الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم بين الدول / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 42 -43 / عالمية قواعد التحكيم الدولي وأثرها في تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 42 -43
  • تاريخ النشر

    2019-04-01
  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    208

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة

1- تراودني الكتابة في هذا الموضوع منذ فترة ، وبصفة خاصة في الجزء المتعلق بمدى جواز تنفيذ أحكام التحكيم الباطلة. وعندما شارفت على الإنتهاء من هذا المقال، صدر العدد الجديد من مجلة التحكيم العالمية ، متضمناً مقالاً هاماً للمحامي الدكتور عبد الحميد الأحدب، يحوي  العديد من التأملات العميقة والاجتهادات الرصينة ، آثرت أن أستخدمها وأن أفيد منها فـي المقال .

 -2وإذا كانت فلسفة التحكيم تنصب على تحرير نظر النزاع من قيود القضاء، وتفتح أمامه آفاقاً من الحرية لاختيار من يحكم، والإجراء المتبع، والقانون الذي يطبق، وغير ذلـك، فـإن التحكيم عندما يتخطى حدود الوطن، ويحلّق في الفضاء الدولي، نجده، مرة أخرى، يضيف إلى الحرية حرية: مرونة في الحلول وتخلصا من شكليات التحكيم الداخلي .

 -3وهنا يبرز التساؤل، محور هـذا المقـال، عـن إمكانيـة إسـتخلاص مفهـوم عـالمي للتحكيم الدولي، يتخطى الحدود، ويكتسب استقلالا وذاتية، لايـرتبط بمكـان التحكـيم أو على الأقل التخفيف من هذا الإرتباط. وهـل هـذا المفهـوم العـالمي للتحكـيم الـدولى مطلق الحدود أم أن ملامحه لم تكتمل بعد؟ أياً ما كان الأمر، فإن هـذه الدراسـة محاولـة في هذا السبيل لإبراز المفهوم العالمي لقواعد التحكـيم الـدولي فـي الاتفاقـات الدوليـة والتشريعات الوطنية (المبحث الأول)، ثم التساؤل حول نقطة إنطلاق هذا المقـال ومحفـز الكتابة فيه وهو: هل يدخل في المفهوم العالمي للتحكيم الدولي إعطاء فعالية دولية لإبطـال الحكم التحكيمي أم على العكس يفترض هذا المفهوم فك الإرتباط بين بلد بطـلان الحكـم التحكيمي وبلد تنفيذ هذا الحكم؟ (المبحث الثاني ). وأخيراً تبقى آفـاق المـستقبل مفتوحـة للإجتهادات، في ضوء الواقع الحالي، من است مرار القضاء ببطلان أحكام التحكـيم، ومـن السعي الحثيث للطرف المعني نحو تنفيذ الحكم الصادر لصالحه حتى لو كان قد أبطل فـي بلد إصداره (المبحث الثالث).

المبحث الأول: استخلاص مفهوم عالمية قواعد التحكيم الدولي :

 -4 في سبيلنا لاستخلاص المفهوم العالمي لقواعد التحكيم الدولي، سنقوم بهذه المحاولـة فـي نطاق الإتفاقيات الدولية للتحكيم، وفي نطاق تشريعات التحكيم الوطنية في بعـض الـدول الأجنبية كفرنسا على سبيل المثال، وأخيراً سنحاول البحث عن ملامح هـذا المفهـوم فـي بعض التشريعات العربية للتحكيم، في مصر والإمارات مثلاً.

المطلب الأول: المفهوم العالمي للتحكيم الدولي في الإتفاقيات الدولية :

 -5 يمكن من خلال البحث في الاتفاقيات الدولية، إدراك الأثر المتزايد للمعايير الدوليـة علـى ممارسات التحكيم في كافة أنحاء العالم . ويمكن أن نجد ذلك أولا في قواعـد اليونـسترال،

وثانياً في اتفاقية نيويورك لسنة 1958 ،وثالثاً في الاتفاقية الأوروبيـة للتحكـيم التجـاري 5 الدولي لسنة 1961 .

 -6  أولاً- قانون اليونسترال للتحكيم التجاري الدولي : وهو القانون الذي اعتمدته لجنة القانون التجاري الدولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1976 ومنه حتى الآن أكثر مـن صيغة .

هذا القانون الذي أثّر في العديد من قوانين التحكيم في العالم ، يساعد في بناء ثقافة تحكيمية عالمية ويؤدي إلى تجانس أكبر في الإجراء التحكيمي بين مختلف (الدول)، حتـى عندما يعتمدون ثقافات تحكيمية مختلفة .

  وبالرغم مما يقابله هذا التجانس مـن مخـاوف، خاصة في العالم العربي، إلا أن التحكيم الدولي كإجراء يجب أن يكون لديه ثقافته الخاصة المتميزة، وآية ذلك أنه خليط أو هجين أو نتيجة نقل ودمج أنظمة قانونية مختلفة، منها مـا ينتمي إلى دول الشريعة العامة law common ،ومنها ما ينتمي إلى دول القانون المـدني law civil .ومما يدعم هذا التجانس أيضا، كما يرى البعض، ويقلل من المخاوف في هذا

المجال، عدم الإهتمام بالعوامل الثقافية الغير قانونية، على الرغم من أهميتها مـن وجهـة نظرنا .

 -7 وبعيداً عن السياق التاريخي في البحث عن المفهوم العالمي للتحكيم التجـاري، نجـد فـي الإتفاقيات الدولية السابقة على قا نون اليونسيترال الدولي بعض مظاهر هذا المفهوم، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالجانب الأكثر إثارة للاشكاليات في واقع التحكيم الدولي، وهو المتعلـق بالإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم في دولة أخرى غير الدولة الصادر فيها الحكم . ونقصد هنا اتفاقية نيويورك بشأن الإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبيـة لـسنة 1958 والاتفاقيـة الأوربية للتحكيم التجاري الدولي (اتفاقية جنيف) لسنة 1961 .

