنهيمر كان مالكاً لأموال بإيطاليا، وكان قد قام بتصفية الأسهم التي كان يملكها بشركة إيطالية بسعر 277.860.60 دولاراً لصالح شركة إيطالية، في حين أنّ قيمتها الفعلية آنذاك كانت توازي بين أربعة وخمسة مليون دولار، معتبراً أنه ما أقدم على ذلك إلاّ خشية إخضاعه للقانون الخاص بالمعاملة العنصرية لليهود سنة 1938. دفعت الحكومة الإيطالية بعدم قبول الدعوى مستندة إلى أن البير ما كان يمكنه الاستفادة من نصوص المادة 78/3 من اتفاقية السلام الإيطالية ولا من المادة 111/6 من اتفاق لامبوردو لوفتيى، لأنه لم يكن من مواطني الأمم المتحدة بالمعنى الوارد بالمادة 78/q/a من اتفاقية السلام . ولم تساند الحكومة الإيطالية بأنّ ألبير كان من رعاياها أو كان حاملاً لأية جنسية كانت، بينما أعلن فليجنهيمر تمتّعه بالجنسية الأمريكية بغية التمتع بالحماية المقرّرة بالمعاهدة.

وأمام مجلس التصالح الإيطالي الأمريكي اتخذت الولايات المتحدة موقفاً مسانداً لفليجنهيمر في طلبه الذي قدّمه في 25 و26 يونية 1951، في الوقت الذي دفعت فيه الحكومة الإيطالية بعدم قبول الخصومة التحكيمية تأسيساً على تمتّعه بجنسيتها. وفي استجابة سريعة لطلب التجنس المقدم من فليجنهيمر للسلطات الأمريكية بتاريخ 8 مايو 1952، ورغم توصية السلطات المعنية بفحص الطلب بعدم إصدار شهادة الجنسية لفليجينهيمر، أصدرت له السلطات الأمريكية بعد أقل من شهر على تقديم طلبه (في العاشر من يوليه 1952) شهادة بالتجنس بالجنسية الأمريكية، بينما كان القرار النهائي مختلفاً تماماً حيث كان قد انتهى إلى ثبوت الجنسية الأمريكية الأصلية . ووفقاً لمجلس التصالح فإن ثبوت الجنسية الأمريكية لهذا الشخص كان قد حسم "بواسطة السلطات الإدارية ولم يكن محلاً لأي إجراء قضائي بالولايات المتحدة الأمريكية" . فالمجلس رأى أنه ليس له على المجلس على المستوي الدولي إلاّ "القبول بالجنسية التي سيتم ثبوتها أو إنكارها مراعاة واحتراماً للقانون على المستوى الوطني" .

ومع ذلك ففي حكمه الصادر في 20 سبتمبر 1958 أعلن مجلس التصالح أنه لا يعترف بهذه الجنسية الأمريكية، معتبراً أنّ السيد البير الذي لم يحصل عليها بالميلاد، وإنما بفعل إقامته الخمسية بمدينة وتنبري، كان قد فقدها تطبيقاً لاتفاق بانكروفت Bancroft الذي كان قد عقد مع الولايات المتحدة في ورتمبرج Wurtemberg بتاريخ 2 يوليه 1868، دون أن يقدم على اكتسابها بعد بلوغه سن الرشد .

ومن المثير للدهشة في هذه الدعوى أن يعترف مجلس المصالحة لنفسه الاختصاص بالبحث عما إذا كان منح الجنسية الأمريكية للسيد البير كان صحيحاً. وهذا الذي اتبعه مجلس التصالح لم يكن بحثاً عن الجنسية الفعلية بقدر ما كان فحصاً للشروط الوطنية لمنح الجنسية الأمريكية في إطار القانون الدولي. وبفعل ذلك، فالمجلس كان قد قام بتبديل وظيفة القانون الدولي التي كانت لا تتعدى تنظيم النطاق الدولي للجنسية بتعليقها على أو إلحاقها بنظرية الفاعلية، وإنما قام بإعمال ذلك من خلال إدخال شرط غامض حول صلاحية القانون المانح للجنسية بالتطبيق لنظرية الفاعلية المقرّرة في القانون الدولي. ورغم أن حكومة الولايات المتحدة كانت قد أعلنت دعمها الرسمي لموقف ألبير حين أصدرت له - بالإضافة الى عدد من المستندات – شهادة بالجنسية، فالمجلس كان قد اعتبر أنّ هذه الأوراق الرسمية رغم احتوائها على عناصر من الواقع والقانون إلاّ أنها كانت "مجرد وقائع" من وجهة نظر القانون الدولي، مؤكداً على أنّ المركز القانوني للسيد Albert لم يكن إلاّ مركزاً واقعياً سبق اكتسابه بالتطبيق "للقاعدة الكبرى للفعالية التي تسيطر على كامل القانون الدولي" . ولم يتوانَ المجلس عن التأكيد على أنّ "نظرية الجنسية الفعلية ينقصها الأساس الذي من شأنه – إن وجد – أن يعلي هذه الجنسية على الجنسية القائمة أو المستندة إلى قانون وطني" .

ولقد انتهى مجلس التصالح إلى أنّ نظرية الجنسية الأكثر فاعلية لا تطبّق إلاّ إذا كان الشاكي يتمتع بجنسية دولتين طرفين في النزاع، وليس في الفرض الذي يكون فيه رعية للدولة المدّعية ولدولة أخرى من الغير .

 

المطلب الثاني: تحوّل أحكام التحكيم نحو الأخذ بنظرية الجنسية الفعلية

مراعاة لتطور العلاقات الدولية

ما أن ازدادت حركة انتقال الأفراد عبر الحدود وما تبعه من تطور متلاحق للعلاقات الدولية بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، إلاّ وتفاقمت ظاهرة ازدواج جنسية التي نتجت منها زيادة المشاكل القانونية بطريقة أدّت بمحاكم التحكيم وبمجالس الصلح إلى إعادة النظر في ما كان قد أستقر عليه والتحول نحو تبني وترسيخ مبادئ نظرية الجنسية الفعلية.

ففي قضية ميرجيه التي تتلخّص واقعاتها في أنّ السيدة ميرجيه كانت أمريكية بالميلاد، حصلت على الجنسية الإيطالية بطريق الزواج من أحد الإيطاليين. وحال نظرها المنازعة الخاصة بالحماية الدبلوماسية لتلك السيدة مزدوجة الجنسية، استقرت المحكمة على استبعاد مبدأ المساواة بين السيادات الذي يحول دون ممارسة الحماية الدبلوماسية. فهذا المبدأ يجب أن ينحّى جانباً لصالح الجنسية الواقعية في كل مرة تكون فيها جنسية الدولة المطالبة بالحماية الدبلوماسية هي الجنسية الفعلية. وللتوصل إلى فاعلية الجنسية، يمكن الاستعانة بالإقامة المعتادة أو بسلوك الفرد في حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والعائلية وغيرها من الروابط الأكثر صلة بأي من الدولتين، والتي من شأنها ترجيح كفة الجنسية الفعلية. حيث كان ذلك وكانت ميرجيه – بحسب الثابت - قد استقرت بأسرتها في إيطاليا دون أن تتخذ من الولايات المتحدة – التي لم تعش فيها منذ زواجها - مقراً لإقامتها المعتادة. وحيث أنها كانت قد اعتادت – عند السفر الى الخارج، خاصة اليابان -استخدام جواز سفرها الإيطالي، وأنها بسفرها إلى هذا البلد أثناء الحرب العالمية لم تعامل من قبل سلطات تلك الدولة وكأنها منتمية إلى احدى الدول الأعداء، فإنه وفق ما انتهت إليه المحكمة، لا يمكن إلاّ اعتبارها إيطالية الجنسية .

وإذا كان الحكم الصادر في قضية ميرجيه لم يكن قاطع الدلالة لاعتماده على أسباب خاصة، وعلى ظروف استثنائية قوامها العمل على "توسيع نطاق المسؤولية الملقاة على عاتق الدول التي أعلنت حرباً عدوانية، وبصفة خاصة العمل على تعويض الأضرار التي لحقت بأولئك الذين كانوا من بين ضحاياها" ، فإن العديد من السوابق التحكيمية السابقة على صدوره والمعاصرة له كانت قد ناقشت وبقوة مسألة الأخذ بفكرة الجنسية الفعلية حال ازدواج الجنسية.

ففي قضيتي brissot et hammer  اللتين كانتا قد فصل فيهما أمام مجلس التحكيم المختلط الأمريكي الفنزويلي الذي تم إنشاؤه آنذاك بموجب اتفاقية الخامس من ديسمبر 1885، كان الأمر متعلقاً بطلبات قدّمت باسم سيدات أرامل وباسم أولادهن الذين كانوا متمتعين بالجنسيتين الأمريكية والفنزويلية. وبالرغم من أنهم لم يكونوا متمتعين بأية إقامة في فنزويلا، إلاّ أنهم كانوا متمتعين بالجنسية الفنزويلية بوصفها "الجنسية الأصلية"، بينما كانت الجنسية الأمريكية قد قرّرت للسيدة الأرملة بطريق الزواج ومنحت للأولاد إعمالاً لحق الدم.

ولقد اتفق المحكمون الثلاثة على أنّ الإقامة في فنزويلا تترجم - من جانب الجميع - اختياراً منهم لصالح الجنسية الفنزويلية. ولقد صدر الحكم نتيجة لذلك بأنه " تطبيقاً للمبادئ المشار إليها ...، عند التنازع بين عدة جنسيات، فإنّ الجنسية التي يمكن الاحتجاج بها هي تلك التي تتفق أكثر والحالة الواقعية للشخص، أي أنها تلك المرتبطة بمكان إقامته الحالية وبموطنه،

فالأولاد ووالدتهم يجب اعتبارهم فنزويليين، وبالتالي لا يحق لهم التمتع بحق الطعن أمام هذا المجلس" .

وعام 1900، صدر عن محكمة التحكيم الإيطالية البيروئية المشكّلة بموجب ميثاق 25/11/1899 حكم - اعتبر في حينه مظهراً لاتجاه لن يكون له تابعه - ورغم ذلك فقد تم الاستناد إليه في بعض الأحكام الصادرة عن مجلس التحكيم المختلط في القضايا الفنزويلية ما بين 1903 –1905  التي كانت محلاً لتعليقات عديدة، أهمها ذلك الذي قام به الفرنسي الشهير

Basdevant، الذي كان من بعد من بين قضاة محكمة العدل الدولية.

وتتلخّص أهم ملامح المنازعات التي أثيرت بالتحكيمات الفنزويلية في أنّ الطلبات التي كانت قد قدّمت ضد فنزويلا من جانب ألمانيا وإنجلترا وفرنسا إيطاليا، والتي لم يتم الفصل فيها بالطريق الدبلوماسي، وتم إخضاعها للتحكيم أمام مجالس التحكيم المختلط، كانت تنفيذاً لبروتوكولات أبرمتها فنزويلا مع كل من القوى المشار إليها . وكانت معظم الطلبات المقدمة لتلك المجالس قد انصبّت على مطالب بالتعويض عن الأضرار التي أصابت أصحابها من جراء ثورة فنزويلا والحرب الأهلية هناك تأسيساً على مبادئ حماية الأجنبي، وعلى شروط البروتوكولات الموقّعة التي ما كانت ترخِّص للفرد أن يتقدم إليها بشخصه إلاّ إذا كان مدعوماً من جانب الدولة التي يعتبر مواطناً لها .