8- ثانياً- اتفاقية نيويورك لسنة 1958 بشأن الإعتراف وتنفيذ أحكام المحكمـين الأجنبيـة :

 وتعتبر إتفاقية نيويورك ثورة في مجال التحكيم، يمكن أن نستخلص منهـا بعـ ض ملامـح عالمية قواعد التحكيم الدولي . ونعرض بإيجاز بعض الخطوط العريضة لهذه الإتفاقية، قبل أن نعرض ما تقدمه في سبيل إرساء المفهوم العالمي للتحكيم الدولي

 -9 الخطوط العريضة لإتفاقية نيويورك بشأن الإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم لـسنة 1958:

ويقصد بأحكام التحكيم الأجنبية الأحكام الصادرة في دولة أخرى غير الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها، بشرط أن تكون هذه الدولة منضمة لإتفاقية نيويورك بشأن الاعتـراف وتنفيـذ أحكام التحكيم الأجنبية، وأن يكون الحكم قد صدر بناء على إتفاق تحكيم مكتـوب، وفـي الغالب أن توجد معاملة بالمثل. وتسري الإتفاقية سواء كـان التحكـيم حـراً hoc ad أو مؤسسياً .

 -10 ووفقاً للمادة الثالثة من الاتفاقية، يتم الاعتراف بحكم التحكيم الأجنبي وتنفيذه وفقـا لقواعـد قانون المرافعات في الدولة المطلوب التنفيذ فيها . فإذا كان التنفيذ سيتم في دولة الإمـارات العربية المتحدة، فإن ذ لك يجرى طبقاً لقواعد قانون الإجراءات المدنية، القانون الاتحـا دي رقم 11 لسنة 1992 وتعديلاته (المادة 235 وما بعدها).

-11  وبالنسبة لشروط إصدار أمر تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، في الحقيقة، لـم تـضع اتفاقيـة نيويورك شروطاً لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، فالأصل أن الحكم صحيح ويجـوز الأمـر بتنفيذه. غير أنها وضعت أسباباً تمنع القضاء من الأمر بتنفيذ الحكم في المادة(5)منهـا، وهي بهذا تضع شروطاً سلبية تجيز للقضاء رفض الأمر بتنفيذ حكـم التحكـيم الأجنبـي .

ووفقاً للمادة ( 5 ) سالفة الذكر توجد حالات يجب أن يثيرها ويدفع بها المدعي عليه، وحالات تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها، كما توجد شروط يمكن للقانون الوطني إضافتها إلى هـذه الحالات، كما سيلي :

-12  بالنسبة ل حالات رفض الأمر بالتنفيذ التي يجب الدفع بها من جانب المدعي عليـه ، فانهـا تتمثل في الآتي :

(1)- بطلان اتفاق التحكيم وفقا للقانون الذي أخضعه له الأطراف .

(2)- بطلان إعلان الخصم المطلوب التنفيذ ضـده بتعيـين المحكـم أو بـالإجراءات أو لإستحالة تقديم دفاعه .

(3)- إذا كان حكم التحكيم في نزاع غير وارد في اتفاق التحكيم أو تجاوز حدوده .

(4)- إذا كان تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم قد تمت بالمخالف ة لما تم الإتفاق عليه أو لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم         الاتفاق .

-(5)إذا كان حكم التحكيم لم يصبح ملزما للخصوم

(6)- إذا كان حكم التحكيم قد ألغ ي أو أوقف تنفيذه من السلطة المختصة في البلـد التـي صدر الحكم بموجب قانونها .

 -13  وبالنسبة لحالات تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها ، يمكن للمحكمة أن ترفض الأمـر بتنفيـذ حكم التحكيم الأجنبي، من تلقاء نفسها، في الحالتين الآتيتين :

(1) - إذا كان حكم التحكيم صادراً في مسألة لا يجوز التحكيم فيها وفقـا لقـانون الدولـة المطلوب التنفيذ فيها .

(2)- إذا كان حكم التحكيم يتضمن ما يخالف النظام العام في الدولة المطلوب التنفيذ فيها .

 -14  وأخيراً يمكن للقانون الوطني إضافة شروط للأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي، مثل:

-(1)  عدم تعارض حكم التحكيم مع حكم أو أمر سبق صدوره من قضاء الدولة المطلـوب التنفيذ فيها

 (2)- إذا كان حكم التحكيم المطلوب تنفيذه لم يحز قوة الأمر المقضي.

(3) - وجود مبدأ المعاملة بالمثل .

15- وإدراك بعض ملامح المفهوم العالمي للتحكيم الدولي في اتفاقية نيويـورك يـتم بطريقـة مزدوجة. الخطوة الأولى بالنظر إلى الإتفاقية السابقة عليها ونقصد بها اتفاقية جنيف لـسنة 1927 ،وتتمثل هذه الخطوة في التخفيف من هيمنة النظام القانوني لبلد مقر التحكيم . فوفقـاً لإتفاقية جنيف لسنة 1927 ،كان طالب التنفيذ يلزم بإثبات أن حكم التحكيم المطلوب تنفيـذه قد أصبح نهائياً في البلد التي صدر فيها . بعبارة أخرى كان يجب على طالب تنفيـذ حكـم . وقـد 10 التحكيم الحصول على إذن بالتنفيذ في بلد مقر التحكيم وإذن أخر في بلد التنفيـذ تخلت إتفاقية نيويورك عن هذا الإشتراط المزدوج وعملت على نقل عبء الإثبـات إلـى عاتق المنفذ ضده، إذ أصبح عليه هو أن يثبت أحد الأسباب التي تمنع الأمر بتنفيـذ حكـم . أمـا الخطـوة 11 التحكيم، وهذا يمثل، على حد تعبير البعض، "ثورة في التحكيم الـدولي " الثانية، تتجلى في أن إتفاقية نيويورك وإن لم تنزع أو تفك الإرتباط بين الحكـم التحكيمـي وبلد مقر صدوره وربطه ببلد التنفيذ، وفقا للمادة(5 )منها، فإنها قد خطت خطوة في هـذا السبيل، وذلك ما حدث بمقتضى المادة (7 ) منها التي أعطت طالب التنفيذ إمكانية الإستفادة من نصوص قانون دولة التنفيذ أو من الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها . وهـذا مـا أعطـى القضاء، في العديد من المناسبات، كما سنرى فيما بعد، إمكانية الإعتراف بأحكـام تحكـيم دولية أو تنفيذها على الرغم من إبطالها في بلد صدوروها .

-16 ثالثاً - الإتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي (اتفاقية جنيـف ) لـسنة 1961 .يمكـن العثور على بعض ملامح المفهوم العالمي للتحكيم الدولي في الإتفاقية الأوروبيـة للتحكـيم التجاري الدولي / اتفاقية جنيف لسنة 1961 ،وبصفة خاصة فيما يتعلق بالإعتراف وتنفيـذ أحكام التحكيم الدولية، حيث خف فت من الإرتباط بين بلد صدور حكم التحكيم وبلـد تنفيـذه. وقد تم ذلك بمقتضى المادة (9) من هذه الإتفاقية، التي إعتبرت أن قاضي التنفيذ غير مقيد ببعض أسباب إبطال حكم التحكيم في بلد صدوره، لمخالفة الحكمللنظام العام في هذا البلـد كأن ينصب على نزاع لا يقبل التحكيم .

 -17ويمكن متابعة التأصيل المتقدم، من خلال عرض الموقف في بعض التـشريعات المقارنـة المنظمة للتحكيم، لنرى هل عملت على فك الإرتباط بين بلد صدور حكـم التحكـيم وبلـد تنفيذه. المطلب الثاني: المفهوم العالمي للتحكيم الدولي في التشريعات الوطنية .

 -18 تعكس معالجة قواعد التحكيم فلسفة المشرع الوطني تجاه التحكيم الدولي. على سبيل المثال، في القانون الفرنسي، ومنـذ المرسـوم الـصادر فـي 12 مـايو 1981 ،ومـن بعـده المرسوم الصادر في 13 يناير 2011 ،قد تبنى المشرع مفهوما عالميـا للتحكـيم الـدولي conception universelle 12 .

والهدف من هذا المفهوم هو أن تكون القواعد التي أرساها المشرع في قانون التحكيم تمثل مبادئ قابلة للتطبيق على كل تحكيم دولي، بما في ذلك قضايا التحكيم التي تجرى في خارج فرنسا.

ويرتكز المفهوم العالمي لقانون التحكيم على الصياغة البسيطة والمختصرة لقواعد التحكـيم الدولي. هذه الصياغة الب سيطة والموجزة للقواعد القانونية التي تعالج التحكيم الدولي تجعل من السهل على القانونيين في خارج البلد التعرف بسهولة على النصوص المطبقـة علـى قضايا التحكيم الدولي، سواء كان هذا التطبيق بطريقة مباشرة أو بطريق الإحالة إليها

 -19 يرى الفقه الفرنسي أن المفهوم الع المي للتحكيم الدولي في القانون الفرنسي هو أحد دعامتين يقوم عليهما هذا القانون منذ تعديله في سنة 1981 وتأكد بتعديل سنة 2011 ،ولكن لم يقـل غيره بهذا المفهوم في قوانين تحكيم أخرى وإن كان بالإمكان الإمساك بملمح أو بآخر فـي قانون التحكيم المصري أو قانون التحكيم ا لإماراتي أو في غيرها، تحـت تـأثير القواعـد النموذجية لقانون التحكيم التجاري الدولي .

- 20أولا- قانون التحكيم الفرنسي : يرى الفقهاء في فرنسا أن القانون الفرنسي للتحكيم، ومنـذ تعديله في سنة 1981 ،يتميز بسمتين أساسيتين، يدعم بعضهما بعـضا . الأولـى الحريـة التعاقدية ال واسعة للأطراف في الإختيار، والثانية عالمية قانون التحكـيم، بتبنـي مفهـوم موضوعي للتحكيم الدولي . وقد برز المفهوم العالمي للتحكيم في العديـد مـن المظـاهروتتلخص هذه المظاهر في الآتي :

- استبعاد تطبيق قواعد التحكيم الداخلي على التحكيم الدولي

- إرساء قواعد ذاتية مرنة وبعيدة عن الشكليات للتحكيم الدولي

- منح اختصاص وسلطات لقاضي التحكيم في التحكيم الدولي .

ومن مقتضيات المفهوم العالمي للتحكيم الدولي عدم تبني المادة (5/1-هـ) مـن إتفاقيـة نيويورك، أي عدم إعتبار إبطال الحكم التحكيمي في بلد صدوره سبباً لعدم التنفيذ في البلـد المطلوب التنفيذ فيها. وهذا قد تحقق في قانون التحكيم الفرنسي لسنة 1981 الذي لم يجعل 16 هذا السبب مانعا من الأمر بتنفيذ حكم التحكيم ، وتأكد ذلك في تعديل سنة 2011 .

21 - ثانياً - قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 : يمكن أيضاً أن نجد المفهوم العـالمي للتحكيم الدولي من خلال نصوص قانون التحكيم المصري . ويتجلى ذلك في حيادية مكـان التحكيم، والحد من بطلان أحكام التحكيم الدولي . وقد عمل القضاء المصري على تكـريس هذه المبادئ في أحكامه.

-22 وفيما يتعلق بالإرتباط بين بلد صدور حكم التحكيم وبلد تنفيذه، لم يـذكر قـانون التحكـيم المصري بطلان حكم التحكيم في بلد صدوره كسبب لعدم التنفيذ . بالرجوع إلى نص المادة (58 )من هذا القانون، نجدها تجري على النحو الآتي :

"لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكـيم وفقا لهذا القانون إلاّ بعد التحقق مما يلي:

أ- أنّه لا يتعارض مع حكم سبق صدوره من المحاكم المصرية في موضوع النزاع .

 ب- أنّه لا يتضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية .

 ت- أنّه قد تم إعلانه للمحكوم عليه إعلاناً صحيحاً

". ويرى بعض الفقه أن عدم التطرق للبطلان في بلد صدور حكم التحكيم كسبب لعدم تنفيـذه يمكن أن نعتبر معه أن القانون المصري يفك الإرتباط بين بلدالمنشأ وبلـد التنفيـذ .فضلاً عن ذلك، فقد نص قانون التحكيم المصري في مادته الأولى على أن أحكامه لا تخل بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية".

-23 ثالثاً - قانون التحكيم الإماراتي رقم 6 لسنة 2018 :

والأمر نفـسه نجـده فـي القـانون الإماراتي للتحكيم . من ذلك المرونة في تحديد مكان التحكيم (المادة 28 ) .لم يذكر القانون الإماراتي بطلان الحكم في بلد صدوره كسبب لعدم تنفيذه في دولة الإمارات العربية المتحدة )المادة 53 ). لكن نلاحظ أن قانون التحكيم الإماراتي الجديد لم يـتحفظ بـشأن الاتفاقيـات الدولية ال سارية في دولة الإمارات العربية المتحدة . فقد كـان مـشروع قـانون التحكـيم الإماراتي ينص في المادة الثانية منه على عدم "الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون الدولة طرفا فيها أو منضمة إليها"، ولكن ظهرت النصوص النهائية للقانون ولم تتضمن هذا التحفظ (المادة 2 (

24- ومن استقراء أحكام القوانين الوطنية الثلاثة، في فرنسا ومـصر والإمـارات، نجـد أن القـانون الفرنسي قد كرس المفهوم العالمي للتحكيم، كما أن القضاء قد سعى بهذا المفهـوم إلـى أقـصى نقطة. أما القانون المصري ومن بعده القانون الإماراتي، فقد اكتفيا ببعض المظاهر لهذا ا لمفهـوم، وهي من وجهة نظرنا غير كافية وتحتاج إلى مزيد من الإجتهاد من الفقه والقضاء في البلدين.