وكانت مشكلة ازدواج الجنسية قد أثيرت مسبِّبة صعوبات جمّة حال البحث عن تسوية لعديد من القضايا المعروضة أمام مجالس التحكيم المختلط بين بريطانيا وفنزويلا (تحكيم ماتيزون mathison وتحكيم stevenson في 1903) وبين الأخيرة وإيطاليا (قضيتي brignone

وmiliani في العام نفسه) وكذلك في القضايا التي رفعت أمام مجلس التحكيم المختلط الفرنسي الفنزويلي (تحكيم ورثة جان مانينا وورثة ماسياني عام 1902) . ففي كل هذه القضايا التحكيمية - على اختلاف وقائعها - أثيرت مشكلة ازدواج الجنسية لأنّ المدّعي بالتحكيم كان مولوداً لأبوين بريطانيين أو إيطاليين أو فرنسيين على الأراضي الفنزويلية، وهو ما ترتّب عليه اعتباره في عين الوقت بريطانياً أو إيطالياً أو فرنسياً (تطبيقاً لحق الدم وفق قانون أي من تلك الجنسيات) وفنزويلياً، إعمالاً لحق الإقليم في القوانين الفنزويلية.

وإذا كانت النتيجة التي انتهت إليها مجالس التحكيم المختلط في كثير من القضايا التي أثارت تنازع الجنسيات كان قوامها إعطاء الأولوية للجنسية الفنزويلية والحكم بعدم اختصاصها ببت تلك المنازعات التحكيمية، إلاّ أنها للتوصل لذلك كانت قد استعرضت عدداً من الأسانيد والنظريات القانونية المتداخلة المشوبة أحياناً بعدم الاتساق والتي كان المحكمون المرجحون قد استقوا منها عقيدتهم للخلاص إلى تلك النتيجة الإجرائية، والتي نرى لزوم استعراضها لما لذلك من أهمية في بيان الأسس التي استند اليها المحكمون لتسوية تنازع الجنسيات في المنازعات الدولية:

 

أولاً– التمسّك بنصوص البروتوكولات المنشئة لمجالس التحكيم المختلط لرفض الاختصاص بمنازعات مزدوجي الجنسية

ويتمثّل ذلك في ما دفع به المفوض الإيطالي بغية اختصاص مجلس التحكيم المختلط بقضية برينيون، من ضرورة الالتزام بصياغة نص المادة الرابعة من بروتوكول 13 فبراير لسنة 1903 المبرم بين إيطاليا وفنزويلا الذي تكلم على " المطالب الإيطالية بدون استثناء". فهذه العبارة تفيد - بحسب المفوّض – أنّ رفض طلبات التحكيم المقدمة من الإيطاليين المتمتعين بجنسية أخرى يُعدّ إدخالاً على نص البروتوكول لاستثناء لم يرد فيه بما يقيم مخالفة وانتهاكاً له . ولتبرير منطقه لم يتردّد المفوض الإيطالي عن استعارة ما قال به البروفيسور Vattel من أنه: "إذا كان ذلك الذي يمكنه ويجب عليه أن يبرِّر لنا بدقة لم يقم به، فله أو عليه ما فعل ولا يمكن أن يقبل منه لاحقاً أن يقوم بإدخال قيود لم يقم حينئذ بالتعبير عنها" ، منتهياً إلى أنّ أرملة برينيون تعتبر إيطالية بالتطبيق للقانون الإيطالي سواءً كانت فنزويلية من عدمه وفق القانون الفينزويلي.

ولقد شايع المفوض الفرنسي هذا المنطق في قضايا ورثة كلاً من ماسياني ومانينا. فبالرغم من أنه كان قد أقرّ بأنّ المدعين الفرنسيٍ الجنسية وفق القانون الفرنسي كانوا فنزويليين وفقاً للقانون الفنزويلي، إلاّ أنه لم يتوانَ عن التركيز على أنّ البروتوكول الموقّع بين فرنسا وفنزويلا في 19 فبراير 1902 كان منصبّاً على طلبات التعويض المقدمة من فرنسيين ، مضيفاً أنّ مصطلح " فرنسيين " يشير إلى أولئك الذين تمدّ إليهم الحكومة الفرنسية حمايتها الدبلوماسية وفقاً للقوانين الفرنسية. فالبروتوكول المشار إليه لا يستلزم إقامة الدليل على أن جنسية طالب التعويض هي الجنسية الفرنسية. فيكفي أن تعترف الحكومة الفرنسية، فحسب، بالشخص المعني كمواطن فرنسي لكي يمكنه الانتفاع بتلك الحماية الإجرائية .

والمحكم المرجح وإن كان لأسباب عدة قد دعا إلى التركيز على البروتوكول الذي تأسيساً عليه يقوم اختصاصه التحكيمي ، إلاّ أنه لم يتماشَ – بحسب البيّن – مع هذه الطريقة للتسبيب. فالمحكم الذي كان قد توقف قليلاً أمام عبارات البروتوكولات المشار إليها، سرعان ما انتهى - في قضية ورثة جان مانينا – إلى أنّه تطبيقاً للبروتوكول – بحكم كونه اتفاقاً – فإنّ مصطلح "الفرنسيين" المستخدم يشير إلى ذلك الذي يعتبر فرنسياً وفقاً لقانون الدولتين المعنيتين به .

 

ثانياً- إنكار الاختصاص التحكيمي لمجالس التحكيم المختلط تأسيساً على علو قانون الدولة المسؤولة عن التعويض على قوانين الدول المطالبة بالحماية الإجرائية لمزدوج الجنسية

كانت هذه الحجة قد حظيت باهتمام مجلس التحكيم المختلط البريطاني الفنزويلي في قضية Mathison حيث أعلن مفوض الحكومة البريطانية أنّه "من المؤكد إذا كان المدّعي في عين الوقت بريطاني الجنسية ومواطناً للدولة الفنزويلية فإنّ دعواه يجب أن لا تكون مقبولة أمام مجلس التحكيم المختلط" . وكان عدم القبول مؤسسا على أنه عند تحديد الجنسية فإنّ "قانون الدولة المسؤولة عن التعويض - المحدِّد لجنسية المدعي - يجب أن يعلو على قانون الدولة التي تطالب بالحماية القانونية للشخص المتنازع في جنسياته". وهذا الذي كان مقتضاه امتناع بريطانيا العظمى عن حماية البريطانيين في مواجهة دولة أجنبية منحتهم صفتها الوطنية، كان قد لقي صدى في عدد من أحكام التحكيم التي تساءلت عما إذا كان ممكناً أن يمثِّل قاعدة عامة. فالمحكم المرجح رالستون في قضية ميلياني والمفوض الفنزويلي والمحكم المرجح  Plumleyفي قضية ورثة مانينا Maninat كانوا قد أعلنوا أن من كان في هذا المركز القانوني وتلك الظروف يعدّ إيطالياً من جانب إيطاليا أو فرنسياً من جهة فرنسا في مواجهة أية دولة أخرى، فيما عدا الدولة الفنزويلية. هذا العلو الذي طولب بإقراره للقانون الفنزويلي على القانونين الإيطالي والفرنسي كان فحواه ومقتضاه إقصاء قانون الدولة المطالبة بالحماية القانونية. ففرنسا أو إيطاليا لا يمكنهما أن تفرضا على فنزويلا اعتبار الأشخاص محل النزاع في الدعاوى المشار إليها فرنسا أو إيطاليا ما دام القانون الفنزويلي يعتبرهم فنزويلي الجنسية. فالانتهاء إلى عكس ذلك يضع القانون الإيطالي أو الفرنسي في مرتبة أعلى من القانون الفنزويلي. ومثل هذه النتائج ليست جائزة احتراماً لمبدأ المساواة والتكافؤ في السيادة الدولية. فحق فنزويلا في تنظيم شؤونها الداخلية وفي تحديد وطنييها، يُعدّ تعبيراً أساسياً عن السيادة لا يمكن حرمانها منها un attribut essentiel de la souveraineté qui ne peut lui être enlevé. ومتى تمّت تنحية القانون الإيطالي والفرنسي جانباً فلن يكون أمام مجلس التحكيم المختلط إلاّ إعمال القانون الفنزويلي مع ما يشير إليه من جنسية للأشخاص المتنازع بشأنهم، وهو ما يقود بالتبعية إلى الحكم بعدم الاختصاص بالمنازعة لكون المدّعي مواطناً للدولة الفنزويلية .

نقد: غير أنّ هذا العلو الذي طولب بتقريره للقانون الفنزويلي على القانونين الإيطالي والفرنسي والذي كان قد بُحثَ له عن سند عبر المثال الإنجليزي المشار إليه لم يكن باتاً ولا نهائياً . فقد أثير في مواجهة هذا المنطق اعتراض جوهري لم يقم المحكم المرجح لا بتفنيده ولا بتحييده ولا حتى بالتعرّض له: فاذا كان مجلس التحكيم المختلط قد أعطى أولوية التطبيق للجنسية التي يقرِّرها القانون الفنزويلي، أليس من شأن ذلك أن يوحي للاعتقاد بأنّ القانون الفنزويلي كان بدوره قد احتل مرتبة أعلى من القانون الإيطالي والفرنسي بما يوجب اعتباره انتهاكاً للسيادة الإيطالية والفرنسية؟ وإذا كان هذا النقد نتيجة منطقيه مستمده من قياس قانوني ذي طبيعة عقلية، إلاّ أنه ظل اعتراضاً يصعب رفضه والقول بعدم قبوله واستحال الردّ عليه . وينطلق هذا الآعتراض مما مفاده أنه ما دامت كل دولة ذات سيادة، فلا يكون لأي من الدولتين المتنازع في جنسيتهما أن تفرض قانونها على الأخرى في مادة من صميم النظام القانوني الداخلي، كمادة الجنسية. فكل دولة تحتفظ بحلها القانوني في دعواها المقامة والمنظورة سواء في إطار القانون الداخلي أو أمام مجلس التحكيم المختلط. ولا يكون لهذا الأخير -كي يعتبر شخص ما فنزويلياً أكثر منه فرنسياً أو إيطالياً أو العكس- أن يبني منطقه على أساس من القانون الوضعي . وحيث لا توجد قاعدة في القانون الدولي الوضعي مفروضة على الدول في منح الجنسية، فلا يكون أمامنا إلاّ السيادة الدولية. فحرية كل دولة في تحديد من يصلح لحمل صفتها الوطنية تعني عدم الانصياع بالضرورة للجنسية الممنوحة ذات الشخص من دولة أجنبية. والمجلس المختلط لا يمكنه أن يفصل في الدعاوى التحكيمية إلاّ تأسيساً على المبادئ المشتركة les principes communs  المتفق عليها بين الدول المتنازعة، وهذه المبادئ لا تتضمّن شيئاً في ما يخص منح الجنسية. ولذا فلن يكون أمام مجلس التحكيم المختلط إلاّ الاعتبار في سيادة الدولة في تحديد من يصلح لحمل صفتها الوطنية .