ويشمل المفهوم العالمي للتحكيم - وفقا للقانون الفرنسي- صياغة جميع نـصوص قـانون التحكيم المتعلقة بالتحكيم الدولي، بحيث يشمل جميع مراحل تنظيم عملية التحكـيم : اتفـاق التحكيم وإجراءات التحكيم والقانون الواجب التطبيق على التحكيم ودور القضاء المعاون أو المساعد في عملية التحكيم وتنفيذ أحكام التحكيم والطعن في هذه الأحكام. 25 - ما تقدم يجعلنا نتابع المفهوم العالمي للتحكيم الدولي في أهم مرحلة مـن مراحـل التحكـيم الدولي وهي المتعلقة بتنفيذ أحكامه، ونتساءل هنا هل يشمل المفهوم العالمي للتحكيم الدولي تنفيذ أحكامه حتى لو كانت باطلة في بلد صدورها؟

المبحث الثاني: المفهوم العالمي للتحكيم الدولي وتنفيذ أحكام التحكـيم الأجنبـي :

(مدى جواز تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل) :

 -26 هل يجوز تنفيذ حكم ال تحكيم الباطل؟ يواجه هذا الفرض تنفيذ حكم تحكيم أجنبي باطل فـي البلد الذي صدر فيه، ويراد تنفيذه في بلد آخر .

وهذا فرض قد يبدو محسوماً في ظل إتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لعام 1958 .وفقاً لنص المادة الخامسة من هذه الاتفاقية (المـأخوذ مـن النـسخة الفرنسية)، لا يجوز رفض الإعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج بالحكم عليه إلاّ إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليهالاعتـراف والتنفيـذ الدليل على أن الحكم أصبح ملزما للخصوم وأنه لم يلغ أو يوقف بواسطة السلطة المخت صة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها (فقرة ).

وبناء على هذا النص، لا يجوز إصدار أمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الذي ألغى أو أوقف في الدولة التي صدر فيهـا عـن طريـق السلطة المختصة. ولكن لو ترجمنا النص الإنجليزي، يكون الأصل هو الإعتراف بـالحكم وتنفيذه إلاّ فقط في حالة تقديم الخصم الدليل على وجود أحد الأسباب المذكورة في النص

-27ورغم ما تقدم، فإن القضاء الفرنسي يكاد يستقر على أن إلغاء أو إبطال حكم التحكيم فـي الخارج، لا يمنع من الأمر بتنفيذه في فرنسا . ويستند القضاء الفرنسي في هذا إلـى نـص المادة ( 7/1 (من إتفاقية نيويورك التي تنص على أنّه "لا تخل أحكام هذه الاتفاقية بـصحة الاتفاقات الجماعية أو الثنائية التي أبرمتها الدول المتعاقدة بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين ولا تحرم أي طرف من حقه في الاستفادةمن حكم المحكمين بالكيفية وبالقدر في تشريع أو معاهدات البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ". ونعرض فيما يأتي بعض القـضايا التـي أرسى فيها القضاء الفرنسي مبدأ جواز تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل ، ونتبعه بموقـف القضاء في بعض الدول الأخرى.

المطلب الأول: القضاء الفرنسي وجواز تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل

28- يهدف المفهوم الع المي لقواعد التحكيم، فضلا عن سهولة التعرف على هذه القواعد كما مر بنا، إلى منح الأطراف الإمكانية القانونية للرقابة على أحكام التحكيم الصادرة في الخـارج. وترتيبا على ذلك، يسمح هذا المنحى ببناء قضاء موحد ومتناسق في مجال التحكيم . كل ذلك بالتأكيد يجعل من البلد م كاناً جاذباً للتحكيم الدولي. ولكن هل توافر في القضاء الفرنسي مثل هذا التناسق؟ سنرى ذلك من خلال عرض بعض القضايا التي عرضـت علـى القـضاء الفرنسي

29- في قضية Norsolor-Pabalk ،صدر حكم تحكيم في النمسا وقض ي ببطلانه من محكمـة استئناف فيينا على أساس أن حكم التحكيم لم يحدد قانون الدولة الذي طبقه علـى النـزاع واكتفى بذكر قانون التجارة الدولية . هذا التحكيم كان بين شركة تركية(بـابلاك) وشـركة فرنسية (نورسولار)، وحكم على الشركة التركية . وكان التحكيم يجرى طبقا لقواعد غرفـة التجارة الدولية  (ICC )طلب المحكوم له الأمر بتنفيذ حكمالتحكيم من القضاء الفرنـسي، ولكن محكمة استئناف باريس رفضت هذا على أساس أن حكم التحكيم قد أبطل من محكمة في البلد الذي صدر فيه تطبيقاً للمادة 5 من إتفاقية نيويورك. ولكن محكمة النقض الفرنسية بأن المادة 12/3 من تقنين الإجراءات 21 ألغت حكم الاستئناف وقضت في 9 أكتوبر 1984 المدنية الفرنسي الجديد تنص على أنه "لا يجوز للقاضي رفض الأمر بالتنفيذ إذا كان قانونه الوطني يجيزه"، وإذا كان الحكم قد أبطل لسبب من أسباب البطلان التي لا يـنص عليهـا القانون الفرنسي، فإنه لا يجوز للقاضي الفرنسي أن يرفض الأمر بتنفيذ هذا الحكم، ويجب عليه أن يبحث هذه المسألة من تلقاء نفسه.

وكان لهذه القضية خصوصية معينة، حيث ألغت محكمة النقض النمساوية حكـم محكمـة استئناف فيينا الذي أبطل حكم التحكيم، وذلك قبل صدور حكم محكمة النقض الفرنسية محل الدراسة. ولكن هذه الخصوصية لا يبدو أنها أثّرت في صدور الحكم المتق دم، لأن حيثيـات هذا الحكم تفترض بطلان حكم التحكيم في بلد صدوره.