وإذا كان مؤدى ذلك أنّه لن يكون لمجلس التحكيم المختلط أن يعتبر فرنسياً من تعتبره فنزويلا فنزويلياً، فإنّ نتيجته أننا سننتهي إلى عدم اختصاص مجلس التحكيم المختلط بالمنازعة المثارة من جانب مزدوج الجنسية. ولن يكون ذلك – على الرغم من الظاهر – بسبب إعطاء الأولوية أو منح العلو للقانون الفنزويلي على القانون الإيطالي والفرنسي. ولن يكون أيضاً كذلك تأسيساً على أن فنزويلا هي الدولة المدعى عليها المسؤولة في الخصومة التحكيمية. بل إنه – أي عدم الاختصاص - ليستند بالضرورة إلى إصرار كل دولة – وهو حق مشروع – على اعتبار المتنازع في جنسيته أمام محاكم التحكيم المختلط، من بين أولئك الذين يحملون صفتها الوطنية

 

ثالثاً- إعطاء الأولوية للجنسية التي كانت قد منحت أولاً عند ازدواج الجنسية وتعددها:

من بين منازعات ازدواج الجنسية التي عرضت أمام مجلس التحكيم المختلط ما أدى السعي للبت فيها إلى إثارة التساؤل عن ضرورة إعطاء الأولوية للجنسية التي كانت قد منحت أولاً، الأمر الذي فهم منه ضمنياً أنّ القانون الدولي يدين ازدواج الجنسية. ونتج من ذلك أنّ اكتساب جنسية جديدة لا يكون دولياً معتبراً إذا لم يثبت بالدليل فَقْد الجنسية السابقة. فعندما يكتسب شخص ما – حسب قول المفوض البريطاني جنسية ما (الجنسية الإنجليزية) فإنّ قانون الدولة الأجنبية (فنزويلا) لا يمكنه أن يحرمه من تلك الجنسية ولا من المزايا اللصيقة بها، إلاّ إذا كان هذا الشخص قد لجأ إلى التجنّس. وفي فرض كهذا - وحسبما قال مفوض إيطاليا في قضية برينون - فالجنسية الأصلية هي التي تعلو. هذه الفكرة لم تكن جديدة والمحكم المرجح بدون أن يستعرضها صراحة لم يقم بتنحيتها، بل قام بإعمالها في غير موضع، ولكن تلك النظرية لم تكن المسيطرة ولا الرئيسية حيث صعب القبول بنظرية تقود إلى إعلاء نظرية " الولاء الدائم" التي فقدت أوليائها، وباتت غير مأخوذ بها، بل تمّت تنحيتها جانباً في الأزمنة الحالية . أضف إلى ذلك أنّ هذه النظرية، وإن كانت مقبولة قانوناً في حالات معيّنة ، إلاّ أنّ إعمالها لم يؤدِّ الى حل منازعات ازدواج الجنسية في عدد من القضايا التي كانت منظورة أمام مجالس التحكيم المختلط. فقد استعصى على تلك النظرية تسوية التنازع بين جنسيتين أصليتين منحتا لمن ولد لأبوين بريطانيين أو إيطاليين على الأراضي الفنزويلية، فأصبح بريطانياً أو إيطالياً تطبيقاً لحق الدم وفنزويلياً إعمالاً لحق الإقليم . ففي مثل هذه الحالة لا نجد أنفسنا في مواجهة فرض اكتساب شخص ما لجنسية بعد أخرى، بل في مواجهة حالة اكتساب الفرد - في عين الوقت - لجنسيتين إحداهما إعمالاً لحق الدم التابع لشعب دولة ما، والأخرى بالميلاد على إقليم دولة ثانية، وبالتالي لن يكون هناك ثمة مجال للاعتراف بالأثر الدولي لإحداهما ما لم تكن الجنسية الأولى قد فقدت بطريقة قانونية .

ففي قضية ملياني، كان المفوّض الإيطالي  -لتسوية المنازعة المثارة لصالح الجنسية الإيطالية – قد ساند أنّ الجنسية الأصلية الممنوحة إعمالاً لحق الدم كانت مكتسبة من لحظة الحمل، في حين أنّ الجنسية المقرّرة تطبيقاً لحق الإقليم لم يكن ممكناً الاعتراف بمنحها إلاّ من لحظة الميلاد على أراضي الدولة المعنية. ولقد زعم نتيجة لذلك أنّ الجنسية الأصلية إعمالاً لحق الدم يجب – حال تنازع الجنسيات – أن تعلو على الجنسية الأصلية الممنوحة بالميلاد على الأراضي الفنزويلية .

أما المحكم المرجح رالستون Ralston فقد استبعد هذه الحجة الغريبة التي تقوم على منطق مماثل لذلك الذي سبق أن قال به Grotius، الذي كان قد أشار إلى أنّ "البحر حيث لا يمكن ترسيم حدود فيه لا يمكن أن يُمتلك". ولقد قال المحكم دعماً لرؤيته بأنّ " الفقه الذي بحسبه كانت الجنسية محدودة وفق شروط كائنة لحظة الحمل رغم وجودها بالمناسبة بواسطة المحاكم والفقهاء، إلاّ أنّها لم تكن ثابتة بما فيه الكفاية عقلاً كي يمكن للمحكم المرجح أن يتفحّصها ويحلّلها بتوسع. كما أنّ إقامة الجنسية على شروط كهذه يعلّق على لحظة غير مؤكدة بما من شأنه إدخال عنصر من عناصر الشك على القانون الدولي" . لذلك انتهى المحكم في هذا الشأن إلى أنّ الجنسية تبدأ من لحظة الميلاد، وهي النتيجة التي ترتّب عليها ونتج منها أن النظرية التي كانت قائمة على أنّ الجنسية الأصلية الممنوحة أولاً يجب أن تعلو على ما سواها عند التنازع بين الجنسيات لم تكن لتسعفه في الاستمرار في منطقه نحو تسوية منازعات ازدواج الجنسية .

 

رابعاً- الاتجاه نحو تغليب نظرية الجنسية الفعلية:

أخيراً استند عدد من أحكام المجلس المختلط إلى منطق آخر مفاده أنّ من تتنازع دولتين وطينته لن يخرج عن أن يكون مرتبطاً قانوناً وواقعاً بشعب أحد الدولتين أكثر من ارتباطه بشعب الأخرى. هذا الإسناد الذي يعطي الأفضلية لجنسية الدولة الأكثر وثاقة وارتباطاً ينتج من عدة طرق واقعية، أهمها الموطن الذي احتلّ مكانة مسيطرة في أحكام التحكيم الصادرة عن المجلس المختلط .

ففي قضية ماتيزون Mathison كان المحكم المرجح بلوملاي قد أدخل عنصر الموطن وأعطى الأولوية للجنسية التي تعتمد عليه، معتبراً إياها الجنسية الفعلية. فالموطن كان يضع بدقة الضوء على أنّ تلك الجنسية كانت تعبِّر عن حقيقة الواقع. والمحكم في ذلك استقى منطقه من أفكارBluntschli الذي كان قد اعتاد إعطاء الأولوية للجنسية الواقعية، أي تلك الجنسية التي تتسق والموطن. بناءً عليه، عند المنازعة فالجنسية التي يكون على أرض دولتها موطن المدّعي تكون الجنسية التي تتفق بالأحرى مع الحالة الواقعية. أضف الى ذلك أنّ إقامة الدليل على الموطن يثبت أنّ جنسية دولة الموطن هي الجنسية المفضلة من جانب الشخص المعني، وأن هذه الجنسية يجب أن تعلو على ما سواها، وأن تعطى الأولوية

وفي قضية ستيفانسون Stevenson، وللتخلص من مزاعم أرملة من حملت القضية اسمه، كان المفوض الفنزويلي قد استند إلى أنه كان في مواجهتها الجنسية الفنزويلية صاحبة الأولوية لأنّ مكان ميلادها وآبائها وعشرة من أبنائها قد تم في الدولة الفنزويلية التي كان فيها موت زوجها ومركز ارتباطاتها. فضلاً عن ذلك فإنها لم تعرف دولة أخرى بخلاف فنزويلا لأنه وإذا كان زواجها لم يكن قد أُشهر فإنّ ذلك يرجع فحسب الى الدين الذي كان يعتنقه زوجها . والمحكم المرجح اختص لنفسه تلك النقاط، واعتبر في ما يعنيه مركز الارتباط الأُسري - فنزويلا - الذي كانت تنتمي إليه أرملة ستيفنسون، وقرّر أنّ الدليل لم يقم على أنّ الطالبة كان لديها روح الولاء لبريطانيا العظمى أو على أنها ورثت تلك الروح لأبنائها: فإن كان زواجها قد أوجد بينها وبين بريطانيا رابطة ولاء، فبوفاة زوجها عادت الى جنسيتها الأولى، سواء تطبيقاً للقانون الفنزويلي أو باختيارها المحض . وفي كل الحالات انتهى إلى أنّ السيدة المعنية كانت دوماً قد باشرت تصرفاتها كفنزويلية .

وفي تحكيم ماسياني كان المفوض الفنزويلي قد أعلن بدقة الطريقة التي بحسبها كان ينبغي اتباعها لبت منازعات الجنسية. فالمجلس المختلط – كما يقول – يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف والوقائع التي تبرِّر المركز الفعلي الذي حظيت به السيدة مسياني في ما يمسّ جنسيتها وجنسية أبنائها. فلم يقم الدليل – كما لاحظ المفوّض – على أنّ السيدة مسياني أصبحت أرملة، وأنّ أولادها كانوا قد سعوا للاحتفاظ بجنسية أخرى بخلاف تلك التي كان قد منحها لهم القانون الفنزويلي الذي تحت سلطانه كانوا قد قاموا بمختلف وأهم التصرفات الخاصة بالحالة الشخصية من مواريث أو وصية... كما لم يقم الدليل أنّ الذكور من الأولاد كانوا قد قاموا بأداء خدمتهم العسكرية الإلزامية بفرنسا . وعلى عكس ذلك فهؤلاء الأشخاص كانوا قد أقاموا بصفة دائمة بدولة فنزويلا حيث كان لهم على أراضيها مراكز أعمالهم ومصالحهم منذ ثلاثة أجيال وكانوا قد أبرموا على إقليمها عقود زواجهم. من هذا المنطلق انتهى المفوض الفنزويلي إلى أنّ إقامتهم الدائمة في فنزويلا التي يعتبرون من مواطنيها الأصليين تعدّ النتيجة المنطقية لإرادة مؤكدة مفادها أنّ قانون موطنهم يعلو على ما سواه في ما يخص جنسيتهم .

من كل ما سبق يبين أنّ الأحكام التي صدرت عن مجالس التحكيم المختلط، وإن استعرضت العديد من الأفكار القانونية الهامة، إلاّ أنّ جنسية دولة الموطن كانت قد حظيت بنصيب أكبر في تسبيب الأحكام التي أصدرتها. فالأولوية التي أعطيت للجنسية الفنزويلية لم تقم على ما مفاده أنّ تلك الجنسية كانت تتصادف مع موطن هذا الشخص، أو لأنّ مجلس التحكيم كان معتمداً على تسبيب قائم على تنازع القوانين، وإنّما لأنّ الجنسية المدعى بها كانت مقرّرة بموجب قانون الموطن .

فالمفوض الفنزويلي، ومن بعده المحكم المرجح بحثا في ظروف الواقع التي رخّصت لهم إعلاء الجنسية الفنزويلية. والحجج المقدمة في هذا الشأن كانت غاية في الاعتبار سواء في قضية ماسياني أوستيفانسون، حين أكدا أنّ موطن المدّعي يعدّ العنصر الواقعي الذي اعترفت له أحكام التحكيم المختلط بأهمية بارزة. ففي كل قضايا التحكيم أمام المجلس المختلط كان المحكم المرجح قد أثار هذا الظرف بأنّ المدّعين كان لهم موطن في دولة فنزويلا، مستنتجاً من ذلك أنّ الجنسية الفنزويلية كانت تعلو على ما سواها. ففي قضية ماتيزون تم التأكيد على تلك المفاضلة المعطاة لقانون الموطن من جانب المحكم المرجح بلوملاي. وفي قضية Stevenson تم التعويل عليها من جانب ذات المحكم المرجح استناداً الى آراء الفقه وعدد من السوابق القضائية . وفي قضية ماسياني قام المحكم المشار إليه متبوعاً بالمحكم المرجح رالستون في قضية ميلياني بشرح ذلك، مؤكداً أنّ ثبوت الموطن يتضمّن اختياراً معبراً عنه بين الجنسيتين المتنازعتين . فالمكانة المعتبرة التي قُرِّرت للموطن بدت وكأنها كانت قد وجدت طريقها في ذهن المحكمين المرجحين بمحاكم التحكيم المختلط . ودعماً لذلك لم يتردد المحكم المرجح Plumby في قضيتي Mathison وStevenson عن التأكيد على أنه " في تنازع القوانين بخصوص الجنسية، فإنّ قانون مقرّ الموطن يكون الواجب الاتِّباع . وبدوره لم يتردد المحكم المرجح  Ralstonفي مجلس التحكيم الإيطالي الفنزويلي عن إعطاء الأولوية لجنسية دولة الموطن، مستنداً في ما انتهى إليه إلى الأحكام الصادرة في قضية Stevenson و Mathison باعتباره القانون الواجب التطبيق على حالة الشخص.

يفهم من ذلك أنّ الحكم بعدم قبول طلبات التحكيم لم يكن تطبيقاً لقاعدة أنّ حالة الشخص تخضع لقانون موطنه، بقدر ما كان اتباعاً لأسباب عملية مقتضاها " أنه يجب أن يكون هناك حدّ أو أن تكون هناك نهاية لجنسية الرعية التابع لدولة ما عندما يقيم ويتخذ موطنه في دولة أخرى. فاذا كان الأب بمستطاعه الاحتفاظ بصفته الوطنية وبقدرته نقلها إلى أولاده على إقليم دولة موطنه، فإنّ الابن لا يستطيع ذلك بدوره وهكذا إلى مالا نهاية..." . فكان يجب – وفق منطق مجلس التحكيم – وضع نهاية لما توقف عن أن يصبح أو يستمر أو يكون فعلياً أو حقيقياً . والموطن يعبِّر – على النقيض – عن الفاعلية في الحياة ولعل التوصيف الذي أعطى المحكم Plumby لموطن السيدة Stevenson، كان يعادل وصفاً لمعايير الجنسية الفعلية. يفهم من ذلك أنّ الفكرة المسيطرة في كل أحكام التحكيم الصادرة عن مجالس التحكيم المختلط التي ادعى بها واستند إليها مفوضو الدول المعنية، والتي أرشدت المحكمون المرجحون، كان قوامها أنّ التنازع بين الجنسيات يجب الفصل فيه بإعطاء الأولوية للقانون المعبِّر عن الجنسية الحقيقية والفعلية للشخص المعني عبر البحث في الظروف الخاصة بالواقعة لمعرفة إلى أي دولة ينتمي حقيقة هذا الشخص وجنسية هذه الدولة هي التي يجب أن تعلو على ما سواها .

ولقد كانت تلك النتائج دافعاً للمحكم Basdevant الذي أصبح عضواً بمحكمة العدل الدولية إبان النظر في قضية نوتباوم إلى اعتبار التحكيمات الفنزويلية تأكيداً لقاعدة " أنّ الجنسية واجبة الأخذ بالاعتبار عند التنازع، هي الجنسية الفعلية: أي تلك التي كشف عنها استعراض ظروف الواقع وبصفة خاصة الموطن" ، فالجنسية هي "الترجمة أو التعبير – في المصطلح القانوني – لواقع اجتماعي. فالدولة بمنحها لها، ليست فقط ملزمة باحترام الجنسية السابقة الممنوحة من دولة أخرى: فهي ملزمة بالتوافق والتطابق الدقيق مع الحقيقة الاجتماعية والنطاق الواسع لهذا الالتزام كان قد تم التعبير عنه بما فيه الكفاية في القضايا التي درسناها" .

ولم تنأَ محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي عن هذا الاتجاه، حيث أخذت بنظرية الجنسية الغالبة في قضية كانيفارو Canevaro التي حكم فيها بتاريخ 3 مايو سنة 1912 . وتتلخّص واقعاتها في أنّ السيد رفائيل كنيفارو كان قد ولد في بيرو لاب إيطالي، وكان قد اكتسب الجنسية الإيطالية بناءً على حق الدم من جهة الأب تطبيقاً للمادة 34 من القانون المدني الإيطالي. ونظراً الى ميلاده على إقليم دولة بيرو كان قد حصل أيضا على الجنسية البيروئية بناءً على حق الإقليم، وتطبيقاً للمادة 34 من الدستور البيروئي. هكذا كان كانيفارو قد أصبح بطريقة سليمة مزدوجا للجنسية (إيطالي-بيروئي) وفق حق الدم وحق الإقليم المأخوذ بهما في الدولتين اللتين منحتاه صفتهما الوطنية. وبمناسبة مطالبة بيرو لكانيفارو بدفع الضرائب الواجبة عليه – لجنسيته البيروئية - اعترض محتجاً بأنه إيطالي الجنسية، وطالب الحكومة الإيطالية بالتدخل لحمايته الدبلوماسية. تم تصعيد النزاع على المستوى الدولي بين بيرو وإيطاليا اللتين ارتضتا بعرضه أمام محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي، حيث خلصت الاخيرة في 3 مايو 1912 إلى ترجيح الجنسية البيروئية، معتبرة أنّ الحكومة البيروئية كانت محقة في اعتباره أحد مواطنيها أياً كانت حالته أو مركزه بحسب القوانين الإيطالية . ولقد اعتمدت محكمة التحكيم - فيما انتهت إليه - على أنّ الواقع كان يشهد بأن كانيفارو كان قد عاش فعلاً في كنف هذه الجنسية، لما ثبت من اعتياده التصرّف كمواطني هذه الدولة ومباشرته عدداً من الحقوق السياسية والمدنية فيها شأنه شأن كل بيروئي، سواء من حيث سبق ترشحه وفوزه في انتخابات في مجلس النواب في بيرو أو من خلال شغله وظائف عليا بالبلاد عندما طلب إذن دولة بيرو ليصبح قنصلاً لهولندا في بيرو ووافقته الحكومة البيروئية .

ولم يختلف الحال في الحكم الصادر عن مجلس التحكيم الفرنسي المكسيكي بتاريخ 19/10/1928 في قضية جورج بينسون Georges pinson ضد المكسيك  وفي الحكم الصادر عن مجلس التصالح الإيطالي الأمريكي في قضية ستروينسكى Florence Strunsky في يونيه 1955 الذي أكد على مبدأ الجنسية الفعلية في القانون الدولي، إذ بعد أن استعرض أبعاد الموضوع، أعلن أنّ "المبدأ القائم على المساواة في السيادة الدولية يستبعد الحماية الدبلوماسية في حال ازدواج الجنسية..." . كما لم يختلف الحال كثيراً في الحكم الصادر عن محاكم التحكيم المختلط الفرنسية الألمانية في قضية بارتيز دي مون فورا التي تلخّصت وقائعها في نزاع أثير بخصوص السيدة المذكورة، والتي كانت تتمتع بالجنسية الفرنسية، ثم تجنّست بالجنسية الألمانية. وحيث كان على محكمة التحكيم تحديد جنسية السيدة بارتيز التي كانت بحسب الظاهر من الأوراق مزدوجة الجنسية لتمتعها بالجنسية الفرنسية بالميلاد، واكتسابها الجنسية الألمانية لتجنّس زوجها بهذه الجنسية. فقد تراءى للمحكمة أنّ المشار إليها كانت قد ولدت بمدينة مونبيلييه بفرنسا، وأقامت بها غالب حياتها وحافظت على موطنها بها حتى وقت عرض المنازعة أمام المحكمة. كما أنّ السيدة دي مون فوراً كانت قد اعتادت مباشرة حقوقها السياسية والمدنية بالدولة الفرنسية. الأمر الذي استبان معه للمحكمة أنها كانت مرتبطة أكثر بالدولة الفرنسية منه بدولة ألمانيا  وأنها لذلك لا يمكن أن تعامل في هذه المنازعة إلاّ على اعتبار كونها فرنسية الجنسية.

ويبدو أنّ تطبيق نظرية الجنسية الفعلية ما كان ليقتصر على ذلك، إذ انتهت محاكم التحكيم المختلط إلى إعمال ذات المعيار في العديد من المنازعات الدولية. من بين ذلك ما حُكِم به في قضية ماكينزي Mackenzie بين الولايات المتحدة وبريطانيا من معاملة المشار إليه دولياً بالمنازعة المطروحة على أنه أمريكي الجنسية لما ثبت لها من أنه كان قد باشر حياته الاجتماعية والاقتصادية على نحو قاطع بأنّ جنسيته الفعلية هي الجنسية الأمريكية. أمّا الجنسية الإنجليزية، فكان قد ثبت تمتعه بها بطريقة قانونية سليمه، إلا أنه لم يكن له منها غير الاسم حيث لم يباشر مظاهرها على نحو دائم . ومن ذلك أيضاً ما أتت به هيئة التحكيم في النزاع الذي كان قد أٌثير بين كل من المجر وألمانيا بخصوص السيد فريدريك دي بورن، إذ لم تتوانَ المحكمة عن الإشارة إلى أنه لتحديد جنسية المدّعي مزدوج الجنسية "ينبغي البحث عما إذا كان في أي من الدولتين (ألمانيا والمجر) يوجد المكان الذي كان المدعى قد اتخذه مقراً لإقامته المعتادة أو كان قد استخدمه لإدارة أعماله بطريقة اعتيادية أو لمباشرة حقوقه العامة، والذي كان بدوره محدداً بواسطة السلطة العامة. وأنه إذا كان ممكناً تحديد هذا المكان فإنّ قانون الدولة التي يوجد بها هذا المكان يجب أن يعلو فوق قانون الدولة الأخرى، بمعنى أنّ جنسية المدعى يجب أن يتم تحديدها وفقاً للقانون الأول دون سواه. وأنّ العناصر القانونية ومسائل الواقع المعتبرة أساسية لنشأة رابطة جنسية فعلية وليست فقط نظرية يجب أن تتحقق وتجتمع في إطار هذا القانون وحده" .