30- قضية Hilmarton ،وفيها قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمهـا الـصادر فـي23 1994 مارس بأنّه يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل فـي دولـة صـدوره لسبب من أسباب البطلان التي وردت في اتفاقي ة نيويورك ولم يرد في المـادة 1502 مـن تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد .

-31 قضية Bechtel ضد هيئة الطيران المدني بدبي، وفيها قضت محكمة استئناف باريس فـي حكمها الصادر 27 سبتمبر 2005 بأنه على الرغم من بطلان الحكم بواسطة محكمة فـي دولة صدوره، إلا أنه يجوز ا لأمر بتنفيذه في فرنسا ورفضت الاستئناف المقدم ضد قـرار رئيس محكمة باريس الابتدائية بتنفيذ حكم التحكيم الباطل، مستندة إلى أن المادة 13/1 مـن اتفاقية التعاون القضائي بين فرنسا ودولة الامارات العربية المتحدة الموقعة في 9 سـبتمبر 1991 – والتي تشترط للاعتراف بالحكم وتنفيذه أن يكون نهائيا وغير قابل الطعن فيه بأي طريق- تنطبق على أحكام القضاء وليس أحكام التحكيم، كما أن الاعتراف بحكم التحكـيم الاجنبي الباطل وتنفيذه في فرنسا لا يخالف النظام العام الدولي بالمعنى المنصوص عليه في المادة 1502 من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد، فضلا عـن أحكـام القـضاء الأجنبي والصادرة في البطلان وفي الأمر بالتنفيذ ليس لها من آثار دولية وانما هـي فقـط ذات تأثير داخلي في الدولة التي صدرت فيها .

-32 وفي قضية الهيئة العامة للبترول وشركة الغاز الوطنية، قضت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 24 نوفمبر2011 بنفس قضائها المتقدم في قضية بيشتل . فعلى الـرغم من صدور حكم من القضاء الإداري ببطلان اتفاق التحكيم وأيضا صدور حكم من محكمـة استئناف القاهرة ببطلان حكم التحكيم، فقد أصدر رئيس محكمة استئناف باريس أمراً بتنفيذ حكم التحكيم الباطل. وأيدت محكمة استئناف باريس الأمر المذكور مقررة أنه يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي ولو أبطل في دولة إصداره، دون فرق في ذلك بين حكم التحكيم الوطني وحكم التحكيم الدولي .

33-قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في 29 يونيو 2007 بأنه عندما تنظـر محكمة فرنسية في طلب الأمر بتنفيذ حكم تحكيم أجنبي، فإن عليهـا أن تتجاهـل الحكـم الصادر من محكمة أجنبية بإلغاء هذا الحكم لأن حكم التحكيم يصدر من هيئة لا تنتمي إلى أي دولة، ومن ثم فإنه لا يرتبط بالنظام القانوني للدولة التي صدر فيها، فالقضاء بإلغاء حكم التحكيم الأجنبي في دولة إصداره ليس له أي تأثير على هذا الحكم أو الاعتـراف بـه أو الأمر بتنفيذه في فرنسا. وفي هذا الحكم وضعت محكمة النقض الفرنسية مبدأ عاما يقـضي بعدم الاعتداد بالحكم القضائي الصادر في دولة أجنبية بإلغاء حكم التحكيم عند النظر فـي الإعتراف به والأمر بتنفيذه في فرنسا.

المطلب الثاني: موقف القضاء في بعض الدول الأخرى :

أولاَ - موقف القضاء الأمريكي: سار القضاء الأمريكي في إتجاه القضاء الفرنـسي، فـي قضية Services Air Chromalloy ضد جمهورية مصر العربية، حيث صـدر حكـم تحكيم في مصر لصالح "كرومالوي" فأقامت الحكومة المصرية دعوى بطلان حكم ا لتحكيم أمام محكمة استئناف القاهرة، التي قضت في 5 ديسمبر 1995 ببطلان حكم التحكيم استناداً إلى الف قرة (د) من المادة 53 من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 والتي تنص على بطلان حكم التحكيم "إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف علـى تطبيقه". وعندما طلب الأمر بتنفيذ هذا الحكم الباطل في الولايات المتحدة، أمرت محكمـة مقاطعة كولومبيا في عام 1996 بتنفيذ حكم التحكيم، وذلك استنادا إلى أن سـبب بطـلان الحكم لم يرد ضمن قانون التحكيم الفيدرالي Act Arbitration Federal ،وأن القـضاء ببطلان حكم التحكيم يخالف النظام العام الأمريكي الذي يشجع التحكـيم . ولكـن القـضاء الأمريكي رفض هذا الاتجاه في بعض الأحكام اللاحقة .

فقد أيدت محكمة اسـتئناف ناحيـة شمال نيويورك في حكمها الصادر في سنة1999 حكم محكمة أول درجة الـذي رفـض الأمر بتنفيذ حكما تحكيمياً قضي ببطلانهما من المحكمة الفيدراليـة العليـا فـي نيجيريـا، واستتندت المحاكم الأمريكية في هذا إلى أن الطرفين لم يتفقا على تطبيق القانون الأمريكي. وقد تأيد موقف القضاء الأمريكي في القضايا اللاحقة.

- 35  ثانياً - موقف القضاء الألماني: قضت محكمة استئناف دريـسدن فـي 13 ينـاير 2007 برفض الأمر بتنفيذ حكم تحكيم صدر في "بلاّروسيا" كانت المحكمة التجاريـة العليـا فـي بلاّروسيا قد قضت بإبطاله لعيب في إجراءات اصدار الحكم، وهو عدم التزام هيئة التحكيم بالإجراءات التي اتفق الأطراف على تطبيقها. وقد استندت محكمة استئناف دريسدن إلـى المادة (9 )من الاتفاقية الأوربية لسنة 1961 التي تنص على أن ابطال حكم التحكـيم فـي دولة صدوره يعتبر سبباً لرفض الأمر بتنفيذه في دولة أخرى طرف في الاتفاقية إذا كـان سبب البطلان هو أن إجراءات التحكيم قد خالفت إتفاق الطرفين . ولهذه القضية خصوصية معينة وهي أن سبب البطلان هو مخالفة هيئة التحكيم للإجراءات التي اتفق الأطراف على تطبيقها، ولكن في غير هذه الحالة قد يتغير الموقف في حالة الاستناد إلى ما تبديه المـادة (9)من اتفاقية جنيف من مرونة تجاه إمكانية الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الباطـل فـي بلـد إصداره.