 

المبحث الثاني: استقرار أحكام التحكيم والسوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية

على الأخذ بالجنسية الفعلية عند ازدواج أو تعدّد الجنسية

لم يقف أمر الأخذ بمبدأ الجنسية الفعلية عند هذا الحد، إذ استند إليه العديد من الدعاوى واستقر عليه العديد من الأحكام الدولية التي من أهمها وأشهرها الحكم الصادر في قضية نوتباوم Nottebohm أمام محكمة العدل الدولية والأحكام الصادرة عن محكمة التحكيم الإيرانية الأمريكية.

ففي قضية نوتباوم Nottebohm أمام محكمة العدل الدولية كان من إشتهرت باسمه القضية، قد ولد في ألمانيا عام 1881 واكتسب الجنسية الألمانية بالميلاد، ثم غادر ألمانيا للعيش بدولة جواتيمالا في 1905. وعام 1939 تجنّس نوتباوم بالجنسية الليشتنتينية حيث كان دائم التردد على هذه الدولة لزيارة أخيه المقيم فيها، فاقداً بذلك الجنسية الألمانية التي كان قد تمتّع بها بالميلاد. ولقد ترتّب على نشوب الحرب العالمية الثانية وانضمام جواتيمالا للولايات المتحدة الأمريكية أن قامت جواتيمالا بالقبض على نوتباوم بوصفه رعية ألمانية (من رعايا الدول الأعداء) وسلمته للولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظلّ في معتقلاتها حتى نهاية الحرب العالمية عام 1945 . قام نوتباوم - بعد الإفراج عنه - باللجوء إلى ليشتنشتاين والمطالبة بحمايتها الدبلوماسية، وهو ما تمّت الاستجابة له حيث طالبت الأخيرة جواتيمالا - عن طريق دعوى رفعتها أمام محكمة العدل الدولية ضدها - باسترداد أموال نوتباوم التي تم الاستيلاء عليها وتعويضه عن الأضرار التي لحقت به تطبيقاً لقواعد الحماية الدبلوماسية المقرّرة بالقانون الدولي، واعتباراً بأنّ المعنى كان مكتسباً لجنسيتها، بالإضافة الى جنسيته الألمانية. وإذ ثار التساؤل أمام المحكمة عن أحقية الدولة المتجنس بجنسيتها في المطالبة بالحماية الدبلوماسية، أجابت المحكمة بأنها ستفحص، وهو ما فعلته، ما إذا كانت رابطة الجنسية بين نوتباوم وليشتنشتاين " أكثر متانة مقارنة بأي رباط كان ممكناً وجوده بينه وبين هذه الدولة أو أية دولة أخرى" . وللتوصل لذلك بادرت المحكمة ببيان أنّ الجنسية تعبِّر عن "صلة قانونية تقوم على واقعة اجتماعية للإسناد وعلى تضامن فعلي في المعيشة والمصالح والمشاعر يساندها تبادل في الحقوق والواجبات. فالجنسية هي التعبير الحقيقي عن أنّ الفرد الذي منحت له سواء بطريق القانون أو بطريق القرارات الإدارية يكون في الواقع مرتبطاً بشعب الدولة التي منحته جنسيتها أكثر من ارتباطه بأية دولة أخرى" . وتطبيقاً لذلك استطردت المحكمة بأن نوتباوم ما كان يرتبط بدولة تجنسه (ليشتنشتاين) بروابط حقيقية أو واقعية. فلم تكن له إقامة ثابتة فيها، كما لم يثبت لديه نية الاستقرار فيها، إذ ما كان يقوم به لم يتجاوز حد الزيارة المؤقتة أو الإقامة العارضة خلافاً لصلته بدولة جواتيمالا، التي وإن كان غير متمتّع بجنسيتها إلاّ أنه أقام فيها أربعة وثلاثين عاماً باشر فيها حياته العائلية، وتركزت على أراضيها مصالحه وأعماله التجارية. لذلك انتهت المحكمة إلى أنّ وشائج الانتماء الممثلة للأساس الواجب اعتماده لتحديد المعاملة الدولية لنوتباوم هي تلك التي كانت قائمة بين المطلوب حمايته دبلوماسياً وبين جواتيمالا لكونها تتصف بالجدية والواقعية رغم عدم تمتّعه بجنسية هذه الدولة، وأنّ جنسية دولة ليشتنشتاين المكتسبة لا يمكن اعتبارها الجنسية الغالبة أو الفعلية الأمر الذي يمكن للمحكمة معه اعتبار أنّ تجنّس نوتباوم بجنسية دولة ليشتنشتاين كان مشوباً بالصورية وبسوء النية. لذلك انتهت المحكمة إلى عدم قبول دعوى دولة ليشتنشتاين الخاصة بالحماية الدبلوماسية لنوتباوم لانتفاء الواقعية والفعلية في الروابط المدعاة بينه وبين هذه الدولة مقارنة بالدولة المدعى عليها أمام محكمة العدل الدولية . ولقد اعتبر موقف محكمة العدل الدولية في هذه القضية موقفاً عكسياً للموقف الذي اتبعه مجلس المصالحة في المنازعة المشار إليها أعلاه، حيث لم تتوانَ عن الموازنة بين الروابط المثارة أمامها للتأكد ممّا إذا كانت رابطة الجنسية بين نوتباوم وليشتنشتاين " أكثر متانة مقارنة بأية رباط كان ممكناً وجوده بينه وبين هذه الدولة أو أية دولة أخرى .

الانتقادات الفقهية: ورغم ما قيل لصالح هذا الحكم الذي أرسته محكمة العدل الدولية، والذي بفضله أصبحت نظرية الجنسية الفعلية "مصدراً استثنائياً من المصادر التي أغنت القانون الدولي" ، إلاّ أنّه قد تعرّض للمآخذ والانتقادات. من بين ذلك ما وجِّه إليه من أنه قد أتى "بتهديد جاد ضد الجنسية في القانون الدولي" . وليس هذا النقد – في عقيدتنا بسديد. فكأن صاحبه قد أغفل السوابق التي أرستها محاكم التحكيم المختلط من قبل، أو أنه لم ينتبه الى نصّ المادة الخامسة من اتفاقية لاهاي لسنة 1930 الخاصة بتنازع القوانين في مسائل الجنسية التي أحلّت شرط الفاعلية ضمن نصوصها الذي ورد فيه أنه "في الدولة الغير، يجب معاملة الشخص المتمتع بجنسيات متعددة وكأنه غير متمتع إلاّ بجنسية واحدة. ولهذه الدولة الاعتراف على إقليمها من بين الجنسيات التي يتمتع بها هذا الفرد، إمّا بجنسية الدولة التي يقع على إقليمها إقامته الرئيسية والمعتادة أو بجنسية الدولة التي يبدو بحسب الظروف الأكثر ارتباطاً بها من حيث الواقع، هذا ما لم يترتّب على تطبيق قواعد قانون هذه الدولة الأخرى إضراراً وبشرط مراعاة المعاهدات الدولية" .

ولعل ما يمكن أن يؤخذ على هذه السابقة القضائية لهي طريقة التسبيب التي عالجت بمقتضاها وضع نظرية الجنسية الفعلية موضع التطبيق. فالحكم قَصَر – من غير مبرِّر - رقابة فاعلية الجنسية على الجنسية المكتسبة (جنسية دولة ليشتنشتاين) دون ما سواها من الجنسيات السارية، المعتادة أو الظاهرة (الجنسية الألمانية لنوتباوم). الم يكن حريّاً بالمحكمة وبحسب منطقها المتّبع أن تأخذ بعين الاعتبار غياب وانعدام فاعلية الجنسية الألمانية، وما كان من شأنه أن يؤدي إلى القول بانتفاء السيطرة أو الفاعلية. وليس بخافٍ أنّ مثل هذه الطريقة للتسبيب كان من شأنها أن تنكر على الجنسية الألمانية لنوتباوم أية أثر، بل كان من المحتمل أن تؤدى الطريقة ذاتها بالمحكمة إلى حلقة مفرغة لإدخالها في حلبة المنافسة جنسيات غير متصفة بالفاعلية، والذي ما كان لينتج إلاّ من خلال انعدام واقعي للجنسية. وليس لنا أن نملك في الوقت ذاته التأكيد على أنّ المحكمة كانت تتحرّى تجنب مثل هذه النتيجة عندما اكتفت عند فحص فاعلية الجنسية على الرابطة القائمة بين نوتباوم ودولة الجنسية (ليشتنشتاين) .

لم يقف أمر الأخذ بمبدأ الجنسية الفعلية عند هذا الحد، إذ استندت إليه العديد من المطالب التي أقيمت أمام محكمة التحكيم الإيرانية – الامريكية، حيث كان العديد من الأطراف مزدوجي الجنسية الأمريكية -الإيرانية التي – لبت اختصاصها – قامت باتخاذ قراراتها بطريقة دورية تأسيساً على مبدأ الجنسية الغالبة . وتتلخص وقائع النزاع في أنّ الحكومة الإيرانية لجأت إلى محكمة التحكيم طالبة تفسير الفقرة الأولى من المادة السابعة من إعلان الجزائر للوقوف على أمر اختصاص محكمة التحكيم المنشئة بالتطبيق لاتفاقات الجزائر للنظر في الطلبات المقدمة إليها من مزدوجي الجنسية الإيرانية الأمريكية، أي أولئك الذين يتمتعون بالجنسية الأمريكية بالتطبيق للقانون الأمريكي وبالجنسية الإيرانية وفقاً للقانون الإيراني. ولعل ما دعا إلى اللجوء إلى هيئة التحكيم بطلب التفسير أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد تبنّت مفهوماً للنص قوامه أنه كان واضح الصياغة في ما تضمّنه من أحقية مزدوجي الجنسية من البلدين في ولوج طريق التحكيم أمام الهيئة. وأنّ ذلك يبدو جلياً من تعريف الوطنيين الوارد في النص حين أشار إلى أنّ الوطني "هو كل من تثبت له صفة المواطن طبقاً لأحكام قوانين الجنسية في الدولتين". وهو ما يعني بوضوح أن يكون لأي من مواطني هاتين الدولتين الحق في الادعاء أمام هذه الهيئة. على نقيض ذلك، أصرت الحكومة الإيرانية على أنّ النص المشار إليه من المادة السابعة من اتفاق الجزائر لا يمتد ليشمل مزدوجي الجنسية. وأنّ مصطلح وطني الذي ارتضته إيران بالاتفاق لا يشمل هذه الفئة، ولا سيما أنّ القانون الإيراني لا يقرّ مبدأ ازدواج الجنسية. ولذا فمن غير المقبول – من وجهة النظر الإيرانية -افتراض قبولها مثل هذا الاختصاص عند توقيع الإعلان المتعلق بتسوية المنازعات الإيرانية الأمريكية .

ورغم ما أتت به الحكومة الإيرانية من حجج دعماً لرؤيتها، إلاّ أنّ محكمة التحكيم قد انتهت إلى تفسير النص محل الدعوى بطريقة أقرّت للمحكمة الاختصاص بالنظر في المنازعات المرفوعة إليها من مزدوجي الجنسية الأمريكية الإيرانية ضد أي من الدولتين. ولقد استندت المحكمة في ذلك الى أحكام اتفاقية لاهاي لسنة 1930، ولما جرى عليه العمل في القضاء الدولي، وما استقر عليه الفقه من تطبيق لنظرية الجنسية الفعلية. ولقد انتهت المحكمة إلى تقرير اختصاصها بالطلبات المقدّمة ضد إيران من مزدوجي الجنسية المتمتعين بالجنسية الإيرانية والأمريكية في كل الحالات التي يثبت فيها أنّ الجنسية الأمريكية للمدعي كانت هي الفعلية والغالبة طوال المدة ما بين ميلاده وتقديم طلب التحكيم أمام المحكمة (أي في التاسع عشر من يناير 1981). وللوقوف على ما إذا كانت الجنسية المتنازع فيها فعلية من عدمه، أخذت المحكمة بالظروف والملابسات المحيطة بالمدعي كالإقامة المعتادة، تركيز المصالح والروابط الأسرية، المشاركة في الحياة العامة والسياسية ... كمؤشرات مساعدة على إسناد الشخص إلى إحدى الجنسيتين الأمريكية أو الإيرانية. ولم يفت المحكمة التأكيد على أنه حتى في الحالة التي تقرِّر فيها اختصاصها بنظر الدعوى استناداً الى الجنسية الفعلية للمدّعي، فإنّ الجنسية الأخرى التي يتمتع بها المدعي يمكن أن تكون معتبرة عند الفصل في موضوع النزاع .

ولقد كان الحكم الصادر عن هيئة التحكيم محلاً لتعليق المحكمين الثلاثة الممثلين للجانب الإيراني الذين عبّروا علانية عن عدم رضاهم عنه، معتبرين إياه "حكماً فاقداً لكل مصداقية"، فضلاً عن كونه "مثالاً جديداً على التفسير المشوب بسوء النية من جانب المحكمة" . ولم يتردَّد المحكمون عن التشكيك في نزاهة هيئة المحكمة التحكيمية: "إن تشكيل المحكمة المزعوم اتصافه بالحياد يعدّ نتاجاً لقواعد مجلس الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية (CNUDCI). وأنه حرم المحكمة أية مصداقيه للفصل في أي خلاف بين الحكومة الإسلامية باعتبارها حكومة ثورية لدولة من دول العالم الثالث في مواجهة الولايات المتحدة باعتبارها نموذج الرأسمالية العالمية. والمحكمة مشكّلة من محكمين من دولة السويد، من بينهما من أصر على الاستمرار في مهماته رغم أنّ الحكومة الإيرانية قد أبدت دفوعاً بعدم صلاحيته منذ ما يزيد على عامين، ومن أحد موظفي وزارة الخارجية الهولندية المنتمي لدولة حليف للولايات المتحدة الأمريكية داخل حلف الأطلنطي" .

كما اعتبر المحكمون الثلاثة أنّ هذا الحكم يمثّل انتهاكاً لنظرية عدم المسؤولية الدولية للدولة تجاه وطنييها التي تجد سندها بمبدأ المساواة بين الدول والمعبّر عنها باتفاقية لاهاي لسنة 1930 وبالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية سنة 1949، وبقرار معهد القانون الدولي سنة 1965 والمعترف بها أمام القضاء الدولي والمستقر عليها في الممارسات الدولية. فالحكم المشار إليه صدر "لإظهار الولاء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وبهدف النيل من مكانة جمهورية إيران الإسلامية ومن العالم الثالث. إنّ خضوع إيران لاتفاق الجزائر ما كان إلاّ لينبثق من مبدأ المساواة بين الدول ذات السيادة ومن تعهّد الولايات المتحدة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لإيران. والجمهورية الإيرانية لن تسمح أبداً أن تنتهك حقوقها السيادية بواسطة وطنييها بإسم ما قامت به الولايات المتحدة من منحهم حمايتها، والذي ما كان ليتم منهم إلاّ بهدف التحايل على أمر خضوعهم للقانون وللقضاء الإيراني بهدف بعث نظام من الرأسمالية تعرّض للهزيمة من جراء الصراع الطويل الذي تحمّلته دول العالم الثالث وبصفة خاصة الشعب الإيراني" .

وبصرف النظر عن تلك الانتقادات، إلاّ أنه بموجبه اعترفت محكمة التحكيم الإيرانية الأمريكية لنفسها الاختصاص بالمنازعات التي أثارها أمامها عدد من مزدوجي الجنسية الإيرانية الأمريكية، والتي من أهمها تحكيم ناصر الأصفهاني الذي تتلخص وقائعه في أنّ الأصفهاني الإيراني بالميلاد في إيران لأب إيراني الجنسية، كان قد سافر في السابعة عشرة من عمره للدراسة بجامعة بريجاميونج بالولايات المتحدة الأمريكية. ثم قام بتغيير تلك الجامعة بجامعة أوكلاهوما بولاية تولوزا، وحصل منها عام 1950 على دبلوم الهندسة في الصناعات البترولية. وبعد أن أنهى دراسته الجامعية، أُتيحت له فرصة التعاقد كمهندس في إحدى الشركات بولاية تكساس. وعام 1952، تطوّع الأصفهاني بالجيش الأمريكي لمدة لم تطل كثيراً، حيث تزوّج عام 1953 من أمريكية بولاية تكساس ورزق منها طفلان. وعام 1954 حصل على الإقامة الدائمة بالولايات المتحدة الأمريكية. وسنة 1958، أجابته الحكومة الأمريكية الى طلب التجنس بالجنسية الأمريكية بموجب قانون خاص اعتبر بموجبه أمريكياً بالتجنس منذ ذلك التاريخ . وبحسب معطيات الدعوى في الفترة ما بين دخول الأصفهاني إلى الأراضي الأمريكية، وحتى عام 1970، اتضح أنّ الأصفهاني وأسرته كانوا مستقرين بصفة دائمة بولاية تكساس، حيث كان يعمل مهندساً بإحدى الشركات الأمريكية وقام بشراء وحدات عقارية فيها وعايش المجتمع الأمريكي بكل توجهاته، إذ ساهم في كثير من الأنشطة الثقافية والمهنية بأميركا، كما شارك في الانتخابات، وكانت له توجهات سياسية. ومن شواهد انخراط الأصفهاني في الثقافة الأمريكية، أنّ طفليه كانا قد تلقيا دراساتهما بمدارس أمريكية وأنهما وزوجته ما كانوا يجيدون التحدث بالفارسية، ولم يكن من بينهم معتنق للديانة الإسلامية . وإذ عيّن الأصفهاني في الفترة ما بين عام 1970 و1978، مديراً عاماً لفرع شركة هوستون للمقاولات بالشرق الأوسط فقد كان مضطراً للإقامة وأسرته تسعة أشهر في العام بإيران في الوقت الذي كان يقضي أجازته الصيفية – ثلاثة أشهر- بولاية تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي الفترة التي كان يقضيها بالشرق الأوسط واعتباراً لطبيعة مهامه الوظيفية كان الأصفهاني دائم التنقل بين دول المنطقة كسائح أو مكلّف بمتابعة أنشطته الوظيفية. ولقد نتج من الاستقرار الوظيفي للأصفهاني بالمنطقة أن قام بفتح حساب له بالعملة الإيرانية في بنك إيران لإيداع ما كان يتقاضاه من مستحقات طوال تلك الحقبة، بالإضافة إلى قيامه بشراء بعض سندات الخزانة في إيران، وكان الأصفهاني قد قدّم - من بين ما قدّم - من مستندات مستلزمة لفتح الحساب رقم بطاقته الشخصية الصادرة عن السلطات الإيرانية .

وفي 21 ديسمبر 1978، استبدل الأصفهاني مجموعة السندات المشتراة والمبالغ التي كانت له بالعملة الإيرانية بالبنك بشيك واجب الدفع بالعملة الأمريكية. حيث كانت قيمة هذا الشيك سبعة ملايين وأربعة آلاف وتسعمائة وواحد وستين ألف دولار أمريكي مسحوب على بنك التجارة الإيراني. وإذ قام الأصفهاني بتقديم الشيك للصرف فوجئ بعدم كفاية الرصيد لصرف قيمة الشيك. وظلّ الأمر على هذا الحال (أي عدم كفاية الرصيد لصرف قيمة الشيك) إلى أن تم تأميم بنك إيران بواسطة الجمهورية الإسلامية عام 1979، وإدماجه ببنك التجارة الذي انتقلت إليه حقوق والتزامات بنك إيران. كان طبيعياً أثر ذلك أن يبادر الأصفهاني، الذي كان قد عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بولوج طريق التقاضي أمام المحاكم الفيدرالية بأميركا مطالباً البنك الإيراني الوفاء بقيمة الشيك، متخذاً حماية لحقوقه، إجراءات حجز تحفظي ضد الممتلكات الإيرانية، والتي كانت قد تزامنت مع إجراءات مماثلة بادرت بها الإدارة الأمريكية آنذاك ضد ممتلكات إيران فيها، رداً على عمليات التأميم التي كانت حكومة الثورة الإسلامية في إيران قد اتخذتها ضد الشركات الغربية العاملة آنذاك على أراضيها. وإذا ترتّب على ما اتخذته الإدارة الأمريكية من إجراءات ضد إيران أن بادرت الدولتان إلى طرق باب التفاوض الذي أسفر عن إبرام اتفاقات الجزائر عام 1981 التي اتفق بمقتضاها على فضّ المنازعات المثارة بشأن رعايا الدولتين بطريق التحكيم. وإذ نصّت هذه الاتفاقات على إنشاء محكمة تحكيم خاصة "محكمة التحكيم الإيرانية الأمريكية" أنيط بها الفصل في تلك المنازعات وهو ما نتج عنه التوقف من جانب الولايات المتحدة عن الاستمرار في اتخاذ إجراءات تحفظية ضد الأموال الإيرانية بأميركا.

وكان طبيعياً أن يترتّب على اتفاقات الجزائر أن يبادر الأصفهاني بصفته مزدوج الجنسية (أمريكي – إيراني) بالتقدم بطلب للفصل في دعواه الخاصة بالشيك المشار إليه أمام محكمة التحكيم المشكّلة، مطالباً الحكومة الإيرانية وبنك التجارة بدفع قيمة الشيك والفوائد المستحقة والتعويض عما أصابه من أضرار . دفعت الحكومة الإيرانية بعدم اختصاص محكمة التحكيم بالدعوى تأسيساً على الصفة الوطنية للسيد الأصفهاني تجاه دولته الأم "إيران". دعمت موقفها القانوني بمقولة أن القانون الإيراني لا يعترف أصلاً بازدواج الجنسية، وأنه لذلك لا يمكن للحكومة الإيرانية لا الاعتراف بازدواج جنسية الأصفهاني، ولا بصفته الأجنبية (بالجنسية الأمريكية). وانطلاقاً من ذلك، لا يكون لمحكمة التحكيم أن تعترف لنفسها بالاختصاص بالفصل في الدعاوى التي تثور بين دولة إيران وأحد رعاياها .

جدير بالذكر أنّ الدفع الذي أبدته الحكومة الإيرانية كان له ما يبرِّره من الناحية العملية. فبصرف النظر عن القيمة الكبيرة للشيك محل الدعوى الخاصة بالأصفهاني، فقد ترتّب على الثورة الإيرانية وما تبعها من تأميم للمصالح والشركات الغربية العاملة بإيران آنذاك، ومن إبرام لاتفاقات الجزائر عام 1981 التي أُنشئت بمقتضاها محكمة التحكيم الإيرانية الأمريكية، أن تقدّم ما يزيد على ثلاثمائة شخص من مزدوجي الجنسية الأمريكية الإيرانية  بطلبات إلى هيئة التحكيم بغرض استرداد أموالهم المصادرة والتعويض عن الأضرار التي أصابتهم من جراء الإجراءات التي اتخذتها إيران الإسلامية.