-36ويبدو أن القضايا التي عرضت على القضاء الألماني كلها تتمتع بخصوصية معينـة. مـن ، حيث رفضت 24 ذلك أيضا حكم المحكمة الإقليمية في روستوك Rostock في سنة 1999 الأمر بتنفيذ حكم تحكيم صادر من لجنة التحكيم البحري في موسكو كان قد أبطله القـضاء الروسي. وقد طعن في هذا البطلان أمام القضاء العالي الروسي ولم يفصل في الطعن بعد.

ومن أجل تسبيب حكمها برفض الأمر بالتنفيذ، قالت المحكمة الألمانية أن حكم التحكيم لـم يصبح بعد نهائيا ولا ملزما وفقا للمادة (5/1 ) من اتفاقية نيويورك. بعد ما أصدرت المحكمة الألمانية حكمها المتقدم، نقضت المحكمة الفيدرالية العليا في روسيا حكم المحكمـة الأدنـى وأحالت القضية إلى المحكمة الإبتدائية في موسكو، والتي قضت بـدورها بـرفض طلـب إبطال حكم التحكيم. وبهذا اختفى السبب الذي من أجله رفض القـضاء الإعتـراف بحكـم التحكيم، ويجب حالياً قبول هذا السبب الجديد من قبل المحكمة الفيدرالية للعدالة في ألمانيا، عندما طعن الطرف المعني أمامها بالإستئناف في حكم المحكمـة الإقليميـة العليـا فـي روستوك. وبالفعل في حكمها بتاريخ 22 فبراير2001 قضت هذه المحكمة بتنفيـذ حكـم التحكيم الروسي في ألمانيا. وهنا نرى أن القضاء الألماني قد اتّبع الطريق التقليدي عندما أبطل الحكم التحكيمي بواسطة القضاء الروسي، على اعتبار إن الحكم لم يصبح بعد نهائيـاً ولا ملزماً، ولا يمكن، بالتالي، أن يكون محلاً للاعتراف به وتنفيذه في ألمانيا. ولكن عندما رفض القضاء العالي الروسي الطعن ببطلان حكم التحكيم، فإن المحكمة الفيدرالية للعدالـة في ألمانيا قّدرت أنه على عكس ما تقضي نصوص قانون التحكيم والإجراءات في ألمانيا، يجب إجراء استثناء على المبدأ الذي يقضي بحظر عرض عنص ر جديد على المحكمـة إذا كان قد خضع للفحص في قرار القضاء الأدنى . وهذا الإستثناء يطبق في حالات معينة: إذا ظهرت، أثناء سير الدعوى أمام المحكمة، عناصر جديدة تؤثر بطريقـة واضـحة علـى الموقف القانوني، ومن ثم على مصير القضية، أو إذا كان يجب على المحكمـة أن تثيـر العناصر الجديدة من تلقاء نفسها . وبتطبيق هذا على القضية محل البحـث فـإن الاسـتثناء ينطبق نظرا لأن القرار يعتمد على مصير إجراء آخر . وما أجرتـه المحكمـة الفيدراليـة للعدالة في ألمانيا هو حل عملي لعلاج موقف غير مقبول، وليس أمرا بتنفيذ حكـم تحكـيم باطل في بلده الأصلي.

37 - الأساس القانوني لتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل : بعد عرض إتجاه القضاء الفرنـسي، بشأن جواز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الباطل، نعرض الآن للأساس القانوني الـذي استند إليه هذا الاتجاه القضائي.

أولا- مبدأ وجوب تطبيق القاعدة القانونية الأكثر تفضيلاً أو الأكثر فائدة للمحكوم له:

-38اعتمد القضاء الفرنسي على المادة (7/1 )من اتفاقية نيويورك، كما مربنا، وهـي تـنص على "لا تخل أحكام هذه الاتفاقية بصحة الاتفاقات الجماعية أو الثنائية التي أبرمتها الـدول المتعاقدة بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين ولا تحرم أي طرف من حقه في الاستفادة مـن حكم المحكمين بالكيفية وبالقدر في تشريع أو معاهدات البلـد المطلـوب إليـه الاعتـراف والتنفيذ".

وبناء على هذا النص أوجد القضاء الفرنسي أساساً لقضائه هو مبدأ وجوب تطبيق القاعـدة الأكثر تفضيلا أو فائدة للمحكوم له في حكم التحكيم الأجنبي .

ويقضي هذا المبدأ بـأن مـن حق المحكوم له في تحكيم أجنبي أن يستفيد من أية معاهدة أو نص تشريعي نافذ في البلـد المطلوب الأمر بالتنفيذ فيه، إذا كان ذلك يحقق له تنفيذ الحكم، فتكون هناك أفضلية للمعاهدة أو للنص التشريعي في بلد التنفيذ على ما تنص عليه اتفاقية نيويورك . وعلى هذا ا لأسـاس يتم المفاضلة بين إتفاقية نيويورك والنص التشريعي أو المعاهدة النافذة في فرنسا، فتعطـى الأولوية للقاعدة القانونية الأكثر تفضيلاً لمصلحة المحكوم له. ولكن القضاء الفرنسي لم يعمل مقتضى هذا المعيار ولم يطبقه تطبيقـا سـليما . فالقـضاء الفرنسي يعطي الأولوية في التطبيق للتشريع الداخلي على اتفاقية نيويورك، على الرغم من نص الدستور الفرنسي على إعطاء الأولوية للمعاهدة الدولية على التشريع الداخلي . وفقـاً للمادة 28 من دستور 1946 والمادة 55 من دستور 1958 ،تسمو الاتفاقية الدولية المنضمة إليها فرنسا في القيمة القانونية علىالتشريع الداخلي . وفي هذا يقرر فقه القانون الـدولي الخاص بأنه إذا تعارضت معاهدة دولية مع تشريع داخلي، ولم يكن هناك نص دسـتوري يقضي بسمو المعاهدة على التشريع الداخلي، كانت المعاهدة والتشريع الداخلي فـي نفـس المرتبة، ويطبق اللاحق بالأولوية على السابق