وإذ كان على محكمة التحكيم التصدي لهذه المسألة المعقّدة، فإنها لم تفضِّل إعمال نصوص اتفاق الجزائر للوقوف على مسألة اختصاصها بالمنازعة بقدر ما فضّلت الرجوع إلى أحكام القانون الدولي الخاصة بازدواج الجنسية، ومن بينها ما ورد في المادة الأولى من اتفاقية لاهاي المبرمة في 12 أبريل عام 1930 الخاصة بتنازع القوانين في مسائل الجنسية، والتي نصّت على أنّ "تحديد الدولة لوطنييها يكون معترفاً به من جانب الدول الأخرى"، مادام كان متسقاً مع القانون في مادة الجنسية". فالقانون الدولي العام لا يحدِّد من هو الوطني، وإنما يضع الشروط التي يكون وفقاً لها هذا التحديد معترفاً به من جانب الدول الأخرى . ولم يقف الأمر بالمحكمة عند هذا الحد، إذ تعرضت لتفسير المادة الرابعة من الاتفاقية المشار إليها والتي مقتضاها أنّ الدولة لا يمكنها ممارسة حمايتها الدبلوماسية على أحد مواطنيها في مواجهة دولة أخرى تعتبره كذلك، مؤكّدة أنه "ينبغي التزام الحيطة البالغة عند تفسير هذا النص، ليس فقط لأنّه أصبح نصاً قديماً مضى عليه ما يزيد على خمسين عاماً، ولكن اعتباراً للمتغيرات الضخمة التي أحاطت بفكرة الحماية الدبلوماسية بطريقة أدت إلى اتساع مداها. فهذه الفكرة مستمرة في التغيير حيث أضحى ضرورياً التمييز بين أشكال متباينة من الحماية الدبلوماسية بحسب ما إذا كانت قد مورست بالطريق الدبلوماسي أو بطريق المطالبات الدولية. أكثر من ذلك، فالثابت أنّ نص المادة الرابعة يمنع تفسير هذا النص بطريقة تسمح بأن يمتدّ للحالة الماثلة التي مقتضاها أنّ مزدوج الجنسية هو الذي قام بتقديم طلبه أمام الهيئة الدولية ضد أحد الدول التي يتمتع بجنسيتها. ذلك أنّ اقتراحاً كان قد قدّم في هذا المعنى أثناء المؤتمر، ولكنه كان قد قوبل بعدم القبول" .

وفي سياق استعراضها للوقائع المعروضة وبحثها عن حل لها، قامت المحكمة بقياس حالتها في دعوى الأصفهاني على الحالة التي يكون فيها متعدّد الجنسية قد أثار مسألته لدى جهة قضائية تابعة لدولة من الغير ، حيث قرّرت "أنه بتطبيق القانون الدولي تجد المحكمة نفسها في وضع مشابه لذلك الخاص بمحكمة دولة من الغير في مواجهة طلب مقدم من جانب مزدوج الجنسية ضد احدى الدولتين اللتين يتمتع بجنسيتهما. وأنه وفقاً للمادة الخامسة من اتفاقية لاهاي لسنة 1930 فإنه "في الدولة الغير يتم معاملة الشخص المتمتع بجنسيات متعددة، كما لو لم يكن متمتعاً إلاّ بجنسية واحدة". ويكون ممكناً لهذه الدولة الغير الاعتراف له، من بين الجنسيات التي يتمتع بها على أراضيها وبطريقة استئثارية، إمّا بجنسية دولة إقامته المعتادة والرئيسية أو بجنسية الدولة التي بحسب الظروف يبدو الأكثر ارتباطاً بها من حيث الواقع". واعتبرت هيئة التحكيم أنّ تفسير المادتين الرابعة والخامسة من اتفاقية لاهاي يعتبر موجهاً للمحكمة باتباع نظرية الإقامة المسيطرة الغالبة أو الفعلية" . ولم تكتفِ الهيئة دعماً لموقفها بذلك، إذ أكدت " أنّ نظرية الجنسية الفعلية التي أولتها الاعتبار الأول في بحثها عن الجنسية واجبة الأخذ بعين الاعتبار من بين الجنسيات المتنافسة للمدعى قد سخرت لها وأخذت بها وتواترت عليها أحكام المحاكم الدولية في العديد من القضايا الشهيرة التي عرضت عليها، وأنّها النظرية التي روجّ لها الفقه الراجح في القانون الدولي الخاص والعام" .

انطلاقاً من ذلك قامت هيئة التحكيم بعقد مقارنة بين أواصل الارتباط المستقرة بين الأصفهاني ودولة جنسيته الأصلية (إيران)، وبينه وبين دولة جنسيته المكتسبة (الولايات المتحدة الأمريكية)، للوقوف على صفته الوطنية، ومن ثم الفصل في اختصاصها بالمنازعة نتيجة ازدواج الجنسية. ففيما يخص الرابطة التي كانت قائمة بين الأصفهاني وإيران، ذكّرت هيئة التحكيم بصلته بهذا البلد منذ رحيله للدراسة والعيش في الولايات المتحدة، فرغم عدم إمكان إهمالها، إلاّ أنها كانت قد أصبحت محدودة للغاية. فبالإضافة الى اتصالاته بأقاربه الذين كانوا لا يزالون يعيشون في إيران، فإنه كان قد قام بالعديد من الرحلات إلى تلك الدولة، وكان محتفظاً بجواز سفره الإيراني. ثم أنه كان لا يزال محتفظاً بإقامته الرئيسية بإيران على مدار تسعة أشهر في العام في الفترة ما بين 1970 و1977 حيث كانت إقامة أسرته وكان أولاده يتلقون دراساتهم بمدارس أمريكية في طهران. وحيث أنّ البادي من الأوراق، أنّ الشركة التي كان يعمل لديها كانت قد فرضت عليه أن يقوم بتقسيم وقت عمله بالتنقل بين عدد من دول الشرق الأوسط، وكانت قد التزمت في المقابل بدفع مصاريف السفر والإقامة له وأسرته، وأنه لذلك كان يقضي ثلث وقته خارج الحدود الإيرانية. وحيث أنّ الثابت أنه وأسرته كانوا قد اعتادوا كل عام طوال أشهر الصيف العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لقضاء الإجازة الصيفية هناك حيث كانت لهم إقامة ثانوية. وحيث كان الثابت أيضاً من جانب الأصفهاني أنه لا يقوم بدفع الضرائب للسلطات الإيرانية إلاّ عن الجزء من دخله الخاص بأنشطته الممارسة في إيران، وأنه فيما يخص الضرائب التي كان يدفعها للولايات المتحدة الأمريكية فقد كان المعتاد أن يتم تقديرها على أساس كامل الأجور التي يتلقاها من الشركة الأمريكية، والتي كانت أثناء عمله في الشرق الأوسط تدفع له بالعملة الإيرانية، حيث كانت قد بلغت في ما يخص الفترة ما بين 1970 و1978 مبلغ ستمائة وعشرة آلاف دولار. ومن حيث كان الثابت أنّ مداخيل الأصفهاني الأخرى خلال تلك الحقبة كانت قد نتجت من الفوائد التي بلغت 174 ألف دولار ومن المصاريف التي قامت الشركة التي كان يعمل فيها بدفعها إليه، والتي قدرت ب 165 ألف دولار، بالإضافة إلى مبلغ خمسين ألف دولار كان قد تلقاها من أخاه بشأن بعض العمليات التجارية. من ذلك كله أمكن لهيئة

التحكيم الوقوف على قانونية المبالغ التي يطالب بها الأصفهاني بموجب الشيك الذي عاد إليه مرفوض الدفع لعدم كفاية الرصيد، والتي كان قد حصل عليها في الغالبية العظمى من خلال الأجور التي تلقاها من صاحب العمل، ودون أن يكون لتلك الأنشطة أدنى صلة بجنسيته الإيرانية .

وفي ما يتعلق بالروابط التي ترعرعت بين الأصفهاني والولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ هيئة التحكيم كانت قد أكدت أنّ وشائج الانتماء تجاه تلك الدولة كانت وطيدة، طبيعية ومستمرة. فالمّدعي منذ دخوله الأراضي الأمريكية للدراسة وإقامته فيها عام 1946 أقام الدليل على إتمامه دراساته الجامعية، وعلى العمل بإحدى الشركات بولاية تكساس، وعلى أداء الخدمة العسكرية بالولايات المتحدة الأمريكية. كما أنه تزوج من إحدى رعايا هذه الدولة وأنجب منها طفلان ولدا وترعرعا ودرسا في الأراضي والمدارس الأمريكية ما بين 1957 و1978 دون أن يتقنا اللغة الفارسية أو أن يعتنفا الديانة الإسلامية. كما أنّ الأصفهاني كان قد قام بشراء أربع وحدات عقارية في تكساس والتزم طوال تلك العقود بدفع الضرائب لدى الحكومة الأمريكية وشارك في العديد من الأنشطة الثقافية والاجتماعية وساهم في الانتخابات الأمريكية حتى في الفترة ما بين 1970 و1978 على الرغم من تواجده - بحكم طبيعة عمله كمدير لفرع الشركة الأمريكية - بالشرق الأوسط واضطراره لذلك للسفر والإقامة تسعة أشهر في العام خارج الولايات المتحدة الأمريكية . من ذلك كله خلصت هيئة التحكيم في حكمها الصادر في 19 مارس 1983، إلى أنّ الجنسية الواجب الاعتداد بها للأصفهاني هي الجنسية الفعلية والراجحة، والتي كانت بحسب ما استبان لها من الأوراق هي جنسية الولايات المتحدة الأمريكية. والحقيقة أنه رغم تبني المحكمة نظرية الجنسية الغالبة والمسيطرة، إلاّ أنّ الثابت أنّ المحكمة لم تشأ أن تذهب بنظرية الجنسية الواقعية إلى حد الخروج على المبادئ المستقرة بالقانون الدولي، وبصفة خاصة ما أتت به المادة الرابعة من اتفاقية لاهاي لعام 1930 من إقرار لمبدأ المساواة بين الدول في السيادة وحرمان الدولة من ممارسة الحق في الحماية الدبلوماسية على أحد رعاياها في مواجهة دولة أخرى تعتبره من بين وطنييها. إذ رغم انتقاد المحكمة ما ورد في المادة الرابعة من تلك الاتفاقية، فقد اعتبرت أنّ المنازعات المطروحة في أروقتها كانت قد رفعت إليها بطلبات قدّمت من ذوي الشأن، بأنفسهم ضد الحكومة الإيرانية، وأنّ الأمر بشأنها لا يندرج لذلك في إطار الحماية الدبلوماسية بمعناه التقليدي. فمحكمة التحكيم لا تعدو إلاّ أن تكون بديلاً من القضاء الوطني بنظر المنازعات المرفوعة من رعايا أي من الدولتين على الأخرى . ودعماً لذلك، أكدت المحكمة أنّ الاتفاق بين الحكومتين (الأمريكية والإيرانية) والمنشئ للمحكمة، لا يندرج في إطار النموذج التقليدي للحماية الدبلوماسية الذي يكون للدولة طالبة الحماية والتعويض لصالح رعاياها أن تقوم بإنشاء محكمة تكون هي وليس وطنيوها طرفاً فيها. في هذا النموذج التقليدي، فإنّ الدولة إذ تحمّلت عبء طلبات رعاياها والأسانيد التي على أساسها تطالب بالتعويض، فإنّ تلك الأعمال تعتبر وكأنها معبِّرة عن انتهاك حقوق الدولة. وعلى نقيض ذلك، فإنّ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا تعدّ طرفاً بالإجراءات التحكيمية حتى في ما يتعلق بالطلبات الأقل قيمة من 250 ألف دولار والتي تدخّلت فيها بصفتها مستشاراً لوطنييها. أضِف إلى ذلك أنّ الدولة المدعى عليها ليست مدعوة أمام هذه المحكمة فقط بصفتها دولة ذات سيادة. فيوجد هنا مجال للمسؤولية أكثر اتساعاً من نطاق المسؤولية العادي للدولة على كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية اللتين تتحملان مسؤولية قانونية - سواء في إطار القانون العام أو في إطار القانون الخاص– بوصفهما ضامنتين لديون هذه الجهات والشخصيات المعنوية الواقعة خارج الدولة بمعناها الفني.

والإطار العرضي لهذه المسؤولية يُعدّ أكثر اتساعاً من ذلك الذي يشمله عبء تحمّل الطلبات الخاصة بممارسة الحماية الدبلوماسية، والتي تكون فيها الدولة المدعى عليها ملتزمة بصفة عامة بتعويض الانتهاكات المرتكبة للقانون الدولي .

ثم أنّ المحكمة وقد حلّت محل المحاكم الوطنية للدولتين محملة في ذلك بتسهيلات لم تحدث من قبل واعتباراً لتمتّعها بوصف المحكمة الدولية المنشئة بموجب اتفاقية دولية، فإنها تُعدّ في حالة مشابهة لتلك الخاصة بقضاء أو محاكم دولة من الغير في مواجهة تنازع للقوانين في مسائل الجنسية. ومن حيث أنّ هذه المحكمة ليست مرتبطة بقانون وطني معيّن أو بنظام قانوني معيّن، فإنّ الحكومتين كانتا تعلمان أو كان عليهما العلم، بأنه في مواجهة الطلبات المقدمة من جانب مزدوجي الجنسية فإنه لم يكن أمامهما إلاّ إعطاء أثر للجنسية الفعلية التي تتفق والأمر الواقع، أي التي تقوم على رابطة من الواقع بين الشخص المعنى وإحدى الدول التي تُعدّ جنسيتها موضع المنازعة أمام المحكمة .

وإذا كان الحكم الصادر من محكمة التحكيم الإيرانية قد وجد استحساناً من جانب كبير من الفقه، فانه قد تعرض للنقد من جانب آخر لما اكتنفه من غموض سواء من حيث قيامه على أفكار ومفاهيم غير محدده من ناحية، كالجنسية الراجحة أو من حيث إفتئاته على مبدأ المساواة بين الدول . ويرى جانب من الفقه المصري  والفرنسي  أنّ محكمة التحكيم قد تبنّت معياراً وظيفياً للتوصل إلى الجنسية واجبة الأخذ في الحسبان. فالهيئة إذ رجّحت نظرية الجنسية الواقعية، تكون قد ألبست فكرة الحماية الدبلوماسية - الممارسة من جانب الدولة على رعاياها في مواجهة دولة أخرى يحملون جنسيتها - ثوباً جديداً قوامه التخلي عن المفهوم التقليدي لهذه الفكرة . واستبعاد المحكمة لمبدأ عدم المسؤولية -المؤسس على ممارسة السيادة- لكونه غير ملائم لطبيعة المنازعات، واستنادها الى الانتماء الحقيقي لجنسية معينة يؤكد أنها اتبعت للتوصل إلى ذلك منهجاً تحليلياً قائماً على معيار ذي طبيعة وظيفية. ومثل هذا المنهج يجب بطبيعته أن يؤدى إلى إقامة الميزان بين المصالح المتنافسة: مصلحة الشخص المعني ومصالح الدول التي ينتمي إليها في إطار الوقائع المعروضة والمبادئ القانونية المقرّرة .

ولعل هذا ما استشفه الفقيه المصري من حيثيات الحكم الذي أشار إلى أنّ " أسباب تطبيق نظرية الجنسية الفعلية كانت مواجهة بالأساس الذي قامت عليه إعلانات الجزائر والظروف التي تم الاتفاق عليها فيها. ولعل ذلك يكون المكان المناسب للتذكّر بأنّ التحفظ في طهران على اثنين وخمسين رعية أمريكية، وبأن العديد من الأمريكيين المتضررين كانوا قد قاموا باتخاذ العديد من الإجراءات التحفظية على الممتلكات الإيرانية في الولايات المتحدة الأمريكية. وأنّ وجود مثل هذه الإجراءات التحفظية على الممتلكات الإيرانية المجمدة آنذاك بقرار من الرئيس الأمريكي، يبرِّر الاتفاق الذي تم إبرامه بين الحكومتين، والذي كان من شأنه إحلال محكمة التحكيم محل المحاكم القضائية الأمريكية والإيرانية في الفصل في المنازعات التي سبق وأن أُثيرت أمام هذه المحاكم (...) ولقد كان من شأن وضع هذا الاتفاق الذي كان قد أبرم لفضّ المنازعات حيّز التطبيق أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإجبار مواطنيها المتضررين من الحكومة الإيرانية بولوج طريق التقاضي بالتحكيم أمام هذه المحكمة وبإلغاء إجراءات الحجز التحفظي التي سبق لهم اتخاذها تجاهها أمام المحاكم الأمريكية. وحيث أنّ تبعة هذا التعليق (تعليق اللجوء الى المحاكم الأمريكية) يرتبط بقراراتنا (والقول للمحكمة) بشأن مسألة اختصاصنا. ففي الحالة التي ستقوم فيها هذه المحكمة بالقضاء بعدم اختصاصها، فإنّ المنازعات أمام المحاكم الوطنية ستستعيد طريقها، ولكن إجراءات الحجز التحفظي التي تم إلغاؤها لن يكتب لها أن تبعث من جديد، وأنّ السيد الأصفهاني يُعدّ من بين أولئك الذين كانوا قد قاموا باتخاذ الحجز التحفظي ضد الممتلكات الإيرانية والتي تم إلغاؤها" .

لذلك كله، انتهت هيئة التحكيم إلى أنه بالنظر الى ملابسات الدعوى فإنّ الجنسية الفعلية والغالبة للسيد الأصفهاني هي الجنسية الأمريكية، وأنه اعتباراً لذلك يكون له أحقية اللجوء الى هيئة التحكيم للمطالبة بدفع قيمة الشيك المدّعى به ضد الحكومة الإيرانية لكونها مختصة بالنظر في المنازعة. مما سبق ننتهي إلى أنّ أحكام التحكيم الصادرة من محاكم التحكيم الإيرانية الأمريكية قد تبنّت نظرية الجنسية الفعلية للوقوف على أمر اختصاصها بالدعاوى المرفوعة من مزدوجي الجنسية (الإيرانية/الأمريكية) ضد أي من الدولتين، رغم كون المدّعي متمتع بجنسية الدولة المدعى عليها متى كانت جنسية الدولة الأخرى هي الجنسية الفعلية. والمحكمة إذ ارتكزت تماما عليها، فإنها راحت تستخرج من وقائع وملابسات الحالات المعروضة العناصر الشخصية والموضوعية لمزدوجي الجنسية لتأكيد قناعتها في الأخذ بهذه النظرية .

نخلص مما سبق إلى أنّ التمتع بأكثر من جنسية يُعدّ مصدر اختلاف الفقه والقضاء الدوليين لما صاحب هذه الظاهرة من مشاكل بخصوص اختيار إحدى الجنسيات المتنافسة للاحتجاج بها في مواجهة الدول الأخرى. فمحاكم التحكيم التي انعقدت في أوائل القرن الماضي للفصل في تنازع الجنسيات كانت قد تبنّت اتجاهاً يقوم على تطبيق نظرية الجنسية الفعلية. فاعتداد محكمة التحكيم الدائمة بالجنسية البيروئية لكانيفارو أو اعتراف محكمة التحكيم الألمانية-الفرنسية بالجنسية الفرنسية للسيدة دي مون فورا أو الاعتراف للسيد ماكينزي بفاعلية جنسيته الأمريكية، كان مردّه الاعتماد على العناصر والظروف التي تبيَّن منها أنّ هذه الجنسيات كانت الفاعلة والمسيطرة، التي ما كان للمحكمين إزائها إلاّ أخذها في الحسبان حسماً للمنازعات الثائرة بخصوص تلك المسألة من المسائل الأولية. ولسنا نبالغ في القول متى أشرنا إلى أنه بتحليل السوابق القضائية في القرن قبل الماضي، والتي كانت في غالبيتها ذات طبيعة تحكيمية – يبين لنا أنه - حتى في تلك الآونة - كان فقه الجنسية الفعلية أو الإسناد المسيطر" منشوداً، وإن كان ذلك قد سخّر لرفض الطلبات حيث كان المتّبع أنّ "كل طلب حماية قدّم لصالح مزدوج الجنسية كان يجب أن يقرّر عدم قبوله" . وإذا كان الواقع قد أفرز أن غالبية الطلبات المقدمة من مزدوجي الجنسية آنذاك كانت قد قوبلت بالرفض، إلاّ أنّ ذلك، فيما عدا بعض الاستثناءات، كان قد حدث في حالات خضعت لاختبار متعلق بفاعلية الجنسية المتنازع فيها . ولقد دفع هذا الاستنتاج بعض الفقه إلى القول بأنه "بالمطالعة الجادة للسوابق التحكيمية يبدو لنا أنّ حكم نوتباوم يُعدّ بعيداً عن أنّ يعتبر مجدداً loin d'être innover، فهو لم يفعل أكثر من كونه قد أتى في فحواه بقضاء خانته بساطة الفقه la simplification de la doctrine" . فالفكرة التي أكدت على أنّ جنسية الدولة المدعى عليها كانت قاطعة بشأن تحديد قابلية مطالب مزدوج الجنسية، لم تقم إلاّ بسبب اتساق هذه الجنسية أو توافقها مع موطن المدعي domicile du demandeur، وأنّ تلك الحالات المرصودة كان قد تم إخفاؤها، لأن سبب الأحكام الصادرة فيها قد تم تحويره déformées من جانب فقه قدّمها مراراً على أنها القاعدة في القانون الوضعي، وهو ما لم يكن "إلاّ عملية إحصائية" .

هكذا وبالنظر إلى الحالة الماثلة للقانون الدولي، فإنّ نظرية الجنسية الغالبة أو المسيطرة بدت وكأنها القاعدة عند ممارسة الدولة للحماية الدبلوماسية لوطنييها مزدوجي الجنسية في مواجهة أي من الدول التي يحملون صفتها الوطنية. فهل يبدو طبيعياً ألا تنال هذه النظرية مجالاً للتطبيق في منازعات مشابهة كتلك التي تثور أمام هيئات مركز تحكيم واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأجنبية؟