 -39 ويرى البعض أن الحكم المتقدم يعتبر تطبيقاً خاطئاً للقضاء الفرنـسي لنـصوص إتفاقيـة نيويورك، لأنه لو أراد واضعو اتفاقية نيويورك التفسير الذي ذهب إليه القـضاء الفرنـسي مادة (7/1) من الاتفاقية، لتمت صياغتها بطريقة مختلفة تؤدي إلى هذا المعن ى الذي ذهـب إليه القضاء الفرنسي من أنه يجوز لمحاكم الدولة التي يطلب فيها التنفيذ أن تأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي، على الرغم من القضاء ببطلانه في بلد صدوره، إذا كان قانون دولة التنفيذ . وهذا ما فعلته الاتفاقية الأوروبية 26 لا ينص على السبب الذي أبطل من أجله حكم التحكيم للتحكيم التجاري الدو لي المبرمة في 21 ابريل 1961 ،حيث نصت المادة (9/1) منها على أن "بطلان حكم تحكيم في دولة موقّعة على هذه الاتفاقية لن يكون سبباً لرفض الاعتراف أو التنفيذ في دولة أخرى طرف في الاتفاقية إلا إذا كان البطلان قد حكم به في الدولـة التـي صدر فيها أو صدر وفقاً لقانونها هذا الحكم لأحد الأسباب الآتية : .... " وعدد النص أسـباباً معينة للبطلان لو استند الحكم القاضي ببطلان حكم التحكيم إلى غيرها، فان هذا البطلان لا يمنع من الأمر بتنفيذ حكم التحكيم في دولة أخرى منضمة للاتفاقية.

ثانياً- مبدأ عدم انتماء هيئة التحكيم لدولة معينة وعدم ارتباط حكم التحكيم بنظام قانوني معين :

40- يبدو أن القضاء الفرنسي شعر بضعف مبدأ القاعدة القانونية الأولى بالتطبيق، ولذلك نجـده يستند إلى أساس مختلف في أحكامه الحديثة.

ففي حكمها الصادر في 29 يونيو 2007 ،سالف الإشارة إليه، اسـتندت محكمـة الـنقض الفرنسية إلى مبدأ عدم انتماء هيئة التحكيم إلى دولة معينة، ومن ثم فإن الحكم الصادر عن هذه الهيئة لا يرتبط بالنظام القانوني للدولة التي صدر فيها، بل أنه يتمتع بكيـان قـانوني مستقل عن نظامها القانوني .وترتيبا على ذلك، إذا أبطل وفقاً لنظام هذه الدولة، فـإن هـذا البطلان لا يمنع الأمر بتنفيذه في دولة أخرى

41- ويرى البعض أن هذا الأساس معيب هو الآخر كسابقه . فإذا كان حكم التحكيم يصدر عـن هيئة لا تنتمي لدولة معينة، ولذلك فهو مستقل عن النظام القانوني للدولة التي صدر فيهـا، فإن المؤكد أن صدور حكم التحكيم في دولة معينة يرتب آثاراً قانونية معينة. من هذه الآثار اختصاص قضاء الدولة التي صدر فيها حكم التحكيم بنظر دعوى بطلانه وعدم اختصاص قضاء دولة أخرى بهذه الدعوى . واذا صدر حكم ببطلان حكم التحكيم فانّ ه يحـوز حجيـة الأمر المقضي، وهي واجبة الاحترام، ولا يجوز إهدارها بتنفيذه، فضلاً عن ذلك فإن الحكم الذي قضي ببطلانه أصبح عدما لا وجود قانوني له، فكيف يمكن الأمر بتنفيذه؟

42- غير أننا نرى أن هذا القضاء يمثّل خطوة هامة في بناء المفهوم العالمي للتحكيم، ونقـصد التحكيم الدولي . وهذا ما نظر إليه الفقه بمسميات مختلفة مثل"إستقلال أو ذاتيـة التحكـيم الدولي"، و"النظام القانوني للتحكيم " الدولي، "روح التحكيم الدولي ". وإن كانت بعض هـذه المسميات يمكن أن تنطبق على التحكيم أيا كان نوعه، داخليا أو دوليا، إلا أن ما نهتم به في هذا المقام هو التحكيم الدولي وتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية . ونرى، وبايجـاز، مـع أن الأمر يحتاج إلى مزيد من التفصيل، أن تبنّي مفهوم عالمي للتحكيم الدولي، قد يكون أحـد ركائز حل مشكلة تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية وما تثيره من مشكلات، خاصـة إذا حكـم ببطلانها في بلد مقر التحكيم. وهذا ما يدفعنا إلى الأمل في مستقبل واعد لهذا المفهوم.

المبحث الثالث: مستقبل تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في ضوء المفهوم العـالمي للتحكيم الدولي :

43- لا يتوقف التحكيم عن التطور وعن إكتساب أرض جديدة . ففـي الحقيقـة، يـشهد قـانون التحكيم، العديد من التطورات الحديثة. منها ما يتعلق بإتفاق التحكـيم ومنهـا مـا يتعلـق بإجراءات التحكيم ومنها ما يتعلق بالقانون الواجب التطبيق على التحكيم ومنها مـا يتعلـق 28 بحكم التحكيم وتنفيذه والطعن عليه .

-44 وقد أمكن استخلاص مفهوم عالمي لقواعد التحكيم الدولي، على نحو يمكن القول معه أنـه أصبح قانوناً عابراً للحدود ولا يتوقف، إلا ما ندر، عند حدود دولة معينة . وقد رأينا أن هذا المفهوم يجب أن يشمل صياغة جميع نصوص التحكيم المتعلقة بالتحكيم الدولي، ولا يقتصر على مرحلة معينة منه، بل يعم جميع مراحل تنظيم عملية التحكيم الدولي : اتفـاق التحكـيم وإجراءات التحكيم والقانون الواجب التطبيق على التحكيم ودور القضاء المعاون أو المساعد في عملية التحكيم وتنفيذ أحكام التحكيم والطعن في هذه الأحكام .

45- وفي الغالب لا تثير مراحل التحكيم الدولي مشكلات تستعصي على الحل، اللهم إلا بعـض المشكلات المتعلقة بتنفيذ أحكام التحكيم . ونعرض هنا للتطـورات الحاليـة، ثـم للحلـول المقترحة.

46- يتبين من عرض الموضوع أن هناك من الحجج القوية ما لا يمكن معه سلخ حكم التحكيم، وبصفة خاصة في التحكيم الدولي، عن النظام القانوني الذي صدر في ظله. وأن هذه الحجج ليست فقط من طبيعة ثقافية كما أشار البعض، ولكنها في الدرجة الأولى من طبيعة قانونية، ومن ثم تحتاج إلى منطقية في الحلول الق انونية المقدمة. ومن ناحية ثانية، ما دامـت هـذه الحالة قائمة، فلن يتخلى القضاء الوطني عن دوره في الرقابة على أحكام التحكيم الصادرة في نظامه القانوني الذي يخول له هذه الرقابة . ومن ناحية ثالثة، من الظـاهر أن القـضاء الذي يذهب إلى فك الإرتباط كلياً بين دولة مقر ا لتحكـيم ودولـة تنفيـذ حكـم التحكـيم لن يتوقف عن إصدار أحكامه بتنفيذ أحكام التحكيم الباطلة . ومن ناحية رابعة، لن يتوقـف من يصدر له حكم تحكيم، حتى لو حكم ببطلانه، عن البحث عن"جنة للتحكيم " تعطيه الأمر بتنفيذ حكمه.

47- ونمسك بخيوط التطورات الحالية، والتي يبدو أنها لن تنتهي. ففي كل يوم سيحكم القـضاء ببطلان أحكام التحكيم، ونحتاج من ثم حلولاً لمواجهة هذا الأمـر، خاصـة مـع إمكانيـة الحصول على أمر بتنفيذ هذه الأحكام الباطلة من قضاء بعض الدول . ففي قضية تحكيميـة حديثة، تتعلق بتأميم الحكومة الروسية لأسهم المجموعة البتروليـة يـوكسYOUKOS ، قضت هيئة التحكيم، المشكّلة من كبار القانونيين الدوليين، بإلزام روسيا بـدفع تعويـضات قيمتها 50 مليار دولار أمريكي. طعن على هذا الحكم أمام محكمة مقاطعة لاهاي، فقـضت في 20 إبريل 2016 ببطلان حكم التحكيم (في الحقيقة 6 أحكام) تأسيـساً علـى أن هيئـة . وفي مواجهة هذه القضية، يرى البعض أنهـا  التحكيم غير صالحة للنظر في هذا النزاع تشكّل إطاراً جديداً للنقاش، بحثاً عن حلول مستقرة ومتناغمة، خاصة وأنه في حالة تقـديم طلب للقضاء الفرنسي لتنفيذ هذا الحكم فمن المرجح أن يلبي القضاء الفرنسي هذا الطلـب في ظل اتجاهه نحو الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الباطلة في مقر إصدارها .  

48 - وفي ظل التردد وعدم وضوح الحلول، يتحدث المؤلفون عن آفاق الحل في المستقبل . ويظهر في قلب هذه الحلول ما تناولناه في هذا المقال من وجود مفهـوم عـالمي للتحكـيم الدولي. فبعد أن سردنا ملامح هذا المفهوم، تبدو ملامحه مهيمنة على الحل كالآتي:

أولاً- أن المفهوم العالمي للتحكيم الدولي، وكما يبدو من إسمه، يقتصر على التحكيم الدولي، نظراً لأن هذا الأخير يمثل الوسيلة العادية لحل المنازعـات المتعلقـة بالتجـارة الدوليـة والاستثمارات الدولية، ونادرا ما يختص القضاء بمثل هذه المنازعا ت. فلقد أصبح، والحال كذلك، اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي في منازعات التجارة الدوليـة القاعـدة العامـة . واللجوء إلى محاكم الدولة الاستثناء وبالرغم من ذلك، فإن القضاء الفرنسي قد شذ عـن ذلك وقضى بتنفيذ حكم تحكيم داخلي بالرغم من بطلانه في بلد إصداره

 ثانياً- يعبر عن هذا المفهوم بوجود"نظام قانوني للتحكيم الدولي " يضمن استقلاله عن النظم الوطنية ويعبر عن مفهومه وأدواته وأهدافه وخصوصيته . ، بما في ذلك نظام عام دولـي  هذا النظام القانوني للتحكيم يؤثر بلا شك على الرقابة على أحكام التحكـيم خاص به ولكن هنا يجب بيان الحدود بين النظام القانوني للتحكيم والنظام القانوني للدولة . لـو قلنـا بتخطي عقبة النظام القانوني لدولة المقر فهل سيتخطى أيضا عقبة النظام القـانوني لدولـة التنفيذ؟

ثالثاً- إبعاد الجوانب السياسية عن أحكام التحكيم الدولي . وهذا أمر في غاية الصعوبة . ففي حقيقة الأمر، توجد عديد من العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية تـضاف إلـى البعـد القانوني في الموضوع.

رابعاً- ضمان عدم الإنحياز ضد أحكام التحكيم الأجنبية . وربما كان هذا الـضابط هامـاً، خاصة في حالة عدم وجود نقطة سواء في موضوع تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبيـة، بحيـث يعبر القضاء في بلد التنفيذ عن موضوعية تجاه الأحكام الأجنبية . وإذا كان هذا مطلباً هاماً، فإنّه من الأهمية بمكان أن يتجرد قضاء مقر التحكيم من أي "عداء" مع التحكيم وألاّ يكـون متجاوزاً أو متعسفاً تجاهه . وهذا يقتضي اعتماد معايير دولية لإبطال وتنفيذ أحكام التحكـيم الدولي. وهذا ما يشكل مضمون البند التالي.

خامساً- إعتماد المعايير الدولية في إبطال حكم التحكيم . فلا يمكن تسليم القيـادة للقاضـي الوطني ليتحكم بقراره في كل الأنظمة القانونية الأخرى الموجودة في العـالم . ولا يمكـن إطلاق يد قاضي بلد التنفيذ بلا قيود . وهنا تبرز الحاجة إلى حل يوفق بين هذا وذاك . وهنا تأتي أهمية المعايير الدولية كأحد ملامح المفهوم العالمي للتحكيم الدولي . ولكن أية معايير؟ .

هنا يقترح البعض المعايير المنصوص عليها في المادة(5) من اتفاقية نيويورك وترتيباً على ذلك، يستطيع قاضي مقر التحكيم أن يراقب حكم التحكيم بناء علـى هـذه الأسـباب . ونزيد على هذا، وتطبيقاً لمقتضى المفهوم العالمي للتحكيم الدولي، أنّه لا يكون لقاضي بلـد التنفيذ سلطة تقديرية في منح الأمر بالتنفيذ في هذه الحالات، أما إذا كان البطلان لسبب غير هذه الأسباب يكون لقاضي بلد التنفيذ الحرية في الأمر بالتن فيذ أو رفضه، حسب ما تقـضي به القواعد القانونية المطبقة